أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرحيم التوراني - زمن بين رحلتين















المزيد.....

زمن بين رحلتين


عبد الرحيم التوراني
صحفي وكاتب

(Abderrahim Tourani)


الحوار المتمدن-العدد: 4553 - 2014 / 8 / 24 - 14:26
المحور: الادب والفن
    


توقف القطار قبيل الدخول إلى محطة صغيرة، عادة لا يتوقف بها. مرت نصف ساعة وبضع دقائق على ذلك، فنزل بعض المسافرين وانتشروا في حقل مزهر.على جنبات السكة. بدوا كرعاة في نزهة. كنت واحدا منهم.
أكثر من نزلوا كانوا من المدخنين. بعض الشبان أخذوا يلتقطون صورا للذكرى. آخرون انشغلوا بالكلام في الهاتف، يبلغون ذويهم، يخبرونهم بتأخر القطار.
مضت أربع ساعات وأنا في القطار. رحلتي صوب المدينة الساحلية يفترض أن تمتد بي إلى اثني عشر ساعة كاملة، أي نصف يوم. وقد تزيد عن ذلك قليلا أو أكثر، كما هو حاصل الآن.
على بعد أمتار قليلة من سكة الحديد، رأيت طريقا ثانوية تمر بها السيارات والشاحنات والعربات. وفي الخلف بدت بنايات واطئة يتقدمها في الواجهة كشك ودكان ومحل لإصلاح عجلات السيارات. قلت لأذهب لاقتناء علبة سجائر، وفي نفس الوقت أتمشى. أربع ساعات من الجلوس تتطلب بعض المشي. توقف القطار سيطول. هكذا فكرت.
وأنا أهم بمغادرة كشك السجائر صادفت أحد أصدقائي القدامى. عتيق الصغير، هو وأنا لم نتقابل من أعوام. كان الصديق مسافرا باتجاه المدينة التي قدمت منها. ما أن رآني حتى اندفع نحوي معانقا. أبلغني أنه مسافر إلى أهله بسيارته وقد توقف للاستراحة. وأفهمته أنا بأني في سفر عمل، وقد توقف قطاري لعطب ما. ثم رفعت عيني باتجاه سكة الحديد. ما أن التفت، حتى تحولت حركتي إلى ما يشبه إشارة الانطلاق. فوجئت بالقطار يستأنف سيره ويبتعد. أصبت بذهول وصدمة. حاول من معي طمأنتي وتهدئتي.
قال عتيق مواسيا:
- لا بأس يا صديقي. ما عليك إلا انتظار القطار التالي رغم طول الفاصل الزمني الذي لا يقل عن ساعتين، إلا إذا كنت مستعجلا فعليك بالحافلات التي تمر من هنا، لتوصلك إلى المدينة الأقرب، أو إذا أسعفتني الرأي، خذ لك إحدى سيارات الأجرة، هي متوفرة هنا بشكل متواتر، ومنها تدبر أمر مواصلة رحلتك.
لكني لم أهدأ ولم أطمئن. لاحظ صديقي صمتي وشرودي، وربما انتبه إلى لون وجهي الذي يكون قد تبدل وانخطف.
لم ييأس الصديق، استعمل ملامحه ويديه للتعبير كممثل ناجح، واستنجد بحكم وأمثال، بل بآية قرآنية لم تستقم على لسانه. لا أذكر كيف نطقها، لكني فهمت أنه يعني الآية الكريمة: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم".
جلست على صخرة أمام الكشك، أحسست بتعرق جسدي. نظرت إلى السحب المتلاشية في السماء، اختلست نظرة إلى وجه صاحبي، وليسمح لي الإله، بدا لي صديقي القديم دميما بشع الخلقة، وهو ليس كذلك. حاولت أن أوضح له سبب حزني وصدمتي.
- أنا لست حزينا على الوقت الذي ضاع مني وعدم وصولي في الموعد يا رجل.
ابتسم وارتسمت على محياه الصورة التي كونتها عنه، السذاجة البلهاء. هل هناك سذاجة غير مقترنة بالبله؟ تساءلت في سري. أجبت بنعم، السذاجة المستبلدة. (لامها مكسورة) لكن لماذا سيستبلدني؟
كرر لي نفس الآية بنفس الأخطاء. تذكرت أنه درس بمدارس البعثة الفرنسية، وأكمل دراسته في كورسيكا، وأن ما بينه وبين لغة الضاد "غير الخير والإحسان".
أجبته بلغة موليير:
- أنا يا صاحبي لست منزعجا من هروب القطار. لكن من ضياع حقيبتي وحاسوبي وبه كل ملفات عملي .
سكت. ظل ينتظر مني مزيدا من الكلام، لكني صمتت.
بفرنسية طليقة وبلكنة أهل كورسيكا سألني:
- اسمح لي لم أسألك عن عملك وطبيعته.
ثم استدرك وأخبرني عن مهنته:
- لم أخبرك يا صديقي أني أعمل في مجال الإخراج السينمائي، كذلك زوجتي، هي تعمل كاتبة سيناريو.
فكرت، وأجبته بأني أعمل وكيلا لشركة أجنبية مختصة في تسويق البرامج الإلكترونية. كنت أكذب. ولم أعرف لماذا كذبت عليه. قررت أن لا ألقاه لاحقا. اعتقدت أن لقائي به هو سبب ما حصل لي من تضييع قطاري.
اقترح علي الذهاب إلى محطة القطار القريبة وإخبار رئيسها بما حصل لتدبير الموقف. لما ذهبنا فوجئنا ببناء خرب، وببناية مهجورة، لا تتوقف القطارات بها.
عاد الصديق عتيق يقترح علي السفر إلى المحطة الأقرب، وكانت تبعد بحوالي سبعين كيلومترا عن موقع تواجدنا.
شكرته على مساعدته ولطفه وتضحيته بسفره في الاتجاه المعاكس من أجل تقديم المساعدة لي. تراجعت عن فكرة عدم لقائه.
في طريقنا أخبرني عن مهنته وعن عمله مخرجا مساعدا في عدد من الأفلام المحلية والأجنبية، وأنه بصدد العمل على الإعداد لإخراج أول أفلامه السينمائية.
حكى لي فكرة الفيلم، وهي عن رجل أعمال ثري مسن تهرب زوجته الحسناء مع عشيقها الشاب الفقير الوسيم، فيقيم الثري الدنيا ولا يقعدها، ويسرد الفيلم بأسلوب كوميدي أحداثا وطرائف مثيرة للسخرية والضحك، يتتبعها المتفرج عبر محطات تهريب العشيقين لعلاقتهما الآثمة من منطقة إلى أخرى.
سألني عن رأيي في سيناريو مشروع فيلمه الأول. كنت منشغلا بمشكلتي، فلم ألتقط كل كلامه، وكغارق في النوم تم إيقاظه من سبات، أجبته:
- فكرة لا بأس بها.
ثم استدركت لأقول:
- بل هي رائعة، وغير مسبوقة، لا بد أن الفيلم سيشكل حدثا وسيجذب الجمهور ...
- لم يقتنع المخرج بكلماتي، كانت المجاملة والمحاباة جلية في مخارج حروفها. لم يعد لدي شك في ذكائه لأنه اكتشف نفاقي بسهولة.
حاولت تغيير الموضوع ، لكنه عاد إلى السينما. قاطعني:
- ما رأيك في تحويل قصتك إلى فيلم.
- نظرت إليه وهو بسوق سيارته الرباعية الدفع في طريق غير معبدة.
- أي قصة تقصد.. لا توجد في حكايتي قصة حب ولا هروب لمن يحب.
أتمم كلامه بحماسة ظاهرة.
- ستبدو لك قصتك تافهة وعادية وغير جديرة بتحويلها إلى عمل إبداعي، لكنك ستغير رأيك مائة في المائة لما تترجمها لويزة (زوجته) إلى سيناريو سينمائي. لويزة من كبار كتاب السيناريو لو علمت.. ثقتي بها عالية، سيكون لها شأن كبير.في السينما العالمية.
وصلنا إلى المحطة وقصدنا مكتب رئيسها، طلب مني المسؤول تذكرة سفري، أريتها له. أثار انتباهي إلى أني ركبت القطار الخطأ. كان مراقب التذاكر أمامي.
- هذا القطار لن يتجه صوب الساحل، سيدي.
لم أفهم كلامه.
عاد ليشرح لي ما لم أفهمه.
- لقد أضعت قطارك وركبت قطارا ثانيا، سيدي. نحن نتجه إلى المدينة الحدودية.
انتبه من معي في المقصورة. تمتموا، أشاروا علي بالنزول في المحطة القادمة وأخذ قطار آخر. لا حل أمثل من هذا الحل.
كنت مسافرا للقاء بامرأة كانت لي بها علاقة قديمة، فتحت الهاتف المحمول، أرسلت لها عبر الإس إم إس، أخبرها أنه يفصلنا عن بعض نصف يوم أو يوم. وختمت نص الرسالة القصيرة بكلمة: أحبك.
كانت الحيرة تغمرني، والحزن باد على وجهي، بهذه الرحلة الخطأ التي عاكست أملي. حتى أني فكرت في الذهاب إلى قمرة سائق القطار وأطلب منه تغيير سير القطار لو أمكن.
سألت المراقب عن عدم إخبار المسافرين وتطمينهم عبر مكبرات الصوت المبثوثة عن سبب توقف القطار في القرية إياها. فاجأني بأنه لم يتم تسجيل أي توقف، وبأن هذا القطار لا يمر بالقرية التي ذكرت.
نزلت في المحطة التالية. تلمست جيب سترتي، وجدت علبة سجائر وبطاقة زيارة تخص صديقي المخرج الذي لم ألتق به من أعوام خلت.
ثم انهالت علي الأسئلة دفعة واحدة:
- لماذا ذهبت أبحث عن علبة سجائر وأنا لا أدخن، ولماذا أخفيت عن عتيق مهنتي؟
- ومن أين جاءتني علبة السجائر، وهذه البطاقة التي تحمل اسم الصديق القديم وعنوانه وهاتفه؟
أنا أيضا أعمل في مجال السينما، والتي تنتظرني ليست كاتبة سيناريو فقط، بل ممثلة ومخرجة سينمائية.
ستقول لي صديقتي التي تعد نفسها في أوقات التسلية مفسرة أحلام لو سألتها:
- تلك أضغاث أحلام.
قررت أن لا أسألها لما نلتقي، مقتنعا بكونها "مجرد أضغاث أحلام".
اتصلت من كشك الهاتف بالمحطة بالرقم المسجل على بطاقة السينمائي، ردت علي زوجتي.
أخبرتني أن صديقا قديما لي اتصل، وقال أنه سيعيد الاتصال لاحقا.
- ألم يترك اسمه؟
- بلى، لقد سجلت اسمه، اسمه: عتيق الصغير.
ثم قبل أن أقفل الخط سارعت لتشكرني على الرسالة الهاتفية التي بعثتها إليها.
قالت ضاحكة:
- أنا لم أفهم قصدك أنه لا يفصلنا عن بعض إلا نصف يوم أو يوم، وأنت مسافر لفترة لا تقل عن أسبوع، لكنك ربما لا تتصور فرحتي وسعادتي بكلمة "أحبك" التي ختمت بها رسالتك إلي. ألم تلاحظ أنك لم تقل لي هذه الكلمة السحرية من زمان.



#عبد_الرحيم_التوراني (هاشتاغ)       Abderrahim_Tourani#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كلام كثير
- القبر الأخير
- حفلة بالطربوش الأحمر
- الاستشهاد مغادرة طوعية للحياة
- مقاولة -إنما الأعمال بالنيات-
- سكرة بجوار الموتى
- كم ثمن الفرح؟
- غبار محمل بالغضب
- زفزاف.. البوهيمي المفترى عليه
- فلسطين برازيلية لا عربية
- قتل حاخام مغربي فاشل
- -الخبز الحافي- إبداع مشترك لدييغو مارادونا ومحمد شكري
- قصة مباراة نهائية
- موعد غرام مؤجل
- فوزالدودة الضرورة
- لوح
- من أعمال سلفادور دالي غير المكتملة.. من مقتنيات متحف الجامعة ...
- ماذا يجري في حكومة هذا البلد الأمين الذي اسمه المغرب؟ بعد ضر ...
- قصة إدوارد موحا وما جرى له أو حكاية عن الجحود والغبن المخزني
- الدكتور محمد الحبابي: الزهايمر السياسي أشد خطورة وإدريس لش ...


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الرحيم التوراني - زمن بين رحلتين