أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - المكان العراقي: السلطة والثقافة والهوية ( 2 3 )















المزيد.....

المكان العراقي: السلطة والثقافة والهوية ( 2 3 )


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 4561 - 2014 / 9 / 1 - 11:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تفكر السلطة بالمكان كما تفكر بالجسد.. المكان هو الجسد العام. هو مسرح توزّع الأجساد. من هنا تسعى السلطة للتحكّم بالمكان كي يتسنى لها التحكّم بالأجساد، وبالعكس. ولهذا فإنها تصمِّم المكان أو تعيد تصميمه وتكييفه في ضوء استراتيجيتها في السيطرة والتحكّم.
تعكس صورة المكان روح المجتمع الذي يسكنه وثقافته وظرفه الإنساني.. وحين يكون المجتمع تحت هيمنة سلطة استبدادية شمولية، أو فاشية، أو فاشلة وفاسدة، فإن المكان سيتعرض هو الآخر للانتهاك السيئ والفساد.. والمكان الفاسد هو المكان الذي تضيق فيه فرص الحياة وحدود العقل والإبداع والثقافة، وممكنات العمل والإنتاج. فيستحيل ( أي المكان ) إلى ما يشبه المقبرة للأحياء، يغدو موحشاً كئيباً قذراً وراكداً.. أما ما يضخ بكيمياء الفساد في شرايين المكان فهو الاستبداد والقمع، وكذلك الطريقة الخرقاء لأداء السلطة الفاشلة وتطبيقاتها على الأرض.. لا أقصد بالسلطة نوعها السياسي فقط ( وإن كان له التأثير الأعظم ) وإنما، أيضاً؛ القضائي/ القانوني، والمذهبي والاجتماعي والمؤسسي ( المدني والأهلي ) والأسري، الخ..
كانت الأوبئة والفيضانات، طوال قرون، تُبيد بشكل شبه منتظم سكان المدن. ففي مرات عديدة أودى مرض الطاعون والكوليرا والجدري وغيرها بالنسبة الأكبر من سكان المدن العراقية لاسيما بغداد، حيث لم يكن يتبقى منهم، في كل مرة، إلا أنفار قليلة. هذا الفراغ كان يملؤه نازحون جدد يأتون من القرى والبلدات القريبة وهم بطبيعة الحال يجيئون بعادات وتقاليد هي غير عادات المدن وتقاليدها. وحتى يتمدن هؤلاء ويكتسبوا ثقافة مدنية من قيم وعادات وتقاليد ومعتقدات مغايرة بحكم التعايش المشترك والاحتكاك مع مؤسسات المدينة يهجم المرض كرّة أخرى، وتتكرر الدورة المأساوية للإبادة والفراغ السكاني والنزوح من جديد. والأمر نفسه نجده مع مواسم الفيضانات التي كانت تكتسح وتهدِّم معالم المدن ومنشآتها كل بضع سنين.. وهاتان الظاهرتان الطبيعيتان ( الأوبئة والفيضانات ) كانتا عاملين حاسمين في عدم تجذّر ورسوخ تقاليد مدنية، وعدم صمود الإنشاءات المعمارية أمام تحدي الزمن. فضلاً عن هذا، كان المكان العراقي، لسوء الحظ، الساحة المفضلة لحروب الآخرين، منذ أقدم الأزمنة.. ومنذ سقوط بغداد على أيدي المغول ( 656هـ ـ 1258م ) ومقتل مليوني شخص عراقي يومها، جرت على أرض العراق معارك طاحنة، رافقتها حصارات وأوبئة ومجاعات وعمليات تشريد ومذابح للسكان، ومنها حروب العثمانيين مع الفرس، والتي توِّجت بحربهم مع الإنكليز خلال الحرب العالمية الأولى في 1914 لتنتهي بدخول الإنكليز بغداد ( 11 آذار 1917 ) ومن ثم استكمال احتلالهم للمدن والولايات العراقية.
ارتبط هاجس المكان في العراق الحديث، سياسياً، بالنزوع المدني.. المكان المتمدين يحتوي أرشيف المجتمع؛ ليس الأرشيف المكتوب، والمؤفلم وحسب، وإنما كل ما تفصح عنه مشاهد العمارات والبيوت والشوارع والساحات والنصب والتماثيل والحدائق والأشجار من معاني وقيم ودلالات.. كان لرهان التمدين الأولوية في وعي النخب الثقافية والسياسية الوطنية منذ عشرينيات القرن الماضي.. فكان مضمون الأعمال الإبداعية في حقول الآداب والفنون كما في الخطاب المعرفي للمفكرين والأكاديميين هو كيفية بناء مجتمع مدني قائم على أسس عصرية. وقد استعارت البرامج المعدّة في مطابخ الأحزاب والقوى والتيارات السياسية هذه الفكرة وروّجت لها لكنها قصّرت، إلى حد كبير، في ترجمتها إلى واقع عياني مقبول.. وإذا كان العراق قد شهد انتقالات نوعية ملموسة نحو تحديث البنى والمؤسسات والعلاقات والتقاليد المدنية خلال عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات والسبعينيات فإن الاتجاه قد انعكس بعد ذلك، لاسيما منذ اندلاع الحرب العراقية الإيرانية. ومع فرض الحصار الدولي على العراق ( 1991 ـ 2003 ) على إثر غزو الكويت انحسرت موجة التمدين كثيراً لصالح موجة الترييف المضادة. حيث أحاق بالمكان العراقي الإهمال والتخريب اللذان وصلا ذروتهما في أعقاب احتلال العراق وسقوط نظام صدام في نيسان 2003. إذ رأينا بأم أعيننا كيف جرت عمليات سلب ونهب وتخريب منظمة وغير منظمة لمؤسسات الدولة والأماكن العامة، وحتى الخاصة أحياناً، بسبب الجهل وفقدان النظام، أو بسبب وهن الروح الوطنية، للأسف، عند شرائح مجتمعية معينة.
كانت معالم المكان تخبو وتكفهر، فيما النزعة المدنية تنكفئ، وتتراجع حظوظ الطبقة الوسطى في الاستمرار بإدارة مفاصل الدولة المدنية. ومع الضعف الذي أصاب جسم الدولة وسياسات النظام الحاكم عادت القيم والأعراف ما قبل الدولتية كالعشائرية والطائفية للانتعاش ثانية وكأن جهود أجيال من العراقيين خلال قرن من الزمان في اتجاه التمدين قد ذهبت سدى. وهذا ما ولّد شعوراً ضارياً بالاغتراب عند الفئات المتمدينة والمتعلمة التي هاجرت نسبة عالية منها إلى الخارج، فيما كان الوضع الدراماتيكي السيء بعد التغيير ( نيسان 2003 )، وانهيار الأحلام وتزعزع الوضع الأمني وتوسع الإرهاب واضطراب المجال السياسي وانتشار الفساد في مفاصل الدولة عوامل مساعدة أخرى لتراجع عمليات التمدين وتقوية مناهضيها.
الديكتاتوريات الفاشية والشمولية هي أكثر من تصادر بلاغة المكان العالية المشعّة وتبدأ بإفقارها وتقويضها، فتتركها في النهاية شاحبة ورثة.. تنتهك الدولة/ السلطة الفاشية المكانَ وتغتصبه، إذ تتماهى الدولة مع السلطة وبالعكس لتبتلعا المكان/ الوطن بكليته، والأجساد/ الرعايا أجمعين. وهذه الدولة/ السلطة تبدأ بتغيير طوبوغرافية الأرض/ المكان لا باتجاه جعلها أكثر صلاحية للحياة، وأكثر جمالاً، بل باتجاه تحويلها إلى ما يسهل عليها عمليات المراقبة والسيطرة والتحكّم. وعراقياً أدت الحروب دوراً كارثياً في تخريب الأمكنة العراقية، فقد جرى اقتلاع مئات الآلاف من أشجار النخيل على طول الحدود بين العراق وإيران خلال حرب الثماني سنوات. ذلك الدمار تسببت ببعضه القنابل والصواريخ، وتسببت ببعضه الآخر حركة القطعات العسكرية، وخطط المعارك، وجعل البساتين جزءاً من جبهة القتال، فيما فتك العطش والإهمال ببعضها الأخر بعد هرب الفلاحين من قراهم التي صارت تحت رحمة القصف المعادي. والشيء عينه حصل مع الأهوار التي تم تجفيف مساحات واسعة منها للدواعي والمسوِّغات ذاتها أو غيرها.
كان هناك التدمير العشوائي والمقصود لمئات القرى الحدودية أو التي يصعب السيطرة عليها لاسيما في مناطق كردستان، وتجميع أهالي القرى الزراعية، ممن نجوا من عمليات الإبادة الجماعية في قرى موحدة بعيدة عن مناطقهم وحقولهم وبساتينهم أو تهجيرهم من ديارهم إلى مدن ومحافظات أخرى.
إن أي انتقال جماعي للسكان ينتج عنه تحول في شكل الأمكنة، مباشرة أو بعد حين.. وقد شهد العراق طوال عقود تشكل دولته الحديثة 1921 هجرات صغيرة وكبيرة، لاسيما من القرى إلى المدن. ولأن معظم هؤلاء المهاجرين هم من الطبقات الفقيرة والمعدمة فإنهم اضطروا للسكن في هوامش المدن والأحياء الراقية وإقامة العشوائيات التي تشوِّه خرائط المدن وتخل بتصميمها الأساسي. وعموماً لا يمكن لوم أولئك المرغمين على الهجرة وترك أماكنهم، فهم، في حقيقة الأمر، ضحايا لظروف قاهرة ولفشل الحكومات المتعاقبة في تحسين شروط حياتهم من صحة وتعليم وثقافة ورفاه اجتماعي، ورفع المستوى المعيشي للسكان، وإقامة المجمعات السكنية اللائقة، والوصول إلى الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، وقبل هذا وذاك عدم الجدّية في تحقيق تنمية مستدامة وفعالة في الريف وتقليل الفوارق بينها وبين المدن وإصلاح واقع الإنتاج الزراعي.
وعلى الرغم من زيادة نطاق الهجرات، وتوسع وتورم المدن الكبيرة بخاصة، فإن البنى الاجتماعية العشيرية بقيت متكلسة إلى حد ما، استطاعت إعادة إنتاج نفسها بدءاً من التسعينيات.. لم تستطع المدن بإداراتها واقتصادها استيعاب نسبة عالية من النازحين وجعلهم جزءاً عضوياً من نسيجها الاجتماعي والثقافي. فيما أخفق التعليم والإعلام الرسميين وثقافة التمدين التي روجت لها النخب في حقن الجسم الاجتماعي العراقي بقيم التحديث والعصرنة. ويمكن استحضار عشرات الأمثلة بهذا الخصوص، بدءاً من تفضيل فئات واسعة من المجتمع السكن في أحياء لا خدمات كافية فيها على السكن في شقق بعمارات تتوافر فيها شروط العيش الكريم واللائق، مع إمكانية تقديم الخدمات، والمستلزمات العصرية.. وانتهاءً بفض منازعات الأفراد والعائلات في السرادق على وفق الأعراف العشيرية، بعيداً عن مؤسسات الدولة القانونية والقضائية.
وإذا كانت لسياسات أنظمة الحكم الدور الأكبر في التعاطي مع المكان وتنظيمه وتنميته، فإن لعادات الجماعات وتقاليدها وقيمها ومعتقداتها دوراً لا يقل تأثيراً عن دور الأنظمة.. فكيفية التعامل مع المكان دالة على ثقافة المجتمع وقيمه ورقي ذوقه أو انحطاطه. ويمكن للمرء أن يحصل على أرقى الشهادات والمناصب من غير أن يغادر قيمه القديمة حتى وإن لم تكن ملائمة لوضعه الجديد. وهذه الظاهرة يتحملها نظام التعليم ونمط الثقافة السائدة وسياسات الدولة الحاكمة. ونحن نعرف أن واحداً من أخطر عوامل خراب المكان العراقي، خلال العقود الخمس أو الست الأخيرة هو العقلية المتخلفة/ غير المتمدينة، لأغلب من أداروا مفاصل الدولة وأجهزتها بدءاً من رأس الهرم ونزولاً إلى الإدارات المحلية، تلك العقلية التي تضيق ذرعاً بالتنوع والتناسق والنظام وتفتقر إلى الحس الجمالي.
الفساد هو الآخر فتك بالمكان العراقي.. مليارات الدولارات صُرفت في إقامة مشروعات بغاية تحسين المكان وتطويره وكانت النتيجة منشآت تفتقر، غالباً، للرصانة والمتانة والجمال. ومقابل الفساد الذي يشوِّه هناك الإرهاب الذي يدمِّر. ولعل الإرهاب هو أخطر تهديد يواجه المكان العراقي وهويته وعافيته وجمالياته وتنوع قاطنيه في حاضرنا ومستقبلنا القريب.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المكان العراقي: السلطة والثقافة والهوية ( 1 3 )
- الجسد العراقي: التاريخ، الهوية، والعنف
- لماذا يرتد بعضهم إلى الطائفية؟
- الجسد العراقي: السلطة، الثقافة، الهوية
- المثقفون: الحلم العراقي وهوية الدولة
- السلطة، الجسد المعولم، والمجتمع الاستهلاكي
- الهوية وغربة الإنسان في عالم معولم
- الكتاب الإلكتروني والمكتبة الإلكترونية ومجتمع المعرفة: تحديا ...
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 3 جنسنة الشرق
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 2 الاستعمار والجسد
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 1 الفاشية والجسد
- جدل الهوية الطبقية والهوية الوطنية
- الجماعات والهوية الطبقية
- الاقتصاد الريعي وتعثر نمو المجتمع المدني
- المجتمع السياسي بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني
- هوية الدولة والسردية التأسيسية
- وهم الهوية الواحدة: الفردانية، العزلة، والعنف
- الهوية والنزوع إلى العنف
- تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق ...
- قراءة في كتاب: إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين.. أن ...


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - المكان العراقي: السلطة والثقافة والهوية ( 2 3 )