أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - رحلتي أنا و زيزو : بحث عن المواطنة الضائعة















المزيد.....


رحلتي أنا و زيزو : بحث عن المواطنة الضائعة


عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .


الحوار المتمدن-العدد: 4536 - 2014 / 8 / 7 - 09:05
المحور: الادب والفن
    


بعد طول انتظار، ها أنا والأطلس المتوسط وجها لوجه، فلم أزر الأطلس المتوسط كثيرا في حياتي، باستثناء زيارتي لشلال أوزود رفقة بعض أصدقائي الأساتذة، لكن هذه الزيارة لم تخول لي الاحتكاك بالأطلس المتوسط، بمعنى الاحتكاك بتضاريسه المرتفعة، وبخرير مياهه، وبشيوخه المحترمين، وبقراه الطينية المتناثرة، وغاباته المتشعبة، وطرقه الملتوية، وأطفاله الرائعين، ونسائه الجميلات ...
لم تكن رحلتي يسيرة، لقد انطلقت من الرباط على متن الحافلة في حدود الساعة العاشرة ليلا على أمل الوصول إلى مدينة خنيفرة صباحا، غير أنني لم أعثر على الحافلة التي تقودني وفق هذا المسار، فكان لزاما علي أنا وصديقي زيزو التوجه عبر بني ملال، ركبنا الحافلة، وأخذنا مقاعدنا، وعلى العموم كانت المحطة مكتظة يكتنفها الهرج والمرج، ويتخللها من حين لآخر صراع بين القباضين حول الركاب، وليس غريبا أن يسمع المرء كلمات نابية من قبيل : ولد القحبة، نحوي مك .. ، إنها الكلمات الرائجة في المحطات المغربية كالقامرة وولاد زيان، فقبل أن تلج المحطة حتى تهاجمك كلاب برية تريد أن تعرف النقطة التي تريد أن تذهب إليها، وطيلة ترددي على المحطة لم أكن أبالي بهم، فأتركهم ينبحون، وفي هذه الرحلة حضرت إلى معركة دارت بينهم، فانكسرت أنوف بسبب ذلك، إن القاعدة التي خرجت بها في هذا المكان هي : إذا أردت أن تفهم مدى تخلف المجتمع المغربي عليك أن تزور المحطة، ستجد فيها النفاق والكذب والانتهازية والحيوانية والتوحش والعهر، بمعنى أنك ستجد مغربيا عاريا من الأخلاق، أو حيوانا متوحشا .
رغم أننا صعدنا إلى الحافلة، فإننا بقينا ننتظر انطلاقتها، فمنذ أن دخلنا المحطة ونحن ننتظر، وها نحن نركب الحافلة ومازلنا ننتظر، فالمحطة هي اختزال للمجتمع المغربي، لهذا فالانتظار هو ثقافة في المجتمع المغربي، هو دليل على مرض مزمن يعتمل في كيان هذا المجتمع، فهو يجسد ثقافة الهدر، بمعنى هدر للإنسان، وفي هذا الإطار، فالراكب – الإنسان لا يعدو أن يكون في نظر أصحاب شركات النقل جزءا من فياج دال الحجر " يساوي رصيدا ماليا معينا على السائق إيصاله إلى النقطة المعلومة لتفريغه، ولهذا فالركاب شأنهم في ذلك شأن الحجر، وفي هذا الصدد لا ينبغي أن نتعجب عندما نجد أغلبية الحافلات المغربية من طينة لافراي ، صغيرة الحجم كعلب السردين، لكن رغم ذلك فالحافلة التي توجهنا عبرها لم تكن من هذه الطينة، إلا أن أصحابها بشر عراة، وتجلى هذا العري حينما أرغموا أحد الركاب النزول على مشارف برشيد، لقد اتفقوا معه على إيصاله هناك، لكنهم تنكروا إلى ذلك، وعندما أبى النزول، قال له أحدهم : واش نت مرة ؟! "، فما كان من الراكب إلا أن نزل على مضض، لست أفهم لماذا يقرن الخوف بالمرأة ؟ وحسب ما يبدو لي أنه لكي لا تقوم المرأة بدورها وواجبها وتظل عالة على الرجل تدعي الخوف، ولهذا فهي لا تريد الحرية، ولا تريد تحمل مسؤوليتها، فالخوف من الحرية من أكبر الهواجس التي لا تقدر المرأة على مواجهتها، غير أنه في هذه الحالة تم التذرع بالمرأة لكي لا يقوم السائق بواجبه، ولكي يتنازل الراكب عن حقه، فالمرأة هي الخوف والخائف والمخيف، فلو كان الراكب امرأة ونظرا لخوفه من اللصوص، فإنه يخيف السائق، فإذا لم يوصل المرأة ستنهمر عليه شتائم كالصخور المنهمرة من أعلى الجبل، لهذا فالرجل هو الخائف الأكبر في هذه الحالة، فخوفه من خوف المرأة، وخوفها من خوف الرجل، وخوفهما من خوف المجتمع، والخوف يحيل على تدني المجتمع وانهياره وقطيعيته .
منذ أن انطلقنا من الرباط أنا وزيزو لم نتوقف من الكلام، لقد كان زيزو يمتص فانيدة مانت ، وهو يتكلم عن عشقه للصيد، وكيف أدى به حبه للبحر إلى سقوطه ضحية لموجة عاتية، إنه يأخذ معه يوميا صنارته ويتوجه إلى شاطئ الهرهورة، ويصيد ما لا ينتهي من الأسماك، وبين لحظة وأخرى كان يطلق قهقهات تملأ الآفاق، ولم يكن ينتهي من التهكم، ولكن ليس بغرض السخرية من الآخرين، بل بغرض الضحك ليس إلا، وخلال رحلتي هذه اكتشفت أن زيزو مواطن مغربي وليس كبقية القطيع، وحينما وصلنا إلى محطة الفقيه بنصالح، توقفت الحافلة بتدبير من أصحابها، لقد ادعوا أن الحافلة تعطلت، فطلبوا من الركاب النزول من أجل التوجه صوب حافلة أخرى، بيد أن زيزو فطن إلى لعبتهم، فالحافلة لم تتعطل، ولا وجود لحافلة أخرى، وهكذا ذهب زيزو لكي ينتفض في وجههم، ويصرخ على مسامعهم، وظل شوكة تأبى البلع، لكن جماهير الرعاع لم تقف إلى جانبه، وغادرت الحافلة على مضض، وبمجرد ما غادروا المحطة، صفعهم برد الفجر القارس، وبعد هنيهة عنعن محرك الحافلة التي أتت بهم متوجها نحو سبت ولاد زيدوح، فظلوا عالقين، ولم يجدوا من يقودهم نحو بني ملال، فظلوا محشورين في مكانهم يعضون المزرار ، وعلى وجوههم يطفو نوم غائب، ويلتمع قلق ممتقع اللون، لكن لم يكن قلقهم يوازي قلق زيزو، لقد عاش قلقين، ومن ثمة كان ينتظر الفرصة ليكشر عن أنيابه، لكن كل شيء مر كالبرق، وفجأة مرت دورية الشرطة فتوجه نحوها، فحكا للشرطة الأمر، فرد عليه الضابط :
- ينبغي أن تحرر شكوى !
فانتفض في وجهه زيزو قائلا :
- أنا أعرف هذه الطريقة، ولا داعي لكي تقولها لي، لكن أين هو حقي الآن، أنا معلق في المحطة، أنا لدي يومان كعطلة، أتريد مني أن أقضيها بين مكاتب الشرطة ؟؟ أين هي دولة الحق والقانون ؟ أين هي شرطة القرب التي تتبجحون بها في إعلامكم المزيف ؟؟!
فعلا، إنها شرطة لم توجد لتحمي المواطنين، بل لتحمي الأثرياء والأغنياء والسياسيين الكبار، في هذه اللحظة كنت أقول لزيزو :
- أحسنت أيها المواطن المغربي الأبي .
لقد قضى ثلاث ساعات في المحطة ليكون مواطنا مغربيا يأبى الانهيار، وهكذا بمجرد ما فرت الحافلة، دخلت على الخط حافلة أخرى تمارس السمسرة، طالبة من الركاب إضافة خمسة عشر درهم من أجل الوصول إلى بني ملال، والغريب في الأمر أن بعض الركاب الرعاع قبلوا باللعبة، ولم يفطنوا إلى التواطؤ بين الحافلتين، تبا !!
ذهبنا إلى محلبة، فتجرعنا براد شاي، فحل الصباح، وإذا بالحافلة التي فرت، تطفو عائدة، فاعترض سبيلها زيزو، فأنزل سائقها، وراح يسبه سبا، ويشتمه شتما حتى انهارت دموع السائق، وفي الأخير أعطى لزيزو أربعين درهما قادتنا نحو بني ملال ...
الرحلة بين الفقيه بنصالح وبني ملال من أجمل المراحل، لقد استلمنا أربعين درهما، ركبنا سيارة أجرة، كان سائقها مرحا يميل إلى الدعابة، وكان بين لحظة وأخرى يرقص على إيقاع موسيقى شعبية يحفظها عن ظهر قلب، منذ بداية كلامه فهمت أن هاجسه هو المرأة، وفي إحدى اللحظات عرف المرأة بالقول : المرأة هي السرير "، فإذا لم يكن الزلاط (القضيب) متينا، فأنت لا تساوي شيئا في عرف المرأة، ومعنى هذا الكلام أن المرأة تريد من الرجل أن يكون لديه قضيب ناجع الفعالية، فعلا في كلام هذا الرجل بعض الصحة، لقد لاحظت في بعض مراحيض المحطات عبارة كتبتها امرأة على الحائط : أنا قحبة، عمري 30 سنة اللي عندو زب غليظ يتصل بي على الرقم ..."، من هذه العبارة يتضح أن هاجس المرأة هو القضيب، ولهذا يجدر أن نغير لفظة الحب بالزب (القضيب)، وبعيدا عن الكلام المجير، وخضوعا لدرس فرويد كل فعل إنساني يحمل دوافع جنسية، من هنا يبقى الحب وسيلة للوصول إلى الجنس، ومن ثمة فالحب هو الغطاء الايديولوجي لشرعنة الجنس، فلا حب دون جنس، وكل امرأة تريد حبا دون جنس هي مريضة نفسيا تعاني عصابا ماحقا يحول دون تحرير طاقاتها الجنسية، ولهذا فهي تصطنع حبا للتسامي عن غرائزها الجنسية، لذا فهي تحتاج لطبيب جنساني يعمل على تحرير طاقاتها الجنسية لكي تعانق الحياة .
لما وصلت إلى بني ملال، شعرت أنني واحد من أبنائها، لم أحس بالغرابة أبدا، لم تعد هي بني ملال التي عرفت، لقد أصبحت حدائقها جميلة، فأخذت بعض الصور، ورحلت صوب خنيفرة، تسير الحافلة ببطء، وأخيرا وصلت إلى تادلة، لم يكن واد أم الربيع بخير، لون أخضر يثير القيء، علب مرمية هنا وهناك...تنحرف الحافلة يمينا صوب زاوية الشيخ، أطل من النافذة، ركام من الأزبال على قارعة الوادي، أطفال بألبسة مهترئة يلتقطون البقايا، أدخنة سوداء تزكم الأنوف، نعاج نحيفة ترعى الخضروات الفاسدة....حتى الطبيعة اغتصبوها، لقد قلت لزيزو أمام محطة الفقيه بنصالح : أن الذين يسيرون دفة الحكم بالمغرب يمارسون علينا الجنس في كل لحظة ، فكم من قالب نهزه في الثانية، فلتنظر يا زيزو إلى الخنائن المتساقطة من أنوف هؤلاء الأطفال الكادحين لتعرف مدى الحواء أو الجنس الذي يمارس علينا يوميا، لقد تحول المجتمع إلى عاهر فاقد لذرة من القيمة، فكم من المتسولين صادفنا، وكم من اللصوص، وكم من الكادحين والمرضى....تشارف الحافلة الجبل، منازل مهترئة تستوطن بين غابات الزيتون .
شيئا فشيئا تصعد الحافلة الجبل كنملة صغيرة، وبين منحدر وآخر تتعرج، سرعان ما تصعد، ومن حين لآخر تقتحم قرية جبلية، لم تكن المنازل بخير، لقد كانت عبارة عن منازل مهترئة تزاوج بين الطين والاسمنت، ويحيط بها أطفال بملابس ممزقة يترنحون هنا وهناك، أما الأمهات فيقبعن قرب الأفران يطهين الخبز، اقتربنا من مدينة زاوية الشيخ، اجتازت الحافلة شارعا، وبعض لحظات تقيأت ركابا، سرعان ما صعد ركاب آخرون، خلال طريقي بين تادلة وزاوية الشيخ جلست بالقرب مني امرأة ناصعة البياض، بادرتها بالحديث، لكنها انطفأت كمصباح مهترئ، غمزتها، فانحدرت بعينيها نحو القاع، ظننت أنها ستبقى بجواري حتى خنيفرة، لكنها نزلت في تلك الزاوية الملعونة، ظل المكان شاغرا إلى أن ملأه رجل ممتلئ الجسد، لم يكن يتكلم، بل طفت عليه سيماء الغضب كأنه أخوها، لم أبالي به، وواصلت اكتشاف الأطلس المتوسط، فتارة تبدت لي أنهار جارية، وبحيرات متموجة، وعلى القارعة سيارات رابضة، هذا هو الأطلس بغاباته وأشجاره وخضرته، داهمني نوم للحظات، سرعان ما فقت، فطيلة رحلتي من الرباط لم أنم، بل كنت أمزح وأضحك، كما أن اللحظات المريرة التي قضيتها في محطة الفقيه بنصالح حيث صفعني البرد صفعا، كان هذا دافع قوي حثني على النوم، غير أن هذا لم يدم طويلا، لقد زلزلت أذني زخات الحافلة، ففتحت عيني، فقرأت على اللوحة جماعة موحا أوحمو الزياني، فطرحت سؤالا : أين جرت يا ترى معركة لهري ؟ أين يكون ضريح موحا أوحمو ؟ كل الأمكنة تبدت لي شامخة شموخ أهل زيان الأفذاذ يوم لمعوا أمام المستعمر الغاشم، لكن أين هو شموخهم ؟ لماذا أرى المنازل طينية ؟ لماذا أرى هذا الفقر الممتقع على أهل زيان ؟ هل اختفى بين هذه البيوت الحجرية ؟ هل توارى كل شيء أمام هذه الوجوه الكاسفة أم رحل كل شيء مع الوادي ؟؟ أخرج من قبرك يا موحا ولتقد انتفاضة أخرى من أجل مغرب عادل، فلتنظر إلى الفقر الطافي على أبنائك .
خنيفرة مدينة فقيرة، محطتها متسخة، شوارعها مضطربة، بمجرد ما وصلنا أخذنا دوشا، أزلنا عياء السفر، جلسنا لبرهة في المقهى، تناولنا أطراف الحديث، ضحكنا، ثم خرجنا للتجول في المدينة، كان الجو حارا، في وسط المدينة صادفنا تظاهرة تطالب بتخفيض رسوم الكهرباء والماء، تجمع المحتشدون قرب العمالة، كانت الشرطة متواجدة بشكل مكثف، لم تتدخل، في حين كانت حناجر المحتجين تناشد الملك لإنصافهم، غادرنا المكان بسرعة، سرنا عبر الشارع المتاخم للمحطة، هناك تناولنا طاجينا، كان لذيذا وساخنا. ومازالت سخونته حتى الآن تؤلمني، اخترنا مكانا خارجيا، وهناك شرعنا في الأكل، بعدها امتطينا سيارة أجرة صغيرة صوب محطة أكلمام . لم تكن محطة بمعنى الكلمة، بل فقط طريق متربة تربض فيها سيارات من نوع الخطافة . حينما وصلنا، وجدنا مجموعة من المنتظرين، ولكن كان علينا أن نتريث قليلا، فمكثنا قرب المقهى، فما كان من صاحبته إلا أن طلبت منا مغادرة المكان . أخذنا لوازمنا، ووضعناها في مؤخرة السيارة، وصعدنا إلى أكلمام، الطريق ملتوية، الغابات تحيط بها من كل جانب، ومن حين لآخر تبزغ منازل حجرية قديمة، مثلثة الشكل، بعض منها تخرج منها نسوة يعكفن رؤوسهن، ويعتلي بشرتهن جمال منقطع النظير، الأمازيغيات جميلات، فإذا أردت أن تعرف الجدية والعمل الدؤوب احتك بأمازيغية، فرغم قساوة الحياة، فإنك تجدهن مرحات . تعتبر الفلاحة هي النشاط الاقتصادي الذي يمتهنه الأمازيغ، ففي بعض المناطق هناك بعض القبائل تعتمد على البور، فتجد الأهالي يزرعون الأرض في الخريف ويحصدونها في الصيف، لكن هناك من يعتمد على الزراعة في الخريف والحصاد في الصيف مع معاودة الزراعة في هذا الفصل بالضبط، وخاصة من يملك أرضا قرب المروج أو العيون أو الآبار، الشيء الذي يتيح للمواشي تعاطي العشب الرطب في كل الفصول، لكن بعض الرعاة يفضلون التنقل بالمواشي بعيدا .
نغادر طريقا ملتوية، سرعان ما تستقبلنا فسحة، تمشي السيارة ببطء، يظهر على محركها نوع من التهالك، ففي الطريق كان السائق من حين لآخر يتوقف ليسكب عليها الماء، طيلة المسافة بين خنيفرة وأكلمام كانت الطريق على ما يرام، بيد أننا حينما وشكنا على الوصول أصاب الطريق الاهتراء، وراحت العجلات تتدحرج محدثة قرقبات، أكلمام عبارة عن بحيرة شاسعة تقدر 110 كلم مربع، على واجهتها اليمنى شيد المصطافون خياما، كانت الخيام من البلاستيك، أو من صوف أو جلد الماعز، بعض هذه الخيام أتى بها أصحابها، وبعض آخر للكراء، عندما وصلنا حملنا حقائبنا، ورحنا نكتشف البحيرة، كنا جد متعبين، أكلنا ونمنا بعض اللحظات، تركت زيزو نائما، ورحت أتجول جانب البحيرة، كان الصمت يلفني لفا، شعرت بتدفق شعري، فقمت بنظم قصيدة، وبعدها سرت أتجول أنا والوحدة بمعية نعيق البوم، وزقزقات الطيور المائية، وصفير الأطفال، أحسست أن روحي تمثل أمامي قاذفة أدران الحضارة ...عدت، فوجدت زيزو مازال نائما، أيقظته، تناولت عصيرا، جمعنا حقائبنا، أخذنا صورا، وبتنا نفكر في العودة إلى خنيفرة للمبيت هناك، أعجبنا المكان، أسحرنا، وها نحن نفكر في البقاء، اكترينا خيمة، اشترينا شموعا، تناولنا عشاءا بسيطا، كتبت قصيدة، استسلمت للنوم على إيقاع موسيقى ناس الغيوان ، غنتها فتيات بإتقان رائع، روعة في روعة، والغابة تلفني لفا، استيقظت في الصباح الباكر، تبولت، وعدت لأكمل النوم، عاودت الاستيقاظ، غادرت الخيمة، تركت زيزو نائما، ذهبت إلى البحيرة، عثرت على قنينة، ملأتها بالمياه، ذهبت بعيدا إلى أدغال الغابة، هناك تغوطت بكل حرية، أثناء عودتي من الغابة التقيت فتاة، تحرشت بها، أوقعت بها، جلسنا للحظات قرب الصخور، حكت لي عواطفها وأحاسيسها، اقتربت منها، حكيت لها أحاسيسي برومانسية متدفقة، بدت الفتاة تقترب مني، عانقتها عناقا دافئا، أشبعتها قبلا، وبعد مضي أكثر من نصف ساعة أحسست بجوع ماحق، فغادرتها قرير العين .
عدت إلى الخيمة، فوجدت زيزو مازال نائما، أخذت مذكرتي، وشرعت في تدوين التفاصيل الأولى من الرحلة، استيقظ زيزو، بعدها توجهنا نحو صديقنا المحجوب، فتناولنا شايا مشحرا ممزوجا بالجبن والزيت، المحجوب شخص مرح وطيب، يجيد اللباقة، يشتغل إلى جانب زوجته وامرأة أخرى، ناهيك عن ابنته التي كانت ترتدي لونا ورديا، حقا لقد كانت فتاة تخلب الناظرين، تملك وجها محمرا، تميل إلى الصمت، كانت بين الحين والآخر تذهب لكي تجلب الماء من البحيرة أو من بئر أكلمام .
غادرنا المقهى القروي، تستقبلنا الشمس بحرارتها المرتفعة، أمشي فوق الزهور مزهوا بنعالي الجلدية، ترمقني الفتيات بنظرات شبقية، سمعت واحدة تقول : آه لو كان لي ، أحاذي البحيرة، أتخلص من ملابسي، أقفز بحركات بهلوانية، أسبح برشاقة، أذكر صديقتي آمال، لا أحن إليها، المستقبل يحمل لي من هي أفضل منها...أحمل ملابسي، أمشي محاذيا البحيرة، يغني زيزو، يمزح، يضحك....
بينما نحن نمشي قرب البحيرة، فجأة ظهر رجل ثمانيني، كان يحمل حطبا على ظهره، كان يرتدي جلبابا، وعلامات البشارة بادية على محياه، كان كثير الضحك، بادرنا بالقول :
- من يستطيع منكم أيها الشباب أن يتحداني بعبور هذه البحيرة ؟؟!
كان يمزح، لكننا لم نجرؤ على تحديه، فرغم أنه شيخ، فإنه مازال في كامل العنفوان، كان هذا الشيخ يرتدي جلبابا بنيا، ويعتمر طاقية بيضاء، وعلى ظهره يهز حطبا، يبدو أنه تغول كثيرا في الغابة، ويظهر من مرحه أنه يريد أن يكشف شيئا لا نعرفه عن البحيرة . يتحدر هذا الرجل من واد زم، ولكنه عاش أربعين سنة بمحاذاة البحيرة، يقول أنه ناضل إلى جانب المقاومة المغربية المسلحة لدحر الاستعمار الفرنسي، كما قاوم الخونة ببسالة، يذكر أنه كان طفلا صغيرا، وكان يرتدي سروالا قصيرا وكان من حين لآخر يمرر المنشورات بين المقاومين، ونظر لصغر سنه، فإنه لم يثر المحتلين، وكم مرة اعتقل بسبب ذلك، يقول أنه عقب الاستقلال لم يستفد شيئا، فغادر قبيلته التي تدعى السماعلة، سألته عن المقاومين، فذكر لي المقاوم بندواد...يوم تصدى ببسالة للمعمرين الذين كانوا ينهبون فسفاط البلاد، ويضيف أنه سار على نفس منوال هذا المقاوم عقب الاستقلال، لكن جهوده الحثيثة ذهبت سدى، لقد استولى الخونة على ثروات البلاد، بينما المقاومون الحقيقيون تم نفيهم، وتم تركهم عرضة للتهميش، يقول الشيخ : لقد أتيت إلى أكلمام لكي أسترزق رفقة أبنائي، وأثناء حديثه عن البحيرة، أبرز أنها طافحة بالمجهول، ولازالت جثث الضحايا عالقة إلى الآن، وكم من أصدقاء قضوا نحبهم، لكن كيف بدأت هذه البحيرة ؟ يعزى مصدر هذه البحيرة إلى سيدة تدعى العزيزة، تقول الأسطورة الأمازيغية أنه ذات يوم من أيام الصيف نصبت مجموعة من القبائل خيامها، ولم يكن في ذلك اليوم أي ماء في هذه الأرض التي هي مكان البحيرة حاليا، فرحل جميع العزابة نحو المرعى، وتركوا سيدة تدعى العزيزة لمراقبة الخيام، وحينما رحل الجميع، خرجت هذه السيدة لجلب الماء، وفجأة انهمر النبع، وغمر الماء السيدة وكافة المياه، ولما رجع الأهل لم يعثروا على شيء، فأسموها أكلمام العزيزة تيمنا بهذه السيدة . بين كلامه المسترسل فهمت أنه يحن إلى شبابه الزاهي، إلى طفولته البريئة، إلى أصدقائه الذين قضوا نحبهم في البحيرة . كما يحن أيضا إلى المواسم التي نظمت هنا، وخاصة ذلك الموسم الذي حضر فيه الحسن الثاني إلى جانب الشاه . يحز في نفسه أن يتم النظر إلى الهوامش كفلكلور، فهو يرفض هذا التهميش، ويتمنى في دخيلته أن تكون تنمية فعلية على مستوى البنية التحتية، الهدف منها هو فك العزلة عن المناطق المهشمة، كما ينبغي تطوير وعي الإنسان القروي ..نتجرع ماء بئر أكلمام، ونغادر هذه البحيرة، في عيناي الأسى، وفي قلبي خيبة أمل، نركب خطافة، وها هي عجلتها تدور شيئا فشيئا، وبعد لحظات ستختفي أكلمام . تكاد دموعي أن تنهمر، أشعر بوخز عميق، تمنيت أن أضيف يوما آخرا . أعجبني كل شيء فيها . كانت مغادرتي بطعم الفشل، لقد أحسست أن المغادرة تنوء في كياني كالإسفين . تدمرني . لكنني عقدت الأمل في العودة ثانية . هذه هي أرضي، لقد بحث عنها منذ سنين . وها أنا أحس أنني واحد منها . تستقبلنا خنيفرة بهرجها ومرجها . سرت عبر شارع محمد الخامس، اجتزت القنطرة . تناولت أنا زيزو عشاء، لم تفتني فرصة التحرش . فالجمال في هذه المدينة لا يضاهيه جمال في المغرب . جمعنا حقائبنا ورحلنا . وطيلة رحلتنا من خنيفرة إلى الرباط كان المرح هو مزاجنا ....يجيد زيزو التهكم ...الرباط صامتة، مظلمة، لكن زيزو . أشعلها . وعاش مواطنا أبد الدهر ....


عبد الله عنتار /03 غشت 2014 / الرباط – المغرب



#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هارب من المنفى
- سطوة الأفول
- لا تثق فيهن
- البون الذي ينزف دما
- فلتكبري في حلمي
- منزلنا الريفي (54)
- إسفين على جرحي الثخين
- لأن عيوني ماتت
- أرحل مضارعا السماء
- منزلنا الريفي (53)
- في انتظار اللحظة التي يبكي فيها العصفور
- منزلنا الريفي (52)
- راحلتي
- الشفق الراحل
- منزلنا الريفي (51)
- منزلي توقد بالنار
- حلمي المصلوب
- لا ترميني بالحجر
- تائه في دروب الذاكرة
- اليوم، أجمع الرحيل باكيا


المزيد.....




- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله عنتار - رحلتي أنا و زيزو : بحث عن المواطنة الضائعة