أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - وهم الهوية الواحدة: الفردانية، العزلة، والعنف















المزيد.....

وهم الهوية الواحدة: الفردانية، العزلة، والعنف


سعد محمد رحيم

الحوار المتمدن-العدد: 4384 - 2014 / 3 / 5 - 21:14
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


من، وما الذي، يقرر هوية الفرد؟ أهو نفسه، أم جماعته الإثنية، أم تقلبات ظروفه الحياتية، وحظوظه، والفرص التي تتاح له، والتحدّيات التي تواجهه، وبماذا يرغب وماذا يأمل؟ أم أن هذه الحالات مجتمعة تفعل فعلها، ها هنا، بدرجات متفاوتة، حيث تختلف الحال من شخص إلى آخر، ومن زمن إلى آخر؟.
لمدة طويلة كانت ولادة المرء تقرر هويته الواحدة الجوهرانية القارّة.. وأيضاً مكانته في ضمن جماعته ومعنى وجوده وحقوقه، وقبل ذلك واجباته.. كانت الهوية معطى قدرياً، وهبة قوة مفارقة لا راد لإرادتها، وليس من حق أحد الاعتراض عليها.. كانت المجتمعات مقسّمة بتراتبية نهائية في معظم الأحيان، متجانسة في الظاهر على الأقل، فيما الأهمية التي يمنحها كل فرد لشكل انتمائه/ هويته تكاد تكون نفسها عند جميع أفراد كل جماعة محددة بـ؛ العرق، أو الدين، أو المذهب، أو القبيلة، و المكان.. الخ. وكل جماعة بقيت تعيش عزلتها الخاصة. والعزلة تعزز الانكفاء في حدود هوية ضيقة، والعكس صحيح أيضاً. فالعزلة والشعور بالتهديد والارتياب من الآخر تخلق في النهاية سوء فهم عميق بين البشر، ومن ثم تهيئ الأرضية النفسية والمادية للعنف.
كان الفرد جزءاً عضوياً من الجسد الاجتماعي لا يحق له التمرد والتميّز والخروج على القيم والتقاليد الموروثة السائدة. وكان ذلك يعني وضعه في ضمن قطيع يفقد معه ملامحه وسماته الفردانية المائزة، ويكون نسخة شاحبة مكررة من الآخرين.. بيد أن الأمر كان يتغير مع كل تطور في قوى الإنتاج ووسائط النقل وتوسع التجارة وانتشار التعليم والاحتكاك والمثاقفة مع الجماعات الأخرى. ومحصلة ذلك يمكن تلخيصها بحدوث أمرين مهمين سيؤثران في محتوى الهويات، وصور الأشخاص عن أنفسهم وعن الآخرين. وتصوراتهم عن معنى وجودهم ودورهم.. الأول بزوغ فكرة الفردية، ونزوع كل امرئ إلى التميّز والتفرد. والثاني حصول حراك اجتماعي يسمح بانتقال الأفراد طبقياً من مستوى اجتماعي إلى آخر، ووظيفياً في تراتبية السلطات القائمة والناشئة. وهذا كله يجعل من الحديث عن تماثل وتجانس داخل الجماعات والمجتمعات المختلفة أمراً مضللاً إلى حد بعيد. فالأمران سيتيحان لكل فرد أن يحقق هويته الشخصية، وهي في محتواها حزمة من هويات تختلف أهمية كل منها عنده بحسب اختلاف الزمان والمكان والظروف. وبطبيعة الحال فإن اختراع الفردية ليس دعوة إلى انعزال الأفراد بعضهم عن بعض، بل جعل الجماعة مكوّنة من أفراد مميزين متفاعلين يصنعون أسباب الحياة.
صحيح أن الفرد ليس حرا بالمطلق في اختيار هويته.. لكن العالم المعاصر صار يتيح فرصا أعظم لأولئك الباحثين عن التفرد والانطلاق في المديات الفسيحة للإنسانية.. وفيما كانت العولمة ـ بالمعنى الواسع جداً للكلمة ـ تغيّر من الجغرافية السياسية لقارات الأرض، وتهيئ لهجرات واسعة غير مسبوقة كان جوهر هوية كثر من الناس يتعرض للتحوّل.. فالذي يغادر أرضه سيطرأ تغير على ماهية هويته، على وعيه بوجوده ومكانه. وإذا أخفق في التكيّف مع بيئته الجديدة، أو أن بيئته الجديدة هذه لم تستطع استيعابه فقد ينسحب إلى هويته الإثنية الأصلانية الضيقة ويتعصب لها. لكن الحقيقة الراسخة بهذا الشأن تتمثل، مثلما يقول هارلمبس وهولبورن في كتاب ( سوشيولوجيا الثقافة والهوية ) في أن "المجتمعات الحديثة تميّزت بالتغيّر السريع، وفي فترة الحداثة المتأخرة ازدادت سرعة التغيّر بشكل جعل من الصعب أن يحتفظ الناس بإحساس موحد بهويتهم". وتتشكل الهوية عبر تكوين انطباعات عن النفس وعن الآخرين، وهذه العملية لا تجري بمعزل عن اشتغال مفاعيل شبكة علاقات السلطة/ القوة.. والذات الواقعة تحت طائلة الإقصاء والتهديد، الممسوخة صورتها في خطاب الآخر، ستُرغم على تأسيس صورة زائفة عن نفسها وجماعتها، وستكون تحت ضغط وتأثير موجِّه عصابي فتزداد لديها شحنة العدوانية والشروع بالعنف. وغالباً ما يدخل الأفراد المتورطين في فخ الهويات الضيقة ـ القاتلة في صراعات دامية لم يكونوا هم أطرافاً في احتدامها، ولا مصلحة لهم في استمرارها. ولعل بعضها يمتح من سرديات موغلة في القدم، وقد تكون هذه السرديات المنطبعة في الذهن والمتداولة والمُعاد إنتاجها مؤسساتياً قاصرة ومشوّشة. وربما حتى زائفة تماماً.
إن جزءاً كبيراً أو صغيراً عن الذات يكون قد أملاه عليها الآخر. وإنه في ظل علاقات القوة، وتحت تأثير عوامل الاستبداد والهيمنة، لاسيما إذا ما بقيت فاعلة لمدة طويلة، ستتخلق صورة للذات، أقل ما يُقال عنها أنها مضطربة أو مشوهة. فصناعة الصورة تفرز آثارها النفسية كما أشار فرانز فانون تجعل المسيطر عليه يركن إلى مواضعات تلك الصورة ( المصنوعة من قبل الآخر/ الأقوى ) وانعكاساتها الذهنية والنفسية.. أي أن العملية برمتها ستتخذ طابع الحتمية الموضوعية، أو ما يقترب منها. وكان فانون يتحدث عن العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر والتي سمتها الغالبة الصراع.
في المجتمعات المغلقة التي تسود فيها أنظمة تحكم وسيطرة شمولية، تحرص السلطات، بمختلف أشكالها بدءاً من الأسرة والعشيرة والمؤسسة الدينية والمدرسة وحتى المؤسسات السياسية على الحد من غلواء النزعة الفردية لصالح إبقاء الفرد جزءاً سلبياً مطواعاً من المنظومة الاجتماعية القائمة.. يُمنح المرء هوية مفردة مطبوعة أو مصنوعة يضفي على حاملها صفة المقبولية الاجتماعية والسياسية سالبة إياه حريته. ذلك أن المرء المسجون داخل معتقل هويته المفردة لا يمكن أن يكون حرّاً بأي شكل. مثل هذه الهوية تحد من ممكنات العقل وتطلعات الروح، وتزرع في النفس الخوف من الحاضر والمستقبل، ومن الآخرين. وأولئك الذين يغادرون هوياتهم الضيقة المعطاة هذه يوصمون بالمروق والشذوذ والخيانة. غير أنهم وحدهم من باستطاعتهم خوض مغامرة الوجود الكبرى حيث بحر الإنسانية العظيم.. المغامرة التي تتجلى في الخروج من إطار هويتك المفردة الفرعية ( من غير أن يعني التنكر لها ) إلى الأفق الفسيح حيث تعثر على ما تشترك فيه مع أولئك الذين لا يشاركونك حقائق وأوهام هويتك الفرعية.
إن الميل إلى العنف يبدأ من اللحظة التي يغيب فيها عن وعينا انتماؤنا إلى المجموعة الإنسانية.. حين نختزل أنفسنا في ضمن جماعة ما نعتقد أنها مهددة، وقد تكون كذلك، أو نظنها متفوقة على الآخرين في القيمة الإنسانية وهي ليست كذلك.. حين يكون المحتوى العميق لهذا الانتماء كره ما ليس منّا واحتقاره. وحين يفشل المرء في صياغة هويته عبر الفعل الحر الخلاق فإنه يرتد إلى الهوية العاجزة/ هوية الجماعة المعزولة.. تقول حنة أرندت: "إن جزءاً كبيراً من الدوافع التي تحث، اليوم، على تمجيد العنف، إنما ينتج عن الاستلاب الحاد الذي يُطال إمكانية الفعل في العالم الحديث".
يتجسد العنف اليوم لا في البلاغة الطنانة للخطاب الأصولي أو الثوروي لمجموعات منظّمة متعصبة، وحسب، بل في سيول الصور التي لا تنقطع في دوائر الاتصال الإعلامي، التلفزيوني بخاصة، وصناعة السينما، والإعلان التجاري.. يصبح العنف العلامة الفارقة المثيرة لعصر متطلب، ومجتمع لا يني يقبل على استهلاك تلك الصور وكأنها تشبع عنده حاجة أساسية.. تغدو الأخبار الخفيفة الفرحة محطات استراحة صغيرة وقصيرة في خضم متدفق من صور الحروب والإرهاب والجرائم والتخريب والتعذيب، وكأن العنف وحده هو الذي يصنع التاريخ ويمنح الحياة شكلها الواقعي. فيما صارت عملية رسم الحدود الصارمة بين الأمم والأديان والجماعات، واعتقال كل منها في صورة هوية مفردة صنعة استراتيجية تدور وقائعها داخل مؤسسات، لها غايات، في الغالب، غير شريفة.
نقرأ تاريخ البشرية فنطّلع على سلسلة لا تنقطع من حوادث العنف.. ولكأن لا تاريخ للبشرية سوى ذلك الذي صاغه العنف أو استقام عبر عمليات عنف.. ولقد كانت السلطة والعنف متلازمين بوصفهما ينتميان، كما تقول أرندت: "إلى ملكوت السياسة المهيمن على قضايا البشر هذا الذي لا يمكن ضمان إنسانيته إلا بقدرة الإنسان على الفعل، وقابليته ليبدأ شيئاً جديداً".. وفي الغالب، مثلما تنبئنا أرندت، فإن العنف كان على الدوام صنعة عقلانية.. فالعنف بحسب محاججتها "ليس حيوانياً ولا هو عمل لا عقلاني". ولطالما جرى توظيف منجزات العلوم والتكنولوجيا، وهي، بالتأكيد، نتاج عقلانية راقية، في تطوير أدوات العنف والسيطرة والتحكم.. أي في تعزيز قدرات السلطات وتحقيق الهيمنة وضمان الخضوع.. وتمفصل العنف مع السلطة يلخص تاريخ الصراع على السلطة مثلما يبرز صورة واضحة لتاريخ العنف.. وهذا هو الموقع الذي يمكن للهويات، لا سيما الجماعية، أن تتعين فيه وتتجلى..



#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهوية والنزوع إلى العنف
- تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق ...
- قراءة في كتاب: إشكالية الغياب في حروفية أديب كمال الدين.. أن ...
- تعددية ثقافية متفاعلة أم تعددية ثقافات منغلقة على نفسها؟ الق ...
- الهوية وإشكالية التمثيل: صورة الذات.. صورة الآخر
- معضلة الهوية ورهانات الثقافة العراقية: مدخل
- قراءة في رواية ( الأمريكان في بيتي )
- قراءة في مجموعة شريط صامت للشاعر عبد الزهرة زكي
- لا بد من أن تكون للنخب الثقافية مشاركة فعالة في بناء الدولة ...
- أناييس والآخرون
- يوميات أناييس نن
- المثقف والحيّز العمومي
- المثقف الذي يدسّ أنفه...
- أنسنية إدوارد سعيد
- -لقاء- كونديرا
- المثقف والسلطة، وحقل المعنى
- حين يقيم الشعر نصباً للحرية؛ قراءة في مجموعة -بروفايل للريح. ...
- رحلتي في عوالم جبرا إبراهيم جبرا
- عن السرد والواقع والتاريخ
- الكتب في حياتي


المزيد.....




- سقط سرواله فجأة.. عمدة مدينة كولومبية يتعرض لموقف محرج أثناء ...
- -الركوب على النيازك-.. فرضية لطريقة تنقّل الكائنات الفضائية ...
- انتقادات واسعة لرئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي بسبب تصريح ...
- عقوبات أمريكية جديدة على إيران ضد منفذي هجمات سيبرانية
- اتحاد الجزائر يطالب الـ-كاف- باعتباره فائزا أمام نهضة بركان ...
- الاتحاد الأوروبي يوافق على إنشاء قوة رد سريع مشتركة
- موقع عبري: إسرائيل لم تحقق الأهداف الأساسية بعد 200 يوم من ا ...
- رئيسي يهدد إسرائيل بأن لن يبقى منها شيء إذا ارتكبت خطأ آخر ض ...
- بريطانيا.. الاستماع لدعوى مؤسستين حقوقيتين بوقف تزويد إسرائي ...
- البنتاغون: الحزمة الجديدة من المساعدات لأوكرانيا ستغطي احتيا ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعد محمد رحيم - وهم الهوية الواحدة: الفردانية، العزلة، والعنف