أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - الجسد العراقي: التاريخ، الهوية، والعنف















المزيد.....

الجسد العراقي: التاريخ، الهوية، والعنف


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 4541 - 2014 / 8 / 12 - 13:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لن نغالي إذا ما قلنا أن ثقافة العنف كانت نتاجاً للبيئة السياسية العراقية، ولنوعية الثقافة التي روّجت لها كثر من الأحزاب والقوى والحركات السياسية منذ أكثر من نصف قرن.. كانت الإيديولوجيات نفسها مطبوعة بطابع عنفي، فيما وسائل التطبيق لا تستبعد اللجوء إلى العنف بأي حال من الأحوال. فتلك الأحزاب لم تكن الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وقيم الحوار والتسامح والاعتراف بالخطأ والاعتذار جزءاً من سلوكها وتقاليدها ومبادئها وثقافتها. ولذا لن نستغرب إذا ما وجدنا العنف يتخلل خطابها وسلوك أعضائها ومريديها. وأية قراءة تحفر في متون الخطابات السياسية العراقية، والإيديولوجيات التي رُوِّجت لها، ستجدها إما أنها تمور على السطح بالجمل التهديدية النارية، أو هي تخفي تحت السطح موجِّهاتها العدوانية الحادة والمنذرة. والاستثناءات بهذا الخصوص شحيحة ونادرة.
بقيت الصورة المثالية للسياسي العراقي، في الضمير واللاوعي السياسيين/ الجمعيين للمنتمين وغير المنتمين، هي صورة الضحية. صورة الشهداء المضرجين بدمائهم، صورة الواقفين بشجاعة أمام فرق الإعدام، صورة المناضلين من حاملي البنادق، صورة المرميين والمعذبين في غياهب المعتقلات والسجون. فالبطل ليس ذلك الذي يبدع ويبتكر ويبني ويصنع الجمال، بل الذي يقاتل ويموت.
استمرأ السياسي/ الحزبي العراقي تقديم نفسه في صورة الضحية؛ المتهم، الملاحق، المنفي، المعتقل، المعذَّب، أكثر من تقديمه لنفسه في صورة الفاعل الاجتماعي المثقف والمنتج والمنظم العقلاني للموارد البشرية والمادية المتاحة له والمشارك في البناء التنموي.
هذا لا يعني أن التضحيات كلها كانت بلا جدوى، ولا يعني بأية حال تبخيس قيمة تضحيات أولئك الذين تصدوا للظلم والاستبداد. ولا يعني الاستهانة بحياة من ضحوا عن قناعات مبدئية، أو حتى مَنْ قضوا لسوء الحظ، أو لأنهم لم يكونوا في المكان والزمان المناسبين الآمنين. لكن السياقات التي جرت فيها تلك التضحيات لم تعط أكلها في الغالب، بسبب ما رافقتها من السياسات الخاطئة والحسابات المختلة والخطابات غير الناضجة، والدليل؛ بعد تلك الدماء كلها انظروا أين نحن الآن، وماذا تحقق على صعد بناء المجتمع/ الأمة، والدولة؟. هل يمكن القول أن الخلل كان في شكل ونوعية الثقافة السياسية التي شاعت، وما انطوت عليها من معايير وتصورات وأحكام وقيم؟. أظن؛ نعم، وإلى حد بعيد.
في المقابل ظلّ امتهان أجساد الخصوم والمناوئين والمختلفين والمشكوك فيهم، وإذلالها وتعذيبها وقتلها جزءاً من الثقافة السياسية السائدة عندنا، وانطوت الممارسات السلوكية السياسية لمعظم الأحزاب والقوى والحركات، بدرجات متفاوتة، على محتوى عنفي. ولم تكن صورة السياسي الملثّم والمسلّح ممجوجة في حقبة الحرب الباردة، بل على العكس.. وقد أغرت تلك الصورة الكثيرين للانضمام إلى التنظيمات القتالية في كل مكان من العالم سواء كانت القضية عادلة أو ملتبسة، وسواء كان الفعل مجدياً أو عبثياً.. ويمكن القول أن الرومانتيكية الثوروية مثلت نوعاً من الهرب من مواجهة الواقع، أو كانت تصدر عن روح ناقمة، وميالة لسحق الخصوم. وفي الغالب لم يكن المنطلق الرؤية الواضحة والقناعة الموضوعية والحسابات الواقعية الدقيقة.
هناك من يُرجع منابع العنف في العراق إلى العهود القديمة؛ السومرية والبابلية والآشورية، وهناك من يعيدها إلى العهد الإسلامي ومعاركه الكبرى، وهناك من يتحدث عن الغزوات الخارجية المتتالية التي تعرض لها العراق منذ قرون طويلة وحتى عصرنا الحديث. ولا شك أن هذا التاريخ الممهور بالدم والعنف قد ترك بصمته في الروح الجمعية، وفي اللغة والثقافة السائدتين بهذا القدر أو ذاك. والحقيقة أن استعراض تاريخ أية أمة من الأمم اليوم يكشف لنا صفحات ضاجة بالحروب والمؤامرات والانتفاضات، لا تقل أحياناً، في درجة دمويتها ومأساويتها عمّا في تاريخنا. وقد استطاعت مجتمعات كثيرة تجاوز عُقد التاريخ ولونه القاني بالوعي التاريخي والفهم وروحية التسامح حيناً، وبالنسيان من أجل المصالح العليا لجماعاتها ومواطنيها في الحاضر حيناً آخر.. غير أن العنف ما يزال يسم راهننا مثلما وسم ماضينا. وما يهمنا في سياق كلامنا هو أن الجسد البشري؛ جسد الإنسان الاعتيادي العراقي كان على الدوام هو الضحية.
لنترك التاريخ القديم ونتأمل في صور انتهاك الجسد العراقي بعد الحقبة العثمانية، في ظل الحكم الوطني بنسختيه الملكية والجمهورية؛ سنقع على كثير من مشاهد السحل والقتل والتمثيل والتعليق على أعواد المشانق، والجثث المرمية في الأنهار وفي المزابل وعلى الأرصفة، والمدفونة بالآلاف في المقابر الجماعية، ناهيك عما جرى في خنادق حروبنا الداخلية منها والخارجية.
لم تكن السلطات الحاكمة بطل هذه الأدوار الدموية فقط وإنْ كانت البطل الرئيس في الغالب، بل كانت هناك أحزاب وجماعات منظّمة، وأخرى غير منظّمة، وجمهور غاضب كذلك، وكلها كشفت عن ميول مرضية لممارسة العنف، وقسوة متناهية في التعامل مع المختلفين والأنداد، وروح انتقام لا أبشع منها. وسردياتنا السياسية متخمة بمشاهد التنكيل والاعتقال والتعذيب والسجن والقتل والتمثيل بالجثث. والأمثلة بهذا الصدد لا تعد ولا تحصى؛ كان هناك مشهد عشرات الجثث التي خلفتها رمي الشرطة للمتظاهرين إبان ما سمي بالوثبة 1948 ضد معاهدة بورت سموث، ومن ثمّ مقتل العائلة المالكة يوم 14 تموز 1958 بطريقة تراجيدية، "أما نوري السعيد ( كما يصف حنا بطاطو ) فقد قبض عليه ـ كما هو معروف ـ في اليوم التالي ( لـ 14 تموز ) متنكراً بزي امرأة، وقتل فوراً بيد رقيب من سلاح الطيران. وبعد دفنه، سحبت الحشود الغاضبة جثته ثانية من القبر وسحلتها في الشوارع، مثلها مثل جثة ولي العهد ( عبد الإله ) المكروه كراهية عنيفة، ثم شنقت الجثة ومزقت إرباً، واُحرقت في النهاية".
بعد ذلك توالت مشاهد العنف: القتل والسحل والضرب والتعذيب في بغداد والموصل ( آذار 1959 ) وكركوك ( تموز 1959 )، ليتوّج باغتيال عبد الكريم قاسم في دار الإذاعة والتلفزيون بصورة بشعة، ومعه بعض من مساعديه وأمام كاميرات التلفزيون من قبل انقلابيي 1963. ثم كان هناك مشهد قطار الموت في 3 تموز 1963 وهو مثال واضح لممارسة القسوة ضد المختلفين.. كان قطاراً اعتيادياً عرباته المعدنية خاصة بحمل البضائع، ولم تكن عربات نقل مسافرين من البشر. وقد حُشرت العربات تلك بأكثر من خمسمئة شخص جلهم من العسكريين الشيوعيين او المحسوبين عليهم. كانت الحرارة تنفذ عبر الجدران المعدنية المغطاة بالقار من الخارج بعدما تم لحم النوافذ والأبواب كي لا يتسرب الهواء إلى الداخل. وفي غضون ساعات قليلة قطع القطار خلالها مسافة طويلة باتجاه الجنوب حيث المقصد سجن نقرة السلمان. وبعدما نضحت الأجساد كميات هائلة من العرق وانخفضت نسب المياه والأملاح في الأبدان بدأت حالات الاختناق وضيق النفس والتقيؤ وهبوط ضغط الدم والإغماء. ولولا شهامة السائق الذي زاد من سرعة قطاره وأوقفه في محطة السماوة وطلب كسر النوافد والأبواب وإخراج المساجين لمات معظمهم.
وإذا كان هؤلاء الأخيرين قد نجوا بالمصادفة فإن ملايين الأشخاص قضوا بعد 1968، في السجون والمعتقلات، وخلال المعارك الداخلية والحروب الخارجية، ونتيجة حصار التسعينيات، وفصول العنف الذي لم تتوقف منذ 2003 وحتى الآن حيث يتمدد الإرهاب، وتتسع دائرة العنف، ويُقتل الأبرياء ويهجّرون.
صارت استراتيجية صناعة الخوف في قلوب الآخرين جزءاً من الثقافة السياسية عند بعض الأحزاب والتيارات والقوى العراقية، لاسيما تلك التي تمتلك صبغة فاشية أو تتبع إيديولوجية وسياسة شموليتين، وتستولي على مقاليد الحكم بالانقلاب العسكري أو تتشبث بها بقوة السلاح، أو تعتقد أن السلاح هو الوسيلة السياسية الأجدى في ساحات الصراع والتنافس.
لم يكن فكر الخصم والمختلف والمنافس على الكرسي هو الهدف إذ يفترض مناقشته ومحاورته ومحاولة تفنيده وبيان اختلالاته ونقاط ضعفه بآليات الفكر التحليلي النقدي وبناءً على منطق علمي جدلي مفتوح يستوعب ويحاور ويغيّر ويتغير. بل كان الهدف هو التصدي للإنسان حامل الفكر ومحوه من الوجود ليُمحى معه فكره. ويقولها ميشيل عفلق بصراحة متناهية في الطبعة الأولى من كتابه ( في سبيل البعث ) الصادر عام 1959، وكما يرد في كتاب ( قوميو المشرق العربي: من درايفوس إلى غارودي ) لحازم صاغية: فالعمل ( القومي ) القابل للنجاح برأي عفلق هو ذاك "الذي يدفع إلى الكره الشديد حتى الموت نحو الأشخاص الذين تتمثّل فيهم الفكرة المعاكسة لفكرته. فمن العبث أن يكتفي أفراد الحركة ( القومية ) بمحاربة النظريات المعادية لنظريتهم، وأن يقولوا ما لنا وللأشخاص. إن النظرية المعادية لا توجد وحدها وإنما تتجسّم في أشخاص يجب أن يبيدوا حتى تبيد هي أيضاً. إن وجود عدو حي لفكرتنا يبعث فيها الحياة ويحرِّك فينا الدم". وإذا كانت الجمل المرعبة تلك قد رُفعت من الطبعات المتأخرة اللاحقة للكتاب فقد غدا فحواها مبدأً سلوكياً خفياً سيتمثّل في أثناء الممارسة بعد تولي حزب البعث الحكم ( 1963 ـ 2013 ) وتعامله القاسي والمميت مع الخصوم. وهذا ما يسميه صاغية بـ "العدمية الرومنطيقية التي وسمت الفكر المذكور بميسمها فأطلت على آفاق واحتمالات لا تتهيب التبشير الصريح بالكوارث والحض عليها".
الجسد العراقي الذي عنيناه في دراستنا هو جسد الإنسان العراقي الذي يبلى فيما لا يريده ذلك الإنسان. الجسد الذي هو تحت التهديد دوماً. الجسد الغريب عن الذات التي ينطوي عليها. الجسد المتعب، المثقل بالهم والقلق، والخوف من الآتي، من المجهول. يمكن تقصي آثار ومفاعيل هذه الحال بسهولة في الشعر العراقي والقصة والرواية العراقيتين، وفي الأغنية العراقية، وفي الدراما التلفزيونية والمسرح والسينما والفنون التشكيلية العراقية. ليس من قبيل المصادفة، أو البطر، أو التبجح، إذن، أن تغرق أودية آدابنا وفنوننا بالدموع.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا يرتد بعضهم إلى الطائفية؟
- الجسد العراقي: السلطة، الثقافة، الهوية
- المثقفون: الحلم العراقي وهوية الدولة
- السلطة، الجسد المعولم، والمجتمع الاستهلاكي
- الهوية وغربة الإنسان في عالم معولم
- الكتاب الإلكتروني والمكتبة الإلكترونية ومجتمع المعرفة: تحديا ...
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 3 جنسنة الشرق
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 2 الاستعمار والجسد
- السلطة، هوية الجسد، والاغتراب 1 الفاشية والجسد
- جدل الهوية الطبقية والهوية الوطنية
- الجماعات والهوية الطبقية
- الاقتصاد الريعي وتعثر نمو المجتمع المدني
- المجتمع السياسي بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني
- هوية الدولة والسردية التأسيسية
- وهم الهوية الواحدة: الفردانية، العزلة، والعنف
- الهوية والنزوع إلى العنف
- تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق ...
- قراءة في كتاب: إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين.. أن ...
- تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق ...
- الهوية وإشكالية التمثيل: صورة الذات.. صورة الآخر


المزيد.....




- وحدة أوكرانية تستخدم المسيرات بدلا من الأسلحة الثقيلة
- القضاء البريطاني يدين مغربيا قتل بريطانيا بزعم -الثأر- لأطفا ...
- وزير إسرائيلي يصف مقترحا مصريا بأنه استسلام كامل من جانب إسر ...
- -نيويورك تايمز-: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخ ...
- السعودية.. سقوط فتيات مشاركات في سباق الهجن بالعلا عن الجمال ...
- ستولتنبرغ يدعو إلى الاعتراف بأن دول -الناتو- لم تقدم المساعد ...
- مسؤول أمريكي: واشنطن لا تتوقع هجوما أوكرانيا واسعا
- الكويت..قرار بحبس الإعلامية الشهيرة حليمة بولند سنتين وغرامة ...
- واشنطن: المساعدات العسكرية ستصل أوكرانيا خلال أيام
- مليون متابع -يُدخلون تيك توكر- عربياً إلى السجن (فيديو)


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - الجسد العراقي: التاريخ، الهوية، والعنف