أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - الهوية والنزوع إلى العنف















المزيد.....

الهوية والنزوع إلى العنف


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 4374 - 2014 / 2 / 23 - 09:51
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


يدّعي بعضهم أن النزوع إلى العنف عند الفرد العراقي مردّه إلى جينات موروثة، أو ما يشبهها، ما زالت تنتقل منذ أزمنة بائدة من جيل إلى جيل. وهذه الجينات، بحسب ذلك الادّعاء، هي المسؤولة عن استمرار تراجيديات العنف وتكرارها على مسرح التاريخ العراقي، وقد غدت جزءاً عضوياً من السلوك العام ولا سبيل لوقف تأثيراته. وأعتقد أن هذا الكلام لا يستند إلى أية أدلة علمية، بل هو في الحقيقة هراء محض. وإذن علينا أن نفتش عن مسببات إنتاج العنف والإرهاب وموجِّهاتهما ( عراقياً ) في أنطقة أخرى.
ليس العنف ظاهرة عراقية بامتياز.. العنف العراقي امتداد لمفاعيل وموجِّهات تتصنع خارج الحدود.. هذا لا يعني عدم وجود حاضنات وبيئة محلية مستقبلة ومنتجة.. لكن العنف بات جزءاً من آليات التعولم.. العنف يعمّ، اليوم، عالمنا، وأفكار عصر التنوير المتمحورة حول العقلانية والحرية والتسامح لم تفضِ إلى السلام، وإنما حصل العكس تماماً، فقد كان القرن العشرون هو الأكثر إيلاماً وعنفاً في التاريخ. وبدا وكأن نزعة الشر تنتعش مع التقدّم في حقول المعارف والعلوم والتكنولوجيا. ويقيناً أن هذا الأخير ( التقدّم ) ليس السبب المباشر في ارتفاع منسوب العنف والجريمة والإرهاب.. يقودنا هذا إلى البحث عن العلّة في المنظومات السوسيو سياسية الشغّالة، وشبكة علاقات السلطة، والاستبداد والاستغلال والفقر، وغياب العدالة، والتناقضات الطبقية، والجهل ( صناعة الجهل )، ناهيك عن تشويهات تمثيل الذات والآخر، وسوء الفهم، والتعصب الأعمى. والعنف اليوم دالة لاختلال القيم، ولأزمة أخلاقية مستفحلة تضرب جذورها في العقائد السائدة، والحقل الشائك والملتبس لصراع الثقافات والهويات/ العصبيات ( القاتلة ).. في إنتاج الخطاب السياسي كما في الممارسة السياسية. ولقد أصبحت دورة إنتاج العنف من ضمن آليات المنظومة الاقتصادية الرأسمالية حيث تعولم كل شيء بما في ذلك العنف، وبات يجري المتاجرة به والرهان عليه في بورصات مصالح الأقوياء. حتى صار بالمستطاع اجتراح اصطلاح جديد هو؛ ( الاقتصاد السياسي للعنف/ أو للإرهاب ).
إن أية مقاربة تحليلية للصراعات بين الجماعات والدول لا تأخذ بنظر الاعتبار معضلة الهوية لن تصل إلى قراءات دقيقة لطبيعة تلكم الصراعات وأسبابها وآثارها ومدياتها.. فعند بؤر الصراع وفي ساحاته ـ الصراع بأشكاله ( الرمزي والإيديولوجي والسياسي والواقعي المسلح ) ـ تلح علينا موضوعة ( الهوية ).. والهوية ها هنا ليست شكل انتماء فقط إلى إثنية معينة وثقافة بعينها، بل هي تحديد للقوى؛ مسميات وخصائص واتجاهات ومصالح. أي أنها في النهاية مقولة علاقات قوى متداخلة؛ متآزرة أو متناحرة، في أمكنة وأزمنة معلومة.. وهذه العلاقات قابلة للتبدّل بحكم طبيعتها الاجتماعية التاريخية.
انتقل الاهتمام بموضوعة الهوية من الحقل الإنثربولوجي إلى الحقل السوسيو سياسي، فضلاً عن حقول الفلسفة والإبستمولوجيا والأدب. وبتنا في خضم تعقيدات عالمنا المعاصر نواجه تحدي العنف الصادر مما يمكن أن نسمّيه بصراعات الهوية، أو حرب الهويات. وحين تأخذ هذه الأخيرة طابعاً عنفياً دموياً تكون هي الأشد فتكاً بجسدي المجتمع والدولة.
الافتراض الأول الذي أرى أن ننطلق منه هو أن العنف ليس جزءاً أصيلاُ وعضوياً من جسد ثقافة أو هوية أي من الجماعات أو الإثنيات العراقية، وإنما جرثومة من الممكن زراعتها بفعل فاعل، تنتهي، إن عثرت على ظروف موائمة، بورم قاتل.. أي أن العنف ظاهرة تاريخية ترتبط بمجموعة من عوامل وشروط موضوعية لابد من التحري عنها والتعاطي معها وتفكيكها والحد من انتشارها قبل إيقاف فاعليتها القاتلة.
أين يمكن أن نؤشر موضع التوترفي موقع الذات، وهو موقع في ضمن خريطة علاقات، حيث يضطرب معنى الكينونة وصورتها، وحيث تُختلق جرثومة الكراهية والعنف؟. والصورة، بالعودة إلى هومي بابا، هي موضع تعيين الهوية. موضع معرّض لحالات تجاذب حين يجد المرء ( أو المجتمع ) نفسه في أسر ترسيمة مطبوعة بوشم أثني، ومخترقة بمعنى ( صورة ) مُسقط من خارجها. ومن الطبيعي إنْ كان ذلك المعنى شائناً وموهناً ومهيناً وزائفاً فإنه سيستثير رغبة مقاومة في إثبات للذات مغاير لما رسمه الآخر.. هذه الرغبة في ظل شروط غير مؤاتية تتحول إلى غضب أعمى وكراهية وميل إلى التدمير.. والتجاذب الذي تحدّث عنه هومي بابا اختص في نمط العلاقة بين المستعمِر من جهة والمستعمَر من جهة ثانية وعقابيلها. وهي علاقة ثنائية تفضي إلى مسؤولية مثلثة عند المستعمِر ( الأسود/ الزنجي )؛ "أنا مسؤول عن جسدي، عن عرقي، عن أسلافي".. الأسود الذي يجري إنكار وجوده ذاتاً إنسانية لها سرديتها ووعيها لمكانتها في العالم، ورغبتها في أن تكون على غير الصورة التي سعى المستعمِر لسجنه فيها. فـ "الإنكار الذي يمارسه الآخر" يقول هومي بابا "عادةً ما يزيد من حدّة تعيين الهوية، ويكشف عن ذلك المكان الخطير حيث تتواءم الهوية والعدوانية. ذلك أن الإنكار على الدوام سيرورة ذات مفعول رجعي؛ نصف اعتراف بأن تلك الآخرية قد خلّقت علامتها الرضّية".
عراقياً حصل نشاط التجاذب في إطار أشد تعقيداً. وقد ساد خطاب تمثيل سياسي ـ ثقافي أمريكي، ساندته بعض من نخب ثقافية وسياسية عراقية، فتخطى التجاذب شكل العلاقة الثنائية كما رسمته أدبيات ما بعد الكولونيالية ( بين المستعمِر والمستعمَر ). وزمنياً سبق إنشاء ذلك الخطاب عملية الاحتلال، وجرى إشاعته إبّان ذلك.. أقصد كيف مثّل/ صوّر الخطاب السياسي الأمريكي ( آخره، الذي هو نحن العراقيين )؟ عراق يعاني من تصدّعات إثنية لا سبيل لرأبها إلاّ بالتقسيم أو المحاصصة فيما ليس للعراقي أن يغلب هويته المواطنية على انتمائه الإثني، وليس له أن يتحرر من تعقيدات ماضيه وأثقاله ويفكر بتحقيق شروط بناء دولة المواطنة المدنية العصرية كرهان على الممكنات وعلى المستقبل. ففي الخطاب الإستراتيجي المعلن للمحتل الأمريكي جرى تعميق صورة الفواصل بين الإثنيات العراقية وتضييق الحيّز البيني المشترك بينها. وقد تُرجم ذلك في قرارات وترتيبات إدارة الدولة، وتوزيع السلطات، واصطناع مؤسسات، وإجراءات على الأرض، ومقترحات لشكل النظام السياسي القائم على المحاصصة الإثنية ( العرقية والطائفية )، مدعوماً بتزوير وقائع، واستثارة لشياطين الكهوف القديمة التي استدعيت على وجه السرعة لتهيئة الساحة لأشكال من العنف الرمزي والمعنوي والمباشر بين الجماعات. ولست، ها هنا، بصدد مناقشة الأمر فيما إذا كان ذلك كله مقصوداً على وفق حسابات بعيدة المدى، أو أنها أخطاء شنيعة ناجمة عن الانخداع، والجهل بتاريخ العراق وطبيعة مكوِّناته.
كان البدء مع فتح الحدود على مصاريعه، والسماح بتخريب وسرقة أملاك مؤسسات الدولة، وتكوين المجموعات المسلحة، وحل الجيش وقوى الأمن الداخلي من غير وجود بدائل جاهزة.. وكانت ثمة عوامل مساعدة كثيرة لتفاقم الفوضى وإدامتها، منها طبيعة البيئة السياسية الإقليمية، وخوف الدول المجاورة، وكلها ذات حكم استبدادي بدرجات متفاوتة، من تجربة ديمقراطية قد تنجح في العراق بتحقيق التنمية والرفاه والحرية والسلم الأهلي. فضلاً عن وجود طبقة سياسية وجدت فرصتها للإمساك بمفاصل السلطة وتحقيق الإثراء السريع على حساب مستقبل البلاد. فيما تشكّلت شريحة طفيلية شاذة تعتاش على إدامة العنف، إذ يغدو العنف منجماً لكسب واسع سريع غير مشروع عبر عمليات تمويل ( داخلي وخارجي ) وتأجير وابتزاز وإرغام لدفع أتاوات أو استحواذ على أملاك الضحايا أو رجالات العهد السابق، أو الحصول على فدى من أهالي المخطوفين أو السجناء، الخ.... في الوقت الذي يوفر العنف والإرهاب المناخ الصالح للفساد وسرقة المال العام.
إن العنف في عراق ما بعد 2003 ممأسس في أطر خطابية، وإستراتيجيات إجرائية، وموجِّهات عابرة للتاريخ وللحدود.. عنف يخرِّب الحاضر؛ حاضر ممارسي العنف ومن يُمارس ضدّهم، ويجعل مستقبلهم على كف عفريت.
إن أسوأ ما حضر به المحتل الأمريكي، وما جرّبه من تمويهات، لم يكن في المشهدية الاستعراضية للقوة العسكرية الفتاكة التي لا تقهر، ولا في المقدرة الاستخباراتية الخارقة التي تعلم كل شيء.. ولا حتى في صورة المنقذ والمحرر الذي سيمطر المن والسلوى على العراقيين، وإنما في صورة العارف الذي من حقّه القيام بعمليات التمثيل.. ليس تمثيل ذاته الرسالية المتضخمة وحسب وإنما تمثيل المجتمع العراقي.. في رسم صورة المواطن العراقي محشوراً داخل هويته الإثنية الجوهرانية الفردانية الضيقة، وصورة المجتمع المنقسم إثنياً ( عرقياً وطائفياً ) ومناطقياً..
يغيّر العنف أبطاله من جلادين وقتلة وضحايا.. إن الجلاد والقاتل والإرهابي لن يعود إلى ذاته أبداً.. فهو يخسرها مع أول رصاصة يطلقها، أو مع أول ضربة سوط يهوي بها على ظهر أسيره أو سجينه.. وكذلك الضحية لن تستعيد ذاتها، لن تكون ثانية مثلما كانت.. إن الجروح التي تُصيب الوعي والروح ليس لها أن تطيب تماماً. وفي حالة الصراعات الإثنية أزعم أن المتورطين بها لن يخرجوا منها مطلقاً بأرواح سليمة معافاة..
لا منتصر في الصراعات الإثنية، وحتى الانتصارات الكارثية المحسوبة بزيادة أعداد الضحايا من الطرف الآخر تتحول إلى عبء أخلاقي يثقل ضمائر المنتصرين المزعومين، وضمائر أولادهم وأحفادهم.. عبء انتصار موهوم يقف إلى الأبد متهماً في قفص محكمة التاريخ.



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق ...
- قراءة في كتاب: إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين.. أن ...
- تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق ...
- الهوية وإشكالية التمثيل: صورة الذات.. صورة الآخر
- معضلة الهوية ورهانات الثقافة العراقية: مدخل
- قراءة في رواية ( الأمريكان في بيتي )
- قراءة في مجموعة شريط صامت للشاعر عبد الزهرة زكي
- لا بد من أن تكون للنخب الثقافية مشاركة فعالة في بناء الدولة ...
- أناييس والآخرون
- يوميات أناييس نن
- المثقف والحيّز العمومي
- المثقف الذي يدسّ أنفه...
- أنسنية إدوارد سعيد
- -لقاء- كونديرا
- المثقف والسلطة، وحقل المعنى
- حين يقيم الشعر نصباً للحرية؛ قراءة في مجموعة -بروفايل للريح. ...
- رحلتي في عوالم جبرا إبراهيم جبرا
- عن السرد والواقع والتاريخ
- الكتب في حياتي
- كامو والآخرون


المزيد.....




- إزالة واتساب وثريدز من متجر التطبيقات في الصين.. وأبل توضح ل ...
- -التصعيد الإسرائيلي الإيراني يُظهر أن البلدين لا يقرآن بعضهم ...
- أسطول الحرية يستعد لاختراق الحصار الإسرائيلي على غزة
- ما مصير الحج السنوي لكنيس الغريبة في تونس في ظل حرب غزة؟
- -حزب الله- يكشف تفاصيل جديدة حول العملية المزدوجة في عرب الع ...
- زاخاروفا: عسكرة الاتحاد الأوروبي ستضعف موقعه في عالم متعدد ا ...
- تفكيك شبكة إجرامية ومصادرة كميات من المخدرات غرب الجزائر
- ماكرون يؤكد سعيه -لتجنب التصعيد بين لبنان واسرائيل-
- زيلينسكي يلوم أعضاء حلف -الناتو- ويوجز تذمره بخمس نقاط
- -بلومبيرغ-: برلين تقدم شكوى بعد تسريب تقرير الخلاف بين رئيس ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - الهوية والنزوع إلى العنف