أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - جواب المقبرة














المزيد.....

جواب المقبرة


سعيد بودبوز

الحوار المتمدن-العدد: 4593 - 2014 / 10 / 4 - 18:31
المحور: الادب والفن
    



نُشرت هذه القصة في العدد الخامس من مجلة "الرقيم" العراقية.

استلقت المدينة على ظهر الليل، وكأنها جزيرة من الضوء في بحر الظلمات. أمواج الوحشة تقضم أطرافها ذات النور الهامشي المتخاذل. اجتمعت عقارب الساعة على رقم "الواحدة" ليلا، وألقى بي الأرق إلى خارج الفراش، ثم إلى خارج البيت، وأخيرا إلى خارج العمران، حيث وجدت نفسي بجوار الوادي الذي بدا سيلا من نقيق الضفادع. تصورت أن الأرق ما هو إلا غريزة مبهمة تطردني إلى خارج الليل بقدر ما تبعدني عن النوم. لم أنتبه للطريق، حتى وجدت نفسي جالسا على نفس الصخرة التي تعودت الجلوس عليها كلما رغبت في الاستراحة من ضجيج المدينة. كانت الصخرة تشكل حدا فاصلا بين ضوء المدينة ونور الطبيعة أثناء الليل. ورغم إشرافها على ذلك الوادي القذر الذي تنبعث من مائه رائحة كريهة، إلا أنني كنت أجد سكينة خاصة على تلك الصخرة تحديدا، و أثناء الليل كنت أشعر هناك بطاقة هائلة، تدفعني للخروج من اليقظة نفسها إلى حيث لا أنا ولا أحد يدري. خيل إلي أن أهل المدينة قد غاصوا الآن في النوم، ولم يبق على وجه اليقظة غيري، لكني فجأة رأيت ظلا يطوي ضوء القمر نحوي. لولا تتبعي لتفاصيل الظل ما شعرت بصاحبه، وهو يقود ميمنة الليل نحوي، حتى وقف أمامي بلحية بيضاء تناقض شعر رأسه الأسود الكثيف والمنسدل بحيث يتجاوز مستوى الكتفين نحو الأسفل. بدا لي في حوالي الستين من عمره. لم يلبث أن كسر حاجز الصمت والمفاجأة، إذ سألني: هل تعرف ماذا يعني جلوسك الآن هنا؟
كان يتحدث وهو يفتش ثنايا الليل حول المكان بعينيه المتقدتين وكأنه ظن بأنني كنت برفقة أخرين. أجبته بالنفي، وقلت بأن كل ما أعرفه هو أنني لم أستطع النوم. فقال لي: أنت لست هنا صدفة، بل ضرورة.. !
استغربت كلامه، وسألته: من أنت؟. رد علي وهو يبتسم في شيء من التهكم: لمَ لا أكون كلَّ ما لا تعرفه عن نفسك؟.
ازداد استغرابي، وأجبته بأنني لم أفهم شيئا من كلامه، ثم قال لي: يمكنك أن تعتبرني شبحا للضرورة التي جاءت بك...أم تراك جئتَ لترفض التسلية أيضا بعد أن رفضك النوم؟
قال ذلك ثم أطلق ضحكة لم تقنعني بأنه كان يمزح. بعد أن جال بنظراته المخيفة حول المكان، ونظر إلى القمر الذي بدأ يرتجل إنارة أفضل كنتيجة لاقترابه من منتصف السماء، ثم قال لي: من الطبيعي أن تقلق، إن لم يكن بسبب ما لا تفهمه في كلامي، فستقلق بسبب الصراع القائم بين مصابيح المدينة ونجوم السماء، فلا تنسى أنك في صلب هذا الصراع.. !
تساءلت مع نفسي: ترى، أيكون هذا المخلوق شيطانا أم نبيا أم دجالا... أم ماذا؟
قبل أن أقول شيئا، ضحك وأشار بسبابته عاليا، ثم التفت إلى الوراء، وكأنه أحس بشيء يقترب...ثم قال لي: إنني أبذل مجهودا جبار ا كي لا أبدو مخيفا !
قلت له بأنني لم أشعر بأي مجهود في هذا الاتجاه، لكن كل إيماءاته وكلماته ونظراته مخيفة. فقال لي: كل ما تستطيع أن تؤكده لنفسك، هو الشعور بالخوف، أما أن أكون أنا مصدره تحديدا، فهذه مسألة فيها نظر. إنه لمن الصعب عليك أن تدرك بأن جلوسك الآن في هذا المكان هو الذي فرض علينا هذا الواقع بكل ما تراه من تفاصيل !.
ضقت ذرعا بألغازه، وأكدت له مرة أخرى بأنني لم أفهم حرفا واحدا، فقال: هل تعلم أن هذا المكان الذي تجلس فيه كان عبارة عن مقبرة قديمة جدا..؟ !
عند ذلك لمحت الجدية، وقد تكثفت وتركزت في عينيه الناريتين، وهممت بالوقوف، لكن لم أرد أن أظهر له الرعب الذي تملكني...غمغمت بكلمات متعثر بعضها في بعض، ولكن قبل أن أكمل، ولم أبدأ شيئا ذا فائدة لأكمله أصلا، قال لي: في الواقع، أنت الآن تجلس على قبر.. !.
قلت له: كيف؟ أعني، قبر من برأيك؟ !
فقال: إنه قبرك أنت !!
اقشعر بدني، وأحسست بأن شعري توقف رعبا من نبرات صوته البغيضة وألغازه المحيرة. استعذت بالله من الشيطان الرجيم، وفجأة خطر ببالي أن أقول له، اغرب عن وجهي عليك اللعنة..لكن كظمت الرعب والغيظ معا. وبينما كنت أفكر في كونه ربما يقصد أنه سيقتلني حالا، كسر أفق توقعي من جديد وقال: لقد كان آخر قبر تم حفره في هذه المقبرة، وعلى ذلك، فهو يقع في أقصاها، أو يمكنك أن تقول بلغتي التي لا تفهمها: "إنه القبر الذي يقع في الحدود الفاصلة بين المقبرة والمدينة !".
هممت أن أقول له "بلغتك؟...وهل لك لغة خاصة؟"...لكن بدا لي أن ذلك لا يجدي، ولا معنى له...
ثم قررت أن أسأله "هل تسخر مني؟" لكنه أجابني قبل أن أتحدث !
- إن الحقيقة ثقيلة يا بني..ثقيلة جدا، إذا لم يكن قلبك مثل ظهر الحمار، فلن تحتملها، ومن الأفضل أن تعتبرني أسخر منك..
قال هذا ثم استدار ليذهب، وعند ذلك تحول خوفي إلى فضول جارف..وقبل أن أسأله، التفت إلي وقال: نعم...الآن تمكن الخوف من اكتشاف هويته الحقيقية.. إن جلوسك هنا، في هذه اللحظة بالذات، يعني أنك تسأل بلغتي، وها أنا أجيبك بلغتك...
قلت له: أنت أغرب إنسان ناطق صادفته في حياتي...
توقف من جديد، وكأنه وجد غرابة ما في كلامي، ثم قال لي: في حياتك فقط؟ !
وبذلك عاد يلقي بظلال ألغازه على ذهني من جديد، وخيل إلي أنه يعرفني أكثر مما أعرف نفسي، فقلت له: هل تعرفني؟
فرد علي حالا دون تفكير: طبعا.
ثم قلت له: من أنا برأيك؟
فقال: أنت سؤال طرحته المدينة على المقبرة... !
***



#سعيد_بودبوز (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثالوث الدلالي في-روائح مقاهي المكسيك-
- حمار من نوع رونو
- هل توجد ثورة عربية؟
- -مذاهب وشوارب- (قصة قصيرة جدا)
- بين زمانية النهار ومكانية النهر
- سوءة حظه (ق.ق.ج)
- الإياب السردي في -مرايا- سعيد رضواني
- الضحك عقوبة!
- الصَّمْتُ الذي عَبَرَ اللغةَ
- لا (2)
- لا
- يوسف إدريس: بين انصهار الثقافة وانفجار الغريزة
- حكمة نيتشه بين الجبل والعقل (1)
- حوار مع الشاعرة لطيفة الشابي
- الماء والحكاية في -أحلام تمد أصابعها-
- بين الجنس الأدبي والجنس الآدمي (تحليل عنوان -أحلام تمد أصابع ...


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد بودبوز - جواب المقبرة