أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - أولاد اليهودية(رواية)10















المزيد.....

أولاد اليهودية(رواية)10


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 3363 - 2011 / 5 / 12 - 00:33
المحور: الادب والفن
    


[القسم الثاني]
ذات ليلة شعر النقيب(مالح)،بتنمل غير عادي يغزو جسده،بدأ يتنفس من أصابع يديه وقدميه،راح يسلك شاقاً طريقه نحو بقايا جسده،كان ممدداً على سريره،فشل أن ينام،رغم كفاحه العسكري الصارم،أخفق في إذعان طائر النوم كما كان يذعن فرائسه البشرية،ظلّ طائر النوم رافضاً أحابيله للسكن في عش عينيه،وجد التحديق في سواد الليل الحالك لعبة قديمة مجرّبة،فالعين تتخثر من خثرة السواد القاتم،تنطبق الأجفان بلا عقاقير،أنّه مفهوم علاجي قديم مألوف،وكل ما حوله سواد مطبق،منخور برشقات وامضة تنبثق من أمكنة متباعدة،تتناثر متوهجة قبل أن تضمحل،عرف..هناك(غارة جوية)قادمة من(شرق)سريره،هكذا قاس الاتجاهات الأربعة،رأسه شمال،قدماه جنوب،ذراعه اليمين غرب،ذراعه الشمال شرق.
ترك منامه،ترك موضعه،جذبه وميض يتلاعب وراء الجبال الشبحية المتفاوتة،عرف..المعارك متواصلة،معارك بدأت بمناوشات صبيانية،خابت الرهانات البشرية الوسيطة لتدارك استفحال القضية، فشلت مساعيها الحميدة،في تجميع آراء الطرفين المتلاسنين،طغت توقعات أوّلية لعقلاء المنطقة،روّضت المخاوف الإقليمية المتنامية:
ـ أطمئنوا..نباح كلاب ستتعب سريعاً..!!
بدأت القضية بمناوشات بسيطة حدودية،كانت تشبه إلى حدٍ ما قرقعات معدة سماء خاوية،كما كانت تحصل في أزمنة القحط،ستزول المخاوف حين تشرق شمس الحقيقة،سيجلس كل طرف إلى نفسه،يراجع قراراته السريعة،سيكتشف علاقة جدلية،لا يعدو الأمر سوى حشد نباحات كلاب بوجه حشد نباحات كلاب مقابلة،عيون الناس تنتظر،آذانهم طالت تبحث عن آخر تطورات التلاسن..
قالت أمم:
ـ ستتعب ألسنتهم من القذف والشتيمة،ستخمد ضربات قلوبهم،ستتخدر أبدانهم من هول الحماسة الشرقية الفارغة،ستصير حكايات رملية في كتب تاريخهم الورقي..!!
لكن الأيام أتت بما هو مجهول،عالم الحروب عالم غامض،غير واضح النيّات،طالما هناك أمزجة (شوفينية)تجهز وقودها،تنفخ في مواقد متحجرة،دائماً تكتشف بقايا نيران نائمة،تؤجج ألسنتها لغاية ما.
يعرف العالم..الحرب عجلة نارية تنحدر من أعالي التمرد،والخروج من بيت الطاعة،تتدحرج عجلة الحرائق،تسحق،تحرق،تردع كل الجهود العقلانية المصرّة على إخماد أوّارها.
نمت نار الحرب نمو سرطان يستوطن جسد غير محصن بفيتامينات المناعة،لم تنفعها العقاقير المضادة، بدأت التصادمات الحدودية تتسع،والناس تعرف نفسها أوان المحنة وقود وقرابين لا تنتهي.
عرف النقيب(مالح)من الوميض المتصاعد،المشتبك،أنّ(الهجوم الموسمي الكبير)المعلن عنه،عبر إذاعات لا تتعامل بمنهج(سر المهنة)قد بدأ،تيقن أنّ الحسابات الدفاعية المقابلة لأسياده،ستصد حتماً كل الحسابات الهجومية لأعدائه،تلك هي فلسفة الحروب الحديثة،كلّما يتقدم السلاح الهجومي خطوة،تلاحقه سلاح الدفاع خطوة مماثلة،تذكر دروسه العسكرية،رغم شغله منصب إدارة بلدة في ظل نظام قائم على خطة طوارئ أزلية،لم يشعر بتردد،لم يجد في نفسه رغبة إنهاض أحد جنوده،أو التقدم من حرّاسه الليلين القريبين من ملجأه،وقف غير مرتعد الفرائص،لا يشعر برجفة جسد جراء خوف يخيم على المنطقة،نبض قلبه حافظ على انضباطه،سحب رشقة نسيم جبلي،شعرت أغواره ببرد صحّي يتغلغل عميقاً،سالكاً تضاعيف عظام جسده،أغمض عينيه،راح يكرر شهيقه بمتعة،رغب تنظيف جسده من وسوسات الليل،جفوة النوم،فتح عينيه،وجد في السماء نجوم تأتي،أخرى ترحل،راقب مساراتها المتعرجة،عرف..فضاء البلاد ملغوم بأقمار صناعية تجسسيّة،رقّ قلبه على بلده،ساوره خوف مباغت،عطف على حكومته من نجوم تتلاعب في كبد السماء،تسرح وتمرح مستعمرة الفضاء من غير رادع،توقع..الأعداء يحصون قدرات البلد العسكرية،متانة المعسكرات،قوّة البنية التحية،أماكن الأهداف الحيوية،لابد أنهم سيعطونها لأعداء خادمين مقابل مال،هز رأسه،تذكر حاجته لنوم كثير.
كان الفجر بعيد جداً،لم يصمد في وقفته كثيراً،عاد وطرح جسده على منامه،شبّك يديه تحت رقبته،هزّات خفيفة تتذبذب،تبعث موسيقى مقلقة،عرف..الأرض ترتج من وقع القنابل المتناطحة،شعر..جسده يواكب الارتجاجات(القنابلية)بارتجاجات(قلبية)،انسجام متناغم،رغبة ضارية للتلاحم،يرغب الجسد الرقص أحياناً،من غير تمهيد،مجرد رقصة غير قانونية،هزّة بدن،الكلاب تدخل الماء،تتمرغل بالتراب،تقف،تنتر أجسادها،تنفض ما يتعلق بها،رذاذ ماء،ذرات تراب،يشعر المرء أحياناً بهكذا رغبة تستوطنه،رغبة الرقص المباغت،تعبيراً عن فرحة مباغتة،مجرد شعور محض،أينما يكون،في المنام،الشارع،أحياناً يرغب ذلك،وسط جمع من الناس.
شيء من الخوف بدأ ينمو،لا خوف يعرف غير خوف قديم،من أنهضه..!!،لم جاء..!!،وقته ليس وقت خوف من أشياءه الخاصة،ركّز ذاكرته على القشعريرات المتنامية،حطت ذاكرته على خوفه القديم،يوم فحصه طبيب مشفى(جلبلاء)،عرف تفاصيله فيما بعد،أستعاد تلك اللحظة..!!
***
كان ممدداً على سرير خاص في ردهة خاصة،كان الوقت ليلاً والبلدة تخضع لـ(حظر تجوال)،نشر شرطته حول بناية المشفى،حتى أقرب شرطته إليه،لم يعرف لم دخل سيده الضابط مع الطبيب ردهة مغلقة تماماً،أمضيا ساعتان من التذمر،كانت صفعات البرد القارس تشوي وجوههم،أجرى الطبيب فحصاً شاملاً لحالته العرضية،صمت،خاله يراوغ لكتم النتائج،أنتظر دقائق ثقيلة،أراد كلمات تطمين تريح أعصابه،بضع كلمات نافعة ترفع زخم شراسته،كون البلدة تمر بحالات تغيير في المعايير السياسية، والناس تتلاعب بهم وسوسات التمرد.
أجبره قول الحقيقة،بلع الطبيب ريقه..صارحه:
ـ في دمك شيء غريب.
ـ ماذا تعني بغريب.
ـ وباء غريب غير معروف.
ـ ما مدى خطورته.
ـ حالة نادرة حضرة النقيب.
ـ قل الحقيقة.
ـ وباء وراثي مستشري في دمك،تحتاج إلى فحوصات دقيقة.
ـ ستتولى أنت المهمة بكتمان تام.
ظلّ يراجع طبيب البلدة،في فترات متفاوتة،تحت أعذار يختلقها،في محاولة التخلص من الكوابيس المتوالدة في ذهنه،لا يريد الموت باكراً،ما زال في أوّل سلّمه(السياسي)وأمامه فجر ملغوم بأطماع بلا حدود وأحلام قيد التحقيق.
في معالجة لاحقة،أقنعه الطبيب:
ـ ضرورة أن تتبرع الدم بصورة دورية.
تناقشا حول تلك القضيّة بصراحة،أكد له الطبيب:
ـ سأقوم بفحص تلك القنينة من دمك،لمتابعة النشاط الوبائي المتفاقم،ومدى إمكانية الالتفاف عليه،أو وقف انتشاره السريع في ربوع جسدك.
أكد أيضاً:
ـ سأقوم برمي الدم في النهر.
صمت قليلاً..تراجع عن كلامه:
ـ سأحرقه،وباؤك قابل الانتشار.
النهر مصدر أساسي للزراعة والشرب،والماء حاضنة فاعلة لنمو خلايا فيروسات وبائية،تذكر هذا الكلام وقرر اللجوء إلى الحرق من باب سلامة الجميع.
واصل دورة علاجه،كان يذهب كلما يشعر بضغط الدم،يتبرع قنينة ويحقنه الطبيب بمضادات حيوية تنعش جسده،يشعر..راحة استثنائية تغمره،رغبة تحليق تداهمه،يعرف أنّه كائن بشري لا يملك أجنحة،يعوض رغبة التحليق برغبة أخرى تدفعه منتشياً يقود مركبته على الشارع الرئيس وبين الأزقة، ينتشر في جسده مصل نشوة عظمى،يزول فتوره وتتصاعد همته،ليعود متحمساً يمارس نشاطه (البوليسي)بعزيمة مضاعفة..!!
***
مضت سنة وشهر على آخر تبرع قنينة من دمه،أنسته ظروفه الحربية أعتناءاته المتواصلة بنفسه،لم يعد ذلك المتأنق،الرجل الذي إذا مشى في البلدة،يخرجن النسوة من أجل الفوز بمشهد وسيم تفوح منه رائحة مثيرة،عطور تنفخ أجسادهن بنار الشهوة،يتأففن،يتهامسن سراً فيما بينهن،القول الأكثر انتشاراً على لسانهن:
ـ ليت رجالنا مثله..!!
لم يكن في باله شيئاً من أيّامه السالفة،أنسجم مع حالته الجديدة في معسكره،كونه أعلم مقدماً أن واجبه لا يعدو سوى معايشة ميدانية محددة،سيشمل كل الدرجات العليا في البلاد.
الخوف القديم باغته بكامل تجلياته،في وقت غير مناسب،فهو لا يرغب ترك مهمته،صب تركيزه على توقعاته الشخصية،حاول إقناع نفسه،أن قضيته مجرد وهم شيطاني يماحكه،بسبب عدم تمكنه من النوم،ما كان يعانيه،شخّصه بنفسه،مجرد معانات لا تعدو غير متاعب قلبية،ناجمة جرّاء حرصه الفائض على سلامة السلطة،أكثر مما يبدي من حرص مناسب على راحة جسده،عدم أعطاء جسده ما يستحق من راحة،كي يبقى عقله سليماً،ودورته الدموية تواصل نشاطها بشبابة متقدة،داعبه ظن مباغت،أنّ الطبيب أخفى عليه ما كان يستوطن دمه،لم يرغب لومه،وجده على حق،فالناس تخاف من رجال السلطة،دافع غريزي ينهض عند ناس بلدان الدول المتأخرة،ليس بوسع أي إنسان أخفاء خافية عليهم،الناس تتصور،رجال السلطة يمتلكون مراصد ذهنية خارقة،لهم مجسات ذهنية تكشف المستورات الذهنية،القلبية،اللسانية،العينية،أمامهم تنهار سدود الأسرار.
على ما يبدو،دمه ضج،زاد عن حدود وعاء جسده،يقين شنّجه،فكر من أجل إيجاد مخرج من العارض الآني،وجد الليل حاجزاً معيقاً للتنقل،لا يريد الموت،رغبته للحياة عنيدة،رغبة الموت المبكر اختبار صارم ،يتوجب اجتيازه،يمكن دفنه نهائياً بعيداً عن ذاكرته،وجد الموت حالة ليست عرضية عبر أزمنته البوليسية،رأى الموت بأشكال متعددة،شارك في مهرجاناتها السياسية،الطارئة أحياناً،موت عن طريق الخطأ،موت يباغت من غير مقدمات.
تذكر تلك السجينة التي لفظت روحها جرّاء فعل غير عفوي طبعاً،يوم أمر بتجريدها من ثيابها وإلقاءها عارية في زنزانة الرجال.
سجين آخر لفظ روحه بمجرد رأى رأس مقطوع أمامه،لم يحتمل رؤية رأس مقطوع يرفض(إغماض العينين).
هناك نوع آخر من الموت،موت غير رحيم،رؤوس أتته،حدّق بكامل جرأته في عيون متحجرة،قد تحتفظ تلك العيون بملامح الجزّار الذي قام بفصلها،بدت الفكرة جديرة بالمناقشة،العلم ما زال يتخبط في بواكيره منابته،بخصوص كشف الأسرار العينية،العين أهم عدسة كونية قانصة للأشياء من غير رتوش،بلا تشويه،الرجل الذي لفظ روحه كان يعمل قصّاباً،ضبط متلبساً ينحر حمير سائب،يبيع لحومها إلى الناس بأثمان زهيدة،تمكن قطع رأس جملة حمير،لكنه لم يتمكن رؤية رأس إنسان مقطوع،مفارقة ساخرة من مفارقات الحياة.
باغتته فكرة ممتازة،أعاد الموضوع في ذهنه،حاول إعادة ملامحه،شيء وامض برق،تأكد بما لا شك فيه،ثمة خيط واضح يربط بين القضيتين،بين الذي لفظ روحه داخل الزنزانة،وبين الرأس المقطوع مفتوح العينين..تمتم:
ـ لم غابت عن ذهني هذه الملاحظات المهمة لحظتها.
هزّ رأسه،قد يكون القصّاب هو الفاعل،لفظ روحه لحظة رأى الرأس المقطوع،يقين رسخ،أنّ صاحب الرأس المقطوع،كان شاهد عيان على قيام القصّاب بذبح حمار في يوم(عرفات)،لم يحتمل القصّاب الفضيحة،قطع رأس الشاهد لدفن سره،لم يجد تأويلاً أقرب لقلب الحقيقة من هذا التأويل،دليل مؤكد توالد في لحظة صفاءز
رغم عدم تمكنه من النوم،وجد نفسه يعيش لحظة تتقد فيها ذاكرته،يمتلك قمّة ذكائه،الرأس المقطوع وجدوه مغمض العينين،بعدما جيء به مفتوح العينين،حصل التزامن داخل الزنزانة،سجن القصّاب حصل قبل إيجاد الرأس المقطوع بيومين،أغمض الرأس عينيه ما أن سقط أمام القصّاب،لفظ القصّاب روحه ما أن سقط الرأس أمامه،لم ينتبه أحد لذلك اللغز المحير.
الآن بعد مرور زمن ثقيل اتضحت الأمور أمامه..تمتم:
ـ بالتأكيد قام بخلط لحم الشاهد بلحم الحمير وباعه للناس.
هزّ رأسه،عرف..تلك الحكاية صارت من ماضٍ لن يعود.
***
عاد لنفسه،بدأ دارسة وضعه المتفاقم،موت يأتيه في مكان لا شاهد يشهد موته،لا مسعف يستصرخه، شعر بمخالب ناعمة تلامس مساماته،رائحة حريفة تنبعث منه،دبابير تلسع،عطر فاسد،ريح نتنة يخنق فضاء الملجأ،رفرفت الغشاوة،مست رموشه المستفزة،غشاوة ودودة،تتعامل برفق،بحنو،هدهدت عينيه،شعر بتنمل حاد ينتشر كالبرق الخاطف عبر أوردة جسده،شيء عنيد صفعه،أجبره التخاذل، استسلم،تهاوى مغمى عليه..!!
***
كان ذلك،في العام الثاني للحرب،حنّت الناس لأيّامها المنصرمة،استذكرت الكلاب التي قهرت الشرطة،واحتلت البلدة لنصف نهار كامل،قبل التجاء الحكومة لطريقة غادرة،قامت بخداع الحيوانات،كما خدعت معارضيها يوم لم شمل الأحزاب الوطنية،لم تجد الناس فرقاً بين الحيلتين،استدعت السلطة أطراف(الثورة البيضاء)أو ما سميّ يومها(الجبهة الوطنية)دعتهم إلى اجتماع طارئ لتوزيع هبر المناصب.
كانت القاعة مكهربة بالبنادق،نحروا الجميع في كتمان،فلت منهم من تخلف لحسن حظه.
كذلك ما رسوا الخدعة مع الكلاب،سمموها برمي جبال اللحم،لإعادة السيادة البشرية للبلدة.
كثيرون تحسروا لعودة السلطة إلى البلدة بعد دحر الكلاب،اعتبروها عودة غير ميمونة،كون ذلك الـ(نصف نهار)،بقى،أطهر،أهدأ،أنظف،وقت عاشته البلدة.
في ذلك الـ(نصف نهار)لم يمت أحد،لم تعض الكلاب أحد،لم تلتهم الدجاجات العاقة،التي أبت ترك مزابل الأزقة،كونها غير مشمولة بقانون(حظر التجوال)،عكس النهارات التي حفلت بمهرجانات الموت،بحفلات التعذيب العلني،بسرقة الدجاجات علناً،كانوا يرون رجال الشرطة يجوبون الأزقة بحثاً عن دجاجات سائبة،يصطادونها ويمضون إلى أقرب فرن صمون لوشيها والتهامها.
في ذلك الـ(نصف نهار)توحدت أفكار الناس،انتظمت ضربات قلوبهم،راحت العيون تتصافح متسامحة،تراقب كلاب غير طبيعية،لديها أخلاق فوق العادة،تمشي بنظام حيواني غاية في الانضباط،واقفة على طول الشارع الرئيس،كأنها كراديس عسكرية،متهيئة لاستقبال موكب مهم لـسيادة(دولة الرئيس).
مرروا همسات بدأت تورق زمن الحرب:
ـ الكلاب أرحم منهم..!!
***
الناس بدأت تسترد سيرة أيام العذاب الجماعي،تفاصيل الفوضى،قانعة قناعة تامة،أنّ الكلاب الحيوانية ممكن ترويضها،لا تحتاج إلى صرف جهود،لا تحتاج إلى خسائر تذكر،عظمة محفورة بأسنان فقير،كسرة خبز يابس،أشياء مهملة،لا يحتاجها المرء،غير مكلفة طبعاً،تكفي جعل أي كلب غير مهذب،تربى خارج بيت الطاعة،أن يحرسك إلى الأبد،صفير لساني يفي بالغرض أحياناً،يقنع أشرس كلب على وديّة العلاقة بينكما،دعوة دنيوية لرفقة أبدية.
الكلب يعلن سلامه الدائم،عبر هش ذنبه،يرقص جسده طرباً،مرناً يتزئبق الجسد الأسطواني،ذنبه مروحة،يدير مؤخرته إليك..كأن لسانه يصرخ:
ـ أرجوك سيدي البشري أضربني(جلاّق).
الكلب يجهر رغبته علناً،في قاموسهم الكلبي،يعني توقيع(اتفاقية أمنية)طويلة الأمد بين حيوان وفي، وإنسان شيمته الغدر،نم قرير العين يا من ضربت ببوز حذاءك الجلدي(جلاّق)مؤخرة كلب جائع،أو بلا مأوى،حتماً سيحرسك لا يسرقك،عكس كثير من بشر اليوم،توقع معهم اتفاقيات عمل،تشاركهم بمالك في صفقات تجارية،ستغدر،ستسلب،إن كنت غافلاً عنهم،أو بادياً لهم من الطيبة والعفوية أكثر مما يستحقون ،فالعلامات الفارقة لا تنماز بين الكلاب الحيوانية والكلاب البشرية..!!
***
بعد رحيل أو إبادة الكلاب في تلك الواقعة المشهودة،وجدت الناس كلاب بشرية دائمة الغضب،تواصل بعيون حارقة،بألسن سالقة،النهش حتى العظام،هتكت أعراض،قتلت ناس،سلبت أموال،شتّت عائلات، ساقت أبرياء قرابين لحاكم لا ينام،أفواج شباب توزعت ما بين القتل،العوق،الأسر،تخثر حزن ثقيل،كست الوجوه الشيخوخة،استحال إلى لون فرح غامض،ضحك كالبكاء..!!
***
شاع الفرح يوم تناقلت ألسن نبأ كبير،أخبار البلدة نيران لا يمكن حجبها،هرعت أفواج رجال لتتأكد من صحة خبر شاع،النساء وقفن يفسرن الخبر حسب توقعات تنسجم ورغباتهن،عادت الأفواج الاستكشافية مسرعة،بدأت تبيع أو تذيع الخبر(ببلاش)إلى أفراد البيت،من ذهب وعاد..راح يقسم:
ـ رأيناه بوضوح،متذمراً يلملم أغراضه الشخصية،استعدادا للرحيل إلى جهنم وبئس المصير..!!
تصاعدت(زغاريد)نساء من بعض البيوت،البعض هيأ نذره للإيفاء به،القسم الذي أبرموه سراً مع أنفسهم،توحد بين الجميع،فقط رهاناتهم هي التي اختلفت،كل واحد نظر إلى رغبته بما يملك،حسب طول يديه،هدف رئيس طال عليهم تحقيقه،آن أن يفي كل من نذر نذره:
ـ حضرة النقيب(مالح)سيترك البلدة.
كلام قاله كل لسان،بعدما شاع قرار الحكومة:
ـ الواجب الوطني يتطلب مشاركة فعلية،وميدانية في الحرب،كل عضو بارز في الحزب ودوائر الدولة.
قرار لا يجوز تنويمه في درج مكتب،أو إلقائه في سلة مهملات،كونه صادر من مجلس عالي المقام،ليس من ثغرة للانسلال منه.
النقيب(مالح)أستقبل القرار بشيء من التحفظ،ليس بوسعه إبداء ردة فعل،أي تذمر يقود المرء إلى حتفه،تذمره الذي رأوه،أو هكذا فسروا تحركاته من خلال نافذته مكسورة الزجاج، لم يكن خوفاً من ثعبان الحرب،بل نجم جرّاء الفرح العارم الذي شمل كل بيت بالتساوي،شمس أشرقت بعد شتاء عاطل،عمّت أبناء البلدة بدفء لذيذ،حاول أن يقنع نفسه،المهمة التي جاءته،ليست طويلة الأمد،أيّام الفقراء ثقيلة،أيّام السعداء سريعة،تركض كالغزال في أرض معشوشبة،سيرجع،سيقتص من مشيعيه بالفرح،سيقايض فرحهم بفرح شخصي،مثلما أضمر في نفسه الشر للملاّ(صالح)،يوم شعر باستخذاء أمامه،عاد مرفوع الرأس،حقق انتصارا ساحقاً عليه،جعل البلدة كلّها تستنكره،أستقر موقفه النهائي على تلك الفكرة،قبل أن يطل على الناس،وقف أمام البناية،رمقته العيون يسحب شهيقاً غير عادياً،زفر بصوت بوقي ما تكدس في رئتيه من هواء فاسد،شاهدوا حرائق جوفية مهزومة تتبعثر في المسافة الفاصلة بينهم وبينه،رأوه يترجل من مكانه،يهبط درجات السلّم الحجري بتعثر واضح،صعد مركبة،مضى غير مأسوفاً عليه إلى آتون الحرب.
***



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أولاد اليهودية(رواية)9
- أولاد اليهودية(رواية)8
- أولاد اليهودية(رواية)7
- أولاد اليهودية(رواية)6
- أولاد اليهودية(رواية)4
- أولاد اليهودية(رواية)3
- أولاد اليهودية(رواية)2 /حازت على المرتبة الثانية/في مؤسسة ال ...
- أولاد اليهودية(رواية)1
- قضية فرحان/قصة قصيرة/
- المسكين مخلوف /قصة قصيرة/
- مزبلة الرؤوس البشرية/قصة قصيرة/
- حدث في ليلة مأزومة/قصة قصيرة/
- في أزمنة ليست سحيقة//قصة قصيرة//
- ليسوا رجالاً..(قصة قصيرة)
- بعد رحيله..جائزة محي الدين زنكنة للمسرح
- مسرحية(ماما..عمو..بابا..ميت)القسم الثاني..الأخير
- ماما..عمو..بابا..ميّت(مسرحية)القسم الأوّل
- حديث مقاهينا(مسرحية)المشهد الثالث/الأخير
- حديث مقاهينا(مسرحية)المشهد الثاني
- حديث مقاهينا(مسرحية)المشهد الأوّل


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - أولاد اليهودية(رواية)10