أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - كمال سبتي - الشعراء يستعيدون نبيا من التاريخ















المزيد.....


الشعراء يستعيدون نبيا من التاريخ


كمال سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1313 - 2005 / 9 / 10 - 09:42
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


"..وبالنسبة إلى الجيل السوفييتي الحالي وإلى غيره أيضاً:تشبه حياة تروتسكي واحداً من تلك القبور المصرية القديمة التي يعرف الناس أنها ضمت في الماضي جثمانَ رجل عظيم وروايةَ منجزاتِه المحفورةَ على ألواح من ذهب، إلا أن لصوص مقابر ومخربي آثار عاثوا في الضريح فساداً وتركوه فارغاً وموحشاً إلى درجة أنه لم يعد ثمة أثر واحد للألواح التي كان يضمها سابقاً."
اسحق دويتشر ـ النبي المسلح


استعرتُ في كتابة لي "بغدادية" سابقة عن رولان بارت ، شيئاً لتودوروف كتبه عن رولان بارت أيضاً ، معناه كما أتذكره : "إن هذه الكتابة هي عن رولان بارت"ي" أنا لا عن رولان بارت آخر". لكأنَّ الغناء هذا يستعاد هنا ثانيةً فتكون كتابتي هذه عن تروتسكيَّ أنا لا عن تروتسكي آخر.
ولقد تعرفت إلى تروتسكي وحدي في المكتبة العامة بمدينتي وأنا فتى يافع وتعلمته وحدي وأحببته وحدي على الرغم من أنَّ ببغاواتٍ عديدةً كانت تردد اتهاماتٍ ستالينيةً ضده.
ولقد تعرفت إليه من مأساته قبل أفكاره فأثرتْ فيَّ شاباً ولما تزلْ عنوانَ مدخلي إليه كلّ حين.
فقد سحبت الجنسية السوفييتية منه عام 1932 أيامَ كان في المنفى مطروداً من الحزب وهو أحد رأسي ثورة أكتوبر مع لينين ومؤسس الجيش الأحمر ورئيس أول مجلس سوفييت في التاريخ، وتوفيت ابنته نينا عام 1928، وانتحرت ابنته الأخرى زينا عام 1933 في برلين بعد مرض مزمن وبعد أن سحبت الجنسية السوفييتية منها ومُنِعت من رؤية عائلتها في روسيا.
وقتل ابنه الأصغر سيرجي في حملة الإرهاب الواسعة في الاتحاد السوفييتي التي حصدت الألوف من أتباع تروتسكي وعوائلهم. وقتَلَ رجال "منظمة الشرطة السرية" السوفييتية ابنه الأكبر ليون في شباط عام 1938 في باريس ، وقتَ حملة تصفيات خارجية طالت العديد من أتباع تروتسكي في فرنسا وإسبانيا وسويسرا..وغيرها.
وفي العشرين من آب عام 1940 استطاع رجل من تلك المنظمة السرية قتله هو نفسه في منزله بالمكسيك بينما كان على وشك الانتهاء من كتابة سيرة حياة ستالين.
ولقد كانت التراجيديا الشخصية ومازالت هي ما تغريني في الدخول إلى الكيان الشخصيّ وقد لا اهتمّ بسعيد ، ولقد قلت في مقالي الحرب والشعر: إن الشعر والتراجيديا توأمان ، فأُخِذتُ بالرجل ومأساته فكنت كلما تذكرته تذكرت مأساته الشخصية وفناء عائلته وتنقلاته في المنفى وعُزوف بعض البلدان الأوروبية عن استقباله تحت ضغط ستالين بعد محاكمات موسكو الشهيرة ، ليبدأ البحث عن "كوكب بلا تأشيرة" على حد قوله أو تأوهه.
السجين سنتين أول مرة منذ سن السابعة عشرة والمنفيّ إلى سيبيريا مرتين ، والهارب من منفاه مرتين ، قضى في النفي الأول أربع سنوات قبل أن يهرب إلى لندن ملبياً دعوةَ لينين ، وقائد ثورة أكتوبر "الفعليّ" ومؤسس الجيش الأحمر والمنظر الخالد للثورة الدائمة بتعبير اندريه بريتون الإنشاديّ يبحث عن كوكب بلا تأشيرة.
أية نكتة!
كل خطوة في حياة تروتسكي كانت بداية نشيد لم يكتمل. ولكأنَّ أوركسترا آلهةٍ مّا كانت تتعمد عزف الحركة الأولى من النشيد في حياة هذا البطل الأسطوريّ حقّاً لتعلن بدء الخطوة الأولى في رحلة إلى مصيرٍ مّا.. ولكأنها ومثلما فعلت مع أوديسيوس كانت تحب رؤيته يتعذب أكثر في الحياة وبخاصة بعد أن خسر ثورته التي تنبأ لها بالانتصار وكما لم يكن لينين نفسه مقتنعاً بأن تكون روسيا دولةَ ثورة البروليتاريا قبل عام 1917.
كان يصغر لينين بتسع سنوات. تذكر هذا الفارق حين عرض عليه لينين رئاسة الحكومة. أو ليس هو قائد الثورة ، يفكر لينين؟ لكن تروتسكي خجل أن يأخذها من لينين القائد الذي سيكتب عنه كتاباً لم يكتب أحد آخَرُ مثلَه حدَّ أن لينين كان يطلب من كروبسكايا تكرار وصف تروتسكي إياه وماركس فيه مرات عديدة كما قالت كروبسكايا في رسالتها إلى تروتسكي بعد أسبوع من وفاة لينين وحدَّ أن أندريه بريتون تأثَّر بلينين من خلال كتاب تروتسكي هذا المسمى لينين إلى أبعد حدّ كما كتب هو نفسه مهتاجاً ذات مرة.
كان لينين يعرف مواهبه فاقترحه في لندن عام 1903 ليعمل في رئاسة تحريرIskra ويذكر المؤرخون الماركسيون مزحة ، أثبتها دويتشر في النبي المسلح ، وربما هي غير ذلك يرويها لوناتشارسكي "مفوض الشعب لشؤون الثقافة = وزير بعد أوكتوبر" وكانت متداولة بين المهاجرين فحواها أن Vera Zassoulitch وهي امرأة ماركسية معروفة.. قالت : عندما وصل تروتسكي إلى لندن : امتدحتُ مواهب القادم الجديد بالكثير من الحيوية. هتفتُ قائلة: "لا شك أن هذا الفتى عبقري". فغضب بليخانوف وأشاح بوجهه قائلاً : لن أغفر له ذلك ما حييت".
وعلى الرغم من أن التروتسكيين يوردون هذه النكتة للإشارة إلى موقف بليخانوف من تروتسكي إلا أننا نجدها تشير أيضاً إلى جانب جديٍّ آخر في شخصية تروتسكي. سيشير إليه لينين نفسه بصيغة أخرى بعد الثورة " أثبته روب سوول في كتابته عن لينين". بالقول : "فلو قُتِلنا"، يقول لينين سائلاً تروتسكي، "أتظن أن بوخارين و سفاردلوف سينجحان؟"
ومات لينين ونُفِيَ تروتسكي وقُتِلَ في منفاه وماتت الثورة.
الثلاثة ماتوا.
لنسأل أنفسنا :لمَ لمْ يذكر لينين اسمَ ستالين ؟ أوَ لمْ يصبح ستالين الاتحادَ السوفييتي كلَّه؟ أوَ لمْ يصبح الأحزابَ الشيوعية كلها في كل مكان؟
لكأن إيقاع الكتابة نفسها ، الإيقاع الدرامي ، يقودنا إلى النكتة التي يقفز عليها عادة كتاب شيوعيون ذوو ميول معادية لتروتسكي..على الرغم من عدم وجود اسم تروتسكي فيها وعلى الرغم من أنها تتعلق بالأب الروحيّ لينين وتراثه.
إنها وصية لينين التي كتبها بين الرابع و العشرين و الخامس و العشرين من كانون الأول 1922 مع ملحوظة أرفقها بها في الرابع من كانون الثاني عام 1923 حث فيها رفاقه على تنحية ستالين من الحزب. وكتبت سكرتيرة لينين فوتييفا "عن روب سوول" تقول "كان فلاديمير أيليتش يعد قنبلة لستالين خلال المؤتمر القادم." لكن لينين كان يعاني وضعاً صحياً صعباً ناتجاً عن محاولة اغتيال سابقة فتصعب عليه الحركة ويفقد القدرة على الكلام ويموت جراء نزيف في الدماغ في كانون الثاني عام 1924.
والنكتة هنا هي تراجيديا قلب الوقائع..فيصبح ستالين الذي تكتم على الوصية وأخفاها زعيماً مكملاً لمسيرة لينين ويصبح الرجل الذي كان ثانياً في الثورة والدولة الجديدة عدواً منبوذاً تردد الأحزاب الشيوعية في كل مكان اتهاماتِ ستالين الظالمةَ إياه..الطاعنةَ الثورةَ الدائمةَ والمشوّهةَ إياها..**
يقول اسحق دويتشر :
" لقد بذل الستالينيون (بما فيهم الخروتشوفيون والماويون) كل جهدهم لتجريح الثورة الدائمة فنعتوها بأنها هذيان الراديكالي المتطرف المهووس. وقبل أن يتهم ستالين تروتسكي بأنه "قائد طليعة الثورة المضادة في العالم" (وبأنه حليف هتلر وإمبراطور اليابان) كان وصفه بأنه "مشعل الحرائق" وبأنه "رجل متوحش" يعمل على تحضير انقلابات شيوعية في كل أنحاء العالم، وبأنه المذهبي الجامد الذي يدعو إلى الثورة "البروليتارية الخالصة"، وبأنه عدو الفلاحين و "الرجال الصغار" و"الطبقات الوسطى" الأخرى. إن ما يدحض هذه الاتهامات، في التحليل الأخير، هو أنه لا يكاد يوجه تهمة واحدة في اللائحة الطويلة من التهم إلى تروتسكي إلا وارتكبها هو، لذا يمكننا أن نرى الآن أن الصورة المشوهة التي رسمها لتروتسكي لم تكن في الواقع إلاّ صورة لنفسه."
وعلى الرغم من أننا حين الكلام عن الثورة الدائمة سنجد نكاتاً أخرى في الفكر الماركسي الذي "أسسه" ستالين أو لنسمه الفكر الرسمي المرتبط بدولة ستالين وتقلباتها وأهوائها إلا أنني أميل إلى أن النزاع مع تروتسكي لم يكن في صورته كلها بسبب الثورة الدائمة.
كان نزاع تحضر بين جلف خشن غير مثقف تماماً هو ستالين وبين عدد من رفاقه الكبار الذين يفوقونه تحضراً وثقافةً. ولعلَّ الطريقة التي أديرت بها محاكمات موسكو الشهيرة وأبيد بقراراتها ، وسُجِنَ ، قادة بلشفيون كبار من أمثال : سميرنوف وزينوفييف وكامينييف وراديك وبياتاكوف وسوكولنيكوف وسيريبرياكوف وبوخارين وراكوفسكي..إلخ ، والتروتسكيون ، قبلهم وبعدهم ، في الاتحاد السوفييتي وفي أماكن أخرى من العالم ، إضافة إلى إبادة أعداد هائلة من البشر في مجازر إعدامات وإبعاد قسريّ ومجاعات وغيرها***، توضح هذا القول بلا أدنى لَبْس.
لكن لنتكلم عن الثورة الدائمة****.
ولم يكن الشاب الماركسي ذو الستَّة وعشرين عاماً ابتدع المصطلح من عنده حين ولدت النظرية في ذهنه عام 1905 أو حين بدأ تطويرها في منفاه السيبيري الثاني عام 1907 ، فهي مصطلح ماركسي تقليديّ ذكره ماركس في "خطاب إلى العصبة الشيوعية" نيسان 1850 حول ثورة 1848-1849 في ألمانيا " من أرشيف الماركسيين". ولنأخذ منه هذا المقطع :
" وفي حال عدم تمكن العمال الألمان من استلام الحكم وتحقيق مصالحهم الطبقية دون المرور بمرحلة كاملة من التطور الثوري، فمن المؤكد هذه المرة أن أول فصل من هذه المأساة الثورية المداهمة سوف يصادف انتصار طبقتهم في فرنسا فيسرع بالتالي من تحقيق ثورتهم.
ولكن عليهم أن يبذلوا أقصى جهدهم لإحراز النصر الأكيد بواسطة توعية أنفسهم على مصالحهم الطبقية، وتبنيهم بأسرع وقت ممكن موقفاً حزبياً مستقلاً، وبرفضهم أن تحرفهم العبارات الخبيثة التي يرددها ديموقراطيو البرجوازية الصغيرة، ولو لحظة واحدة، عن تنظيم حزب البروليتاريا بشكل مستقل. يجب أن يكون شعار نضالهم: الثورة الدائمة".
قول ماركس هذا هو أصل وتأسيس نظرة إلى أفق. أي أنه فكر ماركسيّ تقليديّ. فلم يشتطّ إذن تروتسكي الماركسيّ التقليديّ عن معلمه الروحيّ خطوةً واحدةً قطّ.
وحين يقرأ القاريء الكريم كلمات ماركس عن عمال ألمانيا وعمال فرنسا فينبغي له أن يتذكر أن تروتسكي كان داعية التصنيع الثقيل في الاتحاد السوفييتي من أجل خلق طبقة عاملة حقاً وقد ربط أكثر من مرة في تنظيراته بين الثورة الدائمة وبين التصنيع الثقيل.وأما ما فعله ستالين في الصناعة وما تباهى به في ما بعد فقد كان سرقةَ برنامج تروتسكي حول التصنيع الثقيل كاملاً كما يشير مؤرخو ثورة أوكتوبر.
ولم يكن لينين بعيداً عن "الثورة الدائمة" بل أن كامينييف اتهمه مرة بتبنيه نظريتها كاملةً. ولينين كما هو معروف لم يكن يرى روسيا قادرة على إكمال مرحلة الثورة البرجوازية بمفردها بل ولا أن تبني الاشتراكية قبل أن تنتصر البروليتاريا على الرأسمالية في أوربا. فكيف هي الثورة الدائمة إذن ؟
وفي كتابه الثورة المغدورة يكتب تروتسكي المغدور :
(إن "إعلان حقوق الشعب العامل و المستغل" الذي كتبه لينين و قدمه مجلس مفوضي الشعب في الاتحاد السوفييتي إلى الجمعية التاسيسية لإقراره في تلك الساعات القصيرة التي عاشتها هذه الجمعية يعرف الهدف الأساسي للنظام الجديد بهذه التعابير: "إقامة تنظيم اشتراكي للمجتمع و انتصار الاشتراكية في كل البلدان". إذاً فعالمية الثورة قد أعلنت في وثيقة أساسية من وثائق النظام الجديد. و لم يجرؤ أحد في تلك الفترة على طرح المسألة بشكل آخر.)
وإذا كنا قرأنا الثورة الدائمة عند ماركس ورأيناها مصطلحاً ماركسياً تقليدياً وقرأنا لينين قاريءَ ماركس الأساسَ في الفكر الشيوعي يتحدث نظرياً عنها ويتحمس لها وعلمنا أنه اتُّهِمَ في سنةٍ بعد ثورة أكتوبر بتبنيه إياها كاملة من قبل شيوعيّ قائد هو كامينييف "أعدمه ستالين في محاكمات موسكو الشهيرة" فإنّ تروتسكي يورد أمراً آخرَ في كتابه الثورة المغدورة لم أصنفه إلاّ نكتة وإذا كان المقام يسمح لي بالمزاح فلأسمِّ النكتة أمَّ النكات..إنه ستالين نفسه يدعو إلى الثورة الدائمة !! يقول تروتسكي المغدور في الثورة المغدورة :
"..وفي نيسان عام 1924 أي بعد ثلاثة أشهر على وفاة لينين كان ستالين أيضاً يكتب في مؤلفه عن أسس اللينينية ما يلي: "تكفي جهود بلد واحد لقلب البرجوازية و تاريخ ثورتنا هو الذي علم ذلك و لكن جهود بلد واحد و بخاصة بلد فلاحي كبلدنا غير كافية من أجل تحقيق الانتصار النهائي للاشتراكية وتنظيم الإنتاج الاشتراكي. إن ذلك يحتاج إلى تضافر جهود كل البروليتاريا لعدة دول متقدمة". إن هذه السطور ليست بحاجة الى تفسير و لكن الطبعة التي خطت فيها هذه الكلمات قد سحبت من التداول. و مع ذلك فان الهزائم الكبرى للبروليتاريا الأوروبية و النجاحات الأولية المتواضعة للاقتصاد السوفييتي أوحت إلى ستالين في خريف عام 1924 إن المهمة التاريخية للبيروقراطية هي بناء الاشتراكية في بلد واحد. و قد دارت رحى مناقشة حول هذه المسألة بدت لكثير من أصحاب العقول السطحية و كأنها موضوع أكاديمي أو مدرسي لكنها كانت تعبر في الحقيقة عن بدء انحدار الأممية الثالثة و تهيىء لميلاد الاممية الرابعة."
إن هذا القول يؤكد لي بأن أموراً غير الثورة الدائمة كانت وراء مأساة تروتسكي بطرده من الحزب ونفيه بعد أن تقوى ستالين كما لم يتقوَّ أحد من القادة الغافلين عن لؤمه وخبثه.
ومأساة تروتسكي هي مأساة الثورة وهي مأساة العالم كله.
فـ "لو" واحدة متحققة كانت ستعني تاريخاً آخر للعالم : لو أنَّ لينين كان أقصى ستالين من الحزب قبل أن يموت.
لو تحقق هذا الأمر.
لِما نُفِيَ تروتسكي ولما قُتِلَ قادة أكتوبر ولما اتجهت الثورة إلى البيروقراطية الستالينية بتعبير قادتها بعد وفاة لينين.
ومادام تروتسكي ذكر "الأممية الرابعة" في مقطعه ذاك وقد شغلته هي وغيرها من الممارسة السياسية والتنظيمية وقتاً غير قليل في منفاه فقد عد اسحق دويتشر انشغاله هذا مأخذاً عليه وأَنْ لم يكن عليه هدر الوقت فيه بل الانتفاع منه في الكتابة النظرية. ولا يرضى التروتسكيون بمأخذ دويتشر بالطبع ، فهم يظنون أباهم الروحيّ منظماً ممتازاً وقد قاد ثورة أوكتوبر وأسس الجيش الأحمر وحارب به واحداً وعشرين جيشاً خارجياً إضافة إلى القوى المضادة في الحرب الأهلية.وأجدني أميل إلى رأي دويتشر الذي كتبه في النبي المنبوذ-الجزء الثالث من ثلاثيته الشهيرة عن تروتسكي "النبي المسلح ، والنبي الأعزل ، والنبي المنبوذ" من أن الأممية الرابعة أخفقت ، ربما ليس كلياً كما يرى هو ولكن إلى حد عدم قدرتها على أن تكون خصماً قوياً لستالين وشيوعيته الرسمية.
فكان الأجدى بتروتسكي حقاً أن يتجه إلى التنظير "وله فيه إنجاز هام" في تلك السنوات وهو "القلم" كما كان يسميه رفاقه في مجموعة الإسكرا بلندن عام 1903 لبراعته في الكتابة.
وبراعته في الكتابة وثقافته قد تكونان وراء رؤيته الناضجة إلى الفن حدَّ أنني لا أحسبه سياسياً في العديد من جمله عن الفن. فبهما تقرَّبَ إلى الفن العالي حتى رفض الواقعية الاشتراكية في كتابه "الأدب والثورة" وقد كان قائداً في الحزب والدولة قبل أن تُتَبنّى رسمياً من قبل ستالين ، وأهانها لاحقاً من منفاه وحين استقبل أندريه بريتون في منفاه المكسيكي كان التاريخ على موعد مع بداية نشيد جديد لهذا النبيّ وهو يدعو في بيان مشترك مع بريتون إلى " استقلال الفن ـ من أجل الثورة ، الثورة ـ من أجل التحرير النهائي للفن" لنقرأ هذا المقطع من بيانهما الذي يذهب بعيداً في تحرر الفن من هذه المعادلة المتحررة أصلاً:
"يهم على وجه الخصوص أن يتحرر الخيال في ما يتعلق بالإبداع من كل إكراه.ألا يخضع إطلاقاً وبأي ذريعة لقيد يكبل به. نرد على أولئك الذين يحضوننا اليوم أو غداً على الموافقة على إخضاع الفن لأي نظام ننظر إليه كمتعارض بصورة جذرية مع وسائله ، برفض قاطع ، وبإرادتنا الواعية نصرّ على شعار : كل الحرية للفن."*****

عُرِفتْ عن تروتسكي نبواءاته المتحققة منذ أشهرها عامَ 1904 حين تنبأ في كراس له بأن الشغيلة الصناعيين الاشتراكيين ، لا غيرهم ، هم الذين سيوجهون ضربة حاسمة للقيصرية في الثورة بالإضراب العام وحسب دويتشر في "النبي المنبوذ" فقد كان الإضراب العام "فكرة جديدة ، لا فقط بالنسبة لروسيا المتخلفة، بل حتى بالنسبة لأمم الغرب الصناعية."
وفي الوقت ذاته ومن الفصل ذاته نقرأ تنبؤاً مذهلاً لتروتسكي قد يكون أكثر من تنبؤ وقد يلقي ضوءاً على رؤى هذا البطل التي خلقت شكل ثورة أوكتوبر. تروتسكي هو صانع شكل الثورة "في ما بعد" بعد أن كان قائدها ومحدداً كيفية انطلاقتها. فهاهو يتنبأ التنبؤ الذي يحدد شكل الحياة "الاشتراكية" وحركتها كلها بعد الثورة في التعاون الثوري مع الجيش والفلاحين والشرائح الدنيا والشعبية من البرجوازية، وإلغاء الحكم المطلق، وتدمير الجهاز العسكري الخاص بالحكم المطلق، وصرف قسم من الجيش وإعادة النظر الكاملة بالباقي، وإلغاء الشرطة والجهاز البيروقراطي، وتحديد يوم العمل من ثماني ساعات، وتوزيع السلاح على الشعب، وعلى العمال بوجه خاص، وتحويل السوفييتات إلى جهاز حكومة ثورية مدينية، وتشكيل سوفييتات فلاحية مكلفة بإنجاز الثورة الزراعية محلياً، وانتخاب جمعية تأسيسية.
ومنذ ذلك الوقت ونبواءاته التي تتحقق لا تتوقف عمالياً وسوفييتياً..وتقنياً.. وحتى تنبأ بصعود النازية ونشوب الحرب العالمية الثانية بل وحتى بقيام الحرب الباردة..وإلى هذا كله استند دويتشر في تسمية ثلاثيته عنه بالنبي المسلح ثم النبي الأعزل فالنبي المنبوذ.
لكن مالم يتنبأ به تروتسكي هو أن ثورته ستُسرَقُ منه ومن أغلبية رجال "الصف الأول"****** وستقتله بفأس صغيرة في المكسيك.
وإننا إذ نستعيده الآن من التاريخ فلن نستعيده مومياء محنطة ولا شبحاً هَزْلياً مرة وراديكالياً مرة أخرى كما تعمَّدَ قتلته وأعداؤه تصويره طوال أكثر من ستة عقود بقوة الدولة الامبراطورية وأموالها وجواسيسها وخدمها وببغاواتها المنتشرة في كل مكان.
نستعيده نبياً من التاريخ لنكمل له نبوءة أخيرة كان تنبأها: أنْ ماتت الثورة في بلد واحد ، أن ماتت دولة بيروقراطية ستالين.
والنبي بطل شعريّ في وقته كله حتى إن أصبح دولةً لبعض وقت فتنقلب عليه.
نستعيده إذن بطلاً شعرياً كأبطال التراجيديا الذين نحفظهم عن ظهر قلب ونتمثل مأساتهم تمثلاً ذهنياً فنظن أننا نستطيع أن نتمثلهم واقعياً فنقلد خطواتهم فنخفق..لكنَّ ذلك التطهير الذي يتحدث عنه أرسطو حين المحاكاة في فن الشعر..لهو متحقق تماماً.


الهوامش
* مقدمة محاضرة عن تروتسكي ألقيت يوم العشرين من آب ذكرى مقتله على يد عميل الشرطة السرية السوفييتية رامون ميركادار "جاكسون" في المكسيك ، والكتابة مستفيدة كما هو واضح من مصادر ماركسية تاريخية وتنظيرية مختلفة. ويخلو النص المكتوب من مجاورة نص شفاهي لي عن تروتسكي لم أدونه غطى في جزئه الأول أيام الثورة و الجانب التنظيري عنده ، و كان في جزئه الثاني إجاباتٍ عن اسئلة الذين اشتركوا في سماع تلك المحاضرة في غرفة الكتاب والمثقفين العراقيين بالبالتوك.
**ولعلّ قضية معاهدة "بريست ليتوفسك" وحدها أخذت جزءاً غير يسير من الهجوم على الرجل وقد كان ممثل بلاده في المفاوضات فرفض شروط ألمانيا ودعا إلى حالة " اللاسلم واللا حرب" حتى لا تخسر دولته تلك الخسائر الفادحة في الناس والأراضي التي خسرتها بعد التوقيع..واستقال بعدها من"الخارجية".
لم يملّ الستالينيون من الكلام عن هذه الاتفاقية بالأكاذيب وبالنكات أيضاً..وصُوِّروا تروتسكي داعيةَ حربٍ.. من أجل إهانة "الثورة الدائمة". أمرٌ ستنساه الدعاية الستالينية لاحقاً مع بزوغ نجم غاندي في الهند لتصوّر تروتسكي المقتول على أنه كان "غاندي الماركسية" الذي لايستخدم العنف عند ضرورته!
*** تتحير المصادر المحايدة في تقديم رقم "مليونيّ" تقريبي عن عدد ضحايا الاضطهاد الستالينيّ وكل رقم عندي غير قابل التصديق ، بل أن الأمر بهذا الرقم المخفض عن أي تقدير منشور أو ذاك يبدو مخيفاً إلى أبعد حد.
**** يكتب تروتسكي في الفصل الأول من كتابه "الثورة الدائمة" :
" لقد لبّت الجبهة اليمينية-الوسطية الحاجة إلى نظرية في الحزب بشنها حملة على التروتسكية خلال ست سنوات متتالية، لكون هذه الحملة البضاعة الوحيدة المتوفّرة بكلمات هائلة للتوزيع المجاني. ولقد خاض ستالين غمار الفكر النظري لأول مرة عام 1924 بمقالاته الخالدة ضد الثورة الدائمة. وحتى مولوتوف جرى تعميده قائداً في هذه الجوقة. فبلغ التزوير ذروته. منذ بضعة أيام صادفتُ إعلانا عن نشر كتابات لينين لعام 1917 باللغة الألمانية. إن هذه هدية ثمينة للطبقة العاملة المتقدمة في ألمانيا. ولكن بإمكاننا أن نتخيّل سلفاً مقدار الأكاذيب التي ستحشر في النص وبخاصة في الحواشي. يكفي أن نشير إلى أن رسائل لينين إلى كولانتاي(1) في نيويورك تشغل الحيز الأكبر من فهرس هذا الكتاب. لماذا ؟ لمجرد أن هذه الرسائل تحوي ملاحظات قاسية ضدي تعتمد على معلومات مغلوطة تماماً من كولانتاي التي كانت قد حقنت اتجاهها المنشفي الخالص بمصل من الهستيريا اليسارية المغالية. لقد أجبر "رجال الصف الثاني" على أن يشيروا في الطبعة الروسية، وإن يكن بشكل مبهم، إلى أن لينين قد اعتمد على أخبار مغلوطة. غير أننا نستطيع أن نسلّم بأن الطبعة الألمانية ستخلو حتى من هذا التحفّظ الهروبي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن رسائل لينين إلى كولانتاي تحتوي على هجوم قاس على بوخارين الذي كان متضامنا مع كولانتاي. لقد اختفى هذا القسم من الرسائل في الأقل للوقت الحاضر. وسوف ينشر على الرأي العام عندما تبدأ الحملة العلنية على بوخارين. ولن نضطر إلى الانتظار طويلاً حتى يتم ذلك(2). ومن جهة أخرى، فإن عدداً من الوثائق البالغة الأهمية والمقالات والخطب والمحاضر والرسائل..إلخ ، المتعلقة بلينين لا تزال طيّ الكتمان لمجرّد أنها موجهة ضد ستالين وشركائه، لأنها تنسف أسطورة "التروتسكية" من أساسها. فلم يبق سطر واحد من تاريخ الثورات الروسية الثلاث ومن تاريخ الحزب إلاّ وجب التلاعب به، فجرى التضحية بالنظرية والوقائع والتقاليد وبتراث لينين في سبيل الحملة على "التروتسكية"، هذه الحملة التي ابتكرت ونظّمت، بعد موت لينين، كصراع شخصي ضد تروتسكي ثم ما لبث أن تطورت إلى حملة على الماركسية ذاتها."
هامشان على هذا الهامش :
(1) كولانتاي: مناضلة اشتراكية-ديموقراطية ما لبثت أن انضمت إلى الحزب البلشفي. كانت من قادة "المعارضة العمالية" بين 1917 و 1923 مطالبة بزوال سلطة الدولة وسيطرة النقابات على الإقتصاد وتسييرهم شؤون الوطن بمجمله. "هامش من مترجم الكتاب".
(2) لقد تحققت هذه النبوءة. "ل. ت."
***** مقطع من البيان " نحو فن ثوري مستقل"..من وثائق كتاب الأستاذ كميل قيصر داغر "اندريه بريتون". كتبا في البيان أيضاً :
" تحت تأثير النظام الكلياني القائم في الاتحاد السوفييتي ، وبواسطة الأجهزة المسماة "ثقافية" التي يشرف عليها في البلدان الأخرى ، امتد على العالم أجمع غسق عميق معاد لبروز أي نوع من القيمة الروحية. غسق وحل ودم حيث يغوص رجال متنكرون بهيئة مثقفين وفنانين جعلوا لأنفسهم من العبودية رافعة ، ومن جحود مبادئهم الخاصة بهم لعبة مفسدة ، ومن شهادة الزور الارتشائية عادة ، ومن تقريظ الجريمة متعة. إن الفن الرسمي للفترة الستالينية يعكس بقساوة لامثيل لها في التاريخ جهودهم الساخرة للخداع ولتقنيع دورهم الارتزاقي الحقيقي."
****** تعبير مني لمعاكسة تعبير تروتسكي : "رجال الصف الثاني" الذي يَرِدُ في عدد من ردوده على خصومه ، وبخاصة "رفاقه القدامى" منهم ، في كتابه "الثورة الدائمة".



#كمال_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشّعرُ والتّوثيقُ الشّخصيّ
- تروتسكي باريس 1979
- كنّا طَوالَ مُعارَضَتِنا الدّكتاتوريَّةَ وما زِلْنا: بلا حَر ...
- محسن الخفاجيّ : عمرٌ متوقفٌ في بوكا و اسمٌ يكبُرُ كلَّ يوم
- كلُّ شويعرٍ مناضلٌ صنديد
- أميريكا..اِذهَبي وضاجِعي نفسَكِ بقنبلتِكِ الذَّرِّيَّة
- القاص السجين محسن الخفاجي
- بِساطُ السُّكْر
- المَغيب
- الخليفةُ والنَّبيّ
- موتُ عقيل علي
- الإِمام
- دعوة اتحاد أدباء العراق إلى اعتراضٍ قانونيٍّ
- من أجل احترام آدميّة الشاعر عقيل علي
- خيمياءُ جابر وجعفر
- لا لقتل الطلبة العرب في العراق
- أقولُ لقاتلي العربيِّ : أنتَ شَهيد
- تغييبُ مثقفي العراق
- وبغدادُ فيها للمشاةِ دروبُ
- حول نشيد حزب المؤتمر الوطني العراقي


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - كمال سبتي - الشعراء يستعيدون نبيا من التاريخ