أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - ليالي المنسية/رواية/القسم الأوّل/(منعت في الأردن من قبل الرقابة)















المزيد.....



ليالي المنسية/رواية/القسم الأوّل/(منعت في الأردن من قبل الرقابة)


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 4556 - 2014 / 8 / 27 - 11:52
المحور: الادب والفن
    


ليالي المنسيّة
رواية
{{الحقيقة دائماً جارحة،ودائماً ثورية}}..(داريو فو)

***

{{إنّ من يأتي إلى الدنيا دون أن يترك فيها أثراً لا هو بمن يطاق ولا بمن يستحق أن يلتفت إليه}}..(رينيه شار)














مائدة الحكي

[الموعد مع الكتابة يشبه الموعد مع الحبيب]..(أحلام مستغانمي)
***
[حياتي بضع أحداثٍ أود نسيانها]..(ماتشادو)
***
[الأسلوب التوثيقي هو الترياق الكامل للرومانسية]..(كولن ولسون)
***
[ليست هناك معركة أكثر عبثاً من تلك التي يشنها الرقيب على الكتب،إنه خاسر،أولاً وثانياً وعاشراً،فالذي كتب بالحبر لن يمحى أبداً]..(إبراهيم نصر الله)
***
[العرب لم يسهموا في رسم أصول الرواية الحديثة ومن ثم فليس عليهم أن يتقيدوا بها،إنهم أقدر اليوم من الآخرين على التمرد عليها والبحث عن المختلف]..(د.لطيف زيتوني)
***
[مطلوب أشكال جديدة،أشكال جديدة مطلوبة،فإذا لم تكن موجودة فالأفضل لا شيء] ..(توبيليف)
***
[أكتب دائماً ما تمليه عليك أفكارك/تذكر دائماً أن الحقيقة أغرب من الخيال/كن واعياً إزاء تسرب الصيغ التقليدية إلى نصك/كن متفتحاً وأنت تكتب/]..(ريتشارد هنت)
***
[كن فعالاً]..(روبين كار)
***
[كل شيء في السرد له معنى]..(رولان بارت)
***
[الفن تعويض لخسارات الحياة]..(داركو ليدس)
***
[كل شيء في الحياة يصلح أن يكون المادة المناسبة للرواية]..(فرجينا وولف)
***
[الأدب غير منفصل عن مؤلفه]..(سانت بوف)
***
[الكتابة حسب الطلب..كم هو رهيب هذا]..(تشيخوف)
***
[الذاكرة تساوي الأحداث زائداً الزمن]..(جوليان بارنز)
***
[الوظيفة الرئيسية لمقدمة الكاتب الأصلية هي تأمين قراءة جيدة للنص]..(جيرار جانيت)
***
[كلا،يا سيد إنها شيء جيد،إذ فيها عقل مجتمع،فالاقتباسات الكلاسيكية هي كلام رجالات الأدب في مغارب الأرض ومشارقها]..(جنوسون)
***
[القارئ يجب أن يكون قادراً على أن يكشف من غير أن تشرح له،تلك العلاقات والأصداء التي تحدثها مثل هذه المشاعر المرهفة،القوية في شخوص هي مثل هذه الأصالة ومثل هذه العظمة]..(ستندال)
***
[القارئ هو:الكائن العيني الملموس الذي يتلقى السرد من الراوي،إلاّ أنه يكون خارج النص الأدبي مثلما يكون المؤلف الحقيقي خارجه أيضاً]..(أحمد رشيد وهاب الدرة)
***
[واحد: لم لا تقول ما يفهم؟
أبو تمام: ولم لا تفهم ما يقال؟]
***
[النص مجرد رحلة خلوية يجلب فيها الكاتب الكلمات،بينما يجلب القارئ المعنى]..(تودوروف)
***
[الأسلوب يهتم بنفسه عندما يعلم الروائي ما يريد قوله]..(كولن ولسون)
***
[الشخصيات تشبه الأناس الحقيقيين،ولكنها لا تشبههم كذلك]..(روبرت شولتز)
***
[الشخصيات الثانوية صانعي التاريخ الحقيقي]..(لوكاش)
***
[أن الشخصية تعطينا صفات،ولكن سعادتنا وشقاءنا ينحصران في الأعمال التي تقوم بها]..(أرسطو)
***
[الشخصية،أثراً من آثار الخطاب،ولكنها لا تنتمي إليه،بل إلى الحكاية]..(جيرار جانيت)
***
[لم تستطع أية قوة أن تسقط الشخصية من على المنصة التي وضعها القرن التاسع عشر عليها،إنها الآن مومياء،ولكنها ما زالت تحتل الصدارة بنفس العظمة ـ الوهمية ـ بين القيم التقليدية التي يحترمها النقد التقليدي]..(ألان روب غرييه)
***
[لفهم الشخصية الروائية علينا الإحاطة بمحيطها المكاني الذي تدركه هي إدراكاً حسياً مباشراً،والذي تتأثر به وتؤثر فيه،ومن خلال ذلك سنطلع على مدى انسجام عالمها الداخلي مع عالمها الخارجي المحيط بها،وهذا يساعد على إعطاء صورة وافية عن طبيعة الشخصية وهويتها الخاصة]..(شاكر النابلسي)
***
[يمنح الكاتب شيئاً من روحه لكل شخصية يبدعها،فليس في وسعك أن تضع شخصية هكذا ببساطة،أن عليك النفاذ خلال جلدها،وإعطائها شيئاً من قلبك وروحك،وبعدئذ يصبح من السهل عليك أن تكتب]..(فالنتين كاتاييف)
***
[أحذر من الاعتماد على شخصية بعيدة جداً عن شخصيتك]..(ه.ر.ف.كيتنغ)
***
[الوصف:فن توزيع المعلومات حول الأشياء،والذوات حسب نظام يلاءم إستراتيجية يتبناها الراوي ليروي حكايته في زمن ومكان محددين]..(د.نجوى الرياحي القسنطيني)
***
[الوصف: تقديم الأشياء،والكائنات،والمواقف،والأحداث في وجودها المكاني عوضاً عن وجودها الزمني،وفي أدائها لوظيفتها الطوبولوجية عوضاً عن وظيفتها الكرنولوجية،وفي تزامنها،وليس تتابعها الزمني]..(جيرالد برنس)
***
[الوصف:حلية شكلية،ونحصر دوره في ذاته،فهو أداة الروائي في إثبات قدرته البلاغية،وهو منفصل عن سياق الرواية،لا يقدم للشخصية،والحدث أيّة فائدةالوصف:إذ يكتسب شيئاً من التفرد والاكتفاء الذاتي فتصبح المقاطع الوصفية في الرواية أعمدة البناء الروائي الجديدة]..(مصطفى ساجد مصطفى)
***
[للمكان دوره الكبير في عكس أفكار الشخصية التي تسكنه،ومستواها]..(د.كوثر محمد علي جبارة)
***
[الخيال حقل عظيم الثراء وما تزال مجاهيله ضخمة وشاسعة جداً]..(أبو لينير)
***
[ربما كان الخيال تسلية العقل]..(تيودور روزاك)
***
[ما هو الخيال إن لم يكن تطوير الواقع]..(كولن ولسون)
***
[الحوار الموجز يضغط الأحداث ويختصر الزمن،فيكون لدينا منقول غير مباشر على درجة من الانتقائية]..(م.ن)
***
[الارتجاع الفني:حكاية ثانية زمنياً تابعة للأولى]..(جينيت)
***
[من لا يريد شيئاً،وليست له آمال ولا مخاوف لا يستطيع أن يصبح كاتباً عظيماً]..(تشيخوف)
***
[أنا أنصح بكتابة المذكرات كوسيلة لتعلم الانضباط عند الكتابة]..(أناييس نن)
***
[الشاعرية: أي الطريقة التي تنطري على توحيد الأفكار الأولى العفوية القادمة بفعل الوحي الصادق]..(جان بريفو)
***
[اللغة ما قبل الأدب،والأسلوب تقريباً ما بعده،فالصور والإلقاء والمفردات تولد من لحم الكاتب ودمه،من ماضيه،وتصبح تدريجياً آليات فنه نفسه،وهكذا يتشكل تحت أسلوب لسان مستقل بذاته]..(رولان بارت)
***
[اللغة هي التي تتكلم]..(رولان بارت)
***
[إن لم تتنفس عبر الكتابة،إن لم تصرخ في الكتابة،أو تغني في الكتابة،إذاً لا تكتب،لأن ثقافتنا ليست بحاجة إلى هكذا كتابة]..(أناييس نن)
***
[ليس من مكان تهرب إليه من المسائل الكونية،لذلك أجعل تفكيرك كونياً]..(تيودور روزاك)
***
[الروائي الحقيقي هو ذاك الذي يخلق الشخصيّات]..(آلان روب غرييه)
***
[من أفدح الأخطاء التي ترتكب هو عد الكاتب نفسه سارد الرواية،فالسرد ليس الكتابة التي ينتج بها الكاتب نصه،وليس من يتكلم هو من يكتب،إذ يمثل الكاتب ـ معطى تاريخياً ـ أما الراوي فهو لا ينتمي للحياة الواقعية]..(ترجمة: ناجي مصطفى)
***
[أن عالماً بلا مفارقة يشبه غابة بلا طيور]..(أناتول فرانس)
***
[أن المفارقة لا تكون مفارقة إلاّ عندما يكون أثرها مزيجاً من الألم والتسلية]..(أ.ر.تومبسن)
***
[الكتاب الجيد ليس ما نقرأه ولكنه الذي يقرأنا]..(دبليو . ه . أودن)
***
[الغرائبية لا تعني ما لم تره عين ولا سمعته أذن وإنما هي،متعلقة بشيء معروف ومألوف إلاّ أنه منسي مدفون في أعماق النفس]..(عبد الفتاح كليطو)
***
[الواقعية،ذلك الجهد،ذلك الميل المقصود من الفن لتقريب الواقع]..(هاري ليفين)
***
[الواقعية هي كل شيء حقيقي تنجبه الحياة وكل ما يحرك الروح الآدمية]..(يفجيني يفتشينكو)
***












نار الحكاية

عندما تعيش خارج العالم.
تبدو كسمكة الزينة،تدور حول نفسك،في محيط ضيّق،وخارج حوضك عالم صاخب يعيش من خلالك، يسلقك بنظرة أو لا يعير بالاً بك،فقط أصحاب الفضول،أولئك المتخمون بالشهوات العابرة،الذين لا يعرفون حقيقتهم،أو هم يجهلون لم هم يعيشون وما هي خطواتهم التالية عندما تعترضهم خوانق عارضة.
أصحاب العقول الفارغة،يملؤون فراغاتهم الحياتية بك،نظراتهم حراب غادرة،نظراتهم تفسر لعنات،أولئك هم كثر،يمقتون ما دونهم،يسلقونك بنظراتهم الشزرة،نظرات حيوانات مفترسة،يشبعون نهم أنفسهم اللاهثة بتواجدك،ويمضون.
ما عليك سوى أن تذرف دمع حياتك،لا يعتورك خوف،الفقراء،أصحاب العاهات المستديمة،يمتلكون مخزوناً لا ينفد من الدموع،تذرف ويمتلئ خزان عاطفتك،دموع الفقراء ملح الحياة،المطر الذي يمنح الوجود سر تألقها وديمومتها،الدموع هوية،يحتاج المرء لنعمة إلهية كبرى كي يمتلك هذا الفاصل الإنساني المريح، الدموع نوافذ لتصريف سموم الهموم.
ما عليك سوى أن تنزف دمك بتقطيرٍ مريح،دمك الرخيص في عالم يتوحش،يلتهم ويمضي،عالم لا يزرع سوى الخوف،الموت،الفساد،عليك أن تضحي،كي يعيش هذا العالم المتفرج عليك.
لو فقط فكرت بـ فكرة المغامرة،أن تنتفض،أن تجتهد لتشكيل حياة محتملة،عندئذ يمكنك أن تجعل هذا العالم الدائخ من حولك،زيتاً يمد محرك عربة مغامرتك،فتغدو مصباحاً متوهجاً،بضوئه المبتكر يبدد قسوة ظلام جزء من عالم ـ يحتويك ـ مهما يلهث يظل جائعاً،حائراً،جاهلاً،ضائعاً،لن يدرك ولن يكتشف حقيقته.
فكرة الخلاص تلح،تراود،وأنا جالس،متقوقع،ليس لي سوى كرسي متحرك،بعجلتين كبيرتين،بعجلتين صغيرتين،ليس لي سوى قلب نابض منتفض،رافض،يمتلك نفس مقومات القلوب المنتظمة دقاتاً،قلب فيه صحوة،بطينتاه وأذينتاه يعملان من غير عرقلات،ليس لي سوى عينين خارقتين،تريان بوضوح،ليس لي سوى حلم واحد،حلم أن أكون،غير متميزاً أو منحازاً لفئة أو رهط أو تجمع،كائن يرغب أن يعيش ضمن حدود محيطه،مع مجايليه،داخل إطار عالميته.
أدحرج كل صباح ومساء العجلات كي أكون أمام باب العالم،في رقعة مهملة،مكان يستشرف مساحة عامرة بحركة السابلة،مركبات تمرق،ناس تمضي وناس تعود،متعافون ومعتلون،نساء ورجال وصبيان،شارع شبه رئيسي يخترق صفّي المنازل،لم يكن شارعاً قبل فترة،كان ممراً ترابياً،شتاء يتحول إلى واحة طينية ممزوجة بقاذورات المنازل،قبل أن يتحول الممر على يد مقاول غشّاش،جاء بحادلة وقص التوحشات قبل أن يسكب القير بشكل غير لائق،مما غدا شارعاً لمرور المركبات بعدما تم غلق الشارع الرئيس والوحيد للبلدة وتعذر وصول المركبات والعربات إلى السوق المكهرب بالخرسانات الكونكريتية،بعدما توسعت دائرة العنف وتطورت أساليب الموت،في عصر النت،عصر قيل أن العالم تحول فيه إلى قرية صغيرة،لكن على ما يبدو هذا العالم المتحول نسى أن تقوقعه يزيد من فرص الفقر والموت والفساد.
شارع متعرج يخترق المنازل الأفعوانية،من عليه تمر مواكب الطالبات والمعلمات إلى مدارسهن،الناس تمر،بكل أطيافه وشرائحه،بكل أعراقه ومعتقداته،فقيراً وثرياً،مهموماً وسعيداً،كبيراً وصغيراً،الكل يمشي ويعود،بات الشارع الوحيد القريب والآمن لسير السابلة،سير العربات والمركبات.
أجلس دائماً،صباحاً ومساء،مشغولاً بـ عالم مشغول بنفسه،عالم يلهث لسد فراغاته الحياتية،وأنا مشغول بـ فكرة الاندماج،فكرة العودة إلى إيثاكاي،أليس كل غائب أوديسيوس حتى يعود؟
جالس على عربتي،أهش الذباب،ذباب شرس،يتكاثر عبر تناسلات هوائية،تطن على الرؤوس،ذباب جاء مع المحتل،لم تعد هناك سبل وقاية أو مكافحة،بعدما تبخرت طائرات البلاد في الحرب الأخيرة،مضت تلك الأيّام السعيدة،عندما كانت رقابنا متعلقة بالفضاء الداخن،تطارد بخار مكثف مدجج بدواء قاتل للبعوض والنمال والجراد والصراصير،فالمحتل هو المحتمل لكل غير المحتملات.
من على كرسيَّ،أجتهد بكتاب،أن أقي رأسي وعيني من أشعة شمس لا ترحم،يؤرقني هاجس البحث عن سبيل يهندمني،يعيد بشريتي،كي أكون داخل هذا العالم المشغول على مدار الساعة وعلى طول الخط.
جالس مشغول أنا بـ فكرة زمني الأبدي،زمن خروجي من الـ نص الكوني غير كامل الهيئة،لم أجد تفسيراً يقنعني بشكلي المتكون،ففي أجيالنا المتعاقبة كما أسروا لي لم يكن فيهم من يحمل عاهة أو تعرض لحادث ما دفع جزء من جسده ضريبة نفيسة ليتقوقع بقية حياته معاقاً.
قالوا: لكل شجرة عائلية بشرية ضريبة.!
كنت أنا الثمرة التي لم تكتمل لكنها نضجت سريعاً وهبطت من فردوس العماء.
يفرحني موقعي،منه أعيد تشكيل حياة محتملة،تشعرني ولو على قدر وقت جلستي،بكوني أوديسيوس آخر،حوله أمواج تتلاطم،فكوك تفترس،زاده الصبر وسلاحه اليقين،عليه أن يناضل،ولو من على كرسيه الميكانيكي،ولو من مكانه غير المتحرك،من أجل فرصته،من أجل إستحقاقاته،بما له وما عليه.
في البدء.
مشاعري لم تطفح،ظلّت تتأرجح،تارة تتململ،تارة ترضخ،تحت الخط الفاصل،ظلت تسبح في مستنقع الدونيّة،تحرك الضمير فجأة،لم تعد الإرادة مروّضة،لم يعد القلب ببطينيه وأذنينيه يحتمل هذا العصف والقصف،لم تعد المشاعر خاملة،ضجت خلايا المخ،ألقت رغبة هوجاء بكامل الفكر وكل الرغبات في عراء فارغ،أصطخب الجسد،كاد أو رغب أن ينتفض،أن يحطم الكرسي الميكانيكي،أن يثور بوجه العالم،أن يصرخ،أن يسترد كيانه :أنا إنسان!
في العراء طلول وآبار معطلة،خيام مهملة،فرسان متحجرون،ورايات ما تزال تصرخ بإكذوبة الوقائع، بإستحالة تحقيق هذه الإنتصارات المعجزة بالسيوف اليدوية والحراب الغدرية،بأسمال ممزقة وأقدام عارية، وبطون فارغة،لكن التأريخ يمنحنا مصداقية تلك الأمجاد،الصدور العامرة بالصبر والمتسلحة باليقين،تغدو متاريس كونكريتية أمام كل قوى الشر،تلك هي أسرار الحروب الكبيرة.
أوديسيوس عليه أن يكافح،ففي مخدع الذاكرة ثمة رغبة،ثمة بنيلوبي،ثمة حلم.
أنفلقت صرخة مكتومة:
((العالم حكاية))
خزين المرائي،كلام العالم المنثور،فوضى الكتب،حكايات عابرة،مرويات العجائز،أكاذيب،تلفيقات،دفعت سفينة المغامرة نحو بريق حزمة مشاعر ثائرة،بإتجاه عاصفة الأشياء الخارقة،ثمة حلم يرفل،يستصرخني.
الـ فكر يلح،سمكة الزينة يمكنها العودة ـ لو ناظلت ـ إلى عالمها الكبير.
(أوديسيوس)عاد إلى(إيثاكا)،عاد إلى(بنيلوبي)بعدما قهر بإرادته الحديدية جبال المصاعب،وروّض بـ صبر عاشقٍ اغريقي،تلاطم الأمواج الغاضبة من حوله،متوازياً مضت ثوريته مع ثورية امرأة صبور،جعلت مغزلها سيفاً،تحدت أمواج الرغبات المحتدمة من حولها،وجعلت دنياها ساحلاً يستوعب سفينة فارس وحده يجيد إصطياد ـ بقوس الحب ـ من حولها الغرماء الوحوش.
***
فكرت بإبتكار حياة محتملة،حكاية تعيدني لعالم يمر،يترك ظلّه ويمشي،عالم لا يعرف إلى أين يمشي؟،بأي إتجاه؟لم يؤرقه سؤال الأزل،سؤال عن هذا الحلم البعيد الساكن دائماً منذ فجر الخليقة في الأمام،تراه يكافح،يلهث،يريد أن يكبر ويموت،تلك هي رغبة العالم،يطول عمر العالم،ثمة أمخاخ تبتكر وسائل بديلة لتقصير الأعمار،أنها تبتكر الحروب،السجون،غولان،بوسعهما تقصير عمر العالم،تشذيبه من الحالمين،من أصحاب الرايات النظيفة.
في ظلّ هذا العالم المتحرك،عالم افتراضي،مترامي التكوين والنهاية،عالم يتشكل دائماً في أمخاخ الشعراء والأدباء المقلمين من توحشات الذات،دائماً في الظلام،في المنزويات يحاولون إعادة الروح لعالم ظلّ يحتظر لكنه لا يموت،يرسمونه شعراً ونثراً،يشكلونه في أفلام ومسرحيات،دائماً مقص الرقابة ومخالب السلطات تضيق العبارة وتخنق ورود الجمال،ثمة منزويات آمنة،عقول الشعراء والفنانين تقدح شرر الحقيقة،وجدت السوريالية وقصيدة النثر،وجدت الرمزية،الدادائية،منائي آمنة،مدن تستوعب أحلام أزمنة الرهاب،بوسع بلابل القلوب أن تغرد فيها عالياً كما ترغب.
الآن يمكنني أن أزرع نبتة،في هذا العراء،وأسقيها بـ صمت،بـ دموع مهملة،أو بـ مداد قلم يمتلك أبجديات الخوض في غمار الحروب المفترضة،ولو في عالم خانق ومخنوق،قد ينفلق الحلم عن شجرة حياة مقبولة.
يقول الحلم: العالم مغامرة.
تقول المغامرة: الحكاية أرق!
تقول الحكاية: أين الورق؟


مخاض الحكاية

منحت نفسي راحة شبه إجبارية،حاولت من خلالها تفريغ رأسي من تكلسات حكاية تأرجحت بين عقلانيتها وطوباويتها،متبقيات شوائبها المنسية منها والمهملة،حكاية حياة،حكاية الكينونة،قبل أن أبدأ بـ خطوة ميلية أخرى،فالحكاية مرض،ما أن تعالجها،تنشط من جديد وترغمك أن تمدها بالكلمات.
غرفتي كئيبة،لون حيطانها فقد زمنيته،يا ترى هل غرف ناسجوا الحكايات شبحية؟لا تصالح الحكاية النقاء المكاني،دائماً الفوضى،الإهمال هي أطعمة الشحنات الثورية في الحكي،خيوط العناكب لم أفكر في يومٍ ما أن أزيلها،دائماً أصطدم بالشخوص يتدلون منها أوان الحكي،هي السبل الوحيدة،المسالك الآمنة،تتسلل وتنسل منها كائنات الحكي،تخاصمني وترتمي داخل الكلمات،أنها تبحث عن فرص جديدة في حيوات محتملة.
قرب النافذة،طاولة خشبية صاج،بلا لمعان،للزمن وجهات نظر حاسمة،الزمن سارق لمعان الأشياء قبل سرقة أعمارها،كرسي ظلّ مركوناً ينوء بكدس كتب،يكفيني الكرسي الميكانيكي ليجعلني متوازناً ومهيمناً على سطح الطاولة أوان الحكي،ركام كتب غير مقروءة تحتج بها مكتبتي،عشرات منها بل مئات،ظلّت لسنوات طويلة تنتظر فرصة قراءة جديرة،كل كتاب نافع أو شبه مهم أقتنيه،ولع لم أتخلص منه،دائماً المستقبل يتوهج بجملة ممنوعات واقفة على درب الحياة،كل كتاب يصدر مرة،يتعذر الحصول عليه بعد سنوات،من هذا المنطلق،وربما كنت على حق يوم بدأت أقتني كل كتاب صادر قبل أن يغدو مصادر من قبل رجال الظلام،مزاجي القرائي،شعوري الحكائي،وربما رغبة الأستحواذ على كل الكتب الصادرة دفعتني أن أغرق غرفتي بالكتب،من مختلف الثقافات،أدبية وعلمية ودينية وفلسفية،كل كتاب يكمن جوهره في عنوانه،العناوين هي التي حيرتني وجذبتني ودفعتني أن أحملها إلى غرفتي.
في البدء كان الحلم واسعاً،كان الوقت غير ثميناً،كنت أمنح نفسي الوقت الكامل لأرشفة مكتبتي،وتبويب ثقافيات ووثائق الصحف والمجلات الدورية،قبل أن أجدها ترف قاتل،يسرقني وقتي ويشبعني مللاً.
مرت الأيام سراعاً،الأسابيع،السنوات،لم تسعفنِ رغبة قراءة لإيجاد دافعِ مرضٍ،لالتقاط كتاب ما من متراكمات كتب مكتبتي،كي أسكت غضبها،قبل أن ألقيها في صندوق النسيان،ظلّت تذرف دموع كلماتها وأنا أتقافز من كتاب حديث لآخر أحدث.
كثيرة هي الكتب التي تفقد حيويتها لو تم أهمالها لحظة لهفة شراءها،مهما كانت أقيامها النصيّة،ودسومة أحداثها وسخونتها،لمعان أسماء واضعيها أو مبتكريها،ولياقة مترجميها،يبقى مزاجنا قابل لدحض وإقصاء أشياء كبيرة لو مرّت عليها ريح الزمن.
في فترة أستراحة ما بعد الإجهاض،عندما أشعر بفراغ تام،بعد نزيف كامل لكل ما أخزن من معلومات وأفكار،بعضها تستجيب للحكي وتندمج وتذوب فيها،بعضها تتقدح وتتوهج لكنها تغدو بالونات فارغة تنفثأ عن هواء فاسد يذوب في الريح.
ثمت وازع يدفعني للبدء برحلة تجميع وتحفيز ذاكرتي،قبل الخوض في غمار حرب حكاية جديدة.
الحكاية حرب صامتة.
كاتب الحكاية محارب أعزل يجابه عالم مجهول غير مكتشف بأسره،يواجه تأريخاً مدوناً أومنسياً ومقصياً، قد تتشكل تواريخ ما تزال واقفة على رصيف القدر،لم تجرِ حوادثها بعد،رغم أن التواريخ البشرية أنتهت،كل شيء جديد هو تكرار لما جرى،قد تبهر،لكن هذا الإنبهار يأتي من ثوب التاريخ الجيد،فالقتل مذ قتل(قابيل هابيل)هو نفس القتل الذي محا من خارطة البشرية وبلحظة واحدة وبلمسة واحدة أجيالاً من البشر والشجر في(هيروشيما وناكازاكي)،هو نفس الحملات الهمجية لإبادة الشعوب البدائية والقبلية،القتل في العصور الحجرية كان يعني موت الغريم،الأستحواذ على ممتلكاته،أو الفوز بوليمة دسمة،القتل في عصر التكنلوجيا والنفاق السياسي،يحمل نفس المعاني،إزاحة الغريم،إمتصاص رزقه وإحضاعه لمعتقداته.
كاتب الحكاية،يجابه من العتمة عيون متفرسة مفترسة،ومخالب متهيأة للإنقضاض،وأفواه تكشر عن أنياب حديدية تمتلك وجهات نظر،معظمها لا تسر،نقّاد وحسّاد،أمخاخ تفسر الأشياء خلاف ما يريده حاكي الحكاية،ينبش بين السطور،يبحث عن كلمة فالتة من خيال رغب أن يتفسح خارج أجواء الظروف،أو مخ توهج بالنور ورغب أن يحكي،وكل حكاية يعربها الرقيب وفق سياقات سياسية أو أخلاقية أو عقائدية،قبل أن يجعلها لفافة دسمة لإزاحة بلبل من قفص الحياة،هكذا ديدن البشر عبر كل الأحقاب،نفور، كبرياء،تمرد،أنتفاضة،فناء أو بقاء،تغير أو تدمير.
في كل المرات التي أعقبت مرحلة الانتهاء من أعمالي الأدبية،لم أنل فرص راحة مثمرة،حكايات متراكمة على شوارع الخيال،تتزاحم وتتقاتل لتفر،تغتصب مساحة الرؤية،وتخنق مديات التفكير،كنت ألغي فاصل الراحة،وأنهمك بحرص وعافية ـ من جديد ـ في خوض متاهات واحدة من أعمال حكائية مدونة كرؤوس أقلام،والكثير من التفاصيل المتشابكة،والتي لطول فترة إهمالها فقدت وهج حرارتها،أو مبررات حدوثها.
بدأت أشعر بقلقٍ مدمر،فمتراكمات السطور والشخصيات والأمكنة بدت أشبه ببحيرات فقدت مادة الأوكسجين،ولم تعد أكوام الحيوانات المسجونة،تمتلك حرية اللعب والتنفس،ومع مرور الوقت،كنت أنظر بعين اليأس إلى ذاكرتي وجدتها صحراء تستنطق رمالها،تعوي فيها ذئاب الفراغ،كل تلك الأشياء الحميمة والتي زرعتها في ساعات المتعة والبهجة والمثابرة والمغامرة،راحت تذوي وتغور في أعماق الرمال،بدأ الصمت يحتويني،يأخذني في جلسات تعذيبية،لا أخرج منها إلاّ بعد سقوطي المتواصل في مستنقع النوم، ،ففي النوم ثمة تعازيم تعذيبية أقسى،أنها كوابيس الحكي،يبدأ اللسان بالهذرنات،أشياء عظيمة تقال أوان الهذيان،قد نحتاج لجهاز يلتقط هذياناتنا أوان الهذي الليلي الدائم،جهاز يعمل كلما نهذي ويتوقف بتوقف هذياناتنا،النوم يعني هروب وخذلان لا مفر منهما.
أكثر الحالات التي لاءمت طبيعتي الشرودية،مكوثي في حديقة البيت،تحديداً بعد الأصيل بقليل بعدما لا تغدو الشمس قاسية،أجلس وحتى وقت متأخر من الليل،في محاولة تأجيج مليكتي الكتابية كي توافق مزاجي في رحلة جنونية جديدة،هذا الصمت والجمود لفتا انتباه كائنتي،بعدما كانت تمتلك القناعة الراسخة أنني أخوض متاهة حكاية جديدة كما عهدتني دائماً.
***
كنت أسير حيرتي لحظة اقتحمت فضاء تأملي:
((ما الذي يرميك إلى هذا الظلام الغريب؟))
(( مخاض جديد محبط))
((أليست فاتحة ثورة جديدة؟))
((إحساسي يختلف هذه المرة))
((قلت هذا الكلام في المرة السابقة أيضاً))
((أنتِ على حق،لم يدم ذلك طويلاً،ضجت ذاكرتي بجملة حكايات،وأنهيتها دفعة واحدة))
((ألم تقل أنها بديهة شائعة لدى كتّاب الحكايات))
((البعض يستعيد بريق موهبته والبعض يخرس إلى الأبد وهناك أغلبية تكرر نفسها))
((لكنك من الصنف الذي ما أن تفتر عزائمهم،ينتفضون أكثر تحمساً ومثابرة وتألقاً))
((أنّ ما يستفزني،يختلف هذه المرة))
((ألم تقل أن الكثير من كتّاب الحكايات،يجدون في السفر حافزاً للكتابة))
((طبيعة مجتمعنا لا تسمح بهذا الدافع الحيوي لكتابة حكايات مهمة،نحن سجناء الواقع،مهما مارسنا من نشاطات،فردية أو مجتمعية،تنضوي تحت عباءة حرية الفرد،ما تطلبها الحكايات الفاعلة غير متوفرة في حياتنا الراهنة،وربما لا نصلح أبداً لنكون حكواتيين ذوات أثر))
((تحتاج إلى فترة راحة،أو وجبة قراءات دسمة لتستعيد نشاطك المعهود))
((ثمت أحساس يثير فيّ الفزع،يشعرني أن مستقبلي بدأ يتوارى خلف غيوم فوضى حياتنا))
((راجع أوراقك القديمة،كما كنت تفعل دائماً ذلك،وكنت تكتشف نفسك شحنة ثورية غاضبة))
((تلك اللعبة كانت بدافع الهروب من واقعيتنا المشئومة،كنت أبغي إحداث تغيير استراتيجي في نوعية ما أحكي،أتحمس وأتفاعل مع ثيمات تتشكل سريعاً،وكلما أغوص عميقاً أكتشف أنني أتخبط في أوحالها من جديد،واقعنا غير مقنع،أنه لا ينتمي لـ تجنيس ما،لا كوميديا ولا تراجيديا،واقعنا لا واقعي،واقع فاقع رث غث))
((أليست الروايات الواقعية مثار اهتمام الدارسين؟والزاد المطلوب من أغلب القرّاء!))
((ربما واقعنا ما زال يعج بالكثير من الطرائف والمفاجآت،ما زالت الذاكرة النقدية جائعة لها،ما زالت الذاكرة القرائية بدائية،لم تعبر مجازات الواقع المستهلك،فالعقل عندما يدمن الأشياء الروتينية من حولها،يغامر نحو الفضاءات الخارقة،بحثاً عن الألغاز الأكثر تعقيداً بغية مجاراتها وخوض مغامرة حلحلتها))
صمت.
((لم لا تكمل مشروعك القديم؟))
((تراكمت مشاريعي،لم أعد متحمساً لحكايات فقدت ثورياتها))
صمت.
***
كنت جالساً أتأمل الفضاء الأسود إلاّ من نجوم تحاول فك اشتباك الظلام،لم أجد دافعاً يحرك محرك الحكايات،لم تسعفنِ فناجين القهوة ولا المراجعات السريعة لأكداس الأوراق المتراكمة من حولي،ضجر مباغت وملل غاصب وكل فكرة لا تعدو سوى باقة هواجس ضحلة،وجدت الخروج إلى حديقة المنزل مخرجاً يرميني في الحلكة،يمكنني كما كنت أفعل دائماً قبل الشروع بالكتابة أن أقتنص الأشباح الهائمة وابتكار الشخصيات وتحميلها فوضى مزاجي.
لحظة فاجأتني(وداد)،وجدتني أجلس محاوراً السواد بـ لسان عيني.
في كلامها وجدت بريقاً ومض واختفى،مسكت يدها،ألقت برأسها على كتفي،تبادلنا بضع قبلات طيورية،نقرات بصدى،قبلات ممطوطة مصحوبة(بمطكات)،تلك كانت لعبتها ليالي المسرات..قلت:
((وداد..ماذا أحكي؟))
((لو طاوعتني مرة))
((كنتِ سندي في كل ما حكيت))
((لم لا تحكي حياتنا))
((تأملت هذا طويلاً،وجدتها ناقصة))
((مخك يحتوي على خلايا المغامرة،بوسعك أن تبتكر حياة كاذبة لنا))
((الكذب لا ينسجم مع الواقعية))
((حسناً..لم لا تحكي حكاية صاحبك التعيس؟))
((صاحبي التعيس!يا لها من فكرة ثورية!))
صمت.
في تلك اللحظة شعَّ بريق في دهاليز الذاكرة،توسع ليحرق أدغال كسلي،مسكتها من كتفيها..قلت:
((أنها الحكاية الحيوية المفقودة من حكايتنا))
((إيّاك أن تحكيها بصراحتك المطلقة))
((لن أعدك بهذا،عندما أكتب أخرج من جلدي،للحكاية تيّار جارف،هو الذي يقود مبتكرها نحو ما تريد الحكاية وترغب!))
((حسناً..يمكنك أن تحكيها بـ أسماء مستعارة،تجنباً للمتاعب،يومنا عصيب وحياتنا غير محتملة))
((الحكاية جملة متاعب))
صمت.
لم أعد أحتمل نفسي،بدأت الأشياء تتراكم وتلح،تناولت عكازي وقمت،دخلت غرفتي،غربلت أوراقي بشيء من العجالة،عثرت على دفترٍ صغير،دوّنت فيها موتيفات حكاية حقيقية،كل ما كنت أسمع،أو يرتسم في خيالي،عامل مساعد ومحفز،كجزء من متطلبات المهنة،بعضه سردته لي(وداد)أيّام خطوبتنا،والبعض فيما بعد في جلساتنا الليلية الطويلة،قسم آخر،مقتطعات من أقوال السادة كتاب الحكايات،مشاعر ومذكرات ناقصة،هواجس عابرة أو حكايات متناقلة عبر ألسنة الناس.
نفضته من الغبار ورحت أقلب بـ عجالة الأوراق،ملتهما الكلمات الحائلة والمتعرجة،كأنها أشياء عجيبة، وربما طعام دسم وضع أمامي في لحظة جوع.



















قفل الحكاية

كنت بـ حاجة إلى وقتِ حافل بالمثابرة،غربلت فيه تراكمات أوراقي،وقرأت الدفتر الصغير،حائل الأوراق، الضاج بتفاصيل متشابكة،مدونة بعجلٍ،بال عليها الزمن وراكم عليها صفرة حائلة يبّست الأوراق،يومها كانت(وداد)تتحدث عن حياتها لي وأنا أحكي حياتي لها،في جلسات التعارف والتآلف قبل ليلة زفافنا،جمل مبتورة ومقاطع تمتد إلى نصف صفحة أو أكثر أحياناً،أسماء ما تزال متواجدة،تختلف عمّا دوّنت بناء على رغبة(وداد)قبل شروعي في تدوينها.
رغم إلحاحات الرغبة وسطوة الموهبة،وجدت الوصول أو تقليد الكتّاب أمر شبه متعذر،لم أجد رغبة أو دافعاً أو باباً يدخلني إلى مائدة الفجر كي أكتب،بناء على فلسفة شائعة،تفيد أن كتابة الفجر ساحرة،ليس ذلك فحسب،فالنشاط العاطفي عند الفجر يمنح المرء لذة فائقة،كون الجسد يفقد تعبه ويتهيأ لمعركة الحياة المتواصلة،شخصياً وجدت سحر الليل ينبوعاً متدفقاً،يردني بـ حبر التدوين من غير عراقيل.
ما أروم أن أحكيه.
لم يكن نصاً قابلاً للتشظي،حكاية محض،ما أن أجلس أمام(اللابتوب)،يتحرر ذهني من كسله وتتدفق فيضانات مشاعري،تزيح وتقتحم،حتى العتبة التي تقفل بابها،أو تترك القارئ في مهمة البحث عن قفلِ يراه مناسباً لقبر جثة ما عادت تثير الاهتمام أو الشهية،بعد موتها ودفنها في مقبرة الأوراق.
هي حكاية واقعية.
شخوصها ما زالوا أحياء وإن تحولوا من أعالي الحياة إلى شعبيتها،عاشوا في زمن متلون،تحت فوضى حياة لم تخضع لسلطة العقل،أو قانون يسيّر ويحرك الجميع على سكة الحقيقة،زمن أغبر،سقط لجام حصانه بيد عابث،غيّر مسارات الحقيقة،جعل عربة الزمن تمشي في منحدرات ومتاهات،في براكين وعواصف،لتسقط في منحدر الفوضى،خارج العالم المتمدن.
بعد شهرين من تجميع المعلومات وجلسات شبه تحقيقية مع زوجتي،بالطبع لم تخلو من مماحكات العشق ودوافع الرغبة،نتراشق بالقبل ونندمج في معركة حياتنا السريّة،تارة ترغبني وطوراً أرغبها.
تفاعلت فيّ الرغبة وأجبرتني أن أعيد تلك المحاولات الفاشلة لأقلمة مزاجي مع تغير وقت الكتابة،وجدت نفسي تتفاعل وتذوب مع الرغبة الجديدة،رغم سلطة النوم الصباحي وقيمته الخارقة لمنح الجسد راحة مثالية،وبعد صباحات متعثرة،حفلت بأكواب متلاحقة من القهوة والشاي،بدأت إستراتيجية العمل تميل لصالح مزاجي بـ إرتقاءٍ متسارع طموح ومحفز.
راجعت أوراقي ودوّنت الموتيفات الأوّلية في أوراق مستقلة،في رأس كل ورقة وضعت شخصية من شخصيات حكايتي،قبل أن أجمع أشلاء حياتها الموزعة في ذاكرة(وداد)وذاكرة(صاحبي التعيس)،مضافاً إليها(ذاكرتي)،وللحق أقول مبتكراتي،كونها احتفظت بحلقة قد تكون مفقودة لو أهملتها،أو إذا ما لجأت إلى الخيال لوضع بعض اللبنات في الفراغات المفروغ منها،مع إمكانية دس فقرات تدليسية كون الكذب ملح الحكايات،والعمود الفقري لـ عمرها.
الحكاية عالم افتراضي،تتوازن فيها كفتي الواقع والخيال،الصدق والكذب،من غير تعادل النقائض تتشوه جثة الحكاية،تخرج مذمومة مخذولة مندحرة من زمنها وواقعيتها.
طالما الكذب يسكننا،لابد أن ننتعش لكل كذبة تواجهنا.
في جلسات طويلة لم تخلو من عناق ومضاجعات معظمها كانت سريعة،جمعت الكثير من المعلومات عن كل شخصية من لسان(وداد)،بطبيعة الحال كانت وما زالت شخصية محورية وربما النول،عاشت فيها وأنتجتها،رغم توسلاتها ووعودي القاطعة،لم أفلح من اختيار أسماً لائقاً كي أواريها خلفه،حاولت وهي تحكي لي أن تجتاز الكثير من الـ خطوط الحمراء،أن تبتلع الكثير من المواقف،كانت تتعثر أحياناً في كلامها،تحاول أن توهمني أنها تراجع ذاكرتها لاستعادة التفاصيل،لكنني كنت أتدخل سريعاً بقرص أنفها أو تكوير شفتيها بإبهامي وسبابتي وكنت أقول:
((تموت الحكاية لو جانبنا الصدق فيها،وجعلناها مرتعاً للكذب!))
((تموت أيضاً لو تركنا الكذب وجعلناها مزرعة صدق!))كانت تجيبني بهزة رأس شهوانية.
تواصل من جديد حكايتها والجواب الصريح لكل سؤال أطرحه.
تحت كل أسم تكدست معلومات،ولم تكن فترات الاختزال مؤاتية،وجدت ذلك كهاجس يدفعني نحو التدخل بمصائرها،وتحميلهم بمواقف مفتعلة،مما تبطل حرارتها وتزيد من سعة ابتذالها.
انتشلت نفسي قبل أن تغرق في بحر هائج،طرحت عذاب التوجيز جانباً،وتركت تعليق التفاصيل الدقيقة على العمود الفقري للحكاية،إذا كان المزعوم ـ جهينة ـ يمتلك الخبر اليقين،كما يقول المثل المسافر من جيلٍ لجيل،قررت أن(صاحبي التعيس)كما أسمته(وداد)يمتلك أسرار حكاية حكتها لي أيّام خطوبتنا،وظلّت نائمة في دفتر صغير بين أكداس ورقية تسجن ركام أحلام دغدغتني ذات أوقات(دونكيشوتية).
كاد ينبوع خيالي أن يجف،لولا تذكيري بها،وخوفي المتفاقم من قدراتي لابتكار حكاية أخرى أواصل بها سلسلة حكايات،طمحت بكتابتها بناء لمتطلبات الزمن،وواقع فاقع يسجننا،كون حاكي الحكايات مؤرخ عصره ومصره،ومن باب رغوة شهوة ذاتية،كانت تسكنني رغبة قديمة ما تزال متواصلة،رغبة إشباع فضولي،أن أكون مدوّن حكايات،أقولها بلا تردد،مدوّن حكايات،إذا ما تعذر عليّ ـ وهذا عام وشامل وليس خاص ـ أن أكون ذات يوم مبتكرها،بعدما فقدت كل الفرص للخروج من الظلام،من خف العالم المتهالك كي أحصل على بطاقة إنسانيتي.



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليالي المنسية/ القسم اثاني
- أولاد اليهودية(رواية)10
- أولاد اليهودية(رواية)9
- أولاد اليهودية(رواية)8
- أولاد اليهودية(رواية)7
- أولاد اليهودية(رواية)6
- أولاد اليهودية(رواية)4
- أولاد اليهودية(رواية)3
- أولاد اليهودية(رواية)2 /حازت على المرتبة الثانية/في مؤسسة ال ...
- أولاد اليهودية(رواية)1
- قضية فرحان/قصة قصيرة/
- المسكين مخلوف /قصة قصيرة/
- مزبلة الرؤوس البشرية/قصة قصيرة/
- حدث في ليلة مأزومة/قصة قصيرة/
- في أزمنة ليست سحيقة//قصة قصيرة//
- ليسوا رجالاً..(قصة قصيرة)
- بعد رحيله..جائزة محي الدين زنكنة للمسرح
- مسرحية(ماما..عمو..بابا..ميت)القسم الثاني..الأخير
- ماما..عمو..بابا..ميّت(مسرحية)القسم الأوّل
- حديث مقاهينا(مسرحية)المشهد الثالث/الأخير


المزيد.....




- الان Hd متابعة مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة عبر ...
- تابع حلقات Sponge BoB تردد قناة سبونج الجديد 2024 لمتابعة أق ...
- من هو الشاعر والأمير السعودي بدر بن عبد المحسن؟
- وفاة الشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن
- بتهمة -الغناء-.. الحوثيون يعتقلون 3 فنانين شعبيين
- دراسة تحدد طبيعة استجابة أدمغة كبار السن للموسيقى
- “أنا سبونج بوب سفنجة وده لوني“ تردد قناة سبونج بوب للاستمتاع ...
- علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي ...
- استقبل الآن بجودة عالية HD.. تردد روتانا سينما 2024 على الأق ...
- -انطفى ضي الحروف-.. رحل بدر بن عبدالمحسن


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - ليالي المنسية/رواية/القسم الأوّل/(منعت في الأردن من قبل الرقابة)