أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني - المادة والوعي















المزيد.....



المادة والوعي


اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني

الحوار المتمدن-العدد: 4555 - 2014 / 8 / 26 - 21:40
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الوعي هو خاصة المادة رفيعة التطور
تعتبر قضية نشوء الوعي وجوهره احدى اصعب قضايا العلم، فكيف، وفي أية درجة من درجات تطور المادة نشأ الوعي؟ وكيف تنشأ الاحساسات والادراك والتصور والتفكير عند الانسان؟ وكيف يتم الانتقال من الاحساسات والادراكات الى التفكير؟
هذه الأسئلة، ظلت مدة طويلة مجهولة من العلم، مما افسح المجال امام تسرب نظريات خاطئة من حيث الأساس تعتبر الوعي خاصة أو نتيجة لنشاط شيء غير مادي (الروح). وهذه الروح، في زعمها، غير مرتبطة بالمادة وبجسم الانسان، ويمكنها أن تعيش حياتها المتنقلة من دونه. وفي الوقت الذي يتعرض فيه الجسم المادي عاجلاً ام اجلاً للموت، فان (الروح) اللامادية تبقى هي ووعيها، في زعمهم، حية خالدة. وقد وجدت هذه النظريات حتى عند اناس المجتمع البدائي الذين كانوا يفسرون الأحلام أو يعللون موت الانسان بأن (الروح) تهجر الجسم مؤقتاً أو إلى الأبد. والفلسفة المثالية لم تبق على هذه التصورات المتفزلكة فحسب، بل وأمدتها، على العكس، بالمبررات النظرية. كما توطدت تلك النظرات بمختلف ألوان هذه الفلسفة. كان كل لون من ألوان الفلسفة المثالية يذهب، الى هذا الحد أو ذاك، إلى اعتبار الوعي (الروح) كائناً خاصاً من كائنات ما وراء الطبيعة، ليس مستقلاً عن المادة وحسب، بل وهو خالق للمادة ايضاً.
هذه القضية، لم يكن حلها سهلاً حتى بالنسبة الى الفلسفة المادية. فإلى جانب التفسير الصحيح لجوهر الوعي، باعتباره خاصة معينة من خواص المادة، كانت هنالك أخطاء هامة. هكذا ذهب بعض الفلاسفة الماديين السابقين لماركس وانجلز، والذين ظلوا في حيرة من أمر حل قضية نشوء الوعي، ذهبوا الى أن الوعي هو خاصة للمادة، هو خاصتها الخالدة الملازمة لجميع اشكالها. كما أن بعض الفلاسفة الماديين الذين عجزوا عن فهم مبدأ وحة العالم المادية فهماً صحيحاً، توصلوا، عملياً، الى نكران الوعي. أنهم ذهبوا الى أن الوعي عبارة عن نوع خاص من المادة، وأن الدماغ يفرزه كما تفرز، مثلاً، الكبد الصفراء. كان هؤلاء الماديون العاميون. وفي أعقاب تطور المعارف العالمية امكن تصحيح تلك الاخطاء، وقد توصلت المادية تدريجياً، وخطوة أثر اخرى، معتمدة على معطيات علم الطبيعة، توصلت الى فهم جوهر الوعي فهماً متزايد العمق، على أنه بمثابة خاصة من خواص المادة رفيعة التعضي، بمثابة نتاج لفعالية الدماغ. وتستقر صعوبة تقصي العمليات النفسية، وظواهر الوعي، في أنها لا تدرك مباشرة بأي عضو من أعضاء حواسنا. ان الاحساس والادراك، والتصور، والتفكير، هي أمور لا يمكننا رؤيتها أو سماعها، او شمها، أو لمسها. ان بالامكان رؤية عضو التفكير، الدماغ، بالامكان النظر مجهرياً الى خلايا الدماغ، كما تمكن، باستخدام الأجهزة المناسبة، دراسة التيارات الكهربائية التي تتشكل في النسيج العصبي وفي مادة المخ... الخ. الا أنه، لا تمكن، لا في الزمان ولا في المكان، ولا حتى من خلال أحدث المجاهر،ـ رؤية الفكرة، ولا يمكن قياسها طولياً ولا وزنها.
ان الفكرة، لا تتمتع بخصائص فيزيائية كتلك الخصائص التي تتمتع بها الأجسام المادية. بيد أنه لا ينبغي أن نستنتج من هذا، ان الوعي يعود لعالم ما من عوالم ما وراء الطبيعة، المتميزة اساساً، عن العالم المادي، وهي مستقلة عن المادة.
كما لا ينبغي ايضاً ان نستنتج من ذلك، أن الوعي لا تمكن دراسته اطلاقاً بطرق موضوعية علمية، دراسة دقيقة.
ورغم أننا لا ندرك بحواسنا المباشرة وعي الناس الاخرين ذاته، إلا أننا ندرك أفعال الناس الواقعية، وتصرفاتهم، وكلامهم الذي يعكس افكارهم، ويظهر الوعي الملازم للانسان وخصائصه في نشاطه الهادف، وفي طبيعة علاقاته وصلاته المتبادلة مع الوسط المحيط به. ولم يكن عبثاً أن يقال: (اذا اردت معرفة الانسان فانظر الى أعماله). ان التقصي الدقيق لنشاط الانسان العملي، ولعلاقاته وصلاته المتبادلة مع وسطه الطبيعي والاجتماعي (وهو أمر تستطيع الدراسة الموضوعية تحقيقه) يمكِّن من دراسة وعي الانسان أكثر جداً مما تمكن دراسة الانسان بذاته، وعيه الخاص. ان دراسة الانسان، بذاته، للظواهر الجارية في وعيه الخاص، دراسة صحيحة، تعطينا مادة ثمينة وفيرة من أجل دراسة (النفس)، ولا ينبغي النيل من قيمة هذه الطريقة. الا أن العلم قد حقق نجاحات هامة بشكل خاص، وفي دراسته الوعي والنشاط النفسي، لا سيما منذ ان اتخذ طرقاً موضوعية في بحث الوعي. والعلم مدين لمنجزات هامة في هذا المجال، للعالمين الروسيين الشهيرين (سوتشينوف) و(ايفان بافلوف) الذين صاغا، على أساس استخدام الطريقة العلمية في العلوم الطبيعية، نظرية منسجمة عن النشاط العصبي الرفيع عند الحيوانات والانسان.
أن النفس، هي نتيجة لنشاط المخ المادي. يؤكد ذلك قبل كل شيء، ان الحوادث النفسية، لا تحدث إلا في الأجسام الحية التي تقوم بوظائفها، بصورة طبيعية، وتحوز جهازاً عصبياً.
أن أكثر أشكال العمليات النفسية تعقيداً (بما فيها التفكير التجريدي المنطقي) التي تشكل في وحدتها الداخلية الوطيدة الترابط، وفي اشتراط احدها الاخر، ذلك الشيء الذي نسميه بالوعي. ان اكثر هذه الأشكال تعقيداً مرتبط بوجود الجهاز العصبي الرفيع التطور، وبجزءه الأعلى اي المخ.
وكلما كانت الحيوانات اقل تطوراً، وكانت ذات جهاز عصبي أبسط من حيث التطور، كانت الظواهر النفسية الخاصة بها أكثر بدائية. وهذه الظواهر النفسية تنعدم عند تلك الكائنات المتناهية في البساطة، والتي لا تتمتع بجهاز عصبي مركزي. ان ارتباط الوعي بالمادة المتطورة تطوراً خاصاً يتبدى بسهولة عندما يصاب نشاط المخ بخلل ما نتيجة مرض أو اصابة خارجية. فاذا اصيب نصف الكرة المخية بإصابة اختل نشاط نفس الانسان، نشاط وعيه، كلياً، أو جزئياً. فاذا ما شفي من الاصابة أو المرض عاد الوعي الى نشاطه السابق.
ان علاقة الوعي بحالة المخ تتبدى عند النظر الى تلك الحوادث المعروفة كتخدير الناس واثارة التخيلات لديهم عن طريق مختلف أنواع المخدرات.
وتتمع قشرة المخ بأهمية حاسمة بالنسبة إلى وعي الانسان، انها كيان مادي مفرط في التعقيد يتمتع كل جزء منه بصفات خاصة، وبيئة خاصة. إنها تقسم إلى مراكز مختلفة كمركز الرؤية والسمع والحركة والسمع.. الخ، وكل مركز من هذه الماركز، يتصف ببنية مجهرية خاصة، من حيث شكل الخلايا وتوزع الطبقات الخلوية، ويلعب دوراً وظيفياً معيناً في نشاط قشرة المخ بمجملها. بيد أن بنية هذه المراكز، تتمع بسمات عامة بينها. فالمخ يبرز ككل موحد.
ان مراكز قشرة المخ، عبارة عن النهايات القشرية
للمحللات البصرية والسمعية والحركية وغيرها. ان الأجزاء القشرية للمحلات ليست مفصولة عن بعضها بحدود واضحة ما. فبعضها يمتد من وراء بعضها الأخر وبعضها يشتبك ببعض بواسطة تشكيلات عصبية خاصة. ان الاجزاء القشرية من المحللات تحقق أعلى الوظائف – أي تحليل وتركيب التهيجات الواردة إلى المخ. ان أجزاء القشرة المبعثرة بين المحللات بالذات تعتبر مستقبلات ويمكنها أن تقوم ببعض الوظائف من نموذج تلك التي تقوم بها المحللات القشرية ولكنها أبسط منها.
ونتيجة لهذا فإن أي خلل في نشاط أي جزء قشري من المحللات (في أعقاب عملية او ارتجاج المخ...) يجعل من غير الممكن القيام بأعلى الوظائف الخاصة بالمركز المصاب من المخ، بيد أن أجزاء المحللات المبعثرة تظل قادرة على القيام بالوظائف الأولية المرتبطة بالمستقبلات نفسها. وقد وضع بافلوف هذا الأمر بالتجربتين التاليتين: ان الكلب الذي أزيلت منه الأجزاء الصدغية ( أي منطقة الادراكات السمعية وتحليلها وتركيبها المعقدين) لم يمكنه أن يميز الأصوات المعقدة كإسمه مثلا ولكنه كان يميز الأصوات المنفردة وألحانها. أما الكلب الفاقد لأجزاء كرتي المخ الخلفية ( أي منطقة الادراكات البصرية وتحليلها وتركيبها المعقدين) فلم يمكنه أن يميز بين الأشياء ولكنه كان يميز درجة الانارة والأشكال البسيطة. وقد وجد بافلوف في هذا برهاناً قاطعاً على الاهمية الراجحة لبنية قشرة المخ في عمليات النشاط العصبي العلوي. وبالاعتماد على بحوث تجريبية دقيقة أشار بافلوف إلى أن مرض هذا الجزء أو ذاك من القشرة في حال بقاء الأجزاء الاخرى سليمة، يمكن أن يؤدي إلى نوع معين من التشويش في النشاط العصبي العلوي لدى الحيوان المصاب.
لقد أكد بافلوف على أهمية واقع التناسب بين أجزاء بنية المخ وبين ديناميكية العمليات العصبية. واعتبر أن (توافق الديناميكية مع البنية) أحد المبادئ الأساسية في نظرية النشاط العصبي العلوي. وبهذا طور بافلوف نظرة المادية الدياليتيكية إلى النفس بصفتها خاصة من خواص المادة المنظمة بشكل معين، بصفتها وظيفة من وظائف المخ.
ان قشرة المخ ليست عبارة عن مجموعة من التشكيلات البنيوية المنفردة والمرتبطة خارجياً فقط والمتعايشة واحدة إلى جانب الاخرى. فقد أكد بافلوف العلاقة المتبادلة العضوية بينها، وأكد وحدتها. وقد كتب يقول: (إذا كان بالامكان، من وجهة نظر معينة، النظر إلى قشرة كرتي المخ الكبيرتين على أنها مصنوعة من الموازييك ومؤلفة من عدد لا نهاية له من القطع المنفردة ذات الدور الفيزيولوجي الخاص في لحظة معينة، فإننا من وجهة نظر أخرى نعتبرها منظومة ديناميكية معقدة دائماً للاتحاد (للتكامل) ولتكرار نفس نموذج النشاط الموحد). ان هذا الفهم الديالكيتي للعلاقة العضوية بين الكل والأجزاء في عمل قشرة المخ هو إحدى أهم الصفات التي تميز تعاليم بافلوف. فبفضل هذا الفهم استطاع بافلوف التغلب على التطرف الخاطئ من الجانبين في تفسير عمل المخ: التطرف الأول هو الاتجاه الذي يسمى بالاتجاه الموضعي (اللوكالي) والذي يعمد أنصار إلى جعل خاصية نشاط الأجزاء المنفردة من المخ شيئاً مطلقاً، متجاهلين وحدة المخ. والتطرف الثاني هو الاتجاه الذي يتجاهل كلية أهمية التشكيلات البنيوية المنفردة للمخ ولا يرى سوى وحدته.
وهكذا فالوعي عبارة عن نتاج المخ، نتاج المادة الرفيعة التطور، وهو وظيفة المخ، وبالتالي فإن المخ هو عضو الوعي، عضو التفكير.
وعندما نقول بأن الوعي هو نتاج المادة لا نقصد بذلك أن الوعي الناشئ. عن المادة، والمرتبط بها، يوجد كشيء خارجي عنها، قائم إلى جانبها، كما توجد، مثلا، التفاحات النابتة على غصن شجرة التفاح وبشكل مرتبط به. ان العمليات الفيزيولوجية الجارية في المخ المفكر، وان التفكيرالواعي، ليسا عمليتين متوازيتين، بل هما عملية واحدة وحيدة، والوعي هو حالتها الداخلية. يقول لينين:"ان الوعي هو حالة داخلية للمادة". وعلى هذا لا يمكن اطلاقاً الفصل بين الوعي والمادة المفكرة. وفي الوقت نفسه لا ينبغي النظر إلى الفكرة، إلى الوعي، على أنه مادة، او شيء ما مادي (وهذا خطأ الماديين العاميين). وإذا اعتبرنا أن الوعي مادة "لا يبقى أي معنى لمعارضة المادة بالروح، والمادية بالمثالية، من وجهة نظرية المعرفة الفلسفية" (لينين). وفي حدود الابحاث التي تتعلق بنظرية المعرفة لا بد من إقرار معارضة المادة بالروح. "ولكن إقرار معارضة المادة بالروح، والشيء الفيزيائي بالنفسي، معارضة مطلقة، خارج نطاق تلك الحدود، إنما هو خطأ فادح" (لينين).
ان معرضة المادة بالوعي في نطاق نظرية المعرفة هي معارضة مطلقة بمعنى أنها معارضة حقيقية بين ما هو أول وما هو تال، بين ما هو موجود منذ الأزل وبين ما لا ينشأ إلا في مرحلة معينة من مراحل تطور الطبيعة. بيد أن معارضة المادة بالوعي هذه هي نسبية بمعنى ان الوعي لا يمكن، بأي شكل كان، أن يفصل عن المادة المفكرة، وأن يعارض بها كشيء منعزل عنها وقائم بذاته، ليس الوعي شيئاً غريباً عن الطبيعة، انه نتاج طبيعي لها، شأنه شأن الأشياء المادية ذاتها، الحائزة على هذا الوعي.
ان العلم العصري الذي توصل إلى نجاحات هامة في معرفة نشاط الدماغ ودراسة الظواهر النفسية، وعمليات الوعي، يضع أمامه لا مهمة توضيح هذه الظواهر فقط، بل والسيطرة عليها، وتوجيهها. يقول بافلوف:"أننا على ثقة من أن الوجهة التي اتبعها العلم في دراساته الدقيقة عن فيزيولوجيا دماغ الحيوانات، ستوصله إلى سيطرة عظيمة على الجهاز العصبي الرفيع التطور، وإلى اكتشافات مذهلة لا تقل أهمية عن المنجزات التي حققها علم الطبيعة".
ورغم وضوح معطيات علم الطبيعة فإن الفلاسفة المثاليين ما يزالون ينازعون في أن الوعي هو نتاج، هو وظيفة، هو خاصة المادة المتطورة إلى حد معين، ينازعون في أن الانسان انما يفكر بالاعتماد على المخ. هكذا يذهب (ف. باولين) إلى أن قولنا:"التفكير يتم في الدماغ" قول لا معنى له. وهو يعتقد أن هذا القول شبيه بتأكيدنا أن الأفكار توجد في المعدة أو في القمر. هذا (الاعتراض) ضد المادية سخيف إلى حد دفع أحد الأطباء النفسيين إلى القول بـ "أنني لم أسمع إلا من المجانين والمعتوهين أن أنفسهم موجودة في المعدة أو في القمر".

أما (أفيناريوس) المثالي الذاتي، فينكر فكرة أن الفكر، أن الاحساسات عبارة عن وظيفة الدماغ، عن خاصته. وقد وجه لينين، في كتابه (المادية والمذهب التجريبي)، نقداً لاذعاً لنظرات هذا الرجل الفلسفية. لقد حاول (أفيناريوس) أن يدعم وجهة نظره أستناداً إلى أن أحداً لم يشاهد كيف تتولد الاحساسات في المخ. وهو يرى أن الاحساسات موجودة دائماً، ولكنها ليست دائماً موعيّة من قبلنا. فعندما يحدث انتقال الحركة المادية (الاثارة) إلى الكائن الذي نعتبره منتجاً للاحساس، يحدث، في الوقت ذاته، (تحرر) الاحساسات الموجودة في الكائن قبل الاثارة، وبذلك تصبح موعيِّة، كما لو أنها ليست نتيجة للاثارة. ان الاحساسات والتفكير، في زعمه، ليسا وظيفة ولا نتاجاً له. ولنفترض جدلاً أن (أفيناريوس) على حق عندما يقول بأن عمليات المخ لا تولد الاحساسات بل (تحررها) فقط على صورة ما، آنذاك نضطر إلى استنتاج أن احساسي بالالم من جرح أصيب به اصبعي اليوم، كان موجوداً من قبل، وأن احساسي برائحة الوردة التي سأشمها غداً قائم ولكنه لم يصبح بعد موعياً....الخ. فهل يُمكن أن نوافق (أفيناريوس) على ما ذهب إليه دون أن نتذكر لأبسط قواعد التفكير المنطقي العلمي؟ بالطبع لا. أن كل انسان يلاحظ، في برهة واقع أن احساساته تتولد نتيجة لتأثير العالم المادي الخارجي على أعضاء حواسه. وبفضل هذا بالذات يستطيع الانسان أن يحس توجيه نفسه وفقاً لظواهر العالم الخارجي، وأن يتغلب على العوائق المنتصبة امامه، وأن يتجنب ما هو غير ملائم، وأن يجد ما يلائم وجوده ويسهل عليه فعاليته. ان (أفيناريوس) وأنصاره يعودون بنا القهقري نحو نظرية أفلاطون عن تذكر الروح للأفكار التي كانت عايشتها قي العالم الروحي المثالي.
ويتهم (أفيناريوس) علماء الطبيعة الذين يعتبرون الاحساس والتفكير وظيفة الدماغ، بأنهم يحشرون في الدماغ الأفكار والاحساسات حشراً لا يطاق، مع انه منه براء. وعملهم هذا يؤدي، في زعمه، إلى التنكر للمفاهيم الطبيعية عن العالم، وإلى الوقوع في أحضان المثالية... ان (أفيناريوس) يعتبر نفسه عدواً للمثالية، لمجرد أن يعترف بحقيقة "الأنا" و "الوسط" على حد سواء. ولكنه، عمليا، يدافع عن المثالية، ويحارب المفهوم الطبيعي الحقيقي عن العالم، أي المادية. ذلك لأن "الأنا" و "الوسط" عبارة، في زعمه، عن مجموعة من الاحساسات. أن (أفيناريوس) لم يحاول البرهنة على ما رغب بالبرهان عليه، بل اعتبره أمراً بديهياً: لم يحاول اثبات الزعم القائل بأن الاحساسات موجودة من غير المادة المفكرة، من غير الدماغ، بل اعتبره بديهة. يقول لينين:"لما كنا لا نعرف بعد جميع ظروف الصلة التي تخضع لرقابتنا في كل دقيقة، الصلة بين الاحساسات والمادة المنظمة على صورة معينة، لهذا فنحن لا نعترف إلا بوجود الاحساس وحده، هذا ما تؤدي إلى سفسطائية أفيناريوس".
وهنالك مثاليون معاصرون (لا ينفون) ارتباط الوعي بالدماغ. ولكنهم لا يفهمون هذا الارتباط إلا من حيث أن الدماغ هو، فقط، "أداة" ظهور الوعي. أما الوعي نفسه فهو غير مرتبط، في زعمهم، بالدماغ (وهذا ليس أكثر من تكرار لنظرية أفيناريوس الخاطئة). وقد سلك المثالي الذاتي (ماخ) طريقة أخرى تختلف عن طريقة أفيناريوس في معالجة قضية أرتباط الوعي بالدماغ. فلكي لا يقع (ماخ) في تناقض مباشر مع معطيات العلوم الطبيعة، الشاهدة على الصلة الوثيقة بين الوعي والاحساس وبين العمليات المادية للدماغ والجملة العصبية، عمد إلى ملائمة هذه المعطيات مع فلسفته الذاهبة إلى أن الاجسام عبارة عن مركبات من الأحساسات. ولما كان الدماغ جسمها فهو، بالتالي، حسبما ذهب إليه (ماخ) مجموعة من الاحساسات. ثم ان الدماغ جزء من الانسان، فالانسان إذن مجموعة من الاحساسات كذلك. وعلى هذا فعندما نتحسس شيئاً ما. ينبغي علينا أن نقول:"ان مجموعة من الاحساسات هي (أنا) تتحسس، بمساعدة مجموعة أخرى منها، هي الدماغ، مجموعة ثالثة من الاحساسات". ومهما كانت عليه "مجموعات الاحساسات" هذه من فوضى وتعقيد، فإننا نستطيع تنسيقها بادئين بنقطة انطلاقها. ان من السهل والكشف عن خطأ نظرية (ماخ) الفاحش، وعن التناقض فيها فماخ يظن أولاً أن كل شيء عبارة عن احساسات، ثم يأخذ، عملياً، بنظرات معاكسة تعتبر الاحساسات مرتبطة بعمليات هي عبارة عن تبادل حركات مادية بين الجسم العضوي والعالم الخارجي.
ان ما يسمى بالنظريات المورفولوغية تذهب مذهباً آخر في التنكر لنظرية الوعي كوظيفة للدماغ. ان محاكمات أنصار هذه النظريات تبدو، للوهلة الأولى، وكأنها قويمة، عندما يحاولون ايجاد تلك الأماكن الدماغية التي تنشأ فيها العمليات النفسية. إلا أن نظراتهم، تناقض، في الواقع، معطيات علم الطبيعة الحديث، وهي خاطئة من الوجهة الفلسفية. وأنصار هذا الاتجاه المدعوم من قبل فيزيولوجين ومختصين الأعصاب، معاصرين، يتوصلون إلى حد التأكيد، كما لو أن كل نقطة من نقاط الدماغ تختص بوظيفة نفسية مستقلة عن غيرها كل الاستقلال: ففي نقطة من هذه النقط يقوم، في زعمهم، مركز (معرفة الأرقام)، وفي نقطة آخرى مركز (لفهم الجمل)، وفي نقطة ثالثة يوم مركز (معرفة الحروف) وفي الرابعة مركز (تشكل صور الأشياء الحية) وفي الخامسة مركز (الأنا) الشخصية، وفي السادسة مركز (الأنا) الدينية....الخ. ورغم أن هذه الوظائف النفسية تتلاءم والأجزاء المختصة من الدماغ، فإن أنصار هذه النظريات ينكرون، من حيث الأساس، الصلة الداخلية بين النفس والدماغ، ويفصلون بينهما. وهم، إذ يجزئون الدماغ إلى أجزاء مبعثرة، منعزلة عن بعضها، وعن التأثيرات الخارجية، يفقدون كل امكانية لفهم كيفية قيام الدماغ بنشاط شامل موحد. وهم يتوصلون إلى تصور الوظائف النفسية كأشياء مستقلة عن بعضها كل الاستقلال، ولكنها مترافقة، في الزمان والمكان، مع النشاط الفيزيولوجي لقشرة الدماغ، وتحدث وفق قوانينها الخاصة التي لا يجمعها أي جامع مع قوانين فعالية الدماغ. هذه النظريات ليست، في الواقع، أكثر من ترداد للنظرية الثنائية القديمة التي نبذها العلم منذ أزمان بعيدة، لنظرية التوازي النفسي الفيزيائي القائلة بأن العالم عبارة عن صفين من العمليات المستقلة تماماً، عن صفين من العمليات الفيزيائية والنفسية الحادثة في جوهرين مختلفين (مادي وروحي) يوازي بعضها الأخر.
ويذهب المذهب ذاته أيضاً أنصار النظرية القائلة بأن الدماغ عبارة عن كتلة لا تتصف ببنية وتمايز واضحين. وهم، إذ عجزوا عن رؤية مصدر نشاط المحللات في تأثير الوسط الخارجي، إذ عجزوا عن رؤية الصفة النوعية لعمل هذه المحللات، المشروط بتباين التأثيرات المادية الخارجية، إذ عجزوا عن ذلك، حاولوا تفسير النفس كنتاج "لفعالية دماغ" وحيدة، شاملة له كله وكـ "طاقة عفوية ذاتية للدماغ" تجابه كتلته المادية. وهكذا يذهبون مذهب التوازن النفسي.
ان مؤلفات "بافلوف: وكثير من العلماء الاخرين، المتعلقة ببحث الفعالية العصبية المتطورة دحضت هذه النظريات الثنائية دحضاً تاماً. ان جميع الاعتراضات المناوئة لأهم أفكار المذهب المادي التي أثبتها علم الطبيعة، والقائلة بأن الوعي عبارة عن خاصة المادة الرفيعة التطور، ان جميع هذه الاعتراضات تبقى، ولا يمكن إلا أن تبقى، عقيمة غير مجدية، لأنها تناقض، في جوهرها، المعطيات العلمية الدقيقة.
هكذا نرى أهمية الطريقة المادية التي تعالج الظواهر من جميع النواحي للوصول إلى نتائج صحية، كما ترى الاخطار التي إليها الطريقة الميتافيزيقية التي تعالج الظواهر معالجة وحيدة الجانب.

الوعي هو انعكاس العالم المادي
وهكذا فالوعي هو نتاج فعالية الدماغ. إلا أنه لا ينشأ ولا يتشكل في الدماغ إلا بفضل الصلة المادية بين الدماغ والعالم الخارجي. ان الدماغ متصل بالعالم الخارجي عن طريق نهايات أعضاء الحواس: من عين وأذن وأغشية الانف المخاطية، وحليمات اللسان، ونهايات الجلد العصبية....الخ.
لا تنشأ الاحساسات في الدماغ إلا عندما تصل إليه الاثارة العصبية الناجمة عن اهاجة هذه الأشياء المادية أو تلك لأعضاء الحس. هكذا تنشأ الاحساسات السمعية عن تأثير الموجات الصوتية على عضو السمع: كما تنشأ الاحساسات الشمية عن تأثير الصغيريات المادية على خلايا الشم الموجودة في المجاري الانفية.
وهكذا فمصدر الاحساسات هو العالم الخارجي، هو المادة، هو الوسط المادي، الظواهر والأشياء، المكونة له.
ان الاحساسات هي الأساس الذي تقوم عليه جميع ظواهر الوعي. ولا وجود لهذا الوعي من دون تلك الاحساسات. ومن خلال الاحساسات فقط يكتسب الوعي محتواه وغناه. فكلما كانت صلة الوعي بالعالم المادي المحيط به اوسع وأكثر تنوعاً، كان أكثر غنى.
فمن المعلوم أن هنالك حالات يكون فيها الانسان منذ الولادة أعمى وأطرش وأخرس في وقت واحد. فإذا لم تتخذ تدابير معينة لمساعدة مثل هذا الانسان، فإن وجوده يقتصر على القيام بالوظائف الفيزيولوجية البحتة، ويكون وعيه في غاية الفقر. وعندما ينجح الأطباء في رد ولو بعض أعضاء الحواس المفقودة إليه يتسع وعيه ويغتني، ويصبح هذا الانسان عضواً كاملاً في المجتمع، قادراً على أن يعيش حياة ابداعية فعالة. وإذا لم يقدر للدماغ أن يقوم بينه وبين العالم الخارجي صلات عن طريق أعضاء الحس، فلا تنشأ في هذا الدماغ الاحساسات، أي يصبح الانسان من غير وعي. يقول "ساتشيوف" عندما يكون الانسان مجهداً جسدياً من التعب، ويغرق في ثبات عميق، فإن نشاطه النفسي يتضاءل، من جهة، حتى العدم (وهو في هذه الحال لا يحلم)، وهو من جهة ثانية، يتميز بفقدان تحسس المؤثرات الخارجية، فلا يوقظه الضوء، ولا الصوت القوي ولا حتى الالم. وهناك حالات اخرى يقترن فيها انعدام تحسس المؤثرات الخارجية بانعدام النشاط النفسي كحالة السكر والتخدر والاغماء. ان الناس يعرفون هذا. وليس هناك من يشك في أن الظاهرتين المذكورتين مرتبطتان سببياً. وتباين الناس في نظرتهم إلى هذا الموضوع منحصر في أن بعضهم يعتبرون انعدام الوعي سبباً لإنعدام التحسس في حين يعتبر بعضهم الاخر العكس. ولا يمكن وجود وسط بين الحالتين. فإذا أطلقنا النار قرب أذن انسان يغط في نوم عميق، من مدفع او اثنين او عدد منها. استيقط واستعاد نشاطه النفسي في الحال. أما إذا كان هذا الانسان فاقداً لسمعه فلا يوقظه اطلاق ولو مليون مدفع، لسبب واحد هو عدم استعادته لوعيه عن طريق هذا الاطلاق. كذلك الاعمى لا توقظه أشد الانوار بهراً. وعندما يتعلم الحس في الجلد لا يستطيع أكثر الآلام شدة أن يحدث أي تألم. وبكلمة واحدة فإن الانسان الغارق في النوم، والفاقد أعصاب حسه، سيظل نائماً حتى الموت. فهل بعد هذا يستطيع بعضهم القول بأن الفعالية النفسية، والحركة العضلية المعبرة عنها، ممكنة، ولو للحظة خاطفة من غير اثارة حسية خارجية.
ان خاصة واحدة لشيء معين تثير في دماغنا احساساً واحداً، إذا تساوت الشروط. فكرة البليار لا يمكن أن تثير فينا في لحظة معينة، وفي ذات الشروط، الاحساس باللون الابيض، وفي لحظة أخرى الاحساس باللون الاسود، ثم بالاخضر أو الازرق، ثم من جديد بالأبيض...الخ؛ أو أن تثير فينا، الان احساساً بشيء أملس ثم بشيء غير أملس أو غير ذلك؛ أو أن تثير فينا، في البداءة، احساساً بالصلابة، وبعد لحظة، بالطراوة،...الخ.
ان خواص الأشياء المادية لا تثير فينا احساسات ما عضوية تتعاقب تعاقباً فوضوياً، بل تثير احساسات معينة تماماً تتلاءم وطبيعة الأشياء الموضوعية. فإذا شممنا رائحة شيء ما، كان هذا دليلاً على أن الشيء المذكور يتمتع بقدرة على افراز صغيريات منه حوله، تتميز ببعض الخصائص الفيزيائية والكيميائية التي لا تتوفر لدى صغيريات أجسام أخرى لا تنفث رائحة. فنفث الرائحة عبارة عن خاصة موضوعية.ان وجود صغيريات في الهواء من جسم ينفقث الرائحة، يمك أن يتبدى اعتماداً على وسائل فيزيائية وكيميائية بالاضافة إلى عضو الشم. ولما كانت الخصائض المعينة للاجسام المادية تثير فينا احساسات معينة، لذا فنحن نتمكن من تمييز هذه الخواص بعضها عن بعض. ان الخصائص الواحدة للاجسام، هذه الخصائص المتميزة عن بعضها بدرجتها او بشدتها (من حيث الحرارة أو الوزن...الخ)، تثير فينا، بصورة عامة احساسات من نوع واحد، ولكنها متمايزة فيما بينها تمايزاً يتناسب وشدة تلك الخصائص. وفي تشلبه وتباين الاحساسات الناجمة عن تأثير الأشياء المادية، ينعكس تشابه وتباين الخصائص العائدة لهذه الاشياء.
ان الاشياء المادية تتمتع لا بخاصة واحدة بل بخصائص متعددة (من شكل، ووزن، ولون، ورائحة، وقساوة، أو طراوة، ونعومة أو خشونة ...الخ). وتنقل أعضاء حواسنا إلى الدماغ تأثيرات متنوعة في وقت واحد، صادرة عن تلك الخصائص. وعلى هذا الاساس يتشكل في الدماغ ادراك واحد، كامل للأشياء. ان الادراك هو مجموعة الاحساسات المرتبطة فيما بينها ترابطاً متلائماً مع ترابط خصائص الشيء، المثير فينا الادراك المذكور. وكل ادراك معين يتلاءم مع الشيء المادي المثير لها الادراك. ان خاصة الأشياء المادية، وتشابه هذه الأشياء وتباينها، تنعكس في خصائص الادراك.
بين ان الاحساسات والادراكات تتلاءم والاشياء الخارجية لا كإشارات انفاقية أو علامات تناسب الدالة عليها ولكن كنسخ عنها متلائمة مع هذه الأشياء ذاتها. ان الاحساسات والادراكات عبارة عن انعكاسات للاشياء المادية الدياليكتيكية. وقد قدم علم الطبيعة براهين لا تدحض على صحة هذه النظرية.
لقد ساعد "سوتشينوف" كثيراً في اثبات أن الاحساسات عبارة عن انعكاسات وصور ونسخ صحيحة لأشياء العالم الخارجي. ان تطبيق الطريقة التي انتهجها "سوتشينوف" في البرهنة، كفيل باقناعنا بأن الاحساسات البصرية تعطي، عملياً، انعكاسات صحيحة للأشياء التي تنظر إليها.
إذا اتجهت العين نحو شيء خارجي ما ارتسم انعكاس هذا الشيء على قعرها في الشبكية. ويحدث الانعكاس حسب قوانين العدسات عبر عدسة العين التي تشبه عدسة محدبة الوجهين. ولكن هذا الانعكاس الفيزيائي ليس، يعد، الصورة البصرية الموجودة في الوعي، بل هو مجرد حلقة وسطى بين الشيء الخارجي والصورة في الوعي. ونحن لا نعرف بعد فيما إذا كان الوعي ينقل الانعكاس إلى الشبكة حين تتكون الصورة فيه، أو يأخذ الصورة من الشبكة بعد انعكاسها عليها. وعلى كل فلدينا مجموعة مؤلفة من ثلاثة أمور مرتبطة فيما بينها، وهي: أولاً، الشيء الخارجي، ثانياً، الانعكاس على الشبكية، ثالثاً، الصورة في الوعي. المهم الآن هو السؤال التالي: هل تتشابه الصورة في الوعي مع الشيء الخارجي أم لا؟ وتتأتى صعوبة الجواب من أننا لا نعرف الشيء بذاته بشكل مستقل عن صورته في الوعي التي تكونت فيه بشكل مباشر، ولا بد للاجابة على السؤال المذكور من اللجوء إلى وسائل وسيطة.
لنأخذ عدسة عادية محدبة الجانبين، ولنحدث بواسطتها انعكاساً على شاشة للجسم الذي نجري عليه تجربتنا. ان الانعكاس على الشاشة، والجسم الخارجي، متشابهان طبقاً لقوانين العدسات. وبالاضافة إلى هذا، فإننا نتأكد من تشابهها عن طريق مقارنة أحدهما بالاخر مباشرة: فالانعكاس على الشاشة، والجسم المنعكس، هما، بالنسبة للعين، شيئان خارجيان على حد سواء، ومن تشابه الاحساسات التي يولدها كلاهما في الجهاز البصري تستطيع القول بأنهما متشابهان. وبما أن عدسة العين تعمل كالعدسة العادية (ويمكن اقامة البرهان على هذا بالتجارب) فإن الانعكاس الذي تنقله عدسة العين إلى الشبكية مشابه للشيء الخارجي. وعندما ننظر إلى الشاشة، فإننا نرى عملياً ذات الجسم المنعكس على الشبكية، وذلك لأن كلا الانعكاسين حادثان بموجب عمليات فيزيائية واحدة. أما عندما نوجه بصرنا إلى الجسم الخارجي، فإن دماغنا آنذاك، يتفاعل مع الصورة الحادثة في الوعي، وبالتاي، فإننا عندما ننظر إلى الشاشة، وإلى الجسم الخارجي، نقوم، في الحقيقة، بمقارنة بين الانعكاس على الشبكية وبين الصورة الحادثة في الوعي. فماذا تعطينا هذه المقارنة؟ ان سيتشينوف يلخص نتائج هذه المقارنة بما يلي:"ان المثلث والدائرة واطار النافذة والهلال الخ...المعكوسة في الشبكية يتحسسها الوعي كما هي عليه: أي كمثلث ودائرة واطار وهلال الخ...والصورة الغبشاء في الشبكية تظهر في الوعي غبشاء كذلك. والنقطة الثابتة ترسم في الوعي ثابتة ايضا، والطير الطائر يرتسم في الوعي متحركاً. وأماكن الانعكاس الضعيفة الانارة توعى بشكل غير واضح؛ اما النقاط المتألقة فتبرز في الوعي ناصعة. وبكلمة واحدة ان الوعي بالنسبة إلى الصور على الشبكية مرآة لا تقل عن الشبكية والاجهزة العاكسة في العين، بالنسبة إلى الشيء الخارجي. فإذا كان الامر الاول في المجموعة السابقة مشابهاً للثاني، والثاني مشابهاً للثالث، كان الاول مشابهاً للثالث كذلك. وهذا يعني أن الشيء الخارجي غير المعروف، أو الشيء بحد ذاته، مشابه لصورته المنعكسة في الوعي". والاحساسات البصرية تعطي صوراً صحيحة لا لشيء واحد فقط، بل ولمجموعة من الأشياء المدركة. ولكي نتحقق من هذا يمكن استعمال المحاكمة المذكورة من قبل بإعتبار أن المجموعة هي شيء واحد مركب، مؤلف من أجزاء مختلفة. ولكن هل تعكس العين بأمانة أوضاع الأشياء المكانية؟ ان العلم يجيب بالايجاب في المجال أيضاً. فلكي نقدر وضع الأشياء المكاني وبعدها عنا، ننقل البصر، بالتوالي، من شيء إلى آخر، محولين محور العين نحو الانف إلى هذا الحد أو ذاك. فإذا كان الشيء قريباً حولنا المحور تحويلاً شديداً، أما إذا كان أبعد حولنا المحور تحويلاً أقل. ان الاحساس المرتبط بتقليص العضلات التي تحرك العين يسمح لنا بتقدير زوايا الدوران، وبهذا الامر يرتبط ارتباطاً مباشراً احساس بعد الشيء عنا. الواقع أن الانسان عندما يشمل ببصره المنظر المحيط به، تقوم عينها بعمليات هندسية كالتي يقوم بها الطبوغرافيون عند ما يمسحون الأرض طبوغرافيا. وكما أن المخططات الهندسية الطبوغرافية تعطينا صورة صادقة عن أوضاع الأشياء المكانية، كذلك فإن الاحساسات البصرية تعطينا صورة حقيقية، بوجه عام، عن تلك الأوضاع. الواقع أن تقدير الأدوات الهندسية للزوايا يحدث بصورة أدق من تقدير العضلات المحركة للعين. ولهذا فصورة المنظر الحادثة بواسطة العين تكون أقل دقة، وهو أمر يتبدى خاصة عندما تكون الأشياء مغرقة في بعدها. ولكن العين، على العموم، تعكس الواقع بشكل حقيقي في هذا المجال أيضاً. وبالامكان أيضاً تبيان أن العين تعكس المقادير النسبية للاجسام عكساً صحيحاً تقريباً.
ان الواقع التالي يثبت، بصورة عامة، صحة انعكاس العالم الخارجي في الاحساسات البصرية. فالانسان المندفع بسرعة كبيرة بين أجسام محيطة به ومبعثرة كثيراً في طريقه، وغالباً ما تكون ذات أشكال كثيرة التعقيد، يستطيع تتجنب العوائق بنجاح بفضل ارشاد عينيه له. هذا النجاح لا نحوزه إلا إذا قامت العينان بعكس أشياء العالم الخارجي عكساً صحيحاً وبسرعة كبيرة. وهناك احساسات أخرى هي انعكاسات العالم الخارجي وصوره. ولهذا يمكن الحديث عن (صور) صوتية وضوئية لعمليات العالم الخارجي. ان احساساتنا الصوتية تعكس بأمانة حركات الاجسام الصوتية. ويمكن الحكم على صحة هذا الواقع بالاعتماد على ما تبينه الاجهزة الفيزيائية التي تسجل حركات الاجسام الصوتية تسجيلاً دقيقاً. فما يكاد ينبعث صوت الجسم حتى ينشأ الاحساس بالصوت. ومع انقطاع الحركات الصوتية يتوقف الاحساس الصوتي. وفي الوقت الذي تتغير فيه الحركات الصوتية شدة وذبذبة وتواصلاً، تتغير الاحساسات الصوتية ارتفاعاً ونغمة وطولاً. والفرق في جرس الصوت المدرك يتجاوب والفرق الموضوعي في طابع الحركة الصوتية...الخ.
ويتمتع الاحساس (والادراك)، بإعتباره شكل انعكاس العالم، بصفتين هامتين: أولاهما أن الاحساس عبارة عن انعكاس مباشر للعالم المادي (فبين الاحساس، بإعتباره عنصر الوعي، وبين الواقع الموضوعي الذي يعكسه لا توجد أية حلقات وسيطة). وثانيتهما أن الاحساس عبارة عن انعكاس الخواص المعينة لأجسام مادية حسية: عبارة عن انعكاس لا اللون بشكل عام، بل انعكاس لون جسم معين، في وقت معين، وفي ظروف معين، عبارة عن انعكاس لا الوزن بشكل عام، بل انعكاس وزن جسم معين، في وقت معين، وفي ظروف معينة...الخ.
ليس الانسان كائناً بيولوجيا فحسب، بل كائناً اجتماعياً. وأعضاء حواس هذا الانسان ليست نتاج التطور البيولوجي فحسب، بل ونتاج التطور الاجتماعي أيضاً. ان الانسان إذ يعمل، ويؤثر على الطبيعة، يتغير هو نفسه، في الوقت ذاته، وتتغير أعضاء حواسه. فعين النسر تبصر إلى أبعد مما تبصر عين الانسان المجردة، ولكن عين النسر لا تميز واحداً بالمائة مما تستطيع رؤيته عين الانسان. ان البصر والسمع، والشم، واللمس، هي نتاج لتطور الانسان التاريخي، نتاج تلاؤمه مع شروط وجوده، مع خصائص نشاطه العملي. والقدرة على التحسس والادراك عطاء في حوزة الناس جميعاً. إلا أن الفنان قادر، بفضل خبرته العملية، على تمييز فروق دقيقة بالألوان أعظم مما هو في استطاعة الناس الاخرين. ثم ان سمع العديد من الحيوانات قادر على استرقاق ما لا يكاد يسمع من الاصوات، إلا ان الانسان المتطور في مجال الموسيقى، قادر على سماع عدد من الأصوات أكبر بما لا يقاس مما تسمعه أغنى أذان الحيوان حساً كأذان الكلب مثلاً.
ان ادراك الانسان للعالم ليس هو ادراكاً تأملياً سلبياً، ليس هو ادراكاً انعكاسياً جامداً. أنه ادراك فعّال. فالانسان يتحسس ويدرك أشياء العالم المحيط به وظواهره، في سياق العمل، وفي سياق النشاط الاجتماعي المحوِّل للعالم، مما يتيح له التعرف على العالم بشكل أعمق. وتلعب دوراً في سياق ادراك الانسان للعالم المحيط به لا أعضاء حواسه والأشياء المدركة من قبله فحسب، بل وجميع ما كدسه الانسان والانسانية من تجربة تاريخية أيضاً.
ونحن غالباً ما نكون على صلة بالكثير من أشياء الوسط المحيط بنا. وقد أصبح دماغنا، بفضل الادراك المتكرر المتمدد لأشياء بعينها، قادراً على استحضار صور كاملة للأشياء لا، فقط، عندما تبعث فينا مباشرة مجموع تلك الاحساسات التي هي قادرة بشكل عام، على بعثها فينا، بل وعندما تبعث فينا، عملياً، بعض فئات هذه الاحساسات فقط. فعندما أنظر، مثلا، إلى شمعدان معدني أعرفه، فإنني أدركه لا كشيء يتمتع فقط بشكل خارجي معين، بل وكشيء صلب، بارد، ثقيل. ان الشمعدان في اللحظة الراهنة، لا يبعث في، مباشرة، لا احساسات لمسية ولا حرارية ولا وزنية، ما دمت لا ألمسه. إلا أن هذه الاحساسات قد سبق أن نشات في الماضي، لا نتيجة النظر إليه، بل نتيجة أخذه بيدي، وتحسسه، وتقدير وزنه. وبفضل ذلك تكونت في وعيي مجموعة ثابتة من الاحساسات التي تشكل صورة للشيء ككل، تشكل فكرة عنه. فما أن أرى الشمعدان الان، وتنشأ لدي احساسات بصرية فقط، حتى تنشأ أيضاً عندي، بالتداعي، صورة عن الخصائص الاخرى لهذا الجسم.
وهكذا فالدفاع قادر على اعطائنا فكراً، صوراً عن تلك الاشياء في الوقت الذي لا تثير فينا احساسات عنها. وهذه الصور، تبدو، وكأنها نتاج النشاط الاعتباطي للوعي. إلا أن الامر على خلاف ذلك. فلا يمكن أن تتكون إلا صور تلك الأشياء التي أثارت فينا، عملياً. في وقت ما، احساسات طبعت أثارها في دماغنا. ان الصور التي تقوم على الاحساسات والادراكات هي انعكاسات وصور للعالم المادي؛ شأنها شأن هذه الاحساسات والادراكات.
ولكن كيف نفسر ما ينشاً عن النشاط النفسي للدماغ من صور تمثل مخلوقاً نصفه انسان ونصفه الاخر حصان، أو تمثل عروس البحر التي نصفها امرأة ونصفها الاخر سمكة؟ ان أمثال هذه المخلوقات لم يرها ولم يلمسها انسان على وجه البسيطة، وهي لم تثر فينا أية احساسات لسبب بسيط هو أنها غير موجودة. ومع هذا فإن صورها الذهنية موجودة. أولا يدحض هذه الفكرة المادية القائلة بأن الاحساسات، بأن الادراكات، والصور عبارة عن انعكاس الواقع الموضوعي، عن انعكاس العالم المادي؟ كلا وألف كلا. تشهد على ذلك بوضوح تلك الاجزاء التي يتألف منها جسم عروس البحر والحصان – الانسان. ان الناس الذي لم يقدر لهم ان رأوا الحصان والسمك، لا يمكنهم أن يكونوا صورة عروس البحر والحصان الانسان.
لما كانت الصور عير مرتبطة بتوفر الاحساسات في وقت معين، فهي تتمتع باستقلال نسبي، ويمكن أن يمتزج بعضها ببعض كيفيا في الدماغ. ويستطيع خيال الانسان أن يجمع بين عناصر أكثر الصور تبايناً، هذه الصور التي تكونت على أساس ما كان من احساسات وادراكات في وقت ما. إلا أن هذه العناصر كلها، ليست في نهاية المطاف، غير انعكاس للواقع الموضوعي.
حتى التصورات الخيالية التي لا تعرف حداً لا تنفصل عما تتحسسه الاحساسات عند عكس هذه للعالم الخارجي. وما نتاج التصورات الخيالية الانسانية، مهما كانت عليه من بعد عن الحقيقة إلا انعكاساً صحيحاً أو مشوهاً. بين التصورات المشوهة للواقع نجد الشيطان والجن ومختلف كائنات ما وراء الطبيعة. ونحن واجدون، حتى في هذه الصور التخيلية، سمات انسان الارض. فالجن والشياطين كائنات ما وراء الطبيعة الاخرى تعزى إليهم هذه الخصائص الانسانية أو تلك، ولكن في حدها الاعظمي من الافراط.
ان أشياء العالم الخارجي وظواهره تنعكس في التصورات، خلافاً للاحساسات والادراكات، لا بجميع الخصائص الفردية العديدة، بل تنعكس فيها دون تفاصيل كثيرة. ففي التصور نحتل المكان الأول من الوضوح بعض السمات النموذجية العامة للأشياء والظواهر المتشابهة. ثم ان التفكير الذي يستخدم المفاهيم أداة له هو، أيضا، انعكاس للعالم الخارجي. وهذا الشكل في انعكاس العالم غير ممكن من غير احساسات أيضاً. إلا ان التفكير، خلافاً للاحساسات والادراكات والتصورات، لا يتمتع بطابع حسي مجسد، وهو لا يعكس الأشياء والظواهر المنفردة فحسب، بل وبعكس، بصورة رئيسية، ما هو عام الأشياء والظواهر، بعكس جوهرها الداخلي، والصلات والقانونيات الخاصة بها. ويحدث هذا الانعكاس المعمم للواقع عن طريق التفكير المجرد بمساعدة المفاهيم.
لنأخذ، على سبيل المثال، مفهوم الكتلة، هذا المفهوم، هو من حيث المحتوى، انعكاس للخاصة الموضوعية العامة التي تتمتع بها جميع الاجسام المادية بدون اسثناء (الكبيرة منها والصغيرة الملساء والخشنة، والسوداء والبيضاء، والباردة والحارة، وذات الرائحة والخالية من الرائحة)، وهي خاصة تنحصر في أننا، إذا أردنا احداث تغيير معين في سرعة هذه الأشياء، في فترة زمنية معينة، لا بد لنا من ندفغها بقوة معينة. ان خصائص الاجسام لا أهمية لها في هذا المجال، كما لا أهمية لإختلاف نوعية القوى التي تدفع هذه الاجسام. بيد أنه كي نتوصل إلى استيعاب وجود خاصة عامة في الاجسام تنعكس في مفهوم الكتلة، لا بد للاحساسات أن تعكس في دماغ الانسان ملايين الحوادث الحسية لتبدل سرعة الاجسام تحت تأثير القوى المختلفة.
ان جميع النظريات العلمية بحق هي انعكاس صحيح للعالم المادي، مهما كانت عليه هذه النظريات من التجريد من حيث الصيغة. لنأخذ نظرية القيمة القائمة على أساس العمل. فمقولة القيمة عبارة عن تجريد، ولكنها تعكس، بعمق ودقة، جوهر المجتمع الرأسمالي السلعي، تعكس العلاقات بين منتجي السلع. انها، وحدها، القادرة على تمكيننا من فهم مصدر فضل القيمة، في الرأسمالية، والعلاقات المتبادلة بين البروليتاريين والرأسماليين. أو لنأخذ نظرية حركة (السائل المثالي)، في علم السوائل. ان السائل المثالي هو السائل الذي لا يحوز احتكاكاً داخلياً (لزوجة)، ولا ينقل الحرارة. هذا السائل لا تعكس أي شيء واقعي؟ كلا لا يعني ذلك. ففي شروط معينة تكون اللزوجة، في بعض السوائل، ضئيلة إلى درجة لا تؤثر، معها، تأثيراً أساسياً، على طابع حركتها. كذلك القول بالنسبة إلى نقل الحرارة. فمفهوم السائل المثالي يبدو، اذن، انعكاساً لسائل حقيقي في مثل تلك الظروف بالذات، وتبدو النظرية انعكاساً لجريان السائل حقيقي.
ان انعكاس العالم في التفكير المجرد ليس انعكاساً مباشراً؛ وذلك لقيام والاحساسات والادراكات والتصورات بين التفكير والواقع الموضوعي.
وتحصل المعرفة الصحيحة المتكاملة الاطراف نتيجة عمل فكري طويل شاق. وربما عبر بعض الأخطاء، مثل مفهوم (المادة الحرارية العديمة الوزن) ومفهوم المادة النارية التي هي أساس الاحتراق في كل جسم قابل للاشتعال، وهما المفهومان اللذان وجدا في زمن ما. ولكن حتى في مثل هذه المفاهيم الخاطئة انعكست بعض خصائص الظواهر الواقعية. هكذا انعكست في مفاهيم (المادة الحرارية العديمة الوزن) بعض خصائص التيارات الحرارية مما أتاح وضع نظرية نقل الحرارة التي احتفظت أفكارها الاساسية بأهميتها حتى الان.
كيف نتمكن من تمييز المعرفة الصحيحة، والانعكاس الصحيح، للعالم المادي، عن الاخطاء والتخبط؟ ترى هل في حوزة الانسانية وسيلة دقيقة للتأكد من صحة عكس الوعي للواقع؟ نعم.ان هذه الوسيلة هي نشاط الناس العملي.
يقول لينين:"ان أهم ميزة يتميز بها المادي عن المثالي، هي أن الاحساس، ان الادراك، ان التصور، وبصورة عامة، وعي الانسان، ينظر إليه على أنه صورة للواقع الموضوعي. ان العالم هو حركة هذا الواقع الموضوعي الذي يعكسه وعينا. وحركة التصورات، والادراكات...الخ تتلاءم حركة المادة خارج ذاتي".
لا شك أن مقدرة الدماغ على عكس العالم الخارجي في الاحساسات والتصورات والمفاهيم مدهشة إلى حد أن المثاليين جعلوا الوعي في وضع فريد بالنسبة إلى ظواهر العالم كلها، فمنحوه قوة خارجة عن الطبيعة إلى حد التأليه. ولكن الوعي لا يتضمن أي شيء خارج عن الطبيعة. انه خاصة من خواص المادة. صحيح أنه خاص بالاجسام المادية الرفيعة التطور ولكن هذا لا يعني أنه ينشأ في المادة المتطورة نشوء مفاجئاً دون أن تكون أسس في خصائص أخرى للعادة أكثر بساطة.
لا شك أن مقدرة الدماغ على عكس العالم الخارجي في الاحساسات والتصورات والمفاهيم مدهشة إلى حد أن المثاليين جعلوا الوعي في وضع فريد بالنسبة إلى ظواهر العالم ملها فمنحوه قوة خارجة عن الطبيعة إلى حد التأليه. ولكن الوعي لا يتضمن أي شيء خارج عن الطبيعة. انه خاصة من خواص المادة. صحيح أنه خاص بالاجسام المادية الرفيعة التطور ولكن هذا لا يعني أنه ينشأ في المادة المتطورة نشوءً مفاجئاً دون أن تكون أسس في خصائص أخرى للمادة أكثر بساطة.
وينشأ الاحساس، قانونياً، عن تطور وتكامل امكانية الانعكاس الخاصة بالمادة كلها. وقد أشار لينين إلى أنه لا صحة للظن بأن كل مادة (واعية). غير أن "من المنطقي الافتراض بأن المادة بمجملها تحوز خاصة قريبة من الاحساس، من حيث الجوهر، هي خاصة الانعكاس" (لينين).
فما هي هذه الخاصة؟ ان جميع الاجسام المادية بلا اسثناء، يؤثر بعضها في الاخر، إلى هذا الحد أو ذاك. وأبسط شكل لهذا الانعكاس الملازم للمادة كلها، هو تبدل يطرأ على بعض الاجسام المادية تحت تأثير بعضها الاخر، تنطبع بواسطته (التبدل) خواص التأثيرات الخارجية في الاجسام المادية. مثل هذا الشكل من الانعكاس معروف بوضوح في الطبيعة اللاعضوية كإنعكاس الأشياء في المرآة. ان جوهر هذا الانعكاس قائم في إعادة توزع أشعة الحزمة الضوئية تحت تأثير الاجسام والرآة. فإعادة توزع الاشعة المكاني عبارة عن رد فعل الحزمة الضوئية تحت تأثير الاجسام والمرآة. وفي خصائص إعادة توزع الحزمة الضوئية تتطبع خصائص الاجسام المعكوسة. ان تبدل خواص الحديد تحت تأثير الحقل المغناطيسي هو أيضاً شكل خاص من الانعكاس. وتبدل خواص الحديد هو رد فعله على التأثير الخارجي، وفي مغنطته تنطبع خصائص هذا المؤثر الخارجي.
ان طابع الانعكاس الناجم عن التأثيرات الخارجية يتحدد بطبيعة التأثيرات كما يتحدد بخصائص الجسم المعاكس، بخصائه نوعيته. ويؤدي نشوء الاجسام المادية المتزايدة باستمرار في تعقيدها، والقادرة على الدخول في صلات وتأثيرات متبادلة متزايدة التعقيد مع الأجسام الاخرى، يؤدي إلى ظهور أشكال انعكاس جديدة أكثر تعقيداً. أن شكل الانعكاس الذي يلائم أبسط الاجسام المادية المعروفة، هو الشكل الفيزيائي المعبَّر عنه بتغير وضع هذه الاجسام الفيزيائي، وبظهور ردود فعل فيزيائية ذات علاقة قانونية بالتأثيرات الخارجية المذكورة أعلاه. هكذا يجيب الاليكترون على تأثير الساحة الكهربائية الخارجية عليه، بتغيير السرعة (بالتسارع)، بتغيير بنية ساحته الخاصة، يقذف أشعة كهرطيسية. في هذه التبدلات تنطبع خصائص الساحة المؤثرة، انطباعاً محدداً. ويمكن الحديث، في مجال العمليات الكيميائية، عن شكل كيميائي خاص للانعكاس. ومع نشوء الاجسام الزلالية ظهر شكل جديد للانعكاس خاص بها، هو الحساسية. ان الزلاليات تتمتع بلدانة عظيمة وتتأثر كل التأثر بالوسط الخارجي. فبعض التأثيرات تحدث تبدلاً شديداً إلى هذا الحد أو ذاك، في الخصائص الفيزيائية والكيميائية للزلاليات. (تحدث تغيراً في طبيعة الزلاليات دائماً أو مؤقتاً). وتحدث تأثيرات أخرى جيد دقيقة في بنية الزلاليات وفقاً لظروف الوسط الجديدة، كما تظهر خصائص وسائطية جديدة (أي خصائص التسريع أو الابطاء الشديد لجريان التفاعلات الكيميائية)، وهي خصائص تتصف بطابع التكيف مع الظروف الخارجية المتغيرة. ان أحد مظاهر حساسية الاجسام الزلالية هو قدرتها على تغيير أحجامها وشكلها تحت تأثير العوامل الخارجية، وهذه القدرة مرتبطة بوجود أجزاء خاصة في بنية الجسم الزلالي، وهي مجموعات متفاعلة أو وظيفية.
ان ظهور المادة الحية قد صوحب بظهور شكل بيولوجي من أشكال الانعكاس أكثر تعقيداً هو قابلية التأثر أو (الانفعال). وليست حساسية الجسم الزلالي بالنسبة لشكل الانعكاس هذا إلا عبارة عن "سلفه الكيميائي". ان قابلة التأثر هي قدرة كل ما هو حي على الاستجابة للمؤثرات الخارجية بتنشيط أو تثبيط تبادل المواد وبتغير سرعة النمو وبتغير المكان وما شابه ذلك. مما يؤدي إلى تكيف العضوية مع ظروف الوسط المتغيرة. ان تطور الحياة قد أدى خطوة فخطوة إلى تعقيد هذا الشكل من الانعكاس.
وعلى أساس التخصص المتزايد في وظائف مختلف أنسجة وأجزاء الجسم أخذت العضويات خلال ارتقائها تتوصل إلى درجات أعلى فأعلى من الكمال في عكس ظروف الوسط الخارجي. وقد رافق هذا تغير بنية العضويات نفسها، هذا التغير الذي جرى طبقاً لظروف الوسط المحيط.
ان العضوية والوسط – يشكلان وحدة. ويعتبر هذا القول الموضوعة العظيمة الأهمية في تعاليم ميتشورين حول تطور الطبيعة الحية. وهي تسمح بدراسة الانعكاس البيولوجي من وجهة نظر جد عريضة. إذ لا ينبغي اعتبار أن الانعكاس البيولوجي هو فقط هذه الاستجابات الحسية أو تلك التي تقوم بها العضويات متأثرة بمؤثرات معينة من الوسط الخارجي في لحظة معينة، بل أنه العملية الارتقائية اللامتناهية بمجملها لتطور العضويات والتي تتكيف خلالها هذه العضويات طبقاً لظروف الوسط الخارجي المتغيرة.
ومع ظهور جهاز عصبي متطور لدى العضويات، ناشئ عن تلك الانسجة التي تخصصت في نقل التأثيرات، اتخذ العكس البيولوجي صفات جديدة ذات أهمية مبدئية. وبالطبع فإن جوهر العكس البيولوجي لم يتغير، فهو لا يزال كالسابق يقوم في ايجاد الصلة بين العضوية والوسط، تلك الصلة التي يعتبر وجودها سبباً في توافق خواص العضوية وسلوكها مع الوسط. ولكن عند توفر جهاز عصبي مركزي فإن صلات العضوية مع الوسط لا تقوم فقط من خلال عوامل الوسط التي تتصف بأهمية بيولوجية مباشرة بالنسبة للحيوان. إذ أنها إلى جانب ذلك تقوم أيضاً من خلال العديد من العوامل التي لا تتمتع بأهمية بيولوجية مباشرة. وهذه الاخيرة هي بمثابة الانذارات والاشارات الدالة على ظهور العوامل التي تتمتع بأهمية بيولوجية مباشرة بالنسبة للحيوان. ان مثل هذه الصلات تقوم خلال التطور الفردي للحيوانات في حالات يكون فيها تأثير عامل ما من العوامل التي ليس لها أهمية بيولوجية مباشرة سابقاً، لسبب من الاسباب، لتأثير عامل ما من العوامل التي لها اهمية بيولوجية جوهرية ويكون سابقاً بشكل مباشر. وإذا تكرر هذا التوافق عدداً كافياً من المرات فإنه يصبح من الكافي وجود العامل الثاني وحده دون وجود العامل الأول لكي يظهر لدى الحيوان رد الفعل الذي يثيره لديه العامل الأول المتمتع بأهمية حيوية مباشرة بالنسبة إليه. فإذا نحن مثلا أشعلنا مصباحاً أمام كلب قبل أن نقدم له الطعام مباشرة فإنه بعد عدد من المرات يتكرر فيها هذا التوافق بين التقديم الطعام وأشعال المصباح سيصبح لعاب الكلب يسيل حتى عند أشعال المصباح وحده بدون ظهور الطعام. ان إشعال المصباح، وهو أمر لا يتمتع بأهمية بيولوجية مباشرة ويعتبر بالنسبة للكلب شيئاً لا معنى له البتة، قد أصبح في مثل هذه الظروف بمثابة شارة لظهور الطعام - وهو عامل له أهمية بيولوجية مباشرة. ان هذه الشارة تستدعي رد الفعل نفسه الذي يستدعيه العامل المشار إليه بالمصباح. ان ردود الفعل الجوابية لدى الحيوانات لا على العوامل التي تتمتع بأهمية بيولوجية مباشرة بل على شاراتها التي نشأت لدى كل حيوانات خلال حياته المنفردة على أساس تجربة وجوده في ظروف معينة قد اكتشفت من قبل العالم "بافلوف"، الذي سما هذه الردود بالافعال المنعكسة الشرطية.
ولم يكن العلم يعرف قبل بافلوف إلا الافعال المنعكسة الفطرية التي سماها بافلوف: الافعال المنعكسة اللاشرطية. وهي عبارة عن ردود الفعل الجوابية التي تقوم بها الحيوانات تحت تأثير العوامل البيولوجية المباشرة، وهي الردود التي نشأت خلال التطور الارتقائي للحيوانات من نوع معين،و التي تثبت بقوة وأصبحت تنقل بالوراثة من جيل إلى جيل. ومن جملة الافعال المنعكسة اللاشرطية مثلاً افراز اللعاب لدى الحيوانات عند تناول الغذاء، ورف الجفون عند ظهور شيء ما بشكل مفاجء أمام العين وهلمجرا. ان الافعال العكسية اللاشرطية الاكثر تعقيداً تدعى بالغرائز. وكلمة "شرطية" تشير إلى ان رد الفعل المعين لدى الحيوان يمكن أن يظهر في ظروف موافقة بواسطة أي عامل اخر لا أهمية بيولوجية له لو أن تأثيره اتفق زمنياً مع تأثير عامل بيولوجي. ان الافعال المنعكسة الشرطية غير ثابتة ومتغيرة. فبعضها يمكن أن يختفي إذا كفت الشروط التي خلفته عن التكرار، وبعضها يمكن أن يظهر وفقاً للظروف المتغيرة في حياة الحيوان. وبمساعدة هذه الافعال بالذات يحدث التكيف على الوجه الأكمل مع الوسط المحيط لدى الحيوانات العالية التطور. أما الافعال المنعكسة اللاشرطية فإنها ثابتة وسائدة بالنسبة لكل النوع المعين من الحيوانات بأكمله، وهي بمثابة الاساس الذي تشكل عليه الافعال المنعكسة الشرطية. ولا يوجد بين الافعال المنعكسة الاولى والثانية حد مطلق لا يمكن تجاوزه. فقد أشار بافلوف إلى أن هناك امكانية تحول الافعال المنعكسة الشرطية إلى لا شرطية.
ان مجموعة الافعال المنعكسة الشرطية واللاشرطية لدى الحيوانات ليست إلا أعلى شكل لعكس هذه الحيوانات لظروف وجودها. ففي الافعال المنعكسة اللاشرطية ينعكس ما هو دائم أبداً تقريباً خلال حياة النوع. أما في الشرطية فينعكس تنوع العوامل المتغيرة التي تؤثر على الحيوان وتنوع علاقاته مع الوسط. ان انعكاس العالم في الافعال المنعكسة يخضع لقنونات خاصة يتحدث عنها بافلوف في تعاليمه المتعلقة بالافعال المنعكسة الشرطية والنشاط العصبي، وهي تعتبر انجازاً عظيماً في العلم الطبيعي المعاصر.
ان الفعل المنعكس الشرطي يتميز عن غيره من أشكال الانعكاس الملازمة لأنواع المادة المختلفة من حيث تعقيدها، يتميز بأهمية خاصة تقوم في: أولاً ان الفعل المنعكس الشرطي هو شكل من نشاط القسم الاعلى من الجهاز العصبي المركزي للحيوانات – أي نشاط دماغها. وثانياً ان الفعل المنعكس الشرطي ليس عملية فيزيولوجية محضة بل هو إلى جانب ذلك ظاهر نفسية كذلك. انه أبسط الظواهر النفسية. ومع سير تطور العالم الحيواني، ارتقى النشاط الانعكاسي الشرطي للدماغ ونعقد تدريجياً. ولكن هذا النشاط لم يكن مجرد نتيجة منفصلة لهذه العملية البيولوجية الارتقائية. فما أن تشأ هذا النشاط حتى أصبح قوة فاعلة في تلك العملية. وبفضل توفر انعكاس الواقع في ردود الفعل الشرطي تكونت ظروف جد ملائمة لتسير مع تطور العالم الحيواني. وبذلك تأمنت إعادة تكون البنية العضوية ووظائفها، تكوناً سريعاً متلائماً مع شروط الوسط المحيط. وبهذا اقترب الزمن الذي ظهر فيه الانسان، لأول مرة، على الأرض مع الوعي الذي يلازمه بإعتباره شكلاً خاصاً لإنعكاس الواقع.
لنر الان الصفات المميزة لهذا الشكل الجديد من الانعكاس. ان الحيوانات تعكس الوسط الخارجي حسب متطلباتها البيولوجية المحضة فقط، أي ما يرتبط بالدرجة الأولى، بالشروط البيولوجية الاساسية لوجودها. وهي لا تعكس من الظواهر العديدة الاخرى، ظواهر العالم المحيط بها، إلا ما أصبح شارة لتلك الشروط البيولوجية. هذا الانعكاس ليس نتاجاً للوعي، ويلعب الانعكاس بواسطة الشارات أهم دور فيه.
ان ظواهر ذات الطابع غير البيولوجي عندما ترتبط في علاقة زمنية مع الظواهر البيولوجية تصبح بمثابة شارات للواقع. وقد سمى "بافلوف" مجموع هذه الشارات التي تعبر عن غنى العلاقات بين الحيوان وبين الظروف الخارجية بإسم نظام الشارات الاول. وهو النظام الوحيد الذي يتوفر لدى الحيوانات. وبما أن الاجسام والظواهر الملموسة هي، وحدها، التي تشكل أساس شارات هذا النظام، لذا فإن عالم الحيوانات النفسي القائم على أساس النظام المذكور، يعتبر انعكاساً حسياً ملموساً حتى في اكثر أشكاله تطوراً.
هذا النظام الأول لا تستقل به الحيوانات فقط بل ويشاركها فيه الانسان أيضاً. وهو يلعب الدور الاساسي في سني الطفل الاول، كما يتمتع بأهمية بالغة عند الباقين. غير أن هذا النظام ليس بالنظام الوحيد عند الانسان. انه أعجز من أن شمل كل غنى شكل انعكاس الواقع لدى الانسان. ان الدور الحاسم هنا يقع على عاتق نظام الشارات الثاني، الذي يميز، جذرياً، أسلوب الانعكاس الخاص بالانسان، عن أسلوب الانعكاس الخاص حتى لدى أكثر الحيوانات تطوراً. ويتكون النظام الثاني من الكلمات المسموعة والمرئية، أي من الكلام البشري. ان الكلام عبارة عن وسائل اثارة حقيقية، شأنها شأن وسائل الاثارة الخارجية الاخرى، ولكنها تتميز عن غيرها بإستخدامها كتفسير، وكشارات لتلك الاجسام أو الظواهر التي تؤلف نظام الشارات الاول، وأنها تصبح شارة الشارات.
يقول بافلوف:"ان الانسان يتمتع، بنظام شارات آخر هو شارة نظام الشارات الاول، أي يتمتع بالكلام...وبهذا يضاف عامل جديد للنشاط العصبي، عامل تجريد وتعميم شارات النظام السابق التي لا حصر لها، عامل يحدد شروط قدرتنا اللامحدود على توجيه أنفسنا في العالم المحيط بنا، ويشكل العلم المعتبر درجة رفيعة من تلاؤم الانسان مع الوسط المحيط به".

ويتبين من الدور الذي تلعبه الكلمة، يلعبه الكلام، بالنسبة لنظام الشارات الاول (شارة الشارات)، أن كلاً من هذين النظامين يعمل، لا بشكل مستقل عن الاخر، بل في صلة وثيقة معه، وبصورة متفاعلة. ولا ينمو نظام الشارات الثاني إلا على أساس الاول، ويتأثر بخصائصه. كما ان الاول يتكون، نتيجة لوجود الثاني، كإنعكاس حسي مَوْعيّ.
ان كل ما يعكسه نظام الشارات الاول، وما يدل عليه الكلام فيما بعد، يصبح مَوْعيّاً. والطابع الموعى الذي يتسم له الانعكاس الانساني يعتبر الخاصة الاساسية في هذا الانعكاس، التي تميزه عن الانعكاس الخاص بالحيوان. ومن أجل إبراز هذه الخاصة يسمون الانعكاس الانساني بالوعي.
ثم ان شكل الانعكاس الانساني (الوعي) يتمتع بسمة هامة أخرى، تقوم على أن الوعي عامل فعّال جداً في تأثير الانسان على الطبيعة ف مجال العمل. فبفضل العمل يتلاءم الانسان مع الشروط الخارجية لا بتغيير نفسه وأعماله فحسب، بل وعن طريق تغيير الشروط الطبيعية الخارجية. ان الحيوانات لا يعدو نشاطها حد التلاؤم مع العالم الخارجي. أما وعي الانسان الذي هو نتاج ظروف وجوده الاجتماعية والتاريخية، ونتاج نشاطه الاجتماعي العملي، فيصبح ذاته عاملاً فعالاً في النشاط العملي. ان الوعي مشروط بالواقع الموضوعي من حيث مصدره ومحتواه العام. وبهذا المعنى لا يمكن اعتباره شيئاً ما مستقلاً تمام الاستقلال عن الواقع الموضوعي. وهو، بالاضافة إلى ذلك، ليس مجرد انعكاس لما هو قائم في العالم، في اللحظة الراهنة، وفي الظروف الحالية فقط. فالنشاط الابداعي الذي يقوم به الدماغ يحوّل، بالاعتماد على قوانين التفكير، شكل الحاضر إلى شكل جديد يتناسب مع ظروف أخرى تحل في المستقبل البعيد أو القريب. وفي هذا ينحصر استقلال الوعي النسبي. فبإمكان الوعي استباق سير الاحداث الفعلي، والتنبؤ بالنتائج التي ستنجلي عن الاحداث. وهو بهذا يحفز الانسان إلى نشاط هادف اما إلى بلوغ هذه النتيجة، أو إلى تجنبها. ان النتائج المتوقعة لتطور الاحداث، وهي النتائج التي يهدف إليها الانسان، ويلعب نشاطه دوراً جوهرياً في بلوغها، يسميها الهدف. ان تحديد الاهداف، والبحث الفعال عن الوسائل والطرق المؤذية إلى بلوغ حتى أبعدها منالاً، يشكلان السمة المميزة للوعي. وعلى هذا الأساس يقوم نشاط الناس العملي. وقد أصاب هيجل إذ قال:"ان العقل داه بقدر ما هو جبار. ان دهاءه هو، على العموم، في نشاطه المتخذ الوسائل اداة له، جاعلاً الأشياء تتبادل التأثير وفقاً لطبيعتها، محققاً الهدف الذي سمى إليه، دون أن يتدخل مباشرة في هذه العملية".
وفي واقع الاستقلال النسبي للوعي يتجلى التناقض الديالكتيكي الخاص به. فكلما اقترب الوعي من الواقع، وعكسه بدقة وكمال اوفى، تمتع بدرجة أعظم من الاستقلال، لأنه بهذا، يستطيع الابتعاد بقوة أعظم عن الحاضر، والتطلع تطلعاً أبعد إلى المستقبل البعيد دون أن يفقد محتواه القيم، دون أن يتحول إلى أوهام وتخيلات فراغة.
ان استيعاب الناس لإنعكاس العالم الخارجي يخضع سلوكهم لرقابة عقلهم الخاص. فالانسان ليس شيئاً آلياً يخضع لتأثير القوى اللاشعورية، اللاعقلانية، ولتأثير (الغرائز العمياء) كما يذهب إليه مثلا مذهب فرويد. فالعقل والارادة يلعبان دوراً عظيماً في مجمل سلوك الانسان. وهذا ما يميزه عن الحيوانات، وبسمو به عما تبقى من الطبيعة، التي هو جزء منها. إلا ان الانسان ليس مجرد كائن طبيعي، بل هو كائن اجتماعي، قبل كل شيء. لهذا، فهو في سلوكه، كما سنرى، يتأثر تأثيراً حاسماً بشروط كيانه الاجتماعي بصورة خاصة. هذه الشروط هي التي تحدد عقله ووعيه وإرادته.
ان بحث الطريق التاريخي لتطور خاصة المادة التي سماها لينين خاصة الانعكاس، يدفعنا لاستخلاص النتائج التالية:
أولاً، لم يظهر الوعي إلا في مرحلة معينة من مراحل تطور المادة.
ثانياً، ان الوعي المرتبط ارتباطاً وثيقاً بأكثر أشكال المادة تطوراً، أي بدماغ الانسان، هو وظيفة الدماغ المذكور.
ثالثاً، ان الوعي، من حيث النشوء والمحتوى والدور، هو أكمل انعكاس للعالم الخارجي.
رابعاً، الوعي والانسان هما نتاج العمل، على حد سواء.
هذه النتائج هي تأكيد لعمق صحة حل القضية الاساسية في الفلسفة الذي قدمته الفلسفة الماركسية. وهي نتائج تثبت أسبقية المادة على الوعي. وهو أمر لا ينبغي فهمه فقط بمعنى أن الوعي ينشأ عن المادة، بل وبمعنى أن محتوى الوعي يتحدد بالوقع المادي الذي يعكسه الوعي. ان تاريخ تطور خاصة الانعكاس تعطينا أيضاً جواباً على قضية امكانية معرفتنا للعالم. فإذا كان الوعي قد نشأ وتطور، منذ البدء، كخاصة لإنعكاس العالم، وكوسيلة نهتدي بواسطتها، ونحدد، على أساسها، سلوكنا في الواقع المادي المحيط بنا، فإن واقع سلوكنا السليم إنما يتحدث عن أن الوعي المختبر بالتجارب العملية هو انعكاس صحيح للواقع.

المادية الديالكتيكية - جماعة من الأساتذة السوفييت



#اللجنة_الاعلامية_للحزب_الشيوعي_الاردني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البنيوية الفرنسية
- فلسفة كارل بوبر
- نظرية الانعكاس والفنون
- بيان صادر عن الحزب الشيوعي الاردني حول هجوم -داعش- الارهابي ...
- نصوص من كتاب المنطق الشكلي والمنطق الدياليكتيكي
- مقاطع من كتاب، الدين والجنس والصراع الطبقي، بوعلي ياسين
- صداقة هنريتش هاينه بكارل ماركس وزوجته, الصداقة الأبدية
- ظهور الحياة على وجه الأرض
- بعض الأسباب التاريخية لانبثاق ما يسمى (الاشتراكية العربية, ا ...
- سلسلة تاريخ نشوء الماركسية
- سلسلة مادية فويرباخ الانثروبولوجية.
- الأخلاق عند ماركوس اوراليوس
- (البراغماتية) في الأخلاق
- الأخلاق عند جان بول سارتر
- (الصداقة), سويولوجياً, سيكولوجياً وأخلاقياً
- تجربة في ظل الاشتراكية الحية... بلغاريا آنذاك والآن
- الأمر القطعي (Categorical Imperative)
- الأمانة, كخصلة خلقية
- وجهة نظرنا في (الغاية تبرر الوسيلة), أخلاقياً (الأهداف والوس ...
- الأيديولوجيا في دول الطرف الرأسمالي


المزيد.....




- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - اللجنة الاعلامية للحزب الشيوعي الاردني - المادة والوعي