أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - الحقيقة والحقيبة














المزيد.....

الحقيقة والحقيبة


سعيد بودبوز

الحوار المتمدن-العدد: 4602 - 2014 / 10 / 13 - 15:12
المحور: الادب والفن
    



...أن أتساءل عما إذا كان والدي متزوجاً أصلاً أم لا، فهذا ما يستحيل أن أعتبر نفسي غير مجنون بعد طرحه !. لعلي كنتُ الأرقَّ الذي لا يعني أكثر من بث الحياة في شرايين الحقيبة، فلو كنتُ أقل تساؤلاً مني، لربما نامت كغيرها من الحقائب، واستراح الإنسان الطبيعي في كهوف نفسي. قد أكون الخيبةَ التي شعر بها الأب حين فكر في المستقبل البعيد الذي يحتاج إلى عمر نوح عليه السلام كي يبلغه، أو لعلي كنتُ الفضولَ الذي يقود الإبن إلى الهاوية بحجة حب الاطلاع؟
هل كانت الخطيئة العظمية إلا وصفا أعظم لمعرفة عظمى؟. أما كان علي بالأمس مثلاً أن أقرع الباب، حتى وإن كان مفتوحا، لكي لا أدخل على والدي إلا بما هو مستعد للقائه؟. حتى وأنا أعرف بأن أمي لم تكن موجودة في البيت؟. من قال إن اختلاء الزوجين ببعضهما هو فقط ما لا يستحب أن يشاهده الأبناء؟.
ذاك هو السؤال الذي اختلى بعمق القضية، وأنجب سؤالي هذا: من قال إن المعرفة الأولى هي وحدها ما يمكن أن يكون الخطيئة العظمى في الأصل؟.
هل استطعتُ، مثلا، أن أشرح لنفسي كيف علمت يقينا بأن أمي لم تكن موجودة في البيت؟. ربما لم يترك لي القدر وقتا لأدرك بأنني لم أكن دقيقا في أي أمر، فكل ما كان ينفخ روح الغرور في معرفتي الهزيلة، هو بقايا نتائج كان معظمها بدون مقدمات.
دخلت دون استئذان، وكان والدي يعيدها برفق إلى داخل الحقيبة. حتى والأمر لا يهمني، سألته من أين حصل عليها. فأخبرني بأنها كانت من بين ما ورثه عن جدي. وفي ابتسامة يميل بها شيء من التهكم لتثني نصف وجهه إلى اليسار، موزعا نظراته القلقة بيني وبين الحقيبة، أخبرني بأنه لم يسأل جدي من أين حصل عليها كما أفعل أنا الآن. ثم قال بأنها، في النهاية، مجرد مرآة، وإن كان إطارها الفضي ذا قيمة مادية قد تكون مغرية.
وبحكم تخصصي كمحلل نفساني، قلت له فورا بأن تركيزه على إطارها الفضي، دون المحتوى (الزجاج مثلا)، ربما له علاقة خفيه بالفضول الذي ينقصه، إذ لم يسأل جدي عنها !.
ولكي أبدي ما يقتضيه الموقف من العدالة، قلت له أيضا بأن تركيزي على المحتوى، قد يكون مرتبطا بأنانيتي التي لا فائدة من إنكارها. استغربت كيف لم يبعها، وقد اعترف بأنه باع تركة جدي كلها باستثناء هذه المرآة. ثم قال بأنه قد اختار أن يكون ماديا، لأن الحياة الروحية لا يمكن الإمساك بها. فقلت له:
- لماذا تعيدها إلى تلك الحقيبة؟ أعني، لماذا لا تستعملها؟
حدق في عيني فاغرا فمه، ثم قال:
- ولماذا لا تكون "الحقيبة" هي "الحقيقة" التي تقف وراء المرآة برأيك !؟
تعالت ضحكاتنا في شيء من التردد، ثم استطرد قائلا:
- يخيل إلي أنك تناولت شيئا مثيرا للمتاعب في وجبة فطورك..
ازداد استغرابي من أسلوبه، وقلت إنني لا أعرف ماذا يقصـد. عند ذلك أغلق الحقيبة بسرعة، وكأنه يخشى أن آخذ المرآة. ثم اقترب مني، وهمس في أذني قائلا: قد تحتاج إلى خبرة طويلة في معرفة ما لا يقصده الآخرون حين يقولون غير ما تسمع...هذا لكي لا ترى يوما الوجه الذي لن تقبل، بأي حال، أن تكون صاحبه.
قلت له دون أن أبدي جدية في فهم كلامه:
- المهم أنني لست صاحبه، صح؟
لم يقل شيئا، ثم فكرت أن تلك "المرآة" لا تستحق أن تأخذ كل هذه الكلمات، حتى وإن كان كلانا يريد أن يقول شيئا للآخر على كل حال. قلت له:
- يبدو من طريقتك في الحديث وكأنك شرحت لي هذه القضية مرارا وتكرارا دون أن أفهم شيئا في كل مرة..
تنهد وقال:
- يا حسرتي على عقلك المسجون في فقص رأسك..
وبشكل مفاجيء، تراءى لي أنَّ قوله "حسرتي" قد يكون لفظا غير مباشر لمعنى "سحر". وأن "عقلي المسجون في قفص رأسي"، قد يكون صيغة غير مباشرة لقوله "أنا العقل المسجون في رأسك الذي لا يفهم". فمادمت غير عاقل برأيه، فلابد أن يكون هو العقل. ولكن، إذا كان مسجونا في رأسي، فهل أستطيع أن أطلق سراحه؟
لا أحد يعلم...
ومن جديد، شرعت أستعرض المشهد حيث كان يغلق الحقيبة على المرآة.. ترى، هل يمكن أن يكون في (إغلاقه) إيماءة معينة كان يجدر بي أن أحاول فهمها؟
و على أمل أن يكون مستعدا لفهم دلالات كلماتي، قلت له:
- يبدو أن عقلي مسجون في رأسي مثل المرآة المسجونة في حقيبتك، أليس كذلك؟
عاد يحدق بي، وقد كان ينظر من خلال النافذة إلى الشارع، ثم هز كتفيه قبل أن يقول:
- نعم، لكن فقط حين تكون مخطئا..
قال ذلك ثم توقف، وعاد للتحديق بي بعد أن كان يتجول في الغرفة وهو يتحدث. تخيلت أنه سبق أن مر بنفس التجربة التي أمر بها الآن إزاء ما يحدث. ثم تصورت أنه قد يكون راغبا في ادخارها بسبب اسمها الذي يبث صورة "المرأة" في لا شعوره ! ولكن كيف أقول له ذلك دون أن يشعر بأنني أتعمد إهانته؟
سألته ما إذا كان بإمكاني إلقاء نظرة على وجهي في تلك المرآة. فقال وقد احمر وجهه من الغضب:
- إنها ليست مرآة يا ولد ! اخرج !
حين قال "اخرج"، انتبهت إلى أنه ربما يريد من عقلي أن يخرج من سجن رأسي. أو، في الواقع، ربما يريد أن يحرر نفسه مني، فقد أكون ورطة حقيقية، لكني لم أدرك طبيعتي بوضوح..
قلت له:
- أريد أن أفهم، إن لم تكن مرآة، ماذا تكون إذن؟
قال، وهو ينظر من خلال النافذة إلى الخارج، وبالكاد يظهر وجهه من وراء دخان سجاراته الكثيف:
- إنك الآن وجهي، فهل أنت مستعد لأكون عينيك !

***



#سعيد_بودبوز (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صلاة العصر
- الحكاية والرواية بين الراوي والروائي
- جواب المقبرة
- الثالوث الدلالي في-روائح مقاهي المكسيك-
- حمار من نوع رونو
- هل توجد ثورة عربية؟
- -مذاهب وشوارب- (قصة قصيرة جدا)
- بين زمانية النهار ومكانية النهر
- سوءة حظه (ق.ق.ج)
- الإياب السردي في -مرايا- سعيد رضواني
- الضحك عقوبة!
- الصَّمْتُ الذي عَبَرَ اللغةَ
- لا (2)
- لا
- يوسف إدريس: بين انصهار الثقافة وانفجار الغريزة
- حكمة نيتشه بين الجبل والعقل (1)
- حوار مع الشاعرة لطيفة الشابي
- الماء والحكاية في -أحلام تمد أصابعها-
- بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي (تحليل عنوان -أحلام تمد أصابع ...


المزيد.....




- لورنس فيشبورن وحديث في مراكش عن روح السينما و-ماتريكس-
- انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي تحت شعار -في حب السينما ...
- رواية -مقعد أخير في الحافلة- لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام ...
- الخناجر الفضية في عُمان.. هوية السلطنة الثقافية
- السعودية.. مهرجان -البحر الأحمر السينمائي- يكرم مايكل كين وج ...
- المخرج الأمريكي شون بيكر: السعودية ستكون -الأسرع نموًا في شب ...
- فيلم -الست-: تصريحات أحمد مراد تثير جدلا وآراء متباينة حول ا ...
- مناقشة رواية للقطط نصيب معلوم
- أبرز إطلالات مشاهير الموضة والسينما في حفل مهرجان البحر الأح ...
- رغم حكم بالسجن بتهمة -القيام بأنشطة دعائية-... المخرج الإيرا ...


المزيد.....

- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - الحقيقة والحقيبة