أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - لعنة الفقر















المزيد.....

لعنة الفقر


سلام إبراهيم
روائي

(Salam Ibrahim)


الحوار المتمدن-العدد: 4469 - 2014 / 5 / 31 - 21:34
المحور: الادب والفن
    


لعنة الفقر*

- إلى أين يا ربي.. إلى أين؟!.
أتلظى بجحيم فراشي المبلول، أتلظى مسحوقاً بالأسئلة ومخيلتي الحاشدة بأحاديث الفسق والانحطاط، أتقلب، أتقلى بانتظار الحفيف القادم بعد لحظات. الليلة حالكة بنجومها العاليات. أستلقي مثل ذبيحة وسط أخوتي العشرة في ساحة البيت الفسيح. سينسدل السكون، ويهمد اضطراب الأجساد المبعثرة جواري، سيتصاعد شخير أبي السكران بعد أن يتعب من محاولته معها، كنت أسمعها تهمس قائلة:
- شو.. شو.. لا تلح "سلام" قاعد!.
تكرر القول بهمس يقابله خوار أبي الراغب وصوت احتكاك الجسدين تحت الغطاء، ثم يندمل كل شيء بالصمت إلا نفسي المنتظرة تلك اللحظة التي أرقتني منذ يومين. أغطس في هوة الجحيم، في الصمت، في الحلكة الغامرة، مستنجداً بمصابيح السماء العاجزات، بشخير أبي الذي بدأ بالتصاعد، بأجساد أخواتي وأخوتي، بالجدران، بالسماء، مكرراً بحرقة وجنون:
- إلى يا ربي إلى أين؟!.
أتفتت كما الليلتين الفائتتين في صمت الفراش وأنا ألاحقُ إيقاع الحفيف المنبعث من السرير القريب، أعظ أسناني بقوة تحت الغطاء والهواجس البذيئة تهجم عليّ من الحفيف، حفيف وكأنه أبواب جهنم. في الليلة الأولى أزحت الغطاء عن رأسي قليلا فرأيتها على ضوء النجوم الخافت تزيح الغطاء وتستقيم جالسة، تسكن للحظات منتظرة عودة شخير أبي الذي أنقطع. تدلي ساقيها بحرص شديد ودون أن تصدر صوتاً مع انتظام الشخير الرتيب. تعدل وضع الغطاء. تستقيم بطولها الفارع وجسدها الرشيق، تخطو مقتربةً من فراشي في الطرف القريب من السرير، أطبق أجفاني متصنعاً النوم، تنحني نحوي، فأسمع أنفاسها اللاهثة لثوانٍ وهي تلفح بدفئها وجهي، أسمع حفيف خطوها، فأفتح عيني. أجدها تعدل أغطية أخوتي واحداً.. واحداً. ثم تبتعد بخطوات غير مسموعة متجهة صوب الدهليز القصير المؤدي إلى باب البيت. ظننت أول الأمر أنها ذاهبة لقضاء حاجتها، فالمراحيض جوار الباب عند مدخل البيت. فبقيت أنتظر عودتها، وعندما أفكر الآن بعد كل تلك السنوات، لم شككت بالأمر أجد أن طريقتها في التسلل تبعث الريب. انتظرت طويلا، لكن النعاس باغتني فسقطت في النوم، شغلني الأمر طوال الليل، وهجمت علي قصص عن تسلل الزوجات إلى عشاقهن السريين. قصص يرويها زبائن عمي الحلاق وسط المدينة، قصص يرويها مراهقو المحلة في أفياء تموز، غرائب ليل العصري الخليط من فلاحين مهاجرين لتوهم من قرى محقها الإصلاح الزراعي وملاكي الأرض من الإقطاع أواسط ستينات القرن العشرين، وبدو استوطنوا بعد أن تعبوا من الترحال، وضيق بيوت المدينة المتضخمة بالأجيال الجديدة، قصص تحكي عن الليل وحماقاته، عن زوجات الجيران اللواتي يتسللن إلى عشاقهن، أو يتسلل عشاقهن إلى أسرتهن تحت جنح الظلام، قصص أسمعها هجمت علي في اليوم التالي، فعدت أنظر نحو أمي بعينين مرتابتين، متخيلا أخيلة تجعل من دمي يفور فأود لو أهرب إلى جهة مجهولة لا يعرفني بها أحدٌ. تعمقت الهواجس في الليلة التالية، إذ عزمت على ملاحقتها لمعرفة أين تذهب؟. فانتظرت إلى أن ساد الصمت وتعالى شخير أبي رتيباً، وسمعتها تزيح الغطاء وتقترب مثل الليلة الفائتة منا لتعدل الأغطية، ثم رأيتها تتسلل على أطراف أصابعها إلى الدهليز. لبثتُ مدة قصيرة استنفذت فيها احتمال ذهابها لقضاء حاجتها. دفعت البطانية بقدمي بهدوء. غادرت فراشي حافياً. وخطوت على أطراف أصابعي نحو الدهليز. كان السكون مطبقاً لا يعكره سوى عواء كلاب متقطع بعيد، وشخير أبي المتقطع أيضاً. كان الدهليز شديدة العتمة، قطعته نحو الباب المردود متمسكاً بالجدار. حدقت من ثقوب الباب. كانت الفسحة المرئية خاوية. لبثت خلف الباب منصتا لدقائق إلى وثقت من السكون. وسحبت درفة الباب مليما.. مليما. كان الشارع خاويا ولا أثر لها. أنسدل ستار فلم أعد أرى شيئاً، أحسست بوجهي يلتهب وكأن أحدهم دلق علي نارا سائلة. فعدت مسرعاً إلى فراشي، دخلت تحت الغطاء شاعراً بالبؤس والعجز وكأن أحدهم سحقني، وانفجرت باكياً بصمت. ظللت أبكي حتى تبللت مخدتي وسقطت من جديد في النوم.
- إلى أين يا إلهي.. إلى أين؟!.
سؤال ظل ينحر بي طوال اليوم، وبقيت أدور حولها وأتمعن في قسماتها الجميلة، وهي مشغولة بشؤون البيت، تعد الطعام في غرفة الطين على موقد نفطي بدائي، وتغسل ملابسنا في طست بطرف الحديقة. لم يخف عليها أمري، فلديها فراسة غريبة، أمسكتني من كتفي وقالت:
- يمه أش بِكْ؟!.
زاد اضطرابي وعيناها الواسعتان تغوران بعيني في محاولة لمعرفة بما يدور في رأسي. كدت أن أعترف لها، لكنني خشيت من هول الأمر. فتحاشيت عينيها ناظراً إلى تراب الساحة قائلا:
- ما بيَّ شيء.. ما بيَّ شيء!.
رفعتني بيدها القويتين من تحت كتفي، قائلة:
- شيل رأسك وأنظر بعينيّ!.
أنصعت لأمرها ونظرت إلى عينيها القويتين أيضاً. أنزلتني قائلة بصوت حنون:
- أش بِكْ يا ولدي؟!.
أنفلت من يديها، وركضت نحو باب البيت لأضيع في الحقول المجاورة حتى نزول المساء. وأي جحيمٍ قضيته في الحقول الشاسعة والسواقي مشيت حتى أدميت قدمي وبكيت حتى نشف دمعي وكنت أصرخ في البرية بين الفينة والفنية:
- يا ربي وين تروح أمي بالليل ويييييييييييييييييييييييييييييين يا ربي؟!.

* * *

- الليلة لازم أعرف وين تروح؟!.
قلت مع نفسي ذلك، وعزمت على التسلل خلفها.
كمنتُ تحت الغطاء متتبعاً خطواتها المبتعدة نحو الدهليز. أزحت الغطاء. ألمت بيّ رعدة أرجفت أضلعي وجعلتني أتلكأ قليلا في النهوض. شددت من عزمي متذكراً قصة كيد النساء العظيم وحكاية النبي يوسف التي سمعتُ تفاصيلها من الشيخ وهو يروى لنا حكم الحياة من على منبر جامع العصري في ليالي رمضان.
- أتكون أمي يا ربي مثل زليخة!.
طفقت أرتعشُ تحت ضوء النجوم. اضطربت خطاي. خشيت من الدهليز، فانحرفت نحو باب غرفة البيت الحجرية. توجهت نحو كوى النافذة الأربع الأقرب إلى باب البيت، التي يتسرب من خلالها ضوء مصابيح الشارع الضعيف. ضاقت بي الدنيا وأنا أطل على السكون وخواء الصمت العاوي في ضجة رأسي، ضاقت ولا أثر لأمي ولا حفيف. غادرتُ النافذة خائضاً في حلكة الغرفة، تحت النجوم العاليات، في عتمة الدهليز مستدلاً بذاكرة النهار وظلال ضوءٍ مثل وهمٍ يتسرب من درفة باب الدار المردود. خلدت خلفها متلصصاً هنيهة. وبغتةً هاجمتني روائح كريهة جعلتني أستدير مظاهراً شق الدرفة المنفرجة لأعبَّ من هواء الدهليز رائحته. عدت ومددت بصري من خلال شق الباب فأنفتح الشارع الميت أمامي من جهة الجامع.
- أين ذهبت يا ربي؟!.
لم يكف السؤال عن التردد في كل لحظةٍ. تضرعت إلى الخالق وتساءلت:
- أية محنة تضعني في باطنها يا إلهي، ولماذا.. لماذا؟!.
وفي لب ذلك السكون فارَّ دمي، وطفح غضبي. كدت أن أطح الباب برأسي حرقةً وغلبةً وتعباً، في تلك اللحظة سمعت حفيف ثوبها الأليف يقترب من الباب من الجهة غير المرئية لموقع وقفتي. ارتددت هلعاً إلى نهاية الدهليز، لكن الحفيف انقطع خلف الباب. سكنت في العتمة منصتاً لصوتٍ خافت غريب، ثمة شخص يفعل شيئاً أمام الباب. تجرأتُ مقترباً من الباب وسحبت الدرفة بهدوء فرأيتها تنحني نحو خزانة المرحاض المفتوحة لتدلي سطلاً مشدود بحبلٍ طويل، وتغرف حتى ملأت تنكة صفيح، حملتها على كتفها وخطت نحو فسحة خالية كانت تفصل العصري عن المدينة. فتحت الباب وتتبعتُ خطواتها إلى أن غابت في الظلام. فانفجرتُ في نشيجٍ طويلٍ لاعناً الفقر.
عندما أيقظتني في الصباح كي أجلب خبزنا من الفرن. أمسكتُ كفيها الطاهرتين، وأنهلت عليهما بالتقبيل حتى بكيت مرددا:
- يمه يا يمة، يمه يا يمه!.
وهي تكفكف دموعي وتطيب خاطري دون سؤال وكأنها علمت بأنني عرفت.
بعد أكثر من أربعين عاماً هاأنذا، في أول ليلة لي في رحمي الأول أخطو من نقطة فتحة المراحيض حتى حافة الساحة التي بنيت بالبيوت مستعيدا خطواتها المباركة المكافحة رائياً طيفها حياً يسير جواري في عمق هذا الليل الفريد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فصل من رواية بعنوان "دونت سبيك أسطب



#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)       Salam_Ibrahim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تنغمس.. وتنساها
- حكمة قلب
- وساوس
- بمناسبة يوم المرأة - المرأة النص الحياة
- الصديق
- في باطن الجحيم رواية سلام إبراهيم الجديدة
- أخي الشهيد كفاح
- العراق يضيع فنانيه قتلا ونفياً
- من رسائل الكاتب العراقي نصير عواد إلى سلام إبراهيم
- توضيح حول طباعة ديوان -وضوح أول- للراحل طارق ياسين
- حسين سرمك الحلقة 9 الأخيرة: رواية الإرسي: نطقت بالشهادتين
- حسين سرمك حسن8: الإرسي نطقت بالشهادتين
- حسين سرمك 7 رواية الإرسي: نطقت بالشهادتين
- الإرسي 6 حسين سرمك حسن: الرواية نطقت بالشهادتين
- في مديح العمة حسين سرمك: الإرسي نطقت بالشهادتين -5-
- حسين سرمك حسن: الإرسي نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة ...
- رواية – الإرسي - لسلام إبراهيم: نطقت بالشهادتين: شهادة الخرا ...
- نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة إرسي عذاب العراق-2-..
- الإرسي نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة إرسي عذاب العرا ...
- مريم رواية العراقي - سنان أنطوان - العراقي جاء إلى بيْتِهِ، ...


المزيد.....




- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام إبراهيم - لعنة الفقر