أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الحلبي - أبو السبع















المزيد.....

أبو السبع


وليد الحلبي

الحوار المتمدن-العدد: 4521 - 2014 / 7 / 23 - 09:02
المحور: الادب والفن
    


متبختراً يسير بين صفوف الأدراج المغلقة ، في يدٍ سيجارة يوسع بدخانها رئتيه ، وفي الأخرى كأس من الشاي الغامق يعدل بها دماغه التي أرهقها عمل نهار طويل . كان يوماً شاقاً استقبل خلاله ، وعلى فترات متقاربة ، عدداً كبيراً من أبناء البلدة ، وهو – وإن لم يكن يشعر بالسرور لرؤية زوار هذا اليوم لأنه يعرف معظمهم معرفة شخصية – إلا أن شعوراً بالزهو يغمره لأنه الوحيد في البلدة القادر على القيام بهذا العمل منذ سنوات ، منذ بدء الانتفاضة الأولى ، ثم اغتيالها بيد أهلها ، إلى قيام الانتفاضة الحالية ومحاولات تصفيتها بيد أصدقائها. ببطء ينقل بصره في أرجاء القاعة الواسعة من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال ، ثم يبدأ في عَدِّ الأدراج :عموداً واحداً من الأعلى إلى الأسفل ، ثم صفاً واحداً من اليمين إلى الشمال ، حاصل الضرب سيكون العدد الكلي للأدراج ، أحياناً كان يتصور أنه ربما أخطأ في عملية العد ، فيعود ليكررها مرة ثانية ، وعندما يحصل على ناتج ضرب مرضٍ كان يردد ( ما شاء الله ) مع أنه يدرك يقيناً أن هذه ( المشألة ) تصلح في أي مكان إلا هنا ، في هذا المكان ، ولئلا يضطر إلى تكرار عملية العد في كل مرة تزوده فيها إدارة المستشفى بأدراج جديدة تلبية لحفظ العدد المتزايد من الموتى ، فقد قرر ترقيم الأدراج باستخدام قلمٍ خطاطٍ عريض الشفة .

يد بدايات الشتاء تدق أبواب البلدة برفق ، ، هبة ريح ناعمة تهز باب القاعة فيتجه على مهل لإغلاقه ، لكن حنان الدفء القادم من الداخل ، ونعومة البرودة الزاحفة من الخارج ، يغريانه بوضع كرسي صغير قرب الباب ليستريح عليه . انتبه إلى عتبة الباب ، ، لاحظ أنها تشكل الخط الفاصل بين عالمين متناقضين : عالم الأموات داخل القاعة ، وعالم الأحياء خارجه ، ولكي يكون عادلاً بين هذين العالمين ، كان عليه أن يضع كرسيه الصغير فوق خط العتبة تماماً : قائمتان خارج الباب والقائمتان الأخريان داخل القاعة . جلس مستشعراً غبطة كبيرة ، وأحس بأن رأسه بدأت تنضح فلسفة وحكمة : نظر إلى قدميه فرأى اليمنى خارج القاعة واليسرى داخلها ، فاطمأن إلى إنه يقبع الآن بين عالمين يشعر بينهما بالحياد ، فمن أين له بالدموع لو بكى على كل شهيد أتي ليستريح في أحد أدراج ثلاجة الموتى قبل بدء رحلته الأخيرة ، ومن أين تأتيه البسمات إن كانت رائحة الموت والحزن تعبث في كل البيوت والأزقة والساحات ، لذا فقد قرر منذ زمن ألا يبكي وألا يبتسم ، أن يكون محايداً - أو متظاهراً بالحياد - في مشاعره ، وجلوسُه فوق كرسي تجثم قوائمه الأربعة مناصفة بين عالمي الحياة والموت هو خير تجسيد لما وقر في نفسه .

سيجارة ثانية وكأس أخرى من الشاي لن تضرا في هذه الأمسية المتأخرة ، ، ، وترتفع نفثات الدخان ، ، تتوالى رشفات الشاي على صوت أغنيات قادمة همساً من مذياع قديم ، وعندما كانت تدهمه لحظات طرب وفرح ، كان ينظر إلى الداخل فيصطدم نظره بأدراج ثلاجة الموتى، فيتوقف عن الفرح، وعندما يستشعر يأساً وكمداً ، كان يدير وجهه إلى الخارج فيرى الأمل مرتسماً على وجوه فتية تضج بالحياة وجناتهم ، يمرون مسرعين أمام الباب خوفاً من رؤية ما لا يرغبون رؤيته ، فيتوقف عن الحزن، ويرتدُّ إلى حياده الذي صمم على التزامه ، تماماً كموقع الكرسي الذي يجلس عليه الآن .

أسلوب تعاملِ الناس معه كان يقوده إلى تكريس مبدأ الحياد : عندما كانوا يأتونه بجثة شهيد ، كان يتولى أمره منذ دخولهم من الباب : يتوقف برهة ليستذكر أي الأدراج هو الفارغ ، ثم يحمل الجثة بمساعدة الآخرين موسِّداً إياها برفق ، مغطياً الوجه بجزء من الكفن ، معيداً إغلاق الدرج بإحكام حفاظاً على درجة حرارته المنخفضة ، وبصوت جهوري كان يطلب من الجميع سرعة المغادرة بعد أن يعطيهم رقم الدرج الذي أودع شهيدهم فيه ، ففي هذه القاعة يتحول الشهداء إلى أرقام . . . مجرد أرقام . كان يستجلي في عيون الناس ووجوههم توقيراً واحتراماً لما يقوم به من عمل يعجز معظمهم عن القيام به ، حتى أنهم لقبوه ومنذ زمن ( أبو السبع ) والذي حل بسرعة مكان اسمه الحقيقي ( عبد الرحمن ) ، إِذ مَن غير أبو السبع يستطيع التعامل مع جثث الموتى ، ، يأكل بقربهم ، ، ينام معهم ، ، ، بل ويقلبهم أمام ذويهم ذات اليمين وذات الشمال ، ، في نظر الناس كان يقوم بما لا يمكن أن يقوم به سوى الجبابرة ، ، أمام أدراج الموتى كان الناس يعتبرونه أفضل منهم ، يشعرون أنه أقدر على القيام بما يعجزون عنه ، يأتمنونه على شهدائهم ، وتوصيه الأمهات الثكالى والزوجات الأرامل أن يترفق بأحبائهم ، ، أن يفتح الأدراج ويغلقها بهدوء حتى لا يعكر على الأموات صفو صمتهم ، وأن يحرص على استمرار التيار الكهربائي حفاظاً على الجثث من التعفن – رغم قناعتهم أن أجساد الشهداء لا تتعفن - ، أما خارج الثلاجة فقد كانوا يرهبونه – خاصة الصغار منهم - ، بل ويترددون في مصافحته إن هم رأوه في السوق عند خباز أو بقال ، ، كانوا يتحاشونه كما لو أنهم تبرأوا منه ، وهذا ما عزز في نفسه الفلسفة الحيادية ، وهاهو الآن محايدٌ ، يجلس مرتاحاً فوق كرسيه بين العالَمين : قدم في الدنيا وقدم في الآخرة .

استشعر في نفسه عظمة ورفعة لم تخطر له على بال من قبل ، فرغم أن والده كان قد توفي دون أن يتمكن من تحقيق حلمه بالعمل ولو حارساً ليلياً في هذه المستشفى ، فقد استطاع هو أن يترقى من مجرد موظف صغير في قسم الاستقبال ، إلى مساعدٍ في قسم التشريح ، إلى مديرٍ لثلاجة الموتى ، أليست هده قفزات عجز عن إنجازها حتى أكثر موظفي المستشفى علماً وكفاءة مع أنه لم يحصل إلا على مستوى التعليم الابتدائي ؟ . أيقظه من تأملاته صوت أنين قادم من الداخل ، تشكك في ما سمعه ، غير أن الأنين عاود الانسياب ثانية بشكل أوضح . نفس الشيء حدث منذ شهرين ، يومها سارع إلى الدرج الذي صدر منه الأنين ، فتحه على عجل ، أزاح طرف الكفن عن الوجه ، فوجد عينين ترمشان ، وشفتين تحاولان الحراك تشبثاً بالحياة ، ، يومها أسرع في أخذ المسكين إلى غرفة الإنعاش ، وما لبث أهل العائد من الموت أن علموا بالأمر فأسرعوا إلى المستشفى ، غير أن فرحتم بابنهم لم تكتمل حيث فارق الحياة بعد دقائق من حضورهم ، فكان الفراق فراقين والحزن حزنين والمأتم مأتمين ، فكيف له أن يكرر مثل تلك المأساة الآن ، ، بقسوة تامة يتجاهل ( أبو السبع ) الأنين القادم من أحد الأدراج – دون أن يكلف نفسه مشقة معرفة رقم الدرج مصدر الصوت - مكتفياً بنصح صاحب الأنين أن يمعن في الموت ، ببساطة ، ( لأن هذا أحسن للجميع ) ، وبدأ الأنين بالتلاشي رويداً رويداً .

كل هذا كوم ، وأن تبلغه إدارة المستشفى قرار نقله إلى قسم المشتريات كوم آخر ، ، بعد كل هذا التوازن الذي توصل إليه بين عالمي الحياة والموت ، وبعد كل هذه الجرأة التي أبداها في التعامل مع جثث لا حصر لها مرت بين يديه ، وهذا اللقب الذي منحه إياه أبناء بلدته (أبو السبع ) ، بعد كل هذا يأتي قرار الإدارة بنقله إلى قسم المشتريات ، هل هي مزحة من الإدارة أم هو الأمر الواقع يصفعونه به بحجة المصلحة العامة ؟ ، ( وأين هي المصلحة العامة في حرمان الأموات من رعايتي وحرماني من هدوئهم ، ومن ذا الذي سيقدر على التأقلم مع هذا الوضع والجلوس محايداً ، تماماً على الخط الفاصل بين الحياة والموت ، كما أفعل أنا ؟).
الآن خمد تماماً الأنين القادم من الدرج ، ، فهدأت نفس أبو السبع ، وقام ليملأ كأس الشاي للمرة العاشرة ، وليشعل سيجارة للمرة العشرين ، ، الفجر يشارف على البزوغ وأبو السبع مازال يفكر في كيفية مواجهة إدارة المستشفى فيما يتعلق بقرار نقله من الثلاجة : لن ينام هذه الليلة بل سينتظر بداية الدوام ، ، عندما يصل المدير سوف يطرق باب مكتبه فوراً ، ثم سوف يشرح له موقفه من قرار النقل ( يسحب نفساً من السيجارة ) ، ، إذا تراجع المدير عن قراره فسوف يشكره بل وسيقبل جبينه ، أما إذا أصم أذنيه وصمم على القرار ( يأخذ رشفة من الشاي ) ، فسوف يضرب بقبضته على سطح مكتبه حتى ترتفع كل الأشياء التي عليه في الهواء ، ربما فزع المدير فتراجع عن قراره ، وربما أصر عليه ، عندها سيتخلى عن حياده الذي أنفق جُلَّ عمره في بنائه ، وسيقذف في وجه المدير كتاب استقالته من العمل ، وسيغادر المكتب عائداً إلى عالم الأحياء ، ، ربما كان الخيار الأخير هذا قاسياً على القلب ، غير أنه أمر لابد منه ، فهو أفضل من العمل في قسم المشتريات ، حيث سيستمر في رؤية غرفة الموتى من بعيد دون أن يتمكن من دخولها ، وهدا ما لن يرضيه أو يرضى به الأموات ، ، هنا راق له أن يتخيل مظاهرة يخرج فيها عشرات الشهداء من أدراجهم ملتحفين أكفانهم ، حاملينه على أكتافهم ، متوجهين به إلى مكتب المدير مطالبين ببقاء حبيبهم ( أبو السبع ) في موقعه ، وإلا فسوف يأخذونه معهم ، ، ترتاح نفسُه لرؤية نفسِه على أكتاف الشهداء ، ويشعر أن حياده قد وصل إلى طريق مسدود ، فيتمنى أن يرفض المدير طلبه لكي يذهب مع أصدقائه - أشرفِ الناس - بدل الذهاب إلى قسم المشتريات الشهير بالسرقات والمال الحرام . فجأة يتوقف ذهنه عن التخيل ، ويحس بضيق في صدره ، فيغبُّ نفساً عميقاً من السيجارة ، ويأخذ رشفة أخيرة من كأس الشاي .
في الصباح الباكر جاؤوا ونزعوا من يده بقايا السيجارة التي أحرقت جلد إصبعي السبابة والوسطى ، ، أخذوا كأس الشاي الفارغة من اليد الأخرى ، ، قذفوا الكرسي المحايد داخل القاعة ، وبينما ضج المكان بأصوات همهمات تتعالى من جميع الأدراج المغلقة ، وضعوا جثة أبي السبع في الدرج المجاور لذاك الذي انساب منه الأنين الخافت في الليلة الماضية .



#وليد_الحلبي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حبل إسرائيلي، وعشماوي عربي
- هزيمة ساحقة، أم انتصار مبين
- أخطاء شائعة واجبة التصحيح
- قادم من زمن السقوط
- قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت
- أشراف، ومرتزقة
- العيش،،، والجبن
- في مصر: هل يمكن تفادي الكارثة قبل وقوعها؟
- هل كذب من قال (الدين لله والوطن للجميع)؟
- ف ، ح ، و (فلسطينيون، حملة، وثائق)
- من المسؤول، مرسي أم السيسي
- (شرم الجنيف)
- ثواب وعذاب
- أمة العبقريات
- وكر الشيخ
- نظارة من فييتنام
- وزراء الدفاع،،، عن مصالحهم
- وداعاً يا عرب
- القداسة المزيفة
- كفٌّ حنون


المزيد.....




- يونس عتبان.. الاستعانة بالتخيل المستقبلي علاج وتمرين صحي للف ...
- في رحاب قلعة أربيل.. قصة 73 عاما من حفظ الأصالة الموسيقية في ...
- -فيلة صغيرة في بيت كبير- لنور أبو فرّاج: تصنيف خادع لنص جميل ...
- باللغة الفارسية.. شيخ الأزهر يدين استمرار الغارات الإسرائيلي ...
- “اخر كـلام “موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان 195 الموسم السابع في ...
- فيلم -المخطط الفينيقي-.. كم تدفع لتصبح غنيا؟
- حرارة الأحداث.. حين يصبح الصيف بطلا صامتا في الأفلام
- -بردة النبي- رحلة كتاب روائي في عقل إيران الثورة
- تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك 2025 بتحديثه الجديد على النايل ...
- قصة الرجل الذي بث الحياة في أوليفر تويست وديفيد كوبرفيلد


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - وليد الحلبي - أبو السبع