أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - ملف عن الفنان التشكيلي العراقي العالمي بشير مهدي















المزيد.....



ملف عن الفنان التشكيلي العراقي العالمي بشير مهدي


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 4559 - 2014 / 8 / 30 - 01:29
المحور: الادب والفن
    


ملف عن الفنان التشكيلي العراقي بشير مهدي
أعد الملف:
الناقد: نصير عواد
الروائي: سلام إبراهيم

العراق يضيع فنانيه قتلا ونفياً
سلام إبراهيم

فيما كنا نقلب أنا وبشير مهدي أوراقه القديمة والمقالات المكتوبة عنه في الصحف والأوراق عثرت على هذه المقالة للناقد العراقي المعروف “قاسم عبد الأمير عجام” الذي اغتيل مع ولده في فترة الحرب الطائفية بين 2004 – 2005 على طريق الحلة – بغداد، مكتوبة بخط يده كان قد كتبها عام 1998 على أثر حصوله على صور أربع للوحات بشير اشترك فيها بمعرض جاب العالم. أخبرني بشير بأن “قاسم” قرأها قبل عام من اغتياله عندما زار العراق عقب الاحتلال الأمريكي 2003 وأقيمت له ندوة عن أعماله عرض فيها “سلايدات” لوحاته على شاشة عرض متواضعة في مقر إتحاد الأدباء في الحلة، وبعد القراءة سلم الورقة لبشير، يشير الناقد قاسم في أخر المقالة إلى أن صورة اللوحة قالت له ما كتب فكيف لو وقف أمامها حيةً؟!، وكان دقيقا في التخمين إذ وقفت أمام لوحاته العظيمة الحية قبل ثلاثة أيام حينما زرته في شقته بمدينة “أوترخت” في هولندا وقضيت ستة أيام وسط لوحاته الكبيرة جدا حتى أنها تحولت إلى رؤى في منامي إذ كنا نتحاور طوال النهار عن تكوين اللوحة لديه فاكتشفت ما تضمره هذه السطوح من رموز وكائنات مضمرة في أصغر تفصيل، طيور وأبار نفط، ومسيح
مصلوب، وشهيد مذبوح، وجهنم، وملائكة تتستر في مساحات اللون في الشباك
الباب والسقف والجدار والأفق لا يستطع المشاهد اكتشافها، فالهدوء الظاهر في اللوحة على بعد مسافة أمتار سيضج بكائنات الخلق التي أخفتها ريشته المرهفة في عمقها ما أن تقترب وتتمعن في بياض ستارة مثلا أو زرقة أفق أو في جدار وسقف غرفة بشير الأبدية المكررة في غالبية نصوصه البصرية المذهلة، ستة أيام من الدوران في لوحاته وفي متاحف هولندا منحتني متعة ومعرفة في كون اللوحة وعالم راسمها الخالق الذي فارقته منذ 1979 عندما ترك العراق هاربا وميمَما صوب إيطاليا حيث درس الفن وأصبح ما أصبح، قبلها كنا طلبة في إعدادية زراعة الديوانية ثم موظفين في مديريات زراعتها، وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً وجدته ينتظرني في باحة محطة مدينته صارخاً من وسط الحشد:
ها سلام.. سلام
لنتعانق ويأخذني إلى بيته الذي تحول إلى مرسمه مع تقدم العمر
لم أنس أن أحمل معي رواياتي ومجاميعي القصصية التي فرح بها مثل طفلٍ صغير.
لغرض إلقاء الضوء على تجربته الفنية المهمة والمعروفة جدا في هولندا وأوربا فضلا عن العراق وبالنظر لوضع بشير الصحي ثانيا جمعت تلك القصاصات والأوراق وقمت بترتيبها أنا وصديقنا الناقد نصير عواد ثم قام بصفها ثم قمت بتصحيحها وترتيبها وقام الفنان التشكيلي الصديق فارس خنطيل بتهيئة لوحات الملف بالشكل المناسب للنشر.



توطئة
نصير عواد

الهولنديون يرون في لوحته مقابر سومرية وصخور بابلية وكنائس هدأت فيها الأجراس. والعراقيون، أبناء جلدته، يتهامسون عن ضياع الفنان وتآكل روحه بالمنفى. في حين يرى أصدقائه القليلون أن لوحته تشبهه، مبهرة ومليئة بالأسئلة، فيها الكثير من المشاعر الدافئة استبقاها الفنان لنفسه في الظل، متكدسة في حقيبة سفر أو سرير مهجور أو غصن تسلل من شباك. قد لا يفيد كثيرا البحث في لوحة "بشير مهدي" عن معاناتنا، عن مأساوية ما يحدث في شرقنا المنهك والمضطرب، فلوحته لا تحاكي الواقع أو تحاول إفهامنا، ولكنها تشير بأدواتها إلى حالة وجودية نلمسها ولا نعرفها، وتدعونا للبحث عن التفاصيل والاستمتاع بالتيه كبداية لمعرفة الطريق، بمعنى أن الأشياء التي نبحث عنها في لوحته، لإرضاء فضولنا، قليلة وغامضة، علينا اقتفاء أثرها في وحشة المنافي الباردة وأن لا نجزع إن لم نظفر بشيء. لوحة بشير مهدي تحتشد بأفكار فلسفية وخبرة في النحت وإطلاع واسع في التاريخ والأدب والفن، وحياته ترتكن إلى تجارب عميقة ومواقف واضحة لا يضيره أن تتصادم مع مواقف أقرب الناس إليه، مثلما لا يضيره الإعلان عن تأثره بالفنانين الكبار وتقليده لبعض من أعمالهم. إنه فنان غير متمرد، بالمعنى العراقي للتمرد، ويعيش حياته بعزلة طويلة تخبئ شذرات من التمردات الداخلية البعيدة عن الادعاء والكذب وصعود الموجة، هناك حوادث وتفاصيل يومية في حضور اللوحة تشي بالكثير من أسرار رحلته، منها حبه الطافح للفن وحديثه الدائم عن لوحته أكثر مما يتحدث عن أبنه الوحيد، ومنها، وهي مفارقة، أنه لم يعطِ الأولوية لتسويق لوحته ونفسه، ولا يغيظه بقاء تلك اللوحات، الباهظة الثمن، في البيت معلقة أو مكدسة ومغطاة، ويعتبر وجودها (الميراث الأخير من رحلته )، وهنا نستطيع فهم خلو بيته من تلفاز واكتفائه بالتأمل في الجدران واللوحات المعلقة في أرجاء البيت.
"بشير مهدي" لم يدرس الرسم في معاهد الفن وجامعاته، لكنه بزّ الدارسين بدقته وحساباته وحفرياته الفلسفية وحبه للفن. كانت الساعات التي يستغرقها في التأمل أكثر من الساعات التي يقضيها بالعمل قدام اللوحة، وهذا يفسر عمق موضوعاته وطول المدة الزمنية التي يحتاجها لتنفيذ كل عمل من أعماله، قد تستغرق فيها اللمسات النهائية للوحة أيام وأسابيع، ومع ذلك لم نسمعه يوما يسخر من لوحات نُفذتْ على عجل أو يسم أعمال الفنانين الآخرين بالسطحية والابتذال، بل كان يحوّل جل سخرياته إلى السياسيين والمعممين. هذا البطء المشحون بالقلق على البشر والشجر والحجر، إضافة إلى إعادة رسم التفاصيل أكثر من مرة، ساهم في انحسار مساحة الكذب في تجربته الفنية وأخذ على عاتقه التأسيس للديمومة وبقاء اللوحة في ذاكرة المشاهدين وارتفاع قيمتها المادية، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن تكون الأفكار التي ينتقيها بشير مهدي عظيمة أو جديدة حتى تكون عنصر جذب في اللوحة، فكرسي عتيق وجده في مزبلة الحي الذي يسكن فيه ظهر في الكثير من لوحاته المهمة، وحبل السرّة الذي دفنته أم "بشير" في المدرسة المجاورة، مجاراة للتقاليد، تحوّل في مخيلة الفنان إلى فكرة تشكيلية ظهرت في أعماله أكثر من مرة، تارة يعمقها بمزيج الأسود والأصفر والبني وتارة يمد إليها خيوط الماضي الجميل وثالثة يرسمها بغموض في بيت مهجور للعبادة، في هم ووهم دائمين لتخليص الحفرة من زمنها وإطلاقها في عالم الإبداع.
عندما تتفق العيون على البحث عن أسرار في اللوحة فمعنى هذا وجود شيئا من ذلك، وسنجد مقالات الملف الذي بين أيدينا قد تناولت موضوعات عدة لكنها اشتركت بسيادة "الغياب" في أعمال بشير مهدي الفنية. نحن نذهب معهم في ذلك ولكن لم يأتِ ببالنا أن يكون المنفى هو الصانع أو أن الفنان اجترح جديدا، فموضوعة الغياب في أعمال الفنانين المنفيين قديمة قدم الصراع والحروب، وبشير بأدواته وتجربته ذكّرنا بها ووضعنا مرة أخرى أمام أسئلتها حتى صرنا نظن أن الغائب في اللوحة هو واحد منا، هو "موديل" تأخر عن موعده، أزعم أني رأيته مرة في الطريق المؤدية إلى لوحته. كان وجهه بدون ملامح، جامد كتمثال مهمل، نظرته مرت بجانبي محدقة في حقل ورود بعيد على أطراف مدينة "اوتريخت" الهولندية. ظننته بشير "الآخر" وقد أتعبه الوقوف وأضجرته رائحة الزيوت، فهممت أن أناديه وأعطيه حقيبته المركونة أسفل اللوحة لكنه سرعان ما غاب في أحد جدرانها الشاحبة، أدركت يومها سر طبقات لون التراب في فضاء اللوحة المليئة بمفردات الغياب، وأيقنت أن الألوان عند بشير تتهامس مع الأفكار، وأن التعاطف مع الغائب يستدرجنا للذهاب معه في رحلة البحث عن السكينة.




عن صراع الروح البشرية، بين اللوعة والمتعة وفلسفة الألم

حسين السكّـاف

"علينا أن نوَلد أفكارنا من صميم آلامنا... " نيتشة

منذ زمن وهو يبحث في دواخل الروح البشرية، آلامها، آمالها ودلالة ما تخفيه من أوجاع ومسرات ليجسدها رموزاً داخل العمل الفني... أعماله تمنح المشاهد انطباع أولي يتجه نحو الأسلوب الكلاسيكي أو أسلوب عصر النهضة تحديداً، إلا أنه سرعان ما يكتشف رموز ودلالات متداخلة مع بنية العمل تشير إلى حداثة وتفرد بأسلوبٍ وفلسفة خاصة... صحيح أن أعماله كثيراً ما تحاكي أشهر أعمال فناني العالم، والفلاميين على وجه الخصوص مثل جان فيرمير وجاكوب يوردانس وغيرهم، إلا أن تلك المحاكاة لا بد وأن تأخذنا إلى فكرة معاصرة تتماهى مع الواقع المعاش. حيث يستدعي عمل شهير لأحدهم ثم يوظفه في خدمة فكرة حديثة لا تخلو من فلسفة صراعات الروح البشرية المعاصرة بآمالها وآلامها، بولعها المشحون بفكرة مريحة تسمى أحياناً "أمل"، ولوعتها الأزلية الممتدة منذ بداية الخلق حتى يومنا هذا...كل هذا يجسده الفنان التشكيلي العراقي بشير مهدي معتمداً التكنيك الكلاسيكي في التنفيذ، ولكنه مطعماً بالحداثة ومشاكسة الفكرة.
هي إذاً فكرة "اللوعة والولع، والأمل والألم" التي باتت تشغل تفكير هذا الفنان منذ زمن ليس بالقصير، فبين لوعة الحياة، والولع بها، نكتشف أن المتعة التي تتلبس روح الفنان وهو يترجم أفكاره على قماش اللوحة، ما هي إلا متعة منبثقة من آلم المخاض حيث ولادة العمل، ترى لماذا صوَّرَ لنا نيتشة ولادة الفكرة كولادة الإنسان المنبثق من بين كومة آلام "ممتعة"؟... أليس العمل الفني فكرة؟ لنتأمل إذاً العمل المعنون "أنا الإنسان"، هذا العمل الذي سرعان ما يصدمنا عنوانه حين نتفحّص العمل ولا نجد للإنسان حضوراً واضحاً! فالإنسان غائب من المشهد، ولكن ثمة صخرة تشبه دماغ الإنسان متروكة على الوسادة، ولو تأملنا العمل قليلاً مطلقين العنان لخيالنا، لوجدنا إن هناك إنسان بالفعل، نائم ووجهه إلى الحائط، وهذا ما تشير به حركة الغطاء وتكوينه، ولكن الفنان عمد إلى تغييب جسد الإنسان، لا روحه وأثره، من المشهد ليمنح المشاهد فرصة للتساؤل...المكان ضيق جداً، لا يتسع إلا لسرير. قد يكون جحر في زاوية غير محددة من هذا العالم. ولكننا نعرف أن السرير في عالم الفنان هو الحياة بكل تناقضاتها، هو الموت والسعادة والأحلام والولادة والمرض. وهو أيضاً إشارة واضحة إلى ضعف الإنسان وهوانه... النائم كائن ضعيف وإن كان جباراً في يقظته، ولكننا نجد في أحيان أخرى تفسير يتماهى مع تلك الرؤى، حيث يشير السرير أيضاً في لوحاته، إلى وطن الفنان الذي هُمِّشَ فيه الإنسان منذ سنوات طوال، لذا فالإنسان هنا رغم حرارة جسده وتكوينه الذي يلمسه المشاهد من خلال شكل الفراغ المدروس بدقة، موجود كأثر بشري داخل التكوين... وهكذا يفصح لنا في هذه اللوحة؛ أن الإنسان المشار إليه لا يبتعد عنه شخصياً، فيقول: "هذه اللوحة تمثلني... إنها أنا، أنا المتروك في زاوية من هذا العالم، تماماً كتكوين الدماغ الذي تحجر وصار صخرة على وسادة... ولكن إن تأملت اللوحة قليلاً ستجد بصيصَ أملٍ ما زال يقاوم العزلة..." وهنا يأخذنا الفنان إلى ذلك الكرسي الصغير على الجانب الأيسر من التكوين، كرسي غير متساوي الأرجل، حاول الفنان موازنته من خلال قطع مضافة ساندة تزيد من الشعور بالتوازن، وما وجود قدح الماء فوقه إلا لتعزيز فكرة الاستقرار الذي يؤكده لنا ذلك الغصن الأخضر بداخلة. أمل بعيد، قد يزهر يوماً حين يصبح للغصن جذور وتدب فيه الحياة مرة أخرى. إلا أن هذا لا يتم إلا باتزان الكرسي واستقرار الماء داخل القدح، أو باتزان واستقرار الأرض أو العالم بأسره... إنها في الحقيقة حالة تنشد التوازن والأمل وسط الخراب، خراب الأرض وضيق المكان... هل هي أمنية، أم حالة نضال مريرة مع واقع مؤلم؟... سؤال تطرحه اللوحة وتجيب عليه في آن واحد من خلال تزاوج فكرتي "الألم والأمل" أو "اللوعة والولع"... العمل لا يخلو من مشاكسة، أو تحدي، كما هو الحال في أغلب أعمال هذا الفنان، حيث نلاحظ أن الصورة الراقدة على الكرسي والتي ينتصب فوقها كأس "الأمل"، هي في الحقيقة صورة لعمل شهير للفنان الهولندي جان فيرمير (1632-1675) "الفتاة ذات القرط اللؤلؤي" أدخلها الفنان في صميم لوحته لتكون اعترافاً صريحاً بتأثره بفن وطريقة تنفيذ وتكنيك فيرمير، وهو أيضاً تحدي ذاتي واضح لقدرات الفنان الفنية الذي يعتمد الدقة في الرسم وكأنه صائغ مجوهرات محترف... الولع، والحب، والبحث عن الدهشة، قيم جمالية يتملكها الإنسان لتكون دافعاً حقيقياً للاستمرار، صحيح أن الفنان مولع بالرسم، ومحب له، شغوف به، لكن فن الرسم الذي توَلّع به لا يأتي بسهولة، هو في الحقيقة مخاض حقيقي، لا يمكن أن يخرج ويتمثّل أمام المشاهد، إلا واللوعة والألم تصاحبه.. وهنا تدخل المتعة في كلا الحالتين، فهناك، وبكل تأكيد، متعة خاصة يجدها الإنسان في اللوعة التي تصاحب ولادة العمل الفني...
قد يكون للسرير قصة في حياة الفنان، وقد يكون الحرمان وراء حضوره في الكثير أعماله، ورغم اعتراف الفنان، بأنه طالما حلم بامتلاك سرير في مراحل متقدمة من حياته، إلا أن المتابع لأعماله يمكنه تلمس ذلك التباين بين موضوعاتها التي تتراوح بين الاستضعاف والثورة. ففي اللوحات التي يكون فيها السرير حاضراً، تكون هناك إشارة للضعف البشري، وحين يختفي السرير من العمل تكون الإشارة إلى الثورة وحركة الإنسان والطبيعة وسعيهما نحو التطور والخلاص...
الثورة، نجدها بشكلها الصاخب والواضح في لوحة " ثور... ة الحياة" لوحة بطلها ثور غاضب استعاره مهدي من الميثولوجيا الأسكندنافية التي تحكي قصة "جيفيون" التي حوَّلتْ أولادها الأربعة إلى ثيران لتحرث بهم أرض جزيرة شيلاند في ليلة واحدة، لتكون عند الصباح ملكاً لها. الثور في اللوحة يظهر برونزي التكوين ليشير إلى الأسطورة التي أصبحت تمثالاً، ويحدد بشكل الثور وحركته، شكل الرسالة التي يحملها العمل: "دعوة إلى سماع أنين الأرض وأوجاعها، دعوة إلى أعمار الأرض لا تخريبها كما يجري على أرض الواقع..." حركة الثور العنيفة والبخار المتفجر من منخاريه، وبوله، كل هذا يشير إلى ثورة عظيمة قد توازي ثورة الأرض وغضبها... الثور في حركته، كأنه يصارع شيئاً ما... ديناميكية الحدث والغضب الموجود في اللوحة بالإضافة إلى الرموز العديدة، تمنح المشاهد فسحة لتصور حجم الكارثة في حالة اتخاذ الأرض قرارها في تجنيد كل وسائل غضبها ضد الإنسان... البركان في عمق اللوحة يعلن وجع الأرض وهو يمتد ليغطي مساحة كبيرة من السماء فوق الأرض الغاضبة، وثمة مدينة في المسافة بين البركان والثور، ترمز إلى وجود الحياة على الأرض، ولكنها حياة مدمَّرة، وكأن زلزالاً حدث للتو معلناً غضب الأرض على الإنسان... العمل وثيقة احتجاج باسم الأرض موجهة إلى البشر، "كفّوا تعذيباً للأرض" وكأن الفنان يتبع الديانة المانوية التي تعتذر للأرض حين حرثها... والحقيقة، أن الناظر للوحات بشير مهدي غالباً ما يشعر بالبرد والخوف والوحشة، فهناك ماض مؤلم ومستقبل غامض تلوح قسوته قبل مسراته.. وبعض أعماله تحمل الكثير من المتناقضات... رغم التوازن الكبير الموجود داخلها... وهناك ثمة من يرى في أعماله طرق سريالية في التنفيذ، ولكنه يقول: "أنا لست فناناً سريالياً، لأنني أقف ضد التشويه دائماً.. والذي يجد بعض من السريالية في أعمالي، يمكنني أن أمنحه الحق إذا وجدها على شكل نصوص شعرية تثير بعض الأسئلة بطريقة سريالية... ولكني ومثل ما يفكر الفنان رينيه ماجريت (1898-1967)، أرى أن أعمالي رغم واقعيتها فهي تحتوي على الكثير من التجريد..."
ترى، هل يمكن للإنسان ممارسة اللذة في خضم الألم؟ يأخذنا هذا التساؤل إلى لوحة "الهروب إلى الظلمات" التي تسحب المشاهد في نظرته الأولى إلى تكوين فوتوغرافي لمكانٍ أو زاويةٍ بيت ترتكن عندها لوحة مهشمة! حينها ينتابه شعور بالأسف لتحطم لوحة فنية جميلة أو مغرية. إلا أن المشاهد سرعان ما يتلمس الدهشة حين يعرف أن اللوحة المهشمة ما هي إلا جزء من اللوحة الأم، هذا التناقض السريع بالمشاعر أو التدرج بتباينها هو في الحقيقة فلسفة العمل، التي تشرحها لنا عناصر اللوحة ورموزها فيما بعد... المكان بارد عتيق، حيث الرطوبة لعبت دورها بجدارة عالية، وهذا ما يفصح عنه انهيال طبقة الجبس (الجص) من على الجدار وظهور الطابوق بلون اللحم البشري، وكذلك هيئة الأرض، بوضوح تكسر أو تفتت بعض بلاطاتها ووضوح خرابها... الانتباه إلى طبيعة الأرضية سرعان ما تأخذ منحى آخر، حيث ثمرات التفاح المتناثرة، ثلاث ثمرات قدمتها يد من خارج المشهد حيث النافذة، يد عمدت على لَيّْ غصنٍ لتدخله داخل المشهد، هل هي يد الخطيئة، التي تحاول إعادة قصة بداية الخليقة؟ الإجابة على السؤال نجدها في اثنتين من التفاحات الثلاث. التفاحتان مقضومتان، وما قُضِمَ تم بصقه على الأرض، إذاً فهناك قصة سرعان ما نكتشفها حين نحوّل نظرنا صوب اللوحة المهشمة، فهناك امرأة عارية دخلت فضاء اللوحة أو عالم الخيال، بعد أن قدمت التفاحة لشاب كان بقربها "أغوته ليسلك طريقها" فما كان من الشاب إلا أن يخلع ملابسه ويرمها على الأرض ليدخل اللوحة بسرعة طمعاً باللحاق بالمرأة مما أدى إلى تهشم اللوحة، وسقوطه بعد أن أصيب ساقه الأيمن بأحد مساميرها. الدم النازف من الساق نشاهده على الأرض أسفل القدم التي ما زالت خارج اللوحة... إنها بالفعل ممارسة المتعة في خضم الألم، وأنها لوعة الولع الذي قاد الشاب وراء الفتاة ليدخل عالم الخيال عارياً، عالمُ مبهم مظلم، لا يظهر منه سوى موج بحر ورمل بارد حيث الليل قد أرخى سدوله منذ ساعات... ترى ما الذي يجعل الإنسان مجبراً على ولوج عالم أغرب وأقسى من عالمه الذي يعيشه؟... هل الرغبة في تعذيب الذات وتلمس أقسى حالات الألم، أم هي إشارة أراد الفنان أن يضعها أمامنا لينبهنا إلى أننا نسير في اتجاه خاطئ؟ خصوصاً وأن العمل يشير برموزه إلى الكثير من قيم الجمال والمتعة رغم آلامه الواضحة.
ليس بالشيء الغريب أن يعترف الإنسان بأخطائه، ولكن الغريب أن ذلك الاعتراف غالباً ما يأتي بعد أن يصبح خراب الخطأ، حقيقة ملموسة، فالبشرية عرفت العديد من الاعترافات، قد تكون أخطاء الحروب أكثرها كارثية وقساوة، إلا أننا لم نعرف يوماً بأن اعتراف كان قد أصلح الكارثة... ولكن، ماذا لو غضبت أمّنا الأرض وشنت حربها على البشر؟ ماذا لو تصورنا أن الأرض ضحية أولادها من البشر؟ أسئلة نابعة من ولعنا وحبنا، بل عشقنا للأرض التي باتت لوعتها تؤرقنا. لوعة ونذير كارثة نلمسها في لوحة "فكرة خاطئة"... فكرة ولدت، حين تقمص الفنان روح طفل "كبير" راح يفكر مستخدماً براءته ونقاء روحه: "منذ مئات السنين والإنسان يحفر الأرض، يعبث بها أحياناً، وأحياناً أخرى يغوص عميقاً بداخلها منقاداً لرغباته وأحلامه بالثراء. يفجّرها ليستخرج منها "فَرِحاً" شتى أنواع الخيرات دون أن يلتفت لآلامها! ولكن، أليس من المنطقي أن تكون هناك فراغات كبيرة داخل رحم الأرض حين يُنتزع من أحشائها مادة ما؟ ثم، هل ستبقى تلك الفراغات على حالها دون أن تملؤها مادة أخرى؟"... هنا يتقد ذهن الطفل فزعاً حين يتصور بأن مياه البحار ستنسحب إلى الداخل لتملأ الفراغات، فتختفي من على سطح الأرض، ثم تنكمش الأرض كعلبة معدنية فارغة!! إنها بالفعل صورة مفزعة وإن كانت محض خيال طفل تجاوز الخمسين.
العمل الذي يدعونا فيه الفنان إلى الاعتذار من أمنا الأرض والانتباه إلى آلامها، قبل وقوع الكارثة، يعود بنا إلى رمزية السرير، الرمز الذي يشير إلى ضعف الإنسان وهوانه أمام قوة الأرض وجبروتها، رغم كل ما يملكه من قدرات... السرير الوثير يشير لنا بثراء الإنسان المغيّب من المشهد، لكنه ثراء خاوي، حين تكون الأرض خاوية. فجميع رموز الحياة التي يتضمنها العمل هي حياة كان لها حضور في الماضي، رأس الخروف الظاهر على شكل جمجمة، وكأنه تحفة فنية لكائن منقرض تم الاحتفاء بها من خلال تعليقها على بابٍ عتيقة لا يمكن غلقها، فكل الاتجاهات مفتوحة بوجه الخراب، وصورة البحر الذي صار هو الآخر من الماضي، حين اختفى ليدخل باطن الأرض ويملأ الفراغات داخل رحمها، ويتحول إلى صورة في الذاكرة، تلك الصورة التي يحتضنها الجدار المظلم، رغم حركتها، حيث الموج المتلاطم والباخرة الشراعية، إلا أنها تبقى مجرد ذكرى لشيء جميل... المكان خارج "الغرفة" يثير في روح المشاهد خوفاً من التيه، فلا حياة هناك سوى آثار بحر وسماء غير صافية، فطبيعة الأرض الظاهرة عمد الفنان فيها إلى تقريب شكل تربتها من حركة مياه البحر لتنسجم مع الصورة الداخلية للبحر على جدار "الغرفة"... أما الزاوية اليسرى من المشهد، وحركة الأرضية المتجهة نحو هاوية أو حفرة عظيمة، فهي الإشارة إلى تكور الأرض على نفسها، وبداية تهشمها إلى الداخل نتيجة الفراغات الهائلة التي أحدثتها حفريات الإنسان وعبثه بطبيعة الأرض وتكوينها.
إن لفكرة اقتناص الولع ومتعته من داخل اللوعة، تؤدي بنا، بالضرورة، إلى تأمل سلوكنا اليومي وفلسفة الحياة التي وجدت لتبقى، كما الإنسان تماماً. فما من كائن وجد في هذا العالم إلا ليكمل ويساهم في ديمومة هذا العالم، لا في خرابه. ومن هنا نجد أن مساهمة الفن التشكيلي وتوظيفه لخدمة الإنسان والطبيعة، هي في الحقيقة وثيقة مضافة إلى العديد من الوثائق والفنية والعلمية والفلسفية التي تدعو إلى أعمار الكون باستخدام قيم الجمال وفلسفته.


ملكوت الفنان

أحمد الحلي

كمثل كل الارتحالات الخرافية الخلاقة , التي تبتغي تحقيق ما لم يكن في الامكان تحقيقه في عالم اليقظة ذي الأبعاد المحددة ، يتحتم علينا أن نهيئ لعدة غير عادية ، وزادا معرفيا استثنائيا لكي نحظى بالتالي بالبطاقة التي ستخولنا الدخول إلى ملكوت الفنان العراقي بشير مهدي. أنه يأخذنا من أماكننا، يؤرجح ذواتنا إلى درجة الاهتزاز الفيزيقي المطلوب لكي نحلق معه بعيدا عن كل ما يكدر صفو اللحظة المشتهاة. انه ينشئ عالما من الألوان والتداخل حيث يكون للضوء وانعكاساته المبهرة الدور الأساسي في صنع التراكيب التكوينية لمكان محدد هو في الأعم الأغلب غرفة ذات سقف عال من الطراز القوطي تطل من علوها على ما تحتها من أماكن أخرى ضمن تشكيلة المدينة مثلا انه بالتالي ينشئ عالما ربما فيه للفذلكة الفوتوغرافية البارعة مكان، إنما هو عالم صميمي ينبض بالقوة وبكل ما يختلج في بواطن الذات الواعية من أسئلة وترنيمات. هكذا هي مساحات الفنان بشير مهدي اللونية تقودنا عبر موشورها الحياتي المتقن لتعيد لنا تشكيل حلمنا.. إنها توحد رؤانا وتسير بها قدما نحو إيقاعها المتجدد.
وعبر هذا المنطق، تحتاج محاولات الدخول في عوالم - بشير مهدي - المبهجة حقا إلى حشد هائل من الحفريات المعرفية والى الإلمام الوافي بالأساطير القروسطية وفروسيات شعراء التربادور هارموني دقيق استطاع فيه الموازنة بين كل معطيات العصر القوطي ومعطيات العصور اللاحقة ولا سيما عصرنا الراهن بما يمور فيه من فلسفات متضاربة وإيحاءات رؤيوية أفرزتها الكشوفات الفكرية والعلمية ولاسيما في مجالي الفن والتحليل النفسي. يساورنا الإحساس عبر تأملنا للمنجز الفني للفنان بشير مهدي إننا والزخرف والمنمنمات والأطر المعمارية والموسيقى، الشعر، ناهيك عن الإمساك بخيط دقيق من روح الشرق الذي منه انطلق إبداع هذا الفنان.
انه يرتحل بنا عبر ممكنات عصرنا إلى لحظته الزمنية المنتقاة بعناية فائقة، انه الهاجس ذاته الذي قاد شاعرا يونانيا كبيرا كالشاعر كافافيس ( 186-1933 ) لأن يرتحل عبر صوره الشعرية الموحية إلى لحظة زمنية بعينها من عصر غابر كالعصر الإغريقي أو الروماني ومحاولة استنطاق هذه اللحظة بكل ما تحمله من وقائع ودقائق مع فارق أن ارتحالات كافافيس تنسلخ كلية عن عصر الشاعر، أي أن الشاعر هنا قد قام بعملية تحييد تامة لكل معطيات عصره، فيما نرى الفنان بشير مهدي عبر مخاضاته وتجلياته قد قام بتشييد معماره الفني الباذخ المستند إلى إيقاع بإزاء مفارقة مقصودة، فأيا من هذه اللوحات خالية من الوجود البشري ويكاد هذا الخلو أن يؤسس كيانه للكائن - الإنسان - الرجل أو المرأة او الاثنين معا. أن ثمة حضوراً طاغياً يطفح به المكان لكائن قد غادر للتو أو هو في سبيله لأشغال المكان .أن تنوع أساليب الفنان في التعبير عما يختلج فينا من أسئلة وقدرته على اختزال وترميز اعقد إشكالات الحياة وطرحها من منظور آخر فيه ما فيه من انسجام تكويني قد حقق نقلة نوعية لمدى ما يمكن أن يصل إليه وعينا الباطن من منعطفات مجهولة. هكذا وبمثل هذه البراعة في التكوين وفي العمل الفلسفي وتجسيد الظلال والأمكنة وعبر كل هذا الزخم من الأساطير المدهشة والحكايات، بكل هذه السطوح الممغنطة بالكبرياء والقوة ، وبتباريح الهموم الكبرى يصنع لنا الفنان - بشير مهدي - مشاهده المتقنة .عبر نظرة إلى ما يقوم بتأسيسه وإرساله من قيم جمالية ومفردات، وما يحاول بثه فينا عبر تقنياته الذكية يتضح لنا انه يؤكد المرة تلو الأخرى أن تحليق الإنسان لم يعد حلما. فها هو ذا يزودنا بالأجنحة السرية التي لا تبهظنا كثيرا مثلما تفعل الأساليب التقنية لعصرنا الراهن.
ثمة دلالات فرعية لبعض المفردات تسترعي الانتباه أيضا قام بتوظيفها الفنان بشير مهدي في أعماله مثل تضمين الأعمال للوحات عالمية مشهورة ذات حسية واضحة. ومثل تمثال رأس الفنان بشير مهدي نفسه الذي يبدو بوضع الشاهد الحيادي لما يجري، أو كالأقنعة سواء ما كان منها معلقا على الحائط أو ملقى على الفراش، وفي لوحة ملفتة للنظر نشاهد على الحائط تجسيدا لآدم وحواء بعد أن حل بهما سخط الرب حيث يبدو آدم وقد وضع يده على وجهه الذي بان فيه الانكسار والخزي فيما تبدو حواء وهي تضع القناع على وجهها تسير إلى جانبه برأس مرفوع وكأنها تحاول إخفاء فرحها بما آلت إليه الأمور .










لوحات تجسد لغة الغياب

قاسم عبد الأمير عجام*

صور أربع للوحات أربع، رسمت بالزيت على “الكانفس” بمقاييس شتى، ولكنها أكثر من ذلك. فهي متعددة فيما تتركه في المتلقي، وهي متعددة في محتويات اللوحة الواحدة. ففي المتلقي تبدأ اللوحة تتناسل أو تتصادى تأثيراتها على صعيدين؛ أولهما الإدهاش الذي تحدثه مهارة التحكم بالضوء واستثمار مساقطه للكشف أو رسم الظلال. وثانيهما إنطاق المكان بلغة الغياب. واللوحات في الحقيقية هي رسومات أو تصوير تعتمد منطق الفوتوغراف في تحديد الشكل وأبعاده ولكنها تشحن الشكل في التعبير من خلال العلاقات التي يقيمها الرسام بين محتويات اللوحة. وهي علاقات يلعب استثمار الضوء والظل فيها الدور الأساس في تكوينها وشحنها بالمعنى وبالتالي في تكوين مفردات لغة المكان. وقد أثث الفنان بشير مهدي مبدع هذه اللوحات، لوحاته بالعديد من التشكيلات والعلاقات الداخلية بطريقة ترمز إلى إنسان غادرها أو يوشك على المغادرة ولكنها متروكة بهيئة تنطق بما أسميناه لغة الغياب، وهي تكاد لما في اللوحة من ظلال وانكسارات والتواءات في الضوء أو خطوط الأشكال توحي بالأسى والفقدان والغربة، أو بعزلة مفروضة، فثمة سرير ينزوي بين جدران وزاوية الباب تحت نافذة مفتوحة أو مغلقة.. وفي الحالتين ترك الفرش مهملاً بعد المغادرة، وثمة، غير الفراش، أشياء أهملت هي الأخرى.. تفاحة مقطوعة تدحرجت على الأرضية أو كتاب ملقى على طرف السرير. والسرير ضيق يتفق ومنطق الاستيحاش الذي تنثه اللوحة، أو حتى وردة سقطت على الأرض وفقدت بعض تويجاتها في لوحة هي الذروة في التعبير عن غربة الإنسان حيث تعرض جمجمة بشرية في قاعة للعرض أبدع الفنان في تفاصيلها إلى درجةٍ متناهية. وهذه اللغة المؤسية ما كان لها أن تتكون وتنطق لولا الإبهار في دقة التكوين. وهي دقة تنبثق من مهارة استثمار الضوء كما أشرنا. فالنوافذ المفتوحة على الفضاءات ليست مجرد مصادر للإضاءة وإنما إشارات لأبعاد تمنح اللوحات أعماقاً تمتد إلى أمكنة أخرى، وتحيلنا بدورها إلى الغريب المغادر الذي يفر إلى الطبيعة رمزاً لنقاء مفقود. ففي كل اللوحات شيء أو مساحة من تجليات الطبيعة.. إن لم تكن حقلاً أو شجرةً فلوحة داخل المكان تجسد الطبيعة. وفي تلك الامتدادات تبلغ دقة التكوين ذراها إذ تستحيل إلى نوع من نمنمةٍ تثير الدهشة ولذا تمشت في المرمر عروقه، وفي المنحوتات الجدارية داخل اللوحة حياة وحركةً، وفي نقوش الأفرشة والجدران، أو النوافذ ما جعل اللوحة الواحدة تشكيلاً من لوحاتٍ عدة لا يمكن للمعنى أن يكتمل إلا باستنطاقها جمعياً.
يسمونها مرحلة ما بعد الفوتوغراف، وهي كما تلخصها أو تجسدها هذه اللوحات مرحلة شحن الصورة بحرفيات التشكيلي ورسالته التعبيرية، فليس الشكل المعطى في أية لوحة إلا موقف الرسام. تلك هي لوحات - بشير مهدي - التي شارك فيها في معرض مشترك تجول في أكثر من مكان في العالم، قالت لي ما قالت في صور صغيرة فماذا كانت ستقول لي لو رأيتها على الكنفاس؟!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ناقد عراقي معروف أغتيل مع أبنه عام 2005 على طريق حلة - بغداد






نظرة في أعمال الفنان العراقي المغترب بشير مهدي

حامد الهيتي

كان من جراء النزعة التسطيحية في الفن أن أصبح للمكان بمعناه الشمولي وبمفهومه الاشتقاقي الرمزي .. وأصبحت للعلاقات به قيم مرتبطة بمفاهيم تنعكس عليها ومنها مواقف اجتماعية واضحة، وحين نتحدث عن الفنان التشكيلي العراقي (بشير مهدي) يمكننا أن نقول: على الفنان أن يبدأ بمحاولاته الجادة والرصينة في التشبث بكل الوسائل التي تؤدي إلى عملية الخلق والكمال الفني .. عليه أن يبدأ .. ولكن كيف ؟ ولماذا ؟ أجيب عن هذا التساؤل بنفسي وأقول : يبدأ لأنه طائر مسكون بهاجس الحرية، ولنقل عن أعمال الفنان بشير أنها محاولة عقلانية في التأصيل.
وليس تجاوزا للإنجاز الإبداعي العريض لبشير مهدي عندما أتحدث عن أعماله .. ذلك أن هذه الأعمال فيها من عناصر الإبداع والشد ما يوحي بإمكانية الفكرة المجردة التي تدفع وتحرض على الاكتشاف. وليس غريبا أن تتميز لوحة ما من بين حشد من الأعمال المزدحمة على كل الجدران(الصديقة)التي اختارها بشير مهدي.. فقد عبر هذا الفنان في لوحته هذه عن إمكانية تحرره من أسلوبيته المعروفة .
في لوحة بشير مهدي الجديدة يترك وظيفته كرسام ليتحول إلى منقب آثاري ليكشف لنا عن موجودات تاريخية..عراقية أصلية.. لقد اهتم - بشير - هنا بتوازن اللوحة وتناظر كتلتيها: الأولى الأثر الذي يزيح عنه تراب الزمن والثانية التي تمثل عمق اللوحة .
أن قوة الخطاب التشكيلي الذي يعرضه بشير مهدي في أعماله السريالية الشكل والمضمون والتهديف تكمن في إبداع بشير الذي يمضي بخبرته وتجربته نحو تعميق خطاباته التشكيلية في الحياة الثقافية المعاصرة من خلال المحافظة على أسلوبيته متجاوزا بذلك كل الاعتراضات النقدية التي تحاول تهميش هذا التكريس للأسلوب .أقول: خلافا لباقي الفنانين التشكيليين يجد الفنان.. السريالي نفسه في وضع يفتقر إلى الحرية المطلقة في تناوله لمواضيعه الفنية المتباينة والمختلفة من ناحية الطرح الموضوعي.. ولهذا يظل ( الخط والكتلة ) يمثلان العنصرين الرئيسيين في البناء التشكيلي لديه.. ونجاح هذا الفنان أو إخفاقه في هذا المجال ستقرره في النهاية تلك الطاقة التخيلية والبراعة الفنية اللتان يقدر الفنان أن يجسدوهما في عمله النهائي. يلعب بشير مهدي على التجاذب القديم بين الطرفين، فرح كبير عال جدا وألم عظيم.. وضوح ظاهر وغموض معقد.. وكل تطرف يوحد لطرفين حيث التشابك توجد هناك اللحظة التي تفصل بين الفرح والألم تكاد لا تدلك أو تلمس.. فجأة ..تنقلب الابتسامات إلى جراح .. أو يضيء الليل من شدة سواده. علينا إذن أن نهتم بلوحات - بشير مهدي - بوصفها جماليات لونية وشكلية وتجانسية وموضوعية وتمتلك استنفاراتها الحلمية الشفيفة وتعبر فن موضوعات حياتية مؤجلة تستطيع أن تمنحها الثقة والطمأنينة والأمان النفسي العارم. انه يعتني بالعلاقة، تنه نيابة عن عالمه الداخلي، أعماقه لا شعوره الفردي أو لا شعوره الجمعي.. يصنع خطابه، فيتحول الرسم إلى مسرح درامي متحرك يعلن عن إشارته ورموزه وبالدرجة الأولى عن تعبيريته فتاريخ الرسم هو التضاد والتوافق بتحولات الأفكار والباعث إلى مرئيات، بصريا تشخيصات، ولغة مزدوجة الوظيفة فالفنان ينتقل في الجحيم - داخل نصه الفني – في إشكالية الوجود في الاغتراب وينقلنا من خراب.. انه يلتقط أصداء التصادم بخيال له مرجعياته ذات الجذر الواقعي شبه المباشر ، كما في الرسم بصورة عامة وليس بصعوبة يعثر الفنان على مفرداته وتحول المرئيات إلى أشياء وعناصر تشكيلية تبقى ذات صلة قائمة بأسبابها :انه يخترع عالما مشتركا ومتدخلا لا يخلو من هاجس (الرواية ) ونبضات الشعر، وأصداء الموسيقى لا يخلو من البصريات – كعلامات – ومن المعاني كأفكار داخل بنيته التعبيرية .ثمة فجيعة واستثناءات تغدو قاعدة في تجاربه التخطيطية .. فهو يرسم انعكاس الواقع –المشهد العريض للطبيعة، والإنسان – في وعيه : يرسم وكأنه يتكلم بصمت الخطاب .فالفنان لا يتذكر إلا انه يحدق في المرئيات.. فالأبدية تنبعث بالغة المرارة.. الأمر الذي يجعل فنه نقديا، متمردا، في حواره الآخر (الكون=الطبيعة=الإنسان=الذات) عبر بنية النص الفني لان الفنان لا يلهو، ولا يتنزه، وكأنه قد تخلى عن المنطق اللذة والمؤانسة إلا لذة التقرب من المشهد المر، الواقع في تجليه المنفي – المقذوف – الشائك، والرمزي. إننا لسنا أمام فن ( القسوة ) كمسرح اللا معقول والمعروف ( أو القديم بحسب الموضوع المستعاد). فعالم بشير مهدي .. هو بالضبط عالم لوحته المتشابك الرصين.. انه عالم فريد من نوعه. عالم ينمو بصعوبة. ويتفتت بصعوبة ممزوجة بالحلم والخوف مقتربا من فجر يولد في بذرة خضراء متفتحة لشمس الوجود الساطعة .. وملتصقة بليل أسطوري حالم يسبح في ظلمته الزرقاء طائر غير عادي.. انه طائر الفينيق الأسطوري الذي يضم بين جناحيه سرا لا يعرفه احد غير - بشير مهدي - نفسه. .
مدن قاحلة، تسكنها الدهشة ... ويسكنها الرمل .. أناس مجهولون قادمون من تواريخ بشرية معزولة يتهامسون فيما بينهم ثم يصمتون منحدرين إلى قاع لا قرار له ليسكنوا مدن الفنان في خزف - بشير مهدي - العاشق ويترك قلبه معلقا بين سماواتها الفسيحة وسماوات أخرى رحبة .. هكذا وبلمح البصر يحمل الناس عوالمهم ويقدمونها إلى كل غرباء العصر .. ومع ذلك تجيء المدينة بكل عريها وجمالها الطينية الحادة. والهادئة هاربة من نظرات الغرباء.
* * *

مفهوم التكوين في أعمال بشير مهدي
حامد الهيتي

انه هنا .. هناك .. قابع بين الأرائك والسماوات الفسيحة الملونة.. والشراشف البيضاء النظيفة .. ومبحر في التهاويم .. لا أظن أن أحدا تعرف عليه دون أن يمنحه ذلك الحب الآسر .. انه - بشير مهدي - الكائن الأليف مثل طائر السنونو.. الصاخب.. الحاد المزاج مثل موجة متوحدة عاتية.
حين تراه لأول وهلة تشعر بأنك قد تعرفت عليه منذ عشرات السنين، كيف لنا أن ننسى الوجه العراقي الأسمر والعينين الحادتين كعيني نسر.. وتلك الابتسامة والخطوط النازلة على محياه. .
هنا أقول : ينبغي أن نفهم الأشياء من خلال قدرتها على التأثير في الآخرين سلبا آو إيجاباً.. و – بشير مهدي - الفنان العراقي المنفي في ايطاليا منذ عشرين سنة يصرخ ملء صوت مبحوح.. والمتفرد في النقاء والصدق: نحن لا نرفض محاولات التجديد في الفن عموما.. والفن التشكيلي بوجه خاص إذا كانت تنطوي على تجربة تطرح دلالاتها بالتأثير وإذا وجدت تبريرا لسلوكها فنياً.. ومن هنا فان بشير الفنان الكلاسيكي المستحدث لمواضيع أعماله المتجددة أبداً ، يفهم لغة واحدة فقط هي اقرب إلى ضرورة امتلاك الوعي لدى الفنان. وحينما يجيء فنان ما ويضع وجهه أمام الأعين الذكية وإمام الحواس الباحثة أبدا عن طمأنينة التقبل لما يحمله عمله الفني من إشكالات وغموض وبهاء وجمال وصدق.. وفعالية، ويمارس مع صوته الحاد لعبة الصمت أو الغضب فأننا يجب أن نعاين قدرة هذا الفنان على امتلاك فعل المساهمة الواعية في تغيير الواقع وهنا ينبغي لنا كمتلقين أن نتخلى عن فلسفة التقييم التقليدي انسجاماً مع موقفنا بحثا عن الأصالة.. وهنا أتساءل: هل لي أن ادخل ضمن المواصفات العميقة لدلالات أعمال – بشير - التشكيلية ؟ ربما.. فلأحاول: أحيانا تنداح تلك الشريعة التي تحضر أبداً وتتوزع في كل الاتجاهات.. باحثة في الصميم عن النتيجة التي تجيء على شكل رؤيا تستلهم العين والحواس.. الوجود في لوحة – بشير – ما هو إلا شكل هلامي يتحول كيفما اتفق إلى مادة تبقى تسيل وتسيل حتى تصير أخيراً إنسانا. الوجود في لوحة بشير مضمون أسير لسؤال كبير عن هذا الإنسان بجماله.. برعبه، بانكساراته، بهزائمه، بانتصاراته الوهمية، بإصراره على أن يحمل والى الأبد في داخله لغة الإنسان الواحدة الخالدة. هنا في لوحة بشير تصير الكتلة شيئا يتحرك باتجاه الكل.. وتصير طائرا أسطورياً من نوع خاص. هنا يكرر الإنسان نفسه على سطحها الجميل الأخاذ.. ويعيد تركيب كل الأفراح القديمة، يستلقي بإرهاق على ضفة تريد أن تلتحم بماض معتم سحيق. هنا يسترجع هذا عصر الكهرباء والذرة حتى يستطيع بعد ذلك أن يقرر إن العالم ارض واحدة.. ويقين واحد.
وسط هذا الزمن الذي يدفع الإنسان لارتياد الفطنة والسؤال الأهم.. وأيضاً إلى ضرورة استشعار الحقيقة التي تشير نحو الإخلاص وتهشيم قالب المستحيل.. تنفجر دقيقة بعد أخرى تلك المحاولات التجديدية الرامزة للبحث والاستطراد في استقاء المؤثرات الحقيقية التي تخلق في كل وقت وفي كل مكان نوعية هذا الإنسان ومحيطه.. والنوازع الأساسية الجادة التي تقدر أن تبث فيه حياة أخرى مناقضة وتغيره من شكل ومن نموذج إلى أخر .في أعمال – بشير - نكتشف أن التكوين الشامل هو إحداث الوحدة والتكامل بين العناصر المختلفة للعمل الفني من خلال عمليات التنظيم المنظر والتحليل والتركيب والحذف والإضافة والتغيير في الأشكال والدرجات اللونية وقيم الضوء والظل والمساحات وما إلى ذلك من المكونات.. ويقوم تكرار بشير للأشكال المرئية: مائدة، كرسي، إنسان، طفل، حلم، طائر سماء مفتوحة على شمس لا تغيب خيول مترامية في البعد.. تمثال يتوجع.. زقاق عراقي في حارة إيطالية يسكنها الخوف والدهشة، على أساس خلق نوع من التعاطف أو الترابط العضوي بين مكونات اللوحة من خلال جعل هذه المكونات مجرد صدى لذكريات غابرة.. يجب هنا أن نؤكد أن في أعمال بشير تكوينات تحلق بواسطة الخطوط. وهناك أيضا تكوينات ومساحات داخل فضاء اللوحة الواسع اعتمد فيها على إبداعاته اللونية .. وتقوم هذه التكوينات أساساً على مبدأ التركيز على تدرج النغمات والكثافات اللونية. أن الشيء الجدير بالتنويه هو انه في عديد من أعماله الفنية تتفاعل الأشكال والألوان والخطوط بعضها مع البعض الآخر في تكوينات فنية متماسكة استطاع الفنان من خلالها أن يؤكد على أهمية اعتماد كل منها على الآخر.
في العرض الأخير لأعمال هذا الفنان يتوضح لنا انه لا يعمل هكذا دون ضوابط أو قوانين.. بل هو يفكر من خلال قواعد وأسس تعطي لجملة أعماله الفنية في النهاية صفات التماسك والاستقرار والهدوء والفعالية الايجابية المؤثرة. في لوحات – بشير - وضمن هذا الإطار تتحرك الأشياء بتلقائية، وتنشط في قلب اللوحة كل الفضاءات المشرقة الملونة في اطر شمولية إلى النموذج النقي للإنسان النموذج.
من الممكن أن تقدم لنا لوحة ما نزعات إنسانية عامة.. ولكن في أعمال – بشير - فان اللوحة عنده لقادرة تماما على أن تأخذنا إلى حلم جميل غير مشوش.. وقادرة أيضا على أن تضع أمام حواسنا حقائق مذهلة لغرض دفعنا إلى ضرورة استيعاب تحرك الإنسان المتطور.. والمضطرد باتجاه كل العناصر الأزلية الخالدة في الوجود.


بلاغة بشير مهدي الباهرة

فوزي كريم

الفنان بشير الذي وصلني شيء من لوحاته مصورة في البريد، مدهش في أكثر من معنى. لوحته ساعية إلى الكمال: في التقنية الشغوفة بأشياء الواقع في ذاتها، في استلهام الضوء، في التوازن، في القصيدة التي وراء اختيار الموضوع، في الشكل، في النسيج واللون، وأخيرا في المضامين المفتوحة التي تغذي كل بصيرة فردية بما تريد.
الكراسي والأسرة والضوء، التي يراها مقدم دليل الفنان رموزا للسلام والهدوء، أراها، على العكس، خشبة مسرح مفعمة الدراما بالعزلة والهجر والفقدان. إن غياب الإنسان عن المشهد ليس إلا خدعة بصرية. الصرخة المكتومة لأشيائه تجعله كثيف الحضور. خذ لوحة "الحقيبة" هذه. الشرشف المتهدل من فم الحقيبة تابع لرجل كثير الأسفار. إنه وقاية من تلوث الأسرة اللا معدودة للفنادق الرخيصة؛ والبطانية المدعوكة المتهدلة إنما بفعل نوم عكر. والأزهار المجففة أزهار زينة لا مناسبة لها ولا مكان. والضوء يقبل من مكان علوي خاف دائما. والعمود المركون على الجدار هل هو صولجان، عكاز، أم عصا وردية لسحر الماضي الذي لا يعود؟ من يعرف!
في مطلع عام (2000) كتبت قصيدة قصيرة تحت عنوان "أحتوي ذكرك الجميل" هذا نصها:
أحتوي ذكرك الجميل،
بزهور لم أسقها منذ يومين،
قشور لبيضة الأمس تعوي في إناء،
وحزمة من ثياب لفظتها حقيبة السفر السابق،
بيتي عش وأنت حمام البيت.
فلأكتفي بوهمي، حتى
أحتوي ذكرك الجميل.
إن مشاعر الفقدان واحدة في القصيدة وهذه اللوحة، خاصة في الثياب التي لفظتها حقيبة السفر السابق، وفي الزهور الجافة. ولكن نسيج هذه اللوحة الخشن أكثر بلاغة.

* * *
الرسام بشير شاعر واقعية صلبة. اللوحة التي أمامنا تمثل هذا الشعر والواقع والصلابة بصورة رائعة، فلنتمثلها معا، كرسي على أرض عارية مع شرشف أبيض ألقي عليه عرضا. الكرسي والشرشف وضعا بقصدية لتصويرهما، تماما كما يوضع إنسان لرسم بورتريت. وهذه أول خطوة لانتزاع الموضوع(الكرسي) من واقعيته. الجزء المرئي من الشباك وضع كمصدر للضوء، ثم لامتداد الغصن بأزهاره البيضاء ليكون عامل خرق للصمت المهيمن على المشهد بفعل صلابته ودقته. الدقة هنا تتجاوز الواقع لأنها دقة فائقة وغير عفوية. الإضاءة والظلال التي تستخدم عادة لإضفاء حركة درامية على المشهد، يبدو هنا لإضفاء كثافة على الصمت المهيمن. الواقع الدقيق هنا يتجاوز نفسه بسبب دقته ذاتها. يتجاوز واقعيته إلى ما وراءها. إلى حالة اغتراب عن الواقع. وعملية التجاوز هذه هي من صلب العمل الشعري. عن صلابة ما هو حسي نتصل بالفائق اللا مرئي وراءه.
الصمت هو كلام من نوع مختلف. في هذه اللوحة كلام لا يُمل، يصدر عن الأشياء الصامتة. بفعل وجودها ذاته، وبفعل الإضاءة التي تبعثر روحا خفية في البلاط والشرشف والكرسي والجدار.


حكاية المكان في أعمال الفنان بشير مهدي

نصير عواد

بعد أن لقّنَتنا السرديات حقيقة أن المكان يحتضن الحادث من دون القدرة على صنعه، نقف اليوم في فسحة الخطوط والألوان والأفكار نتأمل قدرة المكان في بناء الحادث. ومع أننا لا نضيف شيئاً جديداً في قولنا أن اللوحة فنّ المكان، لكننا في تجربة الفنان بشيـر مهدي نلمس أفكاراً وذكريات وأساطير وهي ترسل إشارات ممكن إدراكها بصرياً وحسياً تعكس دور المكان في صنع الموضوع. ففي المنفى، الذي وَسّعَ من مساحة حريته ومصادر ثقافته، أضاع بشير مهدي الكثير من مفردات الاستقرار الاجتماعية لغرض الوصول إلى اللوحة التي ملأت رأسه، ولذلك فإن الانشغال بمتن المكان فنياً والعيش على هامشه واقعياً معادلة ليست بجديدة في حياة المنفيين، فبرغم وحشة الهامش إلا أن هناك كثر ينتمون إليه بفضل الظروف السياسية والاجتماعية الطاردة للثقافة والإبداع.
لوحة بشير، التي تفتقد البساطة في التصميم، تنشد الموضوع المعبر عن عوالم الفنان وتلح على إبراز المكان بدقة وعمق كبيريّن يتجلى ذلك في التأثيث وقلة الألوان ومساقط ضوء الظهيرة التي تتيح لنا التقاط اللحظة الموغلة في فراغ الجدران. الفراغ عنده يستدعي لون الأرْض الذي يمتلك طاقة تعبيرية لتجسيد الصمت وقدرة على الإيحاء بالجانب الدرامي للحكاية، فيغدو الفراغ في النهاية مظهراً خادعاً للصمت ومتاهة للتأمل والأسئلة التي لا تكف عن العودة للبدايات. يقدم الفنان بشيــر مـهدي نفسه عبر أكثر من لغة وذاكرة وثقافة، وهو ما دفع بالكثيرين للتوقف عند موضوعاته وأمكنته المقطوعة الجذور بالبيئة والتراث المحليّين، من جانبنا لا نستطيع الجزم كلياً بانقطاع الجذور، خصوصا وأن أي خروج عن السائد يضع صاحبه هدفاً للتشكيك والأسئلة لا ينتهيان. ففي لوحته الأخيرة( الهروب في الظلمات 140× 160) التي يشيّد موضوعها على خليط من الاستجابات الشخصية والأفكار الفلسفية والدينية والجمالية المتضمنة أسئلة وأسرار ومحرمات، نجده مأخوذاً بالمكان ويؤثثه بمزيج من ذاكرات وثقافات مشبعة بتلك الأفكار البسيطة والعميقة التي تغذي حياة الفنان وتجعل من المكان الافتراضي مرتبطاً بنزعة المفهوم لواقع غائب وقد تم إعادة إنتاجه مكانياً من دون اللعب على تغريبه. موضوع اللوحة ليس جديداً، علاقة الثنائي بتفاحة الخطيئة في عالم مُتَخّيل. إبهام في وضوح الجسديّن العاريين في الظلمة وهما يلاحق أحدهما الآخر، ففي عمق الظلمة دائماً هنالك متسع للخطيئة. الآخر يستمْرئ العُري ويتبعها في الظلام بخطوات تؤرخ لبداية الخَطِيئَة تاركاً نظراتنا معلقة على حمرة التفاحات المتناثرة في المكان وبنطلون الجينز والقميص الأبيض. انه خلع ملابسه وارتدى لعناته مقتحما الظلمة باعتبارها غواية المحبيّن، خلف المرأة التي سبقته إلى العالم الآخر، اللوحة التي تمثل بدايتها البحر ونهايتها الظلمات. أنه تَبـِِعَ وهماً ودخل خلفه ليرتطم بالجدار ويجرح ساقه البرْواز المكسور، ويبقى ساقه في العالم الأول بينما نلمح من الجسدين في العالم الآخر مؤخرتي رجل وامرأة يملآن الأرض محرمات وفضلات. ترك خلفه قطرات دم شبهة بحمرة التفاحات على أرضية المكان الذي افترشته مفردات قليلة لم تتقاطع دلالاتها بل توزعت على عالمي الخطيئة والطهارة التي تحدثنا عنهما الأسطورة بعيداً عن الاحتفال باليومي والمألوف، باعتبار أن اللوحة التي تتخذ من الأساطير موضوعاً غالباً ما تحتوي إشارات مبهمة عن مواضيع كونية. فخيط الغواية المتسلسل من غصن شجرة التفاح الذي تلوّح به يد شيطانية من النافذة ثم حفنة تفاحات توزعت بعناية الأرضية، تفاحة مكتملة النضج وأخرى قضمت على عجل ورميت بين ملابس العُرْي والثالثة مقشّرة بعناية ترمز عند الأوربي إلى حِسبةٍ أو مشكلةٍ لم تنتهِ بعد، وقد قدمت التفاحة على بلاطة مخلوعة من أرضية المكان، ثم إبريق ماء الطهارة وغصن شجرة الخطيئة وملابس العري، هذه الرموز التي نراها ونتحدث عنها لم تكن إكسسوارا أو ضحية للتجريد بقدر ما هي كشفاً لحيثيات الغواية استمد الفنان عناصرها من التاريخ والفلسفة والأساطير، وقد أخفت الكثير من أفكار الفنان التي لم تظهر في اللوحة كما أخفت ملابس المرأة.. الوهم.
المكان لا يختصر اللوحة. وهو عند بشيـر مهدي ليس أحجاراً وجدران بل حاملا لحيوات وترميزات وخربشات وذكريات بقيت موضوعاً جمالياً غير منفصل عن التكوين الحسي والشكلي للوحة، أعتمد في بنائه مرجعيات مختلفة الجذور الثقافية. وقراءة اللوحة (الهروب في الظلمات) من اليمين إلى اليسار تبدأ بشباك صغير ويد تلوح بغصن الغواية يطل على درج صاعد إلى مكان مظلم. وحقيقة هذا الدرج الذي ظهر في اللوحة كجزء من تشكيل المكان، أنه جزء من بيت في مدينة الديوانية بوسط العراق كان سجناً مهلكاً في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي كان الفنان بشيـر مهدي يزور فيه والده المسجون حاملا الطعام والملابس، وبعد سقوط الصنم عاد الفنان إلى العراق ووجد أبن أخيه الصغير وقد أصبح رجلاً يسكن ذلك البيت نفسه.. فهل هنالك من مصادفات ؟ أم أنها حياتنا الأكثر غرابة من خيال الفنان. وإذا كان الدارسون قد قسموا الأمكنة إلى أليفة ومحايدة ومعادية فإن السجن من بينها الأكثر إساءة للكرامة الإنسانية ويحمل بعداً اجتماعياً غائراً في النفوس استحضره الفنان من صندوق الذاكرة، هذا يعني أن بشيرا لا يشيد لوحته على الارتجال ولكنه يستعين بالمرئي والمتخيّل والمُستعاد لتصوير أفكاره ومشاعره الغائرة في طبقات الذاكرة بعد أن بنى النسيان عليها طويلا. ومن هنا نلمس اتجاهاً توليفياً لبناء اللوحة من أمكنة وأزمنة وثقافات مختلفة، يترك باب الافتراض منفتحاً على متعة الفهم. وفي الحقيقة فإن الدرج كمفردة تشكيلية ظهر عند الفنان في أعمال كثيرة، وفي دلالتيّن مختلفتين إيجابية (الدرج) وسلبية ( الدرك) ارتبط كل منهما بطبيعة موضوعه.
في مرحلة من تاريخ العراق السياسي والثقافي ابتلينا بورطة الأحزاب، كان فيها الموضوع في العملية الإبداعية قبل أي شيء، وأحياناً كل شيء. وعندما تغّيرت الرياح غادرنا المكان بعد أن كسّرنا الأدوات والمفردات وسحنا في دهاليز القرية الصغيرة ناشدين التجريب تحت أضواء العولمة. الفنان، في الغالب، يأمل من مشاهديه فهم اللوحة على أن يرتبط ذلك الفهم بتبسيط العملية الفنية وتغييب العناصر الأخرى. أن عملية الفهم بقيت فضولا إنسانياً متوارثاً وجزء من تقييم العمل، فاللوحة عندما تكون مفهومة أو غير مفهومة، مفرحة أو محزنة إنما هي تعبر عن مرحلة معينة في تكوينها تعكس متعة العين وهي تلتقط خيطاً من تلك الخيوط التي تضئ قيمة العمل، من دون أن يقود ذلك إلى اطمئنان الأسئلة وانطفاء الفضول. كثيرون انشغلوا بالأفكار إلى جانب العملية الفنية، وتعاملوا مع الموضوع على أنه ليس بالضرورة فناً مفاهيمياً في اليومي والجماهيري، وأدركوا أهميته في ترتيب أسئلة الفنان في إبراز معاناة الفرد أو الجماعة. ولكن تلك الأفكار الدينية والسياسية والفلسفية، تتغير دلالاتها عبر مرورها بمصفاة الفنان وأطراف أنامله متجاوزة الزمان والمكان. وبشيـر مهـدي من الفنانين اللذين يعطون الموضوع أهمية كبيرة، ولذلك فإن رؤيته للمكان وتأثيثه بالرموز واستخدامه للون والضوء، يهدف منها الوصول إلى اكتمال فكرة الموضوع. واقعية بشير الفنية تتمثل في الكشف عن موضوعات إنسانية وطبيعية بعيدة عن البطولة والطرافة والعقلانية، ولا تختزل الشكل في تركيزها على مفردة معينة، وهذا ما نلمسه في تطور وتنوع أعماله الفنية في الأعوام العشرة الأخيرة. فلقد كان الفنان بداية منشغلا (مكانياً) بالفراغ والغياب، بالضوء والظل للإيحاء بكثافة الصمت وتصعيد المشهد الدرامي للأماكن المختفية، تطلب ذلك مساحات لونية لجدران يتباطأ فيها الإيقاع، والابتعاد عن المبالغة في تأثيث المكان (كرسي عتيق وجده في الشارع اتخذ مكانه في لوحات كثيرة أو شباك مشغله الذي ظهر في أكثر من لوحة) ووجود الأبواب والشبابيك المشرعة دوماً على هدوء الطبيعة وخضرتها، إلا أن صمت البيت المتوتر هو غير الصمت المبهج لأشجار الغابة.


فلسفة الغياب في لوحات بشير

كامل حسين

يتوهم من يعتقد أن - بشير مهدي - فنان كلاسيكي من الدرجة الأولى أو هو استمرار لدافشي ورافائيل. ويتوهم أيضا من يظن أن لوحاته مقاطع طولية أو عرضية لفن الفوتوغراف المتقدم أو المعاصر. إنه لا هذا ولا ذاك، إنه بينهما تماما ومختلف عنهما تمام الاختلاف.
الغياب في الأدب والفن واحدة من معضلات التاريخ المعاصر، إنها فلسفة تدمير الذات من أجل الحضارة والتاريخ والمستقبل. أين رامبو الذي ألقى حجرا كبيرا في تلك الفلسفة؟ ما كان يرغب أن يكون شاعرا كبيرا بل إنسانا كبيرا، فوجد نفسه في الاثنين إذا صار صفعة للشعر والشعراء على مدى التاريخ. وقبله فعل ذلك أنجلو فأصبح موسى أو العذراء. لم يبقَ من رامبو إلا جحيمه ومن دافنشي إلا ابتسامة موناليزا ومن كَلكَامش إلا سر خلوده الذي أودى بحياته، خلاصة القول أن الوجود هو الباقي والإنسان زائل لا محال، وتلك معضلة بشير تماما (سر الوجود ومعناه). فهو يحاول أن يضع حجرا كريما في تاريخ الفن المعاصر ليمر منه هو وغيره من السائرين على هذا الدرب الشائك والطويل.
المكان في أعمال بشير أشبه بالمتحف المهجور، أو أنه معبدا له صيرورته المقدسة بحكم براءته، أي وجوده وماهيته، وهذا النوع من المعابد لا يحتاج إلى كهنة وقديسين، إنه يحتاج إلى رسامين لهم قدسية المكان والزمان معا. في كثير من الأحيان تحيل لوحة بشير إلى دافنشي ورافائيل مع الاحتراز الشديد لكنها تمر أيضا في بوتقة فرمير وتخترق وحشة دي لاكَرو عبر سريالية ماكريت الموميائية وتقنية دالي اللعينة. في لوحات بشير البراءة تبحث عن البراءة، وحشة الخارج ينقلها إلى الداخل حيث صمت وجبروت الأشياء الأزلية الباقية، بينما الكائن في زوال. الإنسان لدى بشير مولود في معبد الطبيعة، لا بل في الهواء الطلق، فالأبواب والشبابيك في أروقة بشير مفتوحة تتنفس من الخارج. المكان لديه صيرورة أولية منذ ملايين القرون، والإنسان عنده لا يحتاج أكثر من حاجاته البسيطة وملابسه الشخصية لأنه محكوم بفجيعته الأزلية(الولادة والموت). أشياءه الصغيرة شامخة ومهمة (الطاولة، اللوحة، الكرسي، أرضية الرواق) كلها حاضرة كما الأكل والشرب. في لوحات بشير الأشياء حاضرة تماما والإنسان غائب، وإن وجد فهو مسلوب الروح هائم، يتجلى في الغائب(القدر) وهذا هياما إيجابيا بحكم رؤيا الفنان إذ أن لديه آلاف العيون تتجمع في لحظة واحدة لتصبح عيون ميدوزا التي تحيل الإنسان إلى حجر. الطبيعة لدى بشير تتناسب تناسبا طرديا فإن غابت حضر، وإن حضرت غاب. الإنسان في لوحاته ما هو إلا رمزا أو رقما من الأرقام الحاضرة الغائبة، إنه حصيلة التراكم الكمي الذي يخلف نوعا خاصا يتحول إلى كم جديد من تلك المعادلة التي لا فرق فيها بين الماضي والحاضر والمستقبل، إذا كان الكائن فعلا كائنا معاصرا يعي اشكاليته وفجيعته التاريخية الكبيرة.
يختنق المكان في لوحات بشير ثم يتنفس عبر شبابيكه وأبوابه المشرعة على الخارج والتاريخ. إذ أن فنه يتعبد في محراب الفن، ففي كثير من خلفياته يتجول مانيه أو رويفر أو دي لاكَرو. إنهم أصدقاءه الحميمين لذلك نرى مساقط النور تتخلل أعمالهم لتحيلها إلى فضة ساكنة. إن لوحات بشير متحف شمع ينتظر أن تدب به الحياة، أنها رؤيا موميائية، إذ كيف أن صمت زجاجة يشبه صمت الإنسان؟ كيف تتوحد الأشكال؟ كيف يمكن للساكن أن يتحد بالمتحرك؟ أليس هما نقيضين؟. تنوجد الأشياء عند بشير بجلال وقدسية كم لو أنها في حفل جنائزي. لا أعرف ما هو سر السكون في لوحات بشير لكني أعرف أن كل حركة مصيرها السكون عندما يصرخ الطفل أو يسكن تماما عند ملامسة حلمة ثدي أمه، ربما يكون السكون لدى بشير صراخ لا تسمع نحيبه لذلك نراه سكون. سكون اللوحة يذكرنا بسكون دالي وهو خيط مشترك أو هو مس سريالي، إنه الأبدية، إنها القدسية التي ينشدها الفنان.
باختصار أن لوحات بشير أشبه بتمارين اليوغا بالنسبة للمشاهد، فهي تحتاج صمت وتأمل طويل، وأن البشرية بحاجة إلى ذلك النوع من التمارين الروحية.



عالم بشير مهدي المكتظ بالرؤى

علاء حسن

وسط حدود مكانه ذي الازقة والبيوت الواطئة، أنشد بصره نحو تلك البناية الهرمة، ذات السور المتهاوي ليكشف ويتفحص مجموعة الخيول في باحة تلك البناية. يراقب حركتها ليملأ دفتره بمجموعة من التخطيطات لحركات الخيول.. وربما كان وجود الخيول في بيئة الفنان بشير مهدي حافزا أول للبدء بتمرين صعب، سيصل إلى ذروته القصوى في امتلاك الفنان وسائل تقنية جعلت منجزه يمتلك مقومات تشكيلية متفردة. عززها الفنان بمسيرة وجهد دءوب وبحث متواصل. بدأ منذ تأثره بالفنان - فائق حسن -. وامتد ملازما له حتى قرر السفر إلى إيطاليا، عادة ما تكون مواضيع الفنان - بشير مهدي - عن مكان مستل من لحظة حلم أو رؤيا. فعالم اللوحة هو نقطة لإلغاء محدودية الأمكنة. فهو في لوحاته يلغي الشبابيك والأبواب مستفيدا من الأقواس كنغمات موسيقية. تساوق مساحات اللون الشاسعة في اللوحة. وفي عالمه المتخيل نجد السرير عنصرا دلاليا. عادة ما يكون شاغرا غادره أصحابه وتركوا فيه لجة أحلامهم ورغباتهم. تتخذ شكل ملاك طائر أو لوحة على جدار. الفنان في تكراره هذه المفردة يريد أن يجسد أمكنة مفترضة غير مشروطة بحدود الجغرافيا وتضاريسها.. إنه حلم يتجسد في اللوحة فقط، ينفذه الفنان باستعارة كلاسيكية ويريدنا أن نعيش معه الحلم ذاته، مجردين النفس من الهواجس والاضطراب للدخول في عالم آخر افترضه الفنان بشير مهدي بديلا لعالم يعج بقعقعة الأسلحة وأصواتها الصاخبة.
يمتلك الفنان بشير مهدي المقدرة على التلوين ويهتم بالتفصيلات الدقيقة جدا، وغالبا ما يأتي اهتمامه هذا ليؤكد خبرة معرفية وفنية وحسية استطاع الفنان الكبير أن يكتسبها عبر تجربة امتدت سنوات عديدة جعلته يفاجأ المتلقي من اللحظة الأولى لفعل المشاهدة، بتحقيق حالة من الإبهار القصوى تجعله ينشد ببصره نحو اللوحة متفحصا عالمها المفترض، متنقلا بين أروقتها وأقواسها نحو أمكنة أخرى صاغتها وأوجدتها فرشة مقتدرة، يقف وراءها حيال خصب.







إشكالية الموضوع واللّون
في لوحات الفنان بشير مهدي

علاء هاشم مناف

إن التعبير السردي للفن يعني هو التصور المنطقي الذي يولد الإحساس بذلك التطور الفسلجي الطبيعي لعلم الجمال، ذلك التصور الجمالي الغيبي الذي يتطبع (بالفيزيقية) في أحيان كثيرة، فهو في النهاية افرازات ذاتية في (زمكان) معين. هذا الوعي الإيقاعي في الجمال يتطور عبر جوانب تجريبية فلسفية على يد النوابغ من الأفراد وهم يؤلفون أعماقا وقيما حوارية بالألوان مستندين في ذلك إلى الخلفية الاجتماعية الاستقرائية، والأسس السيكولوجية الابتكارية للحس الفني. والفن يعطي اكتشاف وبناء لإقامة أنماط جديدة من الأشكال التي توفر جملة من العلاقات والصيغ العقلانية، لتتحول في المقابل إلى قوى ومحركات نحو المنحى العقلاني.
وأمامنا فنان مبدع عاش وطر كبير من حياته خارج العراق أكثر من ربع قرن متنقلا بين روما وباريس، إنه الفنان بشير مهدي. استطاع بفرشاته أن يعبر عن مفهوم تقني حديث للفن، من خلال منطق الرؤية في الفن الحديث وضمن خصائص تحديثية وتنغيم دقيق ضمن وحدة بصرية متأثرا بجماعة الحس (بدوك) وبنظرية الشكل والرواية المتعاملة على مستوى اللوحة والحضور المتفرد بالموضوع واللون. والفنان بشير يعد حضورا كبيرا للعلاقة بين الداخل والخارج للوحة التشكيلية، والملاحظ في مجمل لوحاته التي تفردت بالإيهام المتعلق باللون والبصيرة المعجونة بقاموس الألوان من خلال الانتقال بمجسات لونية تعبر عن مشهد انتقالي يطغي عليه اللون الأزرق، وهو اللون المبرز في مجمل لوحاته، تحركه في ذلك فضاءات كنائسية من العصر القوطي إضافة إلى عقيدة المكان عند الرسام في التفرد اللوني في الكرسي الفارغ أو الكرسي والرداء الذي يعبر عن جملة في فن التصوير وشفافية في الضربات اللونية.
الفنان بشير يحاول ابتكار مساحة كبيرة للتأويل سواء على مستوى الموضوع أو اللون، واللوحة على ما تبدو عنده تتكون من عملية التوزيع لعناصرها بأبعاد تؤكد المنظور في عملية (المحور والإظهار). فالفنان بشير يحاول أن يؤكد مقولة (اللامرئي) في الأشياء الغائبة من خلال الكون وحرقة المكان وما تنطوي عليه هذه المداخلات الشفافة في حركة اللوحة. فالمكان عنده مستمد من حركة الأشياء الغائبة، لوحاته أشبه بحلم المكان الغيبي، وهذا ما نلاحظه في حركة الأشياء داخل اللوحة، في أكثر لوحاته سحرية وحركة، الحضور الجنسي في الثمار في واحدة من لوحاته، إضافة إلى حضور الحس بشيء ينمو ويتطور داخل اللوحة ثم يأخذ مساحة واسعة من المكان والزمان ثم يعطي ما سبقه من أبعاد في اللوحة ثم تبدأ بعملية التجريد لـ(الزمكان) داخل اللوحة ثم نشاهد الحركة المستمرة في المكان دائما، كأن يكون بقايا أثار لحركة الملابس أو الأواني.
عند بشير هناك هجرة في الألوان إلى ضفاف يسكنها الطلاء اللوني الجميل، هناك تضاد إشكالي في موضوع اللوحة، وهذا طاغ على مجمل لوحاته. من جانب آخر استفاد الفنان من فن العمارة وفضاءها الداخلي إلى جانب تأثره بأكثر المدارس الفنية التشكيلية خاصة الرمزية حصرا(غوستاف مور) في رأس أرفوس، والفنان بشير يجمل التضاد في الألوان، وهو الغالب على لوحاته، إضافة إلى براعته بالظل والضوء. بين اللوحة والجدار هناك مسافة تعبر عن زمن اللوحة ومكانتها حيث تنتفض الفرشاة لتتنزه وتتسكع بين أرجاء اللوحة لتفصح عن عناصرها الأولية.
هناك حالات من الوعي المطلق في اللوحة وهو يأخذ أبعاد تجريبية في العزلة – الموت - الأواني – الأقداح - الشال الملقى على الكرسي، هي العناصر الرئيسية عند الفنان بشير. هناك مشاهد حسية وزمكان مطلق يحيط بالفنان، وإشارة إلى قدرة في التأمل والتأويل ليستزيد في إحساسه بالحياة كما يعبر عن ذلك (نيتشه)
الفنان بشير لم يلغِ عنه التراث والفلكلور الشجي فهما من موجودات لوحته وهو شيء مميز سواء في اللون أو المعنى، إضافة إلى أنه يؤكد على الزخرفة الغريزية في اللوحة والتي تشكل الموضوع الآخر في الصياغة عبر اللون والإفصاح عن الموضوع بانجذاب متناه.


محاكاة في خضم الحالات الحلمية!

صلاح عباس

في التجارب الفنية التي تقدم بها الفنان العراقي "بشير مهدي" نجد ذلك الترابط الموضوعي بين الشعر واللون والفلسفة والموسيقى. فقد لازم صورا حية وسهلة الانقياد لفهمنا، إن اشتغاله الفني يبتدئ من اهتمام هذا الفنان بفنون عصر النهضة وطبّعت صوره المستلة مواضيعها من طبيعة المشاهد التي نألفها في تجاربنا البصرية المعتادة. غير أن الفارق هو في التوليف الصوري وفي إنشاء الموضوعات المركبة، وفي اقتراح الصيغ المثلى في تغيير الاحتمالات الشكلانية للأشياء المرئية، بتغيير احتمالاتها المكانية على نحو مثير بحيث أنها تخلق شعورا بالارتحال إلى زمن لا يشبه زماننا. إنه عالم الأحلام، وأول هدف مركزي يرمي إليه "بشير مهدي" هو اجتزاء مشهد داخلي لمبنى قديم في طرازه المعماري ويشبه إلى حد ما طراز المباني في العصر القوطي، حيث الأعمدة المتراصفة والواجهات المستديرة والأرضية ذات البلاطات المرمرية والجدران الواسعة والسقوف العالية، لكن طبيعة هذا المبنى تحظى بالأناقة والنضارة وكأن انفتاحه على الأضواء وسطوعها معد أصلا لأغراض الرسم فحسب. فكل المشاهد التي يهدف إليها "بشير مهدي" منظور إليها وكأنها في طابق علوي من المبنى، وأن ثمة فرقا في المستوى البصري مع الأرض، وأن لذلك صلة بفلسفة العلو في المفاهيم والعقائد الشرقية وتتصل بفكرة الارتقاء، حيث أن كثير من الفنانين المعاصرين ينظرون إلى الأشياء بعين طائر.
لقد استطاع بشير أن يلعب مع المتلقي لفنه لعبة الأوهام البصرية على طريقة الألوان، والخطوط والوحدات الصورية، فأسلوبه الفني الذي يعتمد على محاكاة الجوهر أو المحاكاة التوليفية الانتقائية، والذي يعني مرة أخرى الإمكانية الفردية في رسم ملمس للخامات المختلفة، ولتحليل ألوان الأفق البعيد الواقع تحت سلطة المنظور. إن جل محاولاته هي لإكساب أنساقه وتصوراته وصفا دقيقا عن الأبعاد المكانية واستحالاتها الدينامية. ويبدو لي أن أسلوبه في المحاكاة لم يكن أسلوبا نمطيا أو تقريريا لأنه يحاول الدمج الصوري بطرائق ابتكارية يستلزمها التصميم النهائي للعمل الفني، حتى ليبدو وكأنه في خضم الخيالات الحلمية. إن بشير يتدخل في افتراض صيغة أخرى لتصميم المبنى كأن يقصي الأبواب وما ذلك إلا توقاً إلى العالم المنفتح الذي لا تحده فواصل الأنا، ولا ملكيتها. وهذا هو جوهر الفلسفة التي ترسم صورة مشرقة تربط الشيء بمحيطه. ضمن هذه الفلسفة تتضح الإمكانيات الكبيرة على الاستقراء والتأويل والتأمل. أقول كل ذلك لا يتم إلا عن طريق الدقة المجهرية في رسم التفاصيل والمنظور الجوي الأمامي واحتساب استحالات اللون وتغايرها وتأثيرها على المشهد من المنظور العياني جديد كل الجدة من نواحيه المعمارية، وهو تصميم يصلح لحمل الأجواء الحلمية ولا يصلح لحياة البشر العملية. لأن أي واحد منا لا يرغب في أن يعيش ضمن هذه الفضاءات المكشوفة ولا يمكن وضع سرير بوسادتين أمام أنظار الملأ، حيث التحرر المطلق من على الجدار وغالبا ما تكون في أمامية اللوحة التي يرسمها وتتأثر هذه الصورة - وفي العادة تكون اللوحة كلاسيكية مشهورة في تاريخ الفن - بالضياء المسلط عليها من خلال النافذة المجاورة أو الفتحة الموجودة في سقف المبنى. إن صورة اللوحة الكلاسيكية التي يضعها على لوحته في جانب محدد من يجعلها تعطي الشفرة التي تحلل طبيعة العمل الفني كله. ولها صلة بدرامية الموضوع الذي انطبع في مخيلته. وفي الحقيقة أنه يريد القول بأنه قد بلغ مرحلة من النمو الفني الذي يضاهي بها فنون أسلافه. أما إضفاؤه الستائر المخملية المزينة بالزخارف النسيجية ذات البريق الحريري، والتي سرعان ما تتأثر بمساقط الضياء وانكسارات الظلال، فإنها هي الأخرى مثيرة إلى حد الدهشة لما تتصف به من دقة قائمة على الأسس التصميمية.
إن الأهمية في لوحات "بشير مهدي" تبدأ من مساحات اللوحات الصغيرة التي يشتغل عليها، وتنطلق إلى خبراته الباذخة، ومهاراته المبدعة في الأداء الفني، ومن ثم في المقدرة على التأويل والاستنباط والتأليف الموضوعي، مراعيا كل الأسس أو الخصائص الواجب توفرها في العمل الفني النموذجي، وما صوره إلا تأكيدا على المعنى الحيوي. وبالرغم من خلو أغلب اللوحات من الحضور الآدمي المباشر فإنها تترك لنا الانطباع بأن كل أشياء الصورة، فارقها الإنسان منذ لحظات. وهذه الصياغات التعبيرية هي التي ميزت كل لوحاته بحيث أن أسمى جوهر لديه هو الصدق. ولأن الفن هو إدراك حدسي فإنه لا يعتمد على الوقائع، ولكني أجده متجسدا في لوحات بشير. إنه يستطيع أن يجعلنا نتنفس هواء مختلفا، وإن نحلق في عالم مختلف، ونتعايش مع مشكلات مختلفة، وأسئلة مختلفة، وفي الواقع أن السبيل لفهم منتجات بشير تصل بنا إلى كل الغايات، ومثلما فتح لنا أبواب عالمه وأسراره فإنه يحفز مقدرتنا على الاستقراء والاستنباط بروح متجلية، ولي الحق في أن أزعم إن كل ذلك يمثل دربا مهذبا يأخذنا إلى عالم التصوف، حيث المنظور الجوي يعني تبني فلسفة العلو والذي يجعل سلوك ذائقتنا الجمالية تتأثر به، وفلسفة العلو تؤمن بأن مستقر الأرواح والذوات المنصرمة من الوجود الحيوي ترتقي في نهاية مطافها إلى الفلوات والفضاءات المفتوحة على سعتها، ويبدو لي أن ذلك محض نزوع رومانتيكي يعين الذاكرة على البرهان والاستنتاج. لقد عرفنا في تاريخ الفن ذاته بأن الفن ليس عملا ولا علما ولا دينا ولا أخلاقا ولا نقدا اجتماعيا، ترى ما الذي يجعله يشارك في الحضارة وله هذه الأهمية العظمى إذا؟.
إن بشير يقدم أشكالا، وهذه الأشكال تكون خيالية في بعض الأحيان، وما الخيالي إلا بقية لقوة الجبلة الأولى، التي بقيت حتى زماننا عالقة في ذواتنا مثل أية جين وراثي له صفاتها وطبائعه وجذوره. فجوهر الرسم لدى بشير مهدي يعني المزاوجة بين الثنائيات؛ الأرض والسماء، البعيد والقريب.





الاغتراب... والبعد المخيالي للمكان

زهير الجبوري

تستمد أعمال الفنان "بشير مهدي" طابعها من الواقع الغربي المؤثر بطريقة سيكولوجية على ذاته، وتتضمن مشاهد متخمة بالرموز المكانية مع بعض التوظيفات الإشارية للطبيعة "أحيانا" ومن ثم ينفتح على نقل رؤاه "المخيالية" داخل اللوحات، ليقترب إلى الجوانب الميتافيزيقية، وهذا بحد ذاته يمثل تكثيف العمل لأكثر من إشارة موضوعية برغم تقنية الأداء في نهاية العمل. وتوضح أعماله الأخيرة، إنه يعمل على موضوعة الاغتراب وفق أسلوب شكلي تمركز على وضع علامات متفردة، فكل شكل جرى تبسيطه واختزاله إلى ملامح واضحة، فالكرسي والسرير، وحتى الرداء والسرير وما إلى ذلك. إذ ترسخت إلى بناء مشهد صوري أشد تركيزا على أنساقه المحدودة، وحتى في ضرباته اللونية التي اعتمدت على إبراز تفاصيل الشكل. من جهة أخرى جرى تصعيد الخاصية المعبرة للصورة باستعمال ألوان (منعشة/بارزة) كبقع من الأخضر الغامق والأزرق اللذين يتناقضان بحدة مع الألوان الحارة، مع التركيز على إبراز الضوء داخل اللوحة من خلال التمركز على اللونين الأصفر والأحمر في الأغلب.
وبوحي من الإيمان بأن القدرة التي ينفذها "بشير مهدي" اعتمدت على عوالم متخمة بالجوانب الرمزية التي استعملت بانبساط وبلمسات رهيف، لمسات تعكس ضوء وجو نهار أوربي "إذ قضى ربع قرن يمارس الرسم في بلدان أوربا".
إن إحساسه المميز لبناء مشهد صوري منسق وواضح يظهر جليا في التناغم المؤشر بين التصعيد الإيقاعي بموضوعات المكان، ولا تقتصر أشكاله التي تحيدها العين إلى المرأى الممتد أمامها بانسياب البصر عبر المنظر المرسوم. وفي الوقت ذاته أن يوحد الفنان بناءه الصوري، فعليه أن يكون طبقات مشاهده المتباينة في نسق موضوعي منفرد؛ أي أن يعمل على ممارسة الأخذ بموضوع معين والعمل عليه بانفرادية، لا كما شاهدناه - إن في العمل الواحد تتكثف عدة مواضيع - وهكذا. ومن ثم يقيم هذا الفنان تمازجا بين المادة التي يستخدمها وبين الموضوع الذي يعمل على طرحه، ولكن أغلب أعماله كشفت عن جوهر تأثره بالموروث الغربي، كما أشرنا إليه، فالأبنية والزخرفات وتفاصيل الإنسان لها علاقة بمشهدية العمل الفني/الواقعي الغربي، وإن انطوت على شيء فإنما انطوت على إشارات من معان اصطلاحية على المستوى ألآثاري أو التاريخي أو الاجتماعي، الأوربي، فبالنسبة إليه مجرد توصلات بصرية مقنعة، بل وتمكن من اجتيازها بسلام وهدوء دونما أية ضجة سيميائية مفتعلة.
وعلى الرغم من أنه يقترب من المعنى الحقيقي للأشياء، ولكنه يحاول أن يضع المتلقي في حيز ملموس من منطقة البحث عن ألغاز داخل النص/اللوحة. فالاتصال الزوجي الذي وضعه في العديد من لوحاته كانت هناك ثيمات أو كتل استنتجت من خلال الاتصال، وهذا يعيد التوازن في محور العمل ككل، بعد أن يظهر بتوصلاته الجمالية إلى إدراك عناصره، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بطريقة المعايشة، وهذا هو أسلوبه الفني الذي تفرد به منذ عقود.
وبذلك فإن تجربة الفنان "بشير مهدي" التي تمتد لأكثر من ثلاثين سنة، قد استنفذت الكثير من أسئلة الوقائع الفنية التي عبرت عن روح الواقع المكاني، بدءا بمظهر اللوحة الخارجي ووصولا إلى ما تطرحه عناصر اللوحة من أبعاد متخيلة، ولا نقول حديثة، بالرغم من ارتباطه التقليدي المتصل مع الأشياء بآلية سياقية واضحة. وقد استدل مرجعياته التي تقع داخل أشكاله من خلال الرموز والإشارات والآثار وحتى الحروف إلى بعض الفنانين الأوربيين، ليعمل على تقليد بعضهم "كوبي" ليتخلى عن كل ما كانت تحتويه تجربته الأولى في بلده الأم، إذ كان من الأجدى أن ينقل موروثه الحضاري والمكاني داخل نصوصه/ لوحاته ليوثق المنظور الفني العراقي في بلدان أوربا.
ميزة هذا الفنان أنه لا يتحول بسهولة من منطقة إلى أخرى، إذ تقترب جميع لوحاته بأسلوب أدائي واحد وبحساسية شديدة التنفيذ، غير أن ثيماته وأدواته ترتبطان في منظور تأسيس/فني واحد، بعد أن يجسد أفاقه ورؤاه بشكل تنفيذي واضح. وقد يبدو غريبا أن يكرس اهتماما مميزا في طرح بعض لوحاته التي تحمل معنى التكريس لصور "الكتلوك"، أي أن الشكل عنده رسم بقياسات محسوبة، متجانسة، مع أنه ركز على إظهار مناطق الظل والضوء بطريقة جمالية وهاجة داخل العمل/اللوحة، إذ استطاع أن يسمو بانعكاساته السيكولوجية - أي الفنان - إلى مشاهد نقية لم يتأمل نقاءها سوى الإنسان.


عالم بشير مهدي
الطبيعة بحساسية شعرية

ياسين النصير

قدم" كاليري أوترخت" معرضا لثلاثة فنانين هولنديين؛ رسامان ونحات، بينهم الفنان العراقي بشير، فكان الافتتاح يوم 6/9/2008 مناسبة لأن ترى تجاورا ملفتا للنظر بين فنانين لم تجمعهم إلا الثقافة الغربية، لقد هيمنت لوحات بشير على قاعات الكاليري الثلاث، وبدت الصالة كما لو أنها تحتفي بالفن العراقي لوحده حيث غاب الفنانان الهولنديان عن الحضور. يستمر المعرض لفترة شهر لينتقل بعدها إلى مدن هولندية أخرى. بشير مهدي الذي تعافى أخيرا من مرض، يطل علينا هذه المرة بروحية جديدة، هي تجسيده لرؤية الأفول، فيلجأ للعتمة والظلال الحادة والضوء القوي، ليضمخ فيها الأمكنة الآفلة وإنكسارات الأشياء، والمواقع الخربة، والروح المنسحبة، والبيت المطفأ الأضواء، والزوجة الغائبة إلا من فتاة صغيرة يحتضنها، ولروح المشفى وهو يشعرنا بألوانها وزهورها البيضاء بعد أن عرفناه محباً للأشياء، عاشقا للضوء، رومانسياً. هذه النقلة الجديدة منحتنا الفرصة أن نرى البعد الدرامي للأشياء، التي تتجاور فيها المفترقات دون أن تكون طبيعية أو إنسانية، لأنها الأشياء في احتدامها وشعريتها اليومية.
أربعة ثيمات يعتمدها بشير في كل لوحاته تقريباً:
الأرضية وقد أسقط عليها الملابس والأفرشة وجزأها إلى مقاطع بينها مربعات يغلب عليها اللون الأزرق .هذه الأرضية الداكنة هي العالم السفلي الذي تؤول إليه كل الأشياء فتمثل الأرضية سقفا يتلقى ما يسقط فوقه، لذا لا حركة غير حركة السكون والسقوط وقد ظهرت بتجاعيد على الأشياء.
النوافذ والأشياء من كراسي وأسرة وبقايا وقد حمأها في الضوء لتتجاوب شعريا مع مناخ الغرفة الكابي الذي غالبا ما يقترب من الليل، ولكن ليس الضوء ضوءا صناعيا، أنه الضوء الداخلي للأشياء. في هذه الأشياء تشعر أن محاورة كانت تجري معها، الآن كل شيء انتهى أدت أدوارها فانسكر بعضها وأهمل البعض الآخر وما عادت بالقوة نفسها.
الأشياء وهي مضطجعة كأنثى بعد الممارسة الجنسية، أشياء قلقة وغير مستقرة فتجدها كأنما تنفض تجربة قد مرت بها، ثمة حركة باطنية في أشيائه كما لو أنها تريد الهرب من قيودها الذاتية لكنه يمسكها بما يثقلها ويشدها إلى الأرض.
المزج بين المنظور واللا منظور في اللوحة بحيث لا تعرف أحيانا مصادر الضوء، أو الأفق الذي تدور فيه الدراما. وهنا نجده روحيا وماديا، ثمة عوالم خفية تتجاور مع عوالم مادية بارزة، المهيمنة الروحية هي الأقوى حضورا ومادة وأثرا وقوة.

لقد غيرت الحالة الجديدة للفنان بشير من سياقات حساسيته السابقة التي تعتمد الاستجابة لمعطيات الأشياء والتي كان يقتنص لها الضوء ويجلبه عنوة من الخارج لغرفته وأشيائه، لتبرز أنوارها من روح الأشياء المتألقة عبر اللون والمادة، حتى لتشعر أن حساسيته اللونية الجديدة قادرة على منحك الكثير من الراحة والتأمل، وبالرغم من انسحاب ألوانه إلى العتمة، وترصده للأشياء المتكسرة الآيلة للموت، ما يزال تدفق بشير بالروحية القديمة نفسها، محب للأشياء الأليفة، عاشق لجمالها الداخلي عارف بتفاصيلها ومدقق بنسبها. فالبيئة الفنية في هولندا وجدت تأثيراتها على الفنانين العراقيين بسير ربما للطبيعة المائية تأثير في ذلك، وربما لطبيعة الهولنديين الفلاحية وتسامحهم وروحهم المرحة، تجد ذلك في نظافة اللون وحساسيته واستثمار قيمه وتدرجاته، وصفاء البنية والكتل، ومع ذلك تجد أن اللوحة في هذا المعرض تستجيب لوضعية الفنان الصحية، ربما وهو المشغول بالهم العراقي قد وجدت لوحاته صدى مؤلما لما يحدث في العراق بعد أن فقدنا الأمل بالتغيير، وربما وهذا شيء منطقي أن لا يعيد الفنان موضوعاته إلا بعد أن يقيس أثر الزمن عليها، شأنها شأنه الإنسان لابد من شيخوخة لها، أشياء كثيرة يبثها خطاب اللوحة الدرامي وهو ينشئ لنا سياقات تعتمد المخاطبة الدرامية المباشرة، وتحاكي ليس الذائقة الأوربية، وإنمّا الذائقة الشرقية أيضا حيث ما يزال يعتمد الديكور الذي أتى عليه الخراب، والمساحات الكبيرة الخالية من المارة، والأشياء الصامتة التي دبَّ عليها القِدَمْ والتي لم تستعمل منذ فترة، والزوايا الحادة التي تتخثر فيها الأردية والكراسي، والأرضية المتربة التي تفترش لوحاته دون أثر لقدم أو يد. في إحدى لوحاته الكبيرة نجد مجموعة من الشخصيات كما لو كانوا في وليمة أو احتفال مسيحي، لوحة تستثمر طاقة الظلال والضوء بطريقة عالية حيث ركز الضوء على الفتاة الشرقية وهي تحتل وسط اللوحة بحيث تراك أينما تتحرك، أنها عين الكاميرا التي تتبع خطوات الزمن فينا، في حين أن بقية الشخوص يدورون في فلك الرؤية المحورية للفتاة. هذه اللوحة التي تنتمي لثقافة القرن التاسع عشر كانت واحدة من إضاءات بشير المهمة في البيئة الهولندية إن لم تكن ثمرة لها.
في بنية اللوحة ثمة تعامل هندسي واضح، خطوط صارمة ليركب منها المربع والمثلث ومستطيلات الضوء القادم من الطبيعة، المناخ الأوربي بطبيعة شرقية، ثمة معادلات ورياضيات تتحكم بدقة المقاسات المضبوطة، هذا التعامل الدقيق يمنحك شعورا بالتقنية والإتقان، حيث رصد انفعالات الأشياء وحركتها الذاتية وطيات الأقمشة وتناسق الأشياء وتوزيع الضوء، تفصح عن حساسية شعرية بالأشياء تبعده عن الانطباعية وتدخله في مناخ لوحة الصالة الغربية التي تدمج بين تركيبة الضوء وتركيبة النور، إنه هنا يتجاوب وغياب الروح الكلية التي تتعامل مع مكونات كبيرة في الثقافة الغربية كالموت والقبور والجماجم، فيستجيب لهيمنة جزئيات المادة للأشياء فتضفي حضورا قويا على اللوحة الحديثة، ففي الوقت الذي يتركز الضوء فيها على بقع بؤرية في اللوحة، ومنها تتوزع بقية تدرجاته على أجزاء اللوحة، يخلق كتلا أقل إضاءة من تراكم المشاعر الثانوية والتي تستطيع أن تتلمس بصريا التأثيرات الغربية عليها، فثيمة القبر، الغرف المظلمة، الأشياء المهملة، تمنح الرسام مسحة تراثية وتاريخية، أنها أشياء مجربة وليست خامة أو جديدة، أشياء مرت عليها التواريخ والممارسة وهو ما يتلاءم وسياق حياته المتقلبة، إنه هنا يكبت ويستبطن.
في هذا المعرض نجده يعتمد على ما تبقى من ضوء الأشياء الداخلي، شعرية الروح، وقد تجسد ذلك كله في لوحة القبر التي هي محاكاة لسمفونيات عالمية كثيرة حببت القبر والعيش فيه، كما لو كان حياة مستقلة قائمة بذاتها، جمجمة وأشياء، وصندوق خشبي في وضع من يتأمل العالم من داخل كوة معتمة فلا نجد غير حوار صاخب بالصمت على أفرشة مضيئة ونظيفة - تعامل بشير مع الجمجمة في لوحة رسمت عام 1997 أيضا– فالموت الذي اقترب منه كثيرا بدأ يأكل الجسد، بينما الروح تحلق وتنتشر وتنثر في الأشياء، هل هي محاكاة لنجاته من أزمة ورم الدماغ؟ أم أن أفولا ما يستجير بنا جميعا كي نوطن أنفسنا لكارثة الحياة الثانية؟.

الديكور، الحيطان، الأشياء البيتية، الأفرشة، الستائر، الأسرة، الشراشف، النوافذ، الطاولات، الكراسي، الأشياء المهيكلة، القطط،، خارج النوافذ، داخل الأسرة، الأفق، الممرات، الأبواب، الأعمدة، الطابوق، الحواف، الأخشاب المتكسرة، التلف، العثة، موت الأشياء، أنسنة الأشياء، الصدأ، كل هذه الأشياء وغيرها هي في موضع الرؤية المأساوية للوحته، ولذا نجدها تتجزأ وتتشظى، ليس رغبة في أن تكون لوحته لوحة الصالة الغربية فقط، وإنمّا لأنه لا يستطيع إلغاء أية جزئية مارست الحياة معه. لذا يقول في إحدى عنوانات لوحته: إنها جزيرتي. تماشيا مع قنوات وجزر هولندا التي يتشبع بها أي فنان. فبشير كائن حي يعيش حساسية الأشياء في نموها وذبولها.
لا تملك الصالات القديمة روحية مكانية فقط بل هي دالة على مستويات طبقية تحاول أن تنقل الحياة اليومية للصالة كجزء من احتواء العالم الخارجي في البيوت الأرستقراطية، اليوم ينقلنا بشير إلى خرائب الروح وهو يؤنسنها، إلى أمكنة غرفه القديمة وقد رسمها يوما ما ثم لما هدمت، رسمها أيضا بانكساراتها وعبثيتها وأخشابها المتدلية، هذه الرؤية الفوتوغرافية التي تؤنسن لنا الأشياء تحيلنا إلى أعماقها، إلى الطبيعة المختفية، إلى اللا طبقية، حيث اللوحة هنا لا تحاكي مشاعر فئة أو تنتمي لفئة، وهو ما يغاير فنون الصالات القديمة ويستجيب لفنون الصالات الحديثة التي أصبحت اللوحة فيها غير مرتبطة بأية طبقة أو فئة بقدر ارتباطها بحساسية الفنان وموضوعه الأثيري، وبعدها الاجتماعي. وتشعر أن لمدينة أوترخت ببناياتها وكاتدرائياتها أثراً على لوحة بشير حيث الضوء والحيطان والأعمدة ذات بيئة غربية هذه النقلة الفكرية في الحداثة الأوربية فجرت الكثير من مستويات العلاقة بين اللوحة والجمهور وأبعدت النقد عن أن يربط بين طبقة أو فئة واللوحة الحديثة، فلوحة الصالة الغربية مزيج من فن الأرستقراطية والرؤية الشخصية الموشاة بطابع البورتريت حتى لو كانت أشياء.. ثمة حوار مكاني صاخب في لوحات بشير بين أشياء الغرف والإنسان الذي سكنها أو تعامل معها، أنه يشعرنا بدراميتها في جزئياتها وفي تموجاتها اللونية، فتشعر أن كل الأشياء المرئية في اللوحة سبق وأن مارس الحياة معها، اختبرها، فهي ليست بقايا قديمة له، بل هي روحه وقد توزعت عليها، إنها أجزاء من حياته وقد دمغها بألوانه العتيقة، كما لو كانت إعادة إنتاج للوحة الانطباعية في القرن التاسع ولكن بتنفيذ مغاير .
لذا يعد بشير من رسامي الحياة اليومية للمدينة، لعل بودلير يعود إلينا بتصوراته عن أثر المدينة على اللوحة الحديثة، ثمة نغمة غير مفرحة تفرضها المدينة على الفنان الحديث إن هو حصر نفسه في أشيائها، هذه النغمة الكابية قد تفرز لوحة جميلة ومؤثرة كما هي لوحة بشير لكنها تشير إلى انسحاب الحياة من المدينة، لقد فسحت المدينة لذاتية الفنان أن تجد طريقها إلى الصالات الحديثة، خاصة في لوحة ما بعد الحداثة التي اهتمت بالمهملات والأشياء الآفلة. بنية اللوحة عند بشير تأخذ من طبيعة المدينة أشياءها وهي تتطلع لأفق الحداثة، لتلك الحال التي تجلب كل أفراد الأسرة والضيوف لرؤيتها والتمتع بها.
ثمة نغمة شعرية تفصيلية للأشياء، فبشير ليس ناثرا للحياة، إنه يقتنص اللمحة التي تجمع أشياء لوحته في لحظة بوح مشتركة، هذه الشعرية ذاتية تدرب عليها منذ زمن طويل وتشهد لوحاته عليها بتعامله مع لغة الأشياء الصاخبة والمعبرة عن دواخل مكبوتة وصاخبة، ففي انحناءات وثنيات الشراشف والستائر دراما شعرية بالرغم من أنها بيتية تنم عن دقة تصويرية هائلة للمشاعر تحبب اللوحة لنا وتدخلنا في التأمل، كيف تأتى للفنان أن يكون بمثل هذه الدقة المتناهية بحيث يقربنا من الطبيعة بحساسية شعرية تنقل الأشياء من طبيعتها العادية وهي في العالم الخارجي إلى الفنية؟.


المكان الخالي

عاصم عبد الأمير

ثمة مباحث يشتغل عليها الفنان العراقي بشير مهدي تمثل بمجموعها بنيات تنهض بكلية الرؤيا، منها الأمكنة الضاجة بالجمال والفراق والوحشة التي تقطع نياط القلب، والانتظار الذي لا يفضي إلى شيء، والإنسان الذي يرى ولا يرى نبرات الوقت. شفرات من هذا النوع يراد لها تصعيد الشكوى ومرارة الإحساس بوطأة الغربة، فالأمكنة برغم هناءة العيش فيها، تبدو في جوانب عدة جحيم لا يطاق، لذلك الأشخاص لم يمكثوا طويلا فيها، فهي أقفاص يجري فيها اغتيال السعادة والرغبة في امتلاك الحرية.
بشير مهدي يبدأ خطاباته من المكان الخالي كمركز طرد قوي ومصدر للضجر الذي لانهاية له، لهذا وبرغم وفرة الجمال ومصدر الراحة التي يشي بها المكان غير أنها ليس إلا فضاء تخنقه الجدران، لذا فليس هناك من فرصة مؤاتية لممارسة حريتها، فالجدران والأرائك والكراسي والخزانات والسلالم النظيفة لا تصنع إلا معاناة وحياة مهجورة ليس لها شبيه إلا في المنافي، فالمكان عنده دال على مفارقة ومبعث التعاسة اللانهائية، ثم أنه وفي جانب واسع النطاق يحتفظ بسريته.
الأمكنة يغمرها الضوء والظلال في تجادل يوهمنا بأننا إزاء فردوس غير أنه ليس له وجود إلا في خيالاتنا المصادرة. ثمة صمت يجلجل باسطا نفوذا غريبا في أرجاء المكان، مع هذا ثمة نوافذ تطل على المطلق، لعله الخلاص، من يدري؟، غرف ناعمة الملمس غير أنها ترشح بالفناء، لهذا فإنسانها مغيبا، حتى وإن كان له وجود فهو رمزي أكثر مما هو حضور فيزيائي. لهذا نحى بشير في أحدى لوحاته إلى نفي المرأة في مكانها، مع أنه حين تكرر المشهد أحضرها قانطة، مستسلمة وهي تمعن النظر إلى الضوء المنهمر على طاولة زرقاء عارية تماما.
إن غرف بشير برغم العناية في محتوياتها وجماله الظاهر، تخفي وجها وأنينا بالإمكان التأكد منه حين نرقب العزلة التي تدك المكان، فيما يحرسه الضوء دون كلل. غرف يخيل إليك إنها الجنائن بعينها، ويجوز لك أيضا أن ترى فيها صناديق مليئة بالغربة والغياب. الفنان في شفراته هذه يستمد أصول لعبته الشكلية من طاقة الحس في إعادة قراءة الواقع كمرجع والعمل على تحميله قدرا جديا من طاقة الرمز. دون أن يدع شاردة أو واردة تفلت منه، فرسوماته التي يطبعها بحساسية عالية تحف بها مشاعر إنسانية لاهبة لا تخطئها العين، فالمكان عنده ليس إلا ما يخلقه الإنسان من سرية الوشائج مع الأشياء، فهي تمارس دورا بالنيابة، الأمر الذي يجعلها تترك انطباعا عن حجم الأسى والضياع، والانتظار الذي يطل على اللاشيء، الأشياء لديه تحمل ماهية ووجود مغاير لماهيتها حين تبدو محض أشياء لا معنى لها. فالفنان لا يستهدف فيما يبدو، مماثلة الموجودات مع إنها في الواقع ليست إلا كذلك. وتبدو ثمة إجراءات بصرية يجريها على جسد المكان ليجعل منه في النهاية محض منخفض مظلم لاستلاب حريتنا. إنه يبحث في جانب صريح على حقيقة الرسم حين يماثل الحرية.
غرف بشير المرتبة تحمل هويتها دون تلفيق، وحين تطيل النظر عبر نوافذه المشرعة يتأكد لك أنه ثمة عشاقا ما كانوا يسكنون تحت سقوفها، لكنهم قد اختفوا خلسة دون أن يتركوا لنا ملمحا دالا عليهم غير أنهم غابوا مع أحلامهم، نحو فضاء الحرية اللانهائي.






شذرات

حمدي مخلف الحديثي

يعالج "بشير مهدي" فكرة وحدة الأشياء، والعلاقة الأزلية بين الواقع والحلم.. فكرة امتداد الوجود إلى المناطق الأكثر شفافية وعذوبة وجاذبية. فبالرغم من التعارض القائم بين الميلاد والموت أو بين حالات الوجود وما بعد الوجود، فإن ثمة استعادة لذلك الأفق المشترك بين الامتداد أو التضاد حين يحاول الفنان، بالمرئيات، استعادة العالم الداخلي وعالم الكون الفسيح للتعبير عن لحظة الزمن الأبدي في قانون الخليقة والكائنات البشرية أيضا. حيث يغدو الرسم مشهدا يومض بأسرار جاذبيته لنعيم اللوحة الأبدي.
* * *


عبد الباسط النقاش

إن فناناً مثل "بشير مهدي" وفي عمر قصير ينم عن العافية التي يتميز بها فننا التشكيلي المعاصر يمثل امتدادا صحيحا لرواد الحركة التشكيلية في العراق، وتأكيدا على قدرة الفنان العراقي وتمكنه من اكتشاف قدرته الكامنة في أعماقه. وأنا على يقين، وليس من باب المدح، إذ أقول أن آفاق المستقبل الباهر قد حفر أخاديده بيد هذا المبدع بالصدق والطموح المشروع والحظ في آن واحد لإصرار منه على استخدام رؤىً مستقبلية واضحة، بطابع يميزه عن غيره من الفنانين العراقيين المغتربين.
* * *

حسين محسن

العالم في لوحة "بشير مهدي" قلق، مضطرب، متناثر، والليل في كل مكان، ليل في كل شيء، وحياتنا الحاضرة تدور بنا مع المروحة حول محور الماضي الماثل. إننا نستقرئ هذا الحوار الشعري الذي يوحي ببلاغة الأسى وبعظمة معاناة الإنسان، ونحن بمواجهة المشكلات العصيبة في زمن انهيار الايدولوجيا والرعب التي تثيره فينا السياسة الاقتصادية الجديدة في العالم. لقد ارتدى هذا الوعي في أعمال بشير لباسا مبطنا، وحتى لو كانت الصور التي أنتجها بشير معبرا عن مُثلها فيما مضى، لكنها لم تزل تحتفظ بطابعها الانفعالي المرير والمشحون بالإثارة.
* * *

عادل كامل

إننا نجد أنفسنا ملزمين بأن نكون صادقين ازاء حقيقة أعمال "بشير مهدي" دون أن تكون هناك معادلات أو أرقام مجردة تحددنا بالنسبة للانطباعات التي تولدها هذه الأعمال في نفوسنا. ما يهمنا في الحديث عن تجربة "بشير" هو الكشف عن مشروعية تجربته وعن القيم التي خلقتها هذه التجربة وعن الحضور الحقيقي الذي حققته. إن أعمال بشير تطرح نفسها تماما بمعزل عن أعمال كل الفنانين العراقيين المغتربين، ففي هذه الأعمال نرى تعميق العذابات والهموم في اللون والموضوع ليس إلا لفرض وجهه على عالم الآخرين. إن بشير يطالبنا بالالتفات نحو وجهه، بل يكتفي أن يرسمه لنا في حياد تام ولكن بمواصفات أخرى لا نستطيع أن نزاحمه في أي وقت من الأوقات.



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عراقي.. وطني كابوس لا صحوة منه
- عالم بلا كراهية
- التيار الديمقراطي العراقي في الدنمارك - عيب والله عيب -
- مريم الأوكرانية
- «في باطن الجحيم» للروائي العراقي سلام إبراهيم تُترجم إلى الإ ...
- من سلام إبراهيم للعراق في لحظته الراهنة
- سلام إبراهيم: فى حواره مع الأهرام العربي: الأحزاب الدينية «ت ...
- لعنة الفقر
- تنغمس.. وتنساها
- حكمة قلب
- وساوس
- بمناسبة يوم المرأة - المرأة النص الحياة
- الصديق
- في باطن الجحيم رواية سلام إبراهيم الجديدة
- أخي الشهيد كفاح
- العراق يضيع فنانيه قتلا ونفياً
- من رسائل الكاتب العراقي نصير عواد إلى سلام إبراهيم
- توضيح حول طباعة ديوان -وضوح أول- للراحل طارق ياسين
- حسين سرمك الحلقة 9 الأخيرة: رواية الإرسي: نطقت بالشهادتين
- حسين سرمك حسن8: الإرسي نطقت بالشهادتين


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - ملف عن الفنان التشكيلي العراقي العالمي بشير مهدي