أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - وبغدادُ فيها للمشاةِ دروبُ















المزيد.....

وبغدادُ فيها للمشاةِ دروبُ


كمال سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1118 - 2005 / 2 / 23 - 11:27
المحور: الادب والفن
    


في السابع عشر من آذار من العام الماضي وصلتُ بغدادَ الساعةَ العاشرةَ ليلاً. استقللتُ سيارة تاكسي إلى فندق غير آمنٍ على ضفة دجلة في شارع أبي نؤاس. نمت ساعاتٍ قليلة ، ثم أستقللت سيارة تاكسي في الصباح الباكر إلى كراج النهضة حتى أستقلَّ أخرى إلى مدينة الناصرية.
وفي فجر الثاني والعشرينَ من الشهر نفسه توفي أبي في مدينة الناصرية فذهبت إلى مدينة النجف أدفنه في مقبرتها الكبيرة وادي السلام.
بعد أيام من انتهاء مجلس الفاتحة بدأتْ في الناصرية المواجهاتُ المسلحة الأولى بين جيش أنصار المهديّ وقوات التحالف. وحدث أن اشتد تراشق النيران بين المتحاربين ذاتَ ضحىً حتى بدا لنا أنَّ الرصاص كان ينهمر علينا في رصيف مقهى الأدباء بشارع النيل ، فانكمشتُ مع الأصدقاء في داخل المقهى غيرَ متبيِّنٍ رصاصَ الحلفاء من رصاص جيش إمامي المنتظر. وقد قلق الأصدقاء أدباء المدينة عليّ كثيراً وأخذوا يقولون : أتأتي من هولندا لتموت هنا ؟ ولم يكن الطريق إلى بغداد سالكاً بسبب تلك المواجهات ولا إلى الحدود مع سوريا والأردن بعد أن بدأتْ في تلك الأيام عمليات اختطاف المسافرين في الطريق السريع المتاخم لمدينة الفلوجة حيث تسكن شقيقتي الصغرى المتزوجة من شاب فلوجيّ رأيته مرة واحدة حين قدِمَ بصحبة أبيه إمام الجامع إلى مدينة الناصرية من أجل رؤيتي ومن أجل حضور مجلس العزاء بوفاة أبي أيضاً.
لم أستقلَّ سيارة إلى بغداد ، بل إلى الحدود السورية لأطير من دمشق إلى لندن فبروكسل فأستقل سيارة أخرى إلى مدينتي في الجنوب الهولندي.
قال السائق الماهر: إنَّ الطريق المسمى طريق النخيب (طريق الحج البريّ أو طريق عرعر) سالك إلى الحدود السورية. قال ذلك في الساعة السابعة صباحاً وكان القصف هدأ في مدينة الناصرية بين المتحاربين من أنصار المهديّ وقوات التحالف منذ ساعتين ليس إلاّ. وطريق الحج البريّ ، مهمل منذ وقت طويل وقد قيل إنه عُبِّدَ أيامَ حكم الزعيم عبد الكريم قاسم. وهو يميل بعيداً في السير عن الخط السريع ملتفاً بعد كربلاء على صحراء لم أر مثل شسوعها قبلاً فلا يصل الخط السريع ثانية إلا وقد تجاوز مدينة الفلوجة بعدد غير قليل من الكيلومترات. في المطعم ، حين توقفنا للاغتسال والأكل بعد وصولنا الخطَّ السريعَ ،عرفت أننا مازلنا في منطقة الأنبار. قلتُ : كانت الفلوجة أسلمَ لي فلديَّ فيها نسباء !
كانت عينا صاحب المطعم تنتزعان مشاهد مدينة الفلوجة من شاشة القناة الفضائية انتزاعاً. قال : ( إن الحدود العراقية مع سوريا مغلقة ، سمعنا هذا الخبر الآن.) كان الخبر فاجعة حقاً بعد كل ساعات ذاك المسير الترابيّ من الناصرية . لكننا- أنا ومن كان معي من المسافرين الثلاثة- رأينا ألاّ حلَّ لمشكلنا غير الاستمرار في السير حتى مركز الوليد الحدوديّ فوصلناه الساعة التاسعة ليلاً فكان مغلقاً وضاجاً بالسيارات التي تقف ببابه ، حافلاتِ مسافرينَ وسياراتِ حملٍ وسياراتٍ صغيرة. رأينا ثانية أَلاّ حلَّ لنا غير تغيير اتجاه المسير في ذلك الليل البهيم إلى الحدود العراقية مع الأردن. نمت في عمان ليلتين ووصلت دمشق تعِباً وسئِماً من تلك الرحلة التي كنا نسميها في أدبنا : العودة. في دمشق دفعت مائة أورو إلى مكتب الخطوط الجوية البريطانية من أجل تقديم موعد السفر إلى أوروبا أسبوعاً واحداً فبقيَتْ لي ثلاثة أيام فرحلتُ إلى بيروت ، لأبقى فيها أقلَّ من ثمانٍ وأربعين ساعة بفيزا مجانية لفت نظري كرمُها الذي لم أشهد مثيله في المراكز الحدودية الأردنية والسورية معاً. عدت إلى دمشق وطرت منها إلى أوروبا يومَ السابع عشر من نيسان.
فلم أر بغداد غير تلك الفترة التي استغرقها سيرُ سيارة التاكسي من الصالحية -حيث توقفت حافلتنا القادمة من دمشق- إلى فندق في شارع أبي نؤاس ، ليلَ ما بعد الساعة العاشرة والنصف ، وغير تلك الفترة التي استغرقها سير سيارة التاكسي من الفندق إلى كراج النهضة صباحاً.
وكنت عزمت ، رداً على شماتة الأعراب بها ، أن أزور مشاهدَ ومعابدَ وكلياتٍ وحاناتٍ فيها هي لأئمة وفقهاء وعلماء وشعراء فأبدأها بأبي حنيفة النعمان في الأعظمية ، الفقيه الذي أحببته كلَّ عمري ، أقول : السلام عليك يا فقيه المساواة ، يا من ساوى بين العربيّ وغير العربيّ في الإمامة من دون بقية الفقهاء فشكَّ في حديث ( الإمامة في قريش) وسنده في الشك قولُ عمر :( لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته.) وسالم كان عبداً فارسياً اشترته ثبيتة الأوسية صبياً من التاجر اليهودي سلاّم بن جبير في يثرب وانتقلتْ به إلى مكة بعد زواجها من أبي حذيفة بن عتيبة بن ربيعة وأعتقته بعد إسلامها وإياه وزوجها. أَمَّ المصلين في المدينة بعد الهجرة وفيهم عمر قبل وصول النبي وأبي بكر إليها ، وقُتِلَ في معارك اليمامة.
وأعبر بعد السلام على ضحية المنصور الدوانيقي جسرَ الأعظمية إلى الكاظمية فأمرُّ على قسمي الداخلي في شارع الشريف الرضيّ وقد عشت فيه سنتي الدراسية الأولى في بغداد وأدخل مرقد موسى الكاظم ، الإمامِ السابعِ في الثورة متذكراً يوم موته وخروجَ الرشيد إلى الناس مبعداً عنه كلَّ صلة بموت الإمام فأضحك من ضعف قوة السلطان أمام قوة اسم بيت الشهيد.
وأخرج إلى باب الدروازة فأرى مطعم فطورنا الصباحيّ أيامَ الدراسة : تشريبِ الباقلاء مع البيض ، وأرى الحافلاتِ ، الصغيرةَ منها التي كانت تقلني إلى حيّ المنصور للدراسة ، والكبيرةَ منها التي كانت تقلني إلى قلب بغداد .
ولأني ذكرت الضريحين فسأتذكر قبرَ الحسين بن منصور الحلاج في باب الطاق فأزوره مردداً ما كان يردده الحلاجُ أثناء الجلد : أحدٌ أحد ، وأخبره بأنَّ رأسه عُلِّقَ على الجسر بعد الصلب وأن رماد جثته رُمِيَ في دجلة.
وأقول له يا حسين هذا هو قبرك لكنني لا أعرف قبراً لقاتلك الخليفة المقتدر الذي ذبحه خصي ، ولا لوزيره الواشي.
وأعود إلى قلب بغداد فأمرّ على قسمي الداخلي في منطقة الشورجة فأدخل سوقها متشمماً روائحَ الأعشاب الطيبة ، قبل أن أعود إلى مطعم علي غمكين أسفلَ القسم الداخلي وكان يسجل غداءنا اليوميّ في سجل ندفع مستحقه شهرياً.
وأمرّ على قسمي الداخلي القريب من مدينة الطب وكليات أخرى فأتذكر من علماء بغداد ومترجميها : الطبيبَ المسيحيَّ يوحنا بن ماسويه صاحبَ بيت الحكمة ، والحاخامَ اليهوديَّ سعديا بن يوسف رئيسَ (أكاديمية) صورا التلمودية ، ومترجمَ العهد القديم إلى اللغة العربية في القرن العاشر الميلادي.
وأتذكر أيام الدراسة في هذا الحيّ وحبيباتٍ خجلاتٍ وقصائدَ عنهنَّ منشورةً في الدواوين لم يقرأنها..
كم مضى العمر بنا ؟
وأدخل مقهى حسن عجمي سائلاً عن أصدقائي الموتى وسائلاً عن أصدقائي الأحياء ، وأمشي في دروب بغداد متذكراً بيتَ الزهاوي :
لقد كنتُ في دربٍ ببغداد ماشياً وبغـداد فيها للمشـاة دروبُ
وسيكون تذكري البيتَ فرصةَ فهمهِ وقد استعصى عليّ طويلاً! وإذ لم أنهِ التجوالَ فسأتذكر أنني نسيت (باطَرَنْجا) حانةَ صاحبي أبي نؤاس فأجدّ السيرَ إليها..ومنها سأنتهي ، حتماً ، إلى اتحاد الأدباء.

10-2-2005 ، هولندا



#كمال_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول نشيد حزب المؤتمر الوطني العراقي
- وداعاً عبد كاظم..وداعاً أيها الرياضي الكبير
- تشظّي الصّوتِ الشّعريِّ الأوّل
- قراءةُ قصيدةِ سامي مهدي : رحلة الطير
- الشاعرالمسالم والأمة
- ..حين يبيع الغشيم شعرنا رخيصاً
- الآباء الثلاثة والشغل اللغوي المحض
- توضيح من الشاعر كمال سبتي
- موقع لجماعة الزرقاوي يسميني ابنَ علقمي وعميلاً صهيونياً
- نسباءُ أصوليون
- سِنْخ وطبيعة
- جنود مقتولون
- الآخر ، العدو عند إدوارد سعيد والشعراء العرب..
- الشاعر والذنبُ القديم
- صخر
- أبناء المطلق
- لو أنَّ عبد الرزاق عبد الواحد
- المأموم
- أنعتبُ على أدوارد سعيد وهو غائب عنا ؟
- الخمرياتُ الأربع


المزيد.....




- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - وبغدادُ فيها للمشاةِ دروبُ