أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - أصول الاقتصاد السياسى















المزيد.....



أصول الاقتصاد السياسى


محمد عادل زكى

الحوار المتمدن-العدد: 4508 - 2014 / 7 / 10 - 08:55
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


2014

مدخل
يحتوي هذا الموجز، المبسط، لأصول الاقتصاد السياسي، كعلم اجتماعي، على فصلين: ينشغل الأول منهما بإبراز الخطوط المنهجية العريضة للموضوع محل اهتمام الاقتصاد السياسي، والثاني ينشغل بالمباديء العامة لهذا العلم كما بدت في فكر الكلاسيك (1623-1871)، وماركس (1818- 1883)
وأرجو أن يكون هذا الموجز نقطة بدء وليس خط نهاية. نقطة بدء في سبيل دراسة علم الاقتصاد السياسي دراسة متجاوزة للفكر المدرسي التابع للمؤسسة السياسية. دراسة رافضة لوثنية الفكر، طامحة إلى التزود بمنهج ناقد يقود أرواحنا إلى النقد العِلمي لكل ما هو قائم. نقد لا هوادة فيه؛ بغرض فهم العالم المعاصر فهماً يجعلنا نتعامل معه بذكاء وفعالية. فهماً يمكنا من تجاوزه إلى رحابة مشروع حضاري لمستقبل إنساني. مستقبل منصف. رحيم.
محمد عادل زكي
1/7/2014





























المحتويات
مدخل ....................................................................3
الفصل الأول: موضوع الاقتصاد السياسي ..................... 7
الفصل الثاني: مباديء الاقتصاد السياسي ...................... 17
أولاً: آدم سميث .................................................... 19
ثانياً: ديفيد ريكاردو ................................................ 33
ثالثاً: كارل ماركس ................................................ 42
رابعاً: المباديء العامة المجردة ................................. 55
خامساً: ولكن؛ هنا توقف الاقتصاد السياسي ................... 59
سادساً: الإجابة ليست مهمة ...................................... 61
قراءات مختارة ..................................................... 55


























الفصل الأول
موضوع الاقتصاد السياسي
من اليسير على الملاحظ أن يرصد هذا العالم من السلع الذي نعيش فيه. فكل حياتنا صارت مرتبطة بحالٍ أو بآخر بالسلع. كي نُنتج. كى نستهلك. كي نبادل، كي نهادي، كي نهدم، كي نبني... إلخ؛ لا بد من السلع. والسلع، بشكل مجرد، ليست سوى عملية ضم وفصل لمواد موجودة سلفاً في الطبيعة.
ولكي يمكن اعتبار هذه العملية من الضم والفصل عملية إنتاج سلعي؛ يتعين أن يكون الهدف من وراء هذا النشاط هو الإنتاج من أجل السوق. من أجل التبادل النقدي. من أجل البيع. وليس من أجل الإشباع المباشر. فالفلاح الذي يُنتج خبزاً ليأكله لا يُنتج سلعة. والواقع أن الفلاح لم يعد يُنتج كي يأكل. فلم يعد الهدف الرئيسي للنشاط الاقتصادي هو الاشباع المباشر. إنما بات الهدف هو إنتاج السلع من أجل السوق. من أجل البيع، ومن ثم الربح. ولأن الربح هو الهدف النهائي من وراء النشاط الاقتصادي؛ فلا يتعين على الرأسمالي، ولا يتعين علينا أن ننتظر منه، أن يَعمل على اشباع الحاجات الاجتماعية! فكل ما يعني الرأسمالي هو تحقيق أقصى ربح ممكن بأقل كلفة ممكنة.
وفي السوق لا تظهر فقط السلع المادية إنما تظهر كذلك سلع الخدمات، مثل النقل والمواصلات والتعليم والطب والسياحة وأعمال المصارف... إلخ، وجميعها تُعد من قبيل العمل المنتِج. إذ لم تعد ثروة المجتمعات، مع نمط الإنتاج الرأسمالي، تزيد بفضل الإنتاج السلعي فحسب، إنما تزيد أيضاً بسبب إنتاج سلع الخدمات. فثمة بلدان تَعتمد كلية تقريباً على أعمال المصارف أو السياحة أو التسوق، وربما الدعارة؛ التي صارت سلعة مطروحة في الأسواق العالمية!
ويشترط كي يكون العمل منتِجاً، مع الرأسمالية: أن يكون مأجوراً و/أو أن يزيد القيمة على الصعيد الاجتماعي. فالطبيب الذي يعمل في أحد المؤسسات الطبية بأجر، يُعد عاملاً منتِجاً، كما العامل الذي يعمل في مصنع للحديد والصلب. فالإثنان مأجوران ويُنتجان قيمة زائدة.
فالرأسمالي، صاحب المؤسسة أو المصنع، يشتري قوة عمل الطبيب أو العامل، ويوفر لهما مواد العمل وأدوات العمل، وفي نهاية اليوم أو الأسبوع أو الشهر يدفع لهما الأجر، بغض النظر عن الحالات التي عالجها الطبيب والمنتجات التي أنتجها العامل.
فلقد اشترى الرأسمالي قوة العمل، ولم يشترْ العمل نفسه. والتفرقة بين قوة العمل وبين العمل تتيح، بمفردها، فهم كيف تزيد القيمة. وحينما نسأل: كيف تزيد القيمة؟ نكون أمام أول مستوى من مستويات ظهور الاقتصاد السياسي. مستوى القيمة. إذ ظهر الاقتصاد السياسي كي يوضح كيف تزيد القيمة.
فالرأسمالي يشتري مواد العمل بـ 3 وحدات، وأدوات العمل بـ 3 وحدات، وقوة العمل بـ 4 وحدات، ولكنه لن يفعل ذلك إلا بقصد الربح. فإذ ما وجد بين يديه، بعد الإنتاج وقبل البيع، نفس الـ 10 وحدات، التي بدأ بها، فلن يقّدم على هذا الاستثمار بالأساس. فماذا يفعل؟ إن ما يمكنه فعله هو أن يدفع للعامل هذه الـ 3 وحدات، ويأخذ منه عملاً يساوي 6 وحدات، والفارق بين ما دفع الرأسمالي للطبيب، وما أنتجه هذا الطبيب أو العامل هو القيمة الزائدة. وهي على هذا النحو يمكن أن يستخلصها الرأسمالي من الطبيب كما العامل تماماً.
ولكن، هل استخلاص هذه القيمة الزائدة من الشغيلة المأجورين يخضع لهوى الرأسمالي؟ أي: هل هو الذي يُحدد، بإرادته المستقلة والمنفردة، مقدار ما سوف يختص به من القيمة الزائدة؟ أم أن هذه القيمة الزائدة تخضع لقانون موضوعي يحكم عملها في إطار النظام الرأسمالي؟ وهل هذا القانون يرتبط عمله بإطار سوق معين، المنافسة الكاملة مثلاً؟ أم هو قانون موضوعي من قوانين النظام نفسه، يحكم عمل هذا النظام في الأسواق كافة، بما فيها الأسواق الاحتكارية؟
الإجابة على هذه الأسئلة تمثل المستوى الثاني لظهور الاقتصاد السياسي. مستوى الإنتاج. إذ ظهر الاقتصاد السياسي كي يُقدم إجابات تكشف عن القوانين الموضوعية التي تحكم الأرباح في النظام الرأسمالي، ومن ثم تقديم إجابات على الأسئلة التي تثيرها إشكاليات تجدد الإنتاج الاجتماعي، المرتكزة على هذه الأرباح.
فلنعد إلى الوحدات التي زادت. ما هو اتجاه هذه الـ 6 وحدات الزائدة التي تحققت بفضل العمل؟ كيف يتم توزيعها؟ هنا يتبدى المستوى الثالث من مستويات ظهور الاقتصاد السياسي. مستوى التوزيع. فإذ ما افترضنا أن الأرض التي شيّد عليها الرأسمالي مصنعه مؤجرة، وأفترضنا أيضاً أن الرأسمال الذي يستثمره الرأسمالي هو رأسمال مقترض من أحد المصارف، فيمكننا تتبع اتجاه هذه الزيادة فى القيمة. إذ سوف يتم توزيع الزيادة التي تحققت اجتماعياً بين الطبقات الاجتماعية المختلفة:
أولاً:طبقة ملاك الأراضي ستحصل على نصيبها في صورة ريع الذي هو ثمن التخلي عن منفعة الأرض.
ثانياً:طبقة الرأسماليين الماليين ستحصل على نصيبها في صورة فائدة التي هي ثمن التخلي عن السيولة النقدية.
ثالثاً:طبقة الرأسماليين الصناعيين ستحصل على نصيبها في صورة ربح الذي هو ثمن المغامرة، وتحمل مخاطر المشروع.
أي أن القيمة الزائدة سوف تتوزع في صورة دخول للطبقات الاجتماعية المختلفة المشاركة، وغير المشاركة فعلياً، في عملية الإنتاج.
وابتداءً من هذا التوزيع، على الصعيد القومي الداخلي، تتم عملية تجديد الإنتاج الاجتماعي. الاقتصاد السياسي يفترض هنا أن الاقتصاد مغلق، أي لا يقيم علاقات تبادل خارجية مع بلدان آخرى. كما يفترض سيادة المنافسة الكاملة. فهل يختلف الأمر إذ ما أدخلنا اعتبارات التبادل الخارجي في التحليل، ثم انتقلنا بمستوى هذا التحليل من أسواق المنافسة الكاملة إلى أسواق الاحتكار؟ والأهم، سؤال، ما هو وضع الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالي العالمي، في ضوء افتراض التبادل والاحتكار، من توزيع القيمة التى زادت على الصعيد الداخلي والصعيد العالمي. أي هل يُعاد ضخ القيمة الزائدة في مسام الاقتصاد القومي المنتج لها بفضل العمال المأجورين؟ أم تتسرب إلى الخارج كي تغذي مصانع ومؤسسات الأجزاء المتقدمة من النظام الرأسمالي التي تنتج السلع والخدمات التي تعتمد عليها الأجزاء المتخلفة في سبيل تجديد إنتاجها الاجتماعي؟
يتبدى هنا المستوى الرابع، والأخير، لظهور علم الاقتصاد السياسي. مستوى نمو الاقتصاد وتطور قوى الإنتاج الاجتماعي. إذ يمدنا الاقتصاد السياسي، ابتداءً من قانون القيمة، بمجموعة من الأدوات الفكرية تمكّنا من تحليل ظاهرة تؤرقنا نحن أبناء الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالي العالمي المعاصر، وهي ظاهرة التكون التاريخي للتخلف الاجتماعي والاقتصادي. إذ يظهر الاقتصاد السياسي على هذا المستوى، مستوى نمو الاقتصاد وتطور قوى الإنتاج الاجتماعي، كي يقدم مجموعة من الأدوات التحليلية التي تمكّنا من تعدية الظاهرة إلى الكُل الاجتماعي والتاريخي الذي تنتمى إليه؛ من أجل وعي ناقد متجاوز للرؤى الخطية والتصورات الميكانيكية التي تحصر الظاهرة. ظاهرة التخلف. في بيانات الفقراء والجوعى والمرضى. أنه الوعي الذي بإمكانه خلق مشروع حضاري وإنساني لتجاوز التخلف ابتداءً من قانون القيمة.
فلنرجع إلى الدخول المختلفة للطبقات الاجتماعية المختلفة؛ فالريع والفائدة والربح كدخول للطبقات الاجتماعية على هذا النحو، هي في واقعها، كما ذكرنا، أثمان؛ فالريع هو ثمن التخلي عن منفعة الأرض. والفائدة هي ثمن التخلي عن السيولة النقدية. والربح هو ثمن المغامرة وتحمل المخاطرة. أي أننا صرنا هكذا أمام مجموعة من السلع المطلوب معرفة كيف تتحدد أثمانها؟ فلماذا دفع الرأسمالي 2 وحدة لمالك الأرض، ولم يدفع وحدة واحدة؟ أو ثلاث وحدات؟ ولماذا دفع 3 وحدات كفائدة، ولم يدفع وحدة واحدة؟ أو 2 وحدة؟ وهو ما يستوجب علينا طرح نفس السؤال بصدد الأجر كثمن لقوة العمل، وطرح نفس السؤال أيضاً بصدد أثمان مواد العمل وأدوات العمل؛ فلماذا دفع الرأسمالي للعامل 4 وحدات، ولم يدفع 2 وحدة؟ أو 5 وحدات؟ ولماذا ثمن وسائل الإنتاج (مواد العمل + أدوات العمل) = 6 وحدات؟ ولم يكن 5 وحدات؟ أو 7 وحدات؟ بوجه عام كيف تتكون الأثمان؟
كي نعرف كيف تتكون الأثمان يتعين أن نذهب إلى السوق حيث تظهر هذه الأثمان. ولنراقب الأمر. فالأثمان كما تطرح نفسها في السوق يميزها عدم الثبات. أي التأرجح. فقد نجد سلعة واحدة تتغير أثمانها ثلاث أو أربع مرات في اليوم الواحد. السمك مثلاً. في أول اليوم يكون له ثمن. وفي وسط اليوم له ثمن ثان. وفي نهاية يوم السوق له ثمن ثالث. فماذا يعني ذلك؟ ذلك يعني أن السوق، أي حقل التداول، لا يوضح كيف يتكون الثمن. هو فقط يوضح كيف تتأرجح الأثمان ارتفاعاً وانخفاضاً حول محور محدد يمثل ثمناً عادلاً. أو ضرورياً. أو طبيعياً. هذا التأرجح يجوز أن يكون مرجعه ازدياد العرض أو انخفاض الطلب أو ارتفاع درجة الحرارة أو قرار حكومي، أو.... إلخ. ولذلك فالذي يشغلنا ليس تأرجحات ثمن السوق حول الثمن الطبيعي، إنما يشغلنا التعرف إلى هذا الثمن الطبيعي نفسه. الأمر الذي يتعين معه أن نغادر السوق. نخرج من حقل التداول، ونتوجه إلى حقل الإنتاج. حيث مكونات الثمن الطبيعي.
فإذ ما توجهنا إلى حقل الإنتاج؛ فكي نتعرف إلى كيفية تكون الثمن الطبيعي لسلعة ما، يمكننا أن نتعرف إلى مكونات هذا الثمن. فهو يتكون من: (الأجور+ الريع + الفائدة + الربح) فما علينا إلا أن نعهد بالأمر إلى أحد المحاسبين كي يقوم بحساب قدر الأجور التي دُفعت للعمال، وقدر الريع، أي الإيجار، الذي دُفع إلى مالك الأرض المقام عليها المصنع، وقدر الفائدة التي سُددت عن قرض الرأسمال؟ وقدر الربح الذي سيحصل عليه الرأسمالي. ثم يقوم بعمل بعض العمليات الحسابية التى بمقتضاه يحسب مقدار الإنتاج، ويوزع على كل وحدة من السلعة نصيبها من نفقة إنتاجها. وحينئذ سيكون، ظاهرياً، بين أيدينا الثمن الطبيعي للسلعة.
ولكن، الذي بين أيدينا، في الحقيقة، ليس الثمن الطبيعي! إنما هو نفقة إنتاج! والواقع أن صديقنا المحاسب لم يحل المشكلة؛ بل لم يتعرض لها بالأساس! فلم نزل أمام مجموعة أثمان تحتاج إلى تفسير هي الأخرى. أردنا معرفة ثمن واحد، هو ثمن السلعة، فوجدنا أنفسنا مع صديقنا المحاسب أمام أربعة أثمان! الأجر كثمن لقوة العمل، والريع كثمن للتخلي عن منفعة الأرض، والفائدة كثمن للتخلي عن السيولة النقدية، والربح كثمن للمخاطرة. جميعها أثمان تحتاج أيضاً إلى تفسير! الأمر الذي يجعلنا نبحث عن محدد عام مشترك يمكننا على أساسه تحديد الثمن الطبيعي.
البحث عن هذا المحدد المشترك يردنا مباشرة، وبوعي، إلى المستوى الأول. مستوى القيمة. الأمر الذي يعني، ومباشرة أيضاً، أن الاقتصاد السياسي يمفصل الإنتاج، والتوزيع، ونمو الاقتصاد وتطور قوى الإنتاج الاجتماعي، حول القيمة. ومن ثم يصبح الاقتصاد السياسي، بحالته الراهنة، هو علم نمط الإنتاج الرأسمالي المتمفصل حول قانون القيمة. بل هو عِلم قانون القيمة.
ابتداءً من الوعي بموضوع العلم؛ كان لنا أن ننتقل إلى القسم الثاني كي نتعرف إلى مشكلة القيمة كما طرحت نفسها عبر تاريخ الفكر الاقتصادي، بصفة خاصة الفكر الاقتصادي للكلاسيك، وماركس.


الفصل الثانى
مباديء الاقتصاد السياسي
حدد ماركس لنفسه هدف الكشف عن القوانين الموضوعية التي تحكم عمل هذا النظام الجديد غير المسبوق تاريخياً، والذي يحتوي، من وجهة نظره، على ظواهر غير معروفة من قبل في العَالم. وبوجه خاص ظاهرة بيع قوة العمل، وظاهرة الإنتاج من أجل السوق. وإذ يحدد ماركس هدفه على هذا النحو يشرع فى مراجعة الفكر السابق عليه، أي الفكر الاقتصادي للطبيعيين، وفرنسوا كينيه (1694-1774) بصفة خاصة، والفكر الاقتصادي للكلاسيك، وبصفة خاصة عظماء الكلاسيك: آدم سميث (1723-1790) وديفيد ريكاردو (1772-1823)، باعتبارهما تنظيراً رأسمالياً للرأسمالية الناشئة نفسها، وبصفة أخص ريكاردو، الذي اعتنق ماركس أهم تصوراته في أهم المواقع الفكرية المحورية وأكثرها خطورة في مجمل مذهبه في رأس المال. وقد بدا هذا التأثر على مستوى المنهج؛ إذ استخدم ماركس أعلى درجات التجريد كما فعل ريكاردو. وعلى مستوى الموضوع؛ إذ مثلت نظرية القيمة كما صاغها ريكاردو العمود الفقري في الجسم النظري لمعظم كتابات ماركس الاقتصادية، وبوجه خاص في رأس المال. ومن أجل استخلاص مبادىء الاقتصاد السياسي، بعد نقدها الخلاق على يد ماركس، يكون من المتعين، في مرحلة أولى، التعرف إلى مجمل البناء النظري للاقتصاد السياسي الكلاسيكي، بوجه خاص آدم سميث وديفيد ريكاردو، لأنه البناء الذى سيخضعه ماركس، بشكل مركزي، للمراجعة والنقد. ثم التعرف، في مرحلة ثانية، إلى مبادىء الاقتصاد السياسي عنـد ماركس، بعد أن قام بمراجعتها.
فلنتقدم خطوة إلى الأمام بغرض التعرف إلى مبادىء الاقتصاد السياسي. المباديء المتمفصلة حول قانون القيمة، عند كل من آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وكارل ماركس.





أولاً: آدم سميث
يمكننا تحديد أهم أفكار سميث التي جاءت في كتابه ثروة الأمم، والتي تحددت معها معالم الاقتصاد السياسي لديه، على النحو التالي:
1- انشغل ذهن سميث بمجموعة من الأسئلة وحاول الانطلاق ابتداءً من الإجابة عليها في سبيله لإقامة مذهبه؛ إذ انشغل بتحليل كيف يمكن لمجتمع يسعى جميع أفراده إلى مصلحتهم الفردية أن يستمر ولا يتفكك؟ وما الذي يجعل تصرفات أفراد المجتمع، على الرغم من أنانيتها تلك، تأتي متفقة مع المصلحة الجماعية؟ بل كيف ينجح المجتمع في تأدية المهام اللازمة لبقائه على الرغم من أن الحكومة، كما يفترض سميث، يقتصر دورها على الدفاع وحفظ الأمن الداخلي؟ وإذ يُقدم سميث إجابات عمّا يُثيره من أسئلة، فإنما يتوصل إلى أول صياغة لقوانين السوق التي ترتكز على "اليد الخفية"، سنرى أن ماركس لديه نفس النظرية بشكل مركزي، التي تسير بمقتضاه مصالح الناس الخاصة وأهواؤهم في الاتجاه الأكثر اتفاقاً مع مصلحة المجتمع بأسره.
2- ولكن، كيف تزيد ثروات الأمم؟ فقد كان سميث منشغلاً أيضاً بحركة المجتمع عبر الزمن، ولذا تكون قوانين السوق لديه ذات بُعد ديناميكي وهي تقوم بعملها على الصعيد الاجتماعي. وستكون هذه الفكرة جوهرية في مجرى تحليله بصفة خاصة للقيمة التي يخلقها العمال أثناء عملية الإنتاج.
3- وقد لاحظ، وهو في سبيله إلى تحليل طبيعة السوق وقواعدها، وصياغة قوانينها، أن المصلحة الفردية تقوم بدور مركزي. ولكن، ثمة شىء ما يُعد عاملاً آخراً هو الذي بإمكانه تنظيم السوق والسيطرة على إنفلات الأثمان. هذا العامل المنظِم هو المنافسة، نفس الأمر عند ماركس كما سنرى، وهو العامل الذي يمنع تحكّم أحد العارضين في الثمن، والمقصود هنا هو ثمن السوق، اللهم إلا إذ حدث اتفاق بين العارضين لسلعة ما، وهنا أيضاً يتدخل نفس المبدأ، مبدأ المنافسة، إذ سيأتي رأسمالي آخر من خارج سوق تلك السلعة ويدخل سوقها بأثمان أقل؛ بما يؤدي إلى توازن الثمن فى السوق مرة أخرى.
4- يلاحِظ سميث في تحليله أن قوانين السوق لا تفرض أثمان السلع في السوق فحسب؛ بل تحدد أيضاً كميات السلع المختلفة التي يحتاج إليها المجتمع؛ فالسلعة التي يرغب المجتمع في زيادة استهلاكه منها ستقود المنتجين إلى الإكثار من إنتاج هذه السلعة، على حساب سلعة أخرى كفّ المجتمع، ولو مؤقتاً، عن استهلاكها، بما يؤدي إلى زيادة الإنتاج من السلعة التي قرر المجتمع زيادة استهلاكه منها، ومن ثم يزيد الفائض منها في مقابل اختفاء الفائض من السلعة التي توقف الإنتاج بشأنها لعدم رغبة المجتمع فيها، بما يؤدي إلى انخفاض المعروض منها عن حاجة المجتمع. هنا، تتدخل قوانين السوق كي تصحح الوضع ولترجعه إلى ما كان عليه من توازن، فتبدأ أثمان السلعة التي انخفض قدر المعروض منها عن حاجة المجتمع في الارتفاع، نظراً لإختفاء الفائض وإحتياج المجتمع إليها.
ويتم ذلك كله، في تصور سميث، من دون تدخل أية سلطة مركزية، وإنما بفضل التناقض بين المصالح الذاتية، والمنافسة. كتب سميث:
"إن الإنسان يحتاج دائماً إلى مساعدة غيره من بني جنسه، ولا يمكن توقع صدور هذه المساعدة عن طيب خاطر فحسب إذ يتعين دوماً إقناعهم بأن من مصلحتهم مساعدتنا فنحن لا نتوقع الحصول على الغذاء من الجزار والخباز بفضل حسن أخلاقهم ولكننا نتوقع ذلك منهم كنتيجة لاهتمامهم بمصلحتهم الشخصية إننا لا نخاطب النزعة الإنسانية في أنفسهم بل نخاطب حبهم لذاتهم ولا نتحدث إليهم عن ضرورياتنا بل عن منافعهم".
5- ومثلما تنظم قوانين السوق (الأثمان) و(كميات) السلع المنتجة، فهي تنظم كذلك (دخول) الذين يشاركون فى إنتاج تلك السلع؛ فإذا كانت الأرباح في قطاع ما من الأعمال مشجعة، فسوف يتدفق الرأسماليون على هذا القطاع، فيزداد الإنتاج، ويزداد الطلب على العمال. ومن ثم يزداد الفائض، أي الكمية المعروضة، حتى تنخفض الأثمان... وهكذا تتم الدورة في السوق وفقاً لقوانين السوق التي تنظم المنافسة الكاملة. والدخول هنا إنما ترتبط، وفقاً لقوانين السوق لدى سميث، بمدى تدفق العمال على قطاع السلعة التي زاد الطلب عليها، فيظل هذا التدفق مستمراً حتى يكثر العمال فى هذا القطاع وتزداد المزاحمة في ما بينهم، كما سيشرح ريكاردو ومن بعده ماركس، فيبدأ الدخل في الانخفاض نظراً لزيادة الكمية المعروضة من العمال، فيأخذ العمال في الانسحاب من القطاع بحثاً عن أجور أعلى في قطاع آخر فيقل المعروض من السلعة فيرتفع ثمنها... وهكذا إلى أن يتم التوازن في السوق.
6- يتعامل سميث حتى الآن مع السلعة في مرحلة التداول، وليس الإنتاج، وقوانين السوق هي الكفيلة، وفقاً له، بتنظيم المجتمع وضبط إيقاع نشاطه الاقتصادي، ولكن تلك القوانين التي كشف عنها سميث لم تكن انجازه الحقيقي؛ إذ أن مساهمته الفعلية إنما تتركز في نظره إلى السلعة في المرحلة السابقة على طرحها في السوق للتداول. فقد نظر، هو والكلاسيك بوجه عام، إلى العملية الاقتصادية في المجتمع ككل، ابتداءً من الإنتاج، ومروراً بالتداول، وانتهاءً بالتوزيع.
7- فحينما أراد سميث التعرف على ثمن السلعة، أو قيمة مبادلتها، كان عليه أولاً أن يُحدد موقفه من مشكلة القيمة. ومن أجل تحديد هذا الموقف كان عليه أن ينتقل من دائرة التداول إلى دائرة الإنتاج حيث تُنتج القيمة.
فإن شرط البدء في العملية الإنتاجية هو التراكم، ويرى سميث مصدره في قيام بعض الناس بإدخار المال، وهم الذين سيتحولون إلى تجار في فترة تاريخية معينة، ثم، مع التطور التاريخي، إلى رأسماليين يستخدمون عمالاً بالأجرة. وبغض النظر عن هذه الفرضية التي سوف يرفضها ماركس لعدم اتفاقها مع التاريخ الدموي للتراكم في المستعمرات، فلدى سميث الوعي بكون كمية العمل الضروري اللازم للإنتاج هو مقياس التبادل، ويضرب على ذلك مثلاً الصيد؛ فإذ ما كان صيد حيوان ما يتكلف إصطياده ساعتين من العمل، وآخر يتكلف ساعة واحدة من العمل؛ فإنه يتعين مبادلة زوج من الحيوان الذي تكلف صيده ساعة عمل واحدة بحيوان واحد من الذي تكلف صيده ساعتين من العمل. كتب آدم سميث:
" إذا كان صيد القندس يتطلب عادة ضعف العمل اللازم لصيد الأيل، يتعين إذاً أن يُبادل القندس بزوجين من الأيل. ومن الطبيعي أن يستحق ما ينتج عادة في يومي عمل أو ساعتين عمل ضعف ما ينتج عادة فى يوم عمل أو ساعة عمل" .
8- ولكن، حين استكمل سميث تحليله، في واقع المجتمع المعاصر، وجد مشكلة تكمن في صعوبة المقارنة بين المجهود المبذول في سبيل إنتاج السلعة من جهة شدة العمل، ومن جهة البراعة، إذ يصعب للغاية، وفقاً لتحليله النهائي، مقارنة ساعة عمل حداد أو عامل منجم مع ساعة عمل منسق ورود أو حلاق، أو مقارنة ساعة عمل فلاح أو إسكافي مع ساعة عمل صائغ أو صانع ساعات. ولذلك قرر سميث أن العمل هو مقياس القيمة، ولكن حينما يتعلق الأمر بالمبادلة في السوق تتحدد قيمة السلعة لا بحسب كمية العمل المنفق في سبيل إنتاجها هي، إنما حسب كمية العمل المبذول في سبيل إنتاج السلعة الأخرى المتبادل بها. وعلى قدر التشوش الذي كان يملأ ذهن مفكر يعلم أنه يؤسس لعلم جديد، جاءت عباراته مشوشة؛ فسميث وفقاً لمثل القندس والأيل يقرر أن كمية العمل المبذول في صيد كل من الحيوانين هي التي تحدد نسبة المبادلة بينهما. معنى ذلك أنه يرى أن كمية العمل المبذول في سبيل إنتاج السلعة هو مقياس قيمتها، ولكنه لم يستكمل فكرته وانحرف بها حين أراد اختبارها في واقع المجتمع المعاصر. نظراً لصعوبة المقارنة بين العمل من جهتي الشدة والبراعة. ونتيجة هذا الارتباك فبدلاً من أن يكتب، ووفقاً لما انتهى إليه تحليله: "مع ان العمل هو المقياس الحقيقي للقيمة، لكن حين التبادل لا تقدر القيمة بالعمل المبذول في إنتاجها هي، إنما بالعمل المبذول في سبيل إنتاج السلعة الأخرى المتبادل بها...". كتب، وبارتباك:
"مع ان العمل هو المقياس الحقيقي للقيمة التبادلية للسلع كافة، لكنه ليس الشيء الذي تقدر به قيمة السلع عادة، فمن الصعب في كثير من الأحيان التأكد من النسبة بين كميتين مختلفتين من العمل. فالزمن المنفق في نوعين مختلفتين من العمل لن يحدد بمفرده دائماً هذه النسبة. فالاختلاف في كمية الجهد المبذول، والبراعة، ينبغي أن يؤخذا في الحسبان. بالإضافة إلى ذلك، يتم تبادل كل سلعة عادة بالمقارنة مع سلع أخرى لا مع العمل. ولذلك كان من الطبيعي أكثر أن تقدر قيمتها التبادلية بكمية من سلعة أخرى لا بكمية العمل الذي يمكنها ابتياعه والسواد الأعظم من الناس أيضاً يفهمون ما تعنيه كمية معينة من سلعة معينة أحسن مما يفهمون كمية من العمل".
9- والأساتذة. أساتذة الاقتصاد في الجامعات، ابتداءً من تجزئة كلام سميث، المرتبك بالأساس، وتأويله، دون وعي بهذا التشوش، على نحو يستبعد قانون القيمة الذي يؤرق النظرية الرسمية! يقولون للطلبة، وبمنتهى الثقة، أن سميث كان يرى أن قيمة السلعة تتحدد بالعمل، أي انه كان يؤمن بنظرية القيمة، ثم قام بتغيير رأيه وأعتنق نظرية نفقة الإنتاج، أي انحلال القيمة التبادلية إلى مكونات الثمن الطبيعي (الأجر، والربح، والريع). والواقع ان التحليل الدقيق لمجمل مذهب سميث وتحليل نصوصه بشكل علمي يوضح، كما سنرى أدناه، أن سميث لم يعدل نهائياً إلى نظرية في نفقة الإنتاج؛ لأنه في المنتهى يُرجِع عناصر هذه النفقة إلى المجهود الإنساني الواعي المنتج، أي إلى العمل البشري.
فوفقاً لتصور سميث لانحلال ثمن السلعة، أو قيمة مبادلتها، إلى دخول الطبقات المختلفة، أي إلى: أجر وربح وريع، يسير التحليل على النحو الأتي: يشتري الرأسمالي مواد العمل، وأدوات العمل، والعمل (نلاحظ أن آدم سميث والكلاسيك بوجه عام لا يفرقون بين العمل وقوة العمل، وهو ما سوف ينتبه إليه ماركس، على الرغم من أنه وقع في نفس الخطأ في كتاباته المبكرة) ثم يقوم العمال بالإنتاج، وحينما يخرج المنتَج يوجهه الرأسمالي إلى السوق. يبيعه. يحصل على أصل ماله بالإضافة إلى الربح. هذا الربح ينحل إلى (الأجر) للعمال، وإلى (الريع) للملاك العقاريين، وإلى (الربح) الذي يستقل به الرأسمالي. أي أن مصادر الدخول المختلفة إنما هي ذات مصدر واحد هو العمل. ونفس التصور، كما سنرى، سيعتنقه ريكاردو، ولكن ماركس سيرفضه، جزئياً، حين يعيد النظر فى انقسام القيمة التي يضيفها العمال إلى الناتج، إذ سيرى ماركس أن هذه القيمة لا تنحل إلا إلى ربح وريع فقط. ولا يحصل العمال على أي نصيب في القيمة التي يضيفونها إلى الناتج. وسوف نُعالج هذه المسألة لاحقاً.
10- فوفقاً لنصوص سميث؛ نجد أنه بعد أن حدد موقفه من مشكلة القيمة على هذا النحو، كان عليه أن يحدد لنفسه المنهج الذي سوف يسير بمقتضاه لمعرفة كيف تتكون، ابتداءً من القيمة، الأثمان في السوق، وكان لديه الوعي بضرورة مناقشة ثلاث أفكار مركزية: أولاً: المعيار الحقيقي للقيمة التبادلية، وكيف ينشأ الثمن الحقيقي لجميع السلع؟ ثانياً: معرفة الأجزاء المختلفة التي يتكون منها هذا الثمن الحقيقي. وأخيراً: معرفة الظروف المختلفة التي ترفع بعض أو كل هذه الأجزاء المختلفة التي يتألف منها الثمن الحقيقي، والتي تنخفض أحياناً إلى ما دون المعدل الطبيعي. وحينئذ رأى سميث أن ثمن السلعة، أو قيمة مبادلتها، إنما يتكون مِن: الأجر، والربح، والريع. إذ كتب:
" إن ثمن أية سلعة، في كل مجتمع، يرجع في النهاية إلى هذا الجزء أو ذاك من هذه الأجزاء، الأجور، والربح، والريع العقاري، أو ينحل إلي هذه الأجزاء الثلاثة جميعاً"
" إن الأجور والربح والريع العقاري هي المنابع الأصلية لكل ايراد ولكل قيمة مبادلة".
11- أي أن الأجر والربح والريع، كدخول للطبقات المشاركة في الإنتاج السنوي للأمة، مصدرهم جميعاً العمل. ويرد أدم سميث، بهذه الصفة، جميع الأجزاء المكونة لثمن السلعة إلى العمل.
"في ثمن القمح مثلاً قسم يؤدى ريع مالك الأرض وقسم أجور العمال أوصيانة الدواب العاملة في إنتاجه والقسم الثالث ربح المزارع وتبدو هذه الأقسام الثلاثة بمثابة المكونات المباشرة أو النهائية لكامل ثمن القمح".
"إن القيمة التى يضيفها العمال إلى المواد تنحل إلى قسمين أحدهما يوفى أجور العمال والآخر أرباح رب العمل على كامل رأسمال المواد والأجور التي قدمها. وما كان لهذا الرأسمالي أن يهتم بتشغيلهم لو لم يكن يتوقع من بيع ثمرة أعمالهم شيئاً أكثر من مجرد تعويض الرأسمال الذي خاطر به، وما كان له أن يستخدم رأسمال كبيراً لا صغيراً لو لم يكن لأرباحه أن تتقايس نسبياً مع سعة رأسماله".
12- ويضيف بشأن الرأسمال، مع وعيه بأن القيمة التي يضيفها العمال إلى مواد العمل وأدوات العمل هي مصدر الزيادة في القيمة التي تنحل إلى أجر وربح وريع:
"إن الرأسمال يلعب دورين: أولهما: دور الإيراد بالنسبة للعمال، وثانيهما: دور الرأسمال بالنسبة للرأسمالي، وبعبارة أخرى: إن ذلك الجزء مِن الرأسمال الذي دُفع للعمال، ويُمثل لهم كإيراد، صار بهذه المثابة بعد أن لعب في البداية دور الرأسمال".
"إن العمال في مجال الصناعة يأخذون أجورهم مِن سيدهم، الرأسمالي، وهم في ذلك لا يجعلونه في الحقيقة يُنفِق شيئاً؛ حيث أن هذه الأجور، عادة، ما تُدفع من الأرباح"
13- وبشأن اصطلاح الثمن فإن سميث يستخدم أربعة مصطلحات مختلفة تتعلق بالثمن. سواء أكان ثمن السلعة، أو ثمن العمل، وهي: الثمن الحقيقي، والثمن الأسمي، والثمن الطبيعي. وثمن السوق.
أما الثمن الحقيقي فهو مقدار العناء والتعب والجهد الذي يبذله الإنسان في سبيله للحصول على سلعة ما. ويرى سميث أن أول ثمن دفع في التاريخ لم يكن الذهب ولا الفضة، إنما العمل. أما الثمن الأسمي فيتبدى من خلال شرح سميث حيث يقول ان للعمل ثمناً حقيقياً وثمناً اسمياً، الثمن الحقيقي يتقوم بكمية ضروريات الحياة وكمالياتها التي تبذل بدلاً عنها؛ والثمن الاسمي يتقوم بكمية النقود. أما الثمن الطبيعي، فهو الثمن المطابق لأجور العمل وأرباح الرأسمال وريع الأرض. أي أن الثمن الطبيعي ينحل، كما ذكرنا، إلى الأجر، والربح، والريع. ومن ثم يسمى الأجر والربح والريع مكونات الثمن الطبيعي. أما ثمن السوق، فهو الثمن الفعلي الذي تُباع به أية سلعة عادة، وقد يكون أعلى من ثمنها الطبيعي أو أدنى منه، أو مساوياً له.
14- ولم تقتصر الصعوبات التي واجهت سميث على مشكلته مع القيمة، إنما واجهته صعوبة أخرى حينما تدبر قيمة السلعة. ووجد أن لكل سلعة قيمتين: قيمة استعمال، أي صلاحية السلعة لإشباع حاجة معينة. وقيمة مبادلة، أي قدرة السلعة على المبادلة بسلعة أخرى، فلم يتمكن من معرفة كيف تكون أشياء ذات قيمة استعمال عالية جداً ولكن قيمة مبادلتها قليلة أو منعدمة مثل الماء؟ وبالعكس، كيف كيف تكون أشياء ذات قيمة استعمال قليلة أو معدومة ولكن ذات قيمة مبادلة مرتفعة جداً مثل الماس؟ وهو اللغز الذي سوف يحله ريكاردو. حينما يوضح أن المنفعة شرط القيمة وليست مقياساً لها. مدخلاً عنصر الندرة في التحليل، وهو الأمر الذي كان غامضاً أمام سميث الذي كتب:
"يتعين أن نوضح أن لكلمة قيمة معنيين، فهي تشير أحياناً إلى منفعة شىء معين، وأحياناً تشير إلى القدرة على شراء سلع أخرى. الأولى تسمى قيمة الاستعمال، والثانية تسمى قيمة المبادلة. ولكن الأشياء التى تكون ذات قيمة استعمال كبيرة غالباً ما تكون ذات قيمة مبادلة قليلة أو معدومة؛ وبالعكس، فالأشياء ذات قيمة المبادلة المرتفعة غالباً ما تكون ذات قيمة استعمال قليلة أو معدومة. فالماء لا شيء أنفع منه ولكن لا يشترى به تقريباً شىء، ولا يكاد يبادل به شيء. على العكس من ذلك الجوهرة لا تكاد تكون ذات قيمة في الاستعمال، ولكن يمكن في كثير من الأحيان مبادلتها بكميات كبيرة من السلع".
15- وحيث يبني آدم سميث مذهبه ابتداءً من تحليل عملية الإنتاج، فهو يرى أن الإنتاج إنما يتطلب توافر حد أدنى من الرأسمال الذي يلج حقل الإنتاج في أشكال مختلفة، منها ما هو في صورة مواد أولية أو مواد مساعدة، ومنها ما هو في صورة آلات ومبان، ومنها ما هو في صورة عمل ينفق في سبيل تفعيل المواد من خلال الأدوات وتحويلها إلى سلع. هنا يقرر سميث أن الرأسمال ينقسم إلى قسمين: أحدهما يُستخدم في سبيل الحصول على الأراضي والآلات، أي أدوات الإنتاج، ويسمي هذا القسم "الرأسمال الأساسي"، والآخر يستخدم في سبيل شراء مواد العمل والعمل، ويسمي هذا القسم "الرأسمال الدائر". ووجه الاختلاف بين الرأسمال الأساسي والرأسمال الدائر، كما يرى سميث، يتجلى في شرط بقاء الملكية، وهو الشرط الذي سيعدله ريكاردو فيما بعد؛ فسميث يجعل معيار التفرقة بين قسمي الرأسمال هو مدى احتمالية تغير مالك ذلك الجزء من الرأسمال الذي تجسد في السلعة عقب إنتاجها وطرحها في التداول، بمعنى أن كل سلعة من السلع المنتَجة طبقاً لنمط الإنتاج الرأسمالي والمعدّة للطرح في السوق، إنما تحتوي على"أدوات عمل، ومواد عمل، وعمل"، والذي يمضي في التداول هو"مواد العمل والعمل"، وتظل الأدوات، والمباني، ضمن ملْك صاحبها، وإنما تتجسد في الناتج بمقدار الاستهلاك فقط، وبنسبة محدّدة، في حين أن المواد إنما تُستهلك كليةً في أثناء عملية الإنتاج، وكذلك العمل الذي هو كالمواد عرضة للتبدل والتغير في أي لحظة يراها الرأسمالي وتبقى الآلات والمباني كي تمثل الرأسمال الأساسي، في حين تُعد مواد العمل والعمل رأسمالاً دائراً.
ثانياً: ديفيد ريكاردو
1- يتقدم ريكاردو بالاقتصاد السياسي خطوات إلى الأمام، على الأقل على مستوى نظرية القيمة، فلم يعتبر ريكاردو أن المشكلة المركزية في الاقتصاد السياسي هي الإنتاج ونمو قوى الإنتاج وتنمية الثروة بوجه عام، كما كان يرى آدم سميث، وانما اعتبر أن الإشكالية الأساسية في الاقتصاد السياسي إنما تتعلق بمسألة تحديد القوانين التي تنظم عملية توزيع القيمة التي تخلقها العمال؛ أي الكشف عن القوانين الموضوعية التي تحكم توزيع الثروة بين الطبقات الاجتماعية المشاركة في عملية الإنتاج، وهي طبقة الرأسماليين وطبقة الملاك العقاريين وطبقة العمال. وإذ يُرجع ريكاردو جميع دخول السكان إلى مصدر واحد هو العمل؛ فإنه يصل إلى الاستنتاج بأن مصالح الطبقات تتقارب مع بعضها وتتناقض، ولكن هذا التناقض ليس في حقل الإنتاج، وإنما في حقل التوزيع؛ حيث يجري الصراع بين الطبقات على اقتسام الناتج الإجمالي. وعلى الرغم من وجه الاختلاف بين سميث وريكاردو على هذا النحو، فإن كلاً منهما يصدر في تحليله لدائرة انشغاله عن نظرية في القيمة.
2- والواقع أن الاختلاف بين ريكاردو وسميث بشأن موضوع الإشكالية الأكثر أهمية في الاقتصاد السياسي هو إنعكاس مباشر لحركة الواقع؛ فسميث حين فكر فى إنتاج ثروة الأمم، إنما كان يعيش عصر الثورة الصناعية والرأسمالية الناشئة أي المرحلة الصاعدة للرأسمالية، وكانت المشكلة الأساسية حينئذ هى مشكلة تنظيم الإنتاج ونموه، بينما جاء ريكاردو كي يُعايش مرحلة تالية أخذت فيها مشكلة توزيع الدخل حيزاً كبيراً على صعيد الاقتصاد القومي، بين الرأسماليين والملاك العقاريين؛ فالتعارض كان واضحاً وشرساً بينهما. حيث تبلور الصراع بين رجال الصناعة الذين يريدون خفض أثمان المنتجات الزراعية كي لا يضطروا إلى دفع أجور مرتفعة تتناسب مع ارتفاع أثمان الغذاء، ورجال الزراعة الذين يرغبون في رفع أثمان هذه المنتجات لتحقيق أقصى ربح.
3- وعلى صعيد المنهج، نظر ريكاردو إلى المجتمع، كما نظر إليه آدم سميث، باعتباره عدداً معيناً من الأفراد الذين وهبوا ملامح "طبيعية خالدة". والتجريد، أو العلو بالظاهرة محل الدراسة عن كل ما هو ثانوي، هو طريقة التفكير التي تلقاها ريكاردو عن آدم سميث، وغيره من الأسلاف الكلاسيك بوجه عام، والذين توصلوا إلى نتائج علمية هامة مستخدمين في ذلك هذا المنهج.
ويمكن القول أن سميث استخدم، في الواقع، منهجين: فإلى جانب المنهج التجريدي، استخدم المنهج الوصفي في شرحه للظواهر محل تحليله. أما ريكاردو فهو يتجاوز هذه الازدواجية ويرفض بشكل حاسم المنهج الوصفي ويلتزم بأعلى درجات التجريد.
كان ريكاردو منشغلاً بهدف أساسي هو صياغة القوانين الاقتصادية التي توجه المجتمع وبصفة خاصة في حقل توزيع الناتج الاجتماعي؛ وتمكن باستخدام التجريد من التغلغل في بنية المجتمع بشكل أعمق مما أستطاع سميث، والكلاسيك بوجه عام.
4- أعاد ريكاردو النظر في تصور سميث للقيمة. إذ رأى أن قيمة السلعة تعتمد على كمية العمل النسبية الضرورية في سبيل إنتاج السلعة، وليس بوقت العمل اللازم في سبيل إنتاج السلعة الأخرى المتبادل بها، كما كان يرى سميث. ولكي يحل المشكلة التى واجهت سميث توصل إلى أن السلع تتبادل وفقاً لكمية العمل النسبية الضرورية في سبيل إنتاجها دون الوقوف كثيراً أمام اعتبارات شدة العمل وبراعته؛ حيث رأى أنه يمكن المقارنة بين كميات العمل المختلفة على أساس العمل البسيط والعمل المركب، فكمية س من العمل المركب يمكن مقارنتها بالكمية ص من العمل البسيط. وبذلك حل ريكاردو المشكلة، ولم تعد المقارنة بين عمل شاق وعمل سهل أو بسيط، تمثل أزمة؛ إذ يمكن المقارنة، وفقاً لحل ريكاردو، بين العملين على أساس أن ساعات العمل الشاق يمكن أن تنحل إلى عدد معين من ساعات العمل البسيط، وليكن ساعة عمل شاق تساوى ثلاث ساعات عمل بسيط. مع مراعاة أن ريكاردو يستخدم، في بعض الأحيان، تعبير"الكمية النسبية للعمل" بنفس معنى "الكمية المقارنة من السلع". والواقع أن ريكاردو يعتنق نفس نظرية سميث التي ترى أن السلع، في المجتمعات البدائية، تتبادل على أساس كمية العمل المبذول في إنتاجها. ولكنه لم يرتبك كما ارتبك سميث؛ وقرر أن نفس المبدأ واحد ولم يحدث تغير، ومن أجل المقارنة بين قيمة سلعتين يمكن أن نقارن بين وحدات من العمل البسيط والعمل المركب، والعمل الشديد والعمل السهل، والعمل البارع والعمل العادى.
5- فإذ ما توصل ريكاردو إلى قيمة السلعة وأن مقياسها العمل، رأى أن القيمة لا تتوقف فقط على العمل المنفَق مباشرة في إنتاجها، بل أيضاً على العمل المنفَق في سبيل إنتاج الأدوات والمعددات والمباني. أي العمل المختَزن.
وبناءً عليه؛ وباستخدام التجريد، كما ذكرنا، يصيغ ريكاردو جميع أفكاره الأخرى، وكان في كل مرة يطرح على نفسه السؤال: هل تطابق المقولة التي يدرسها أو تناقض تحديد القيمة بوقت العمل؟ كما كان غالباً ما يذكر رأى آدم سميث ثم يعقبه برأيه المتفق معه أو المخالف له سارداً لحججه وبراهينه.
6- وحينما انتقل ريكاردو لمناقشة قيمة المبادلة وجد أن السلع تعتمد في قيمتها التبادلية على أمرين: الندرة، وكمية العمل التي تحتويها.
فحينما تصدى لتفسير لغز القيمة الذي لم يتمكن سميث من تفسيره؛ إذ كيف تكون أشياء ذات قيمة استعمال عالية مثل الماء ولكن قيمة مبادلتها منعدمة تقريباً؟ وبالعكس، كيف تكون أشياء ذات قيمة استعمال قليلة ولكن ذات قيمة مبادلة مرتفعة مثل الماس؟ رأى ريكاردو أن حل هذا اللغز إنما يبدأ من فكرتي الندرة والمنفعة؛ فالماء ليس نادراً بل متوافر في الطبيعة؛ ولذلك تكون قيمة مبادلته قليلة، على العكس من ذلك الماس الذي يتميز بالندرة، ولذلك تكون قيمة مبادلته كبيرة. ولا يتوقف ريكاردو عند هذا الحد من التفسير بل يتقدم خطوة أكثر أهمية حين يقرر أن المنفعة شرط القيمة وليست مقياساً لها، كما ظن سميث الذي تصور أن المنفعة تؤخذ في الاعتبار حين قياس القيمة. ولكن ريكاردو يوضح أن الأشياء كي تكون ذات قيمة يشترط أن تكون ذات منفعة، مهما كانت ندرة السلعة ومهما كانت كمية العمل الضرورية المبذولة في إنتاجها. ولكن هذه المنفعة يقتصر دورها على ذلك ولا يتعداه إلى أن تكون مقياساً للقيمة.
7- وفي سياق انشغال ريكاردو بمشكلة القيمة يصل إلى منظم القيمة، موضحاً أنه لو كانت كمية العمل الموجودة في السلعة تنظم قيمة مبادلتها؛ فإن أي تغير في كمية العمل التي تحتويها السلعة سيستصحب التغير، مباشرة، في قيمة السلعة ذاتها.
8- وعلى الرغم من أن ريكاردو قد حدد، على نحو صائب إلى حد كبير، مفهوم القيمة ومقياسها ومنظمها؛ إلا أنه لم يستطع تفسير عملية التبادل بين العمل والرأسمال ابتداء من نظريته في القيمة. فلماذا يكون للعمل الحي الذي يقدمه العامل قيمة أقل من قيمة العمل المجسد التي يحصل عليها مقابل عمله، أي: لماذا يكون الأجر أقل من القيمة التي يخلقها العمل؟ يتعين هنا أن ننتظر تدخل ماركس كي يحل هذه المشكلة ويقدم إجابة تعتمد على التفرقة بين العمل وقوة العمل.
9- يفرق ريكاردو، كما سميث، بين الثمن الطبيعي وبين ثمن السوق، وهو يعمم تلك التفرقة على جميع ما يُباع ويُشترى في السوق من سلع، وطالما العمل سلعة تُباع في سوق العمل لمن يشتريها في مقابل الأجرة، فإن ريكاردو يرى أن الثمن الطبيعي للعمل هو الذي يكون ضرورياً لتمكين العمال من العيش وإدامة عرقهم، دون زيادة أو نقصان، إنما يعني حد الكفاف، وحينما تطرح "سلعة العمل" في السوق نكون أمام ثمن السوق للعمل، وهو يراه هنا، كما آدم سميث، خاضعاً لقوى السوق ولكنه يتأرجح ارتفاعاً وانخفاضاً حول الثمن الطبيعي. والحد الضروري من وسائل المعيشة بالنسبة لريكاردو ليس ثابتاً وإنما يتأثر بشروط تاريخية وجغرافية تحدد مكوناته. وسوف يشير ماركس إلى دخول عنصر تاريخي ومعنوي في تحديد قيمة قوة العمل بخلاف جميع السلع الأخرى.
10- ويقرر ريكاردو أن العمل المباشر يحصل على أجر مقابل مساهمته في الإنتاج، والعمل المختَزن يحصل على ربح، وهذا هو مقابل تكوين الرأسمال أو اختزان العمل، ولكن ريكاردو يرى إمكانية زيادة الأرباح عن ذلك المستوى الذي يعوض أصحاب الرأسمال على مجهوداتهم التي بذلوها في سبيل إنتاج السلعة. وهذه الزيادة في الأرباح تشبه الريع الذي يحصل عليه ملاك الأراضي من حيث كانت، في رأى ريكاردو، نتيجة لندرة الرأسمال وليست نتيجة للمجهود الذي بذل في تكوينها.
11- ويفرق ريكاردو بين الأجور الأسمية والأجور الحقيقية: فالأجور الأسمية هي في نظره، كما سميث، كمية معينة من النقود تُدفع للعامل لقاء عمله خلال فترة معينة من الزمن، أما الأجور الحقيقية فهي زمن العمل الضروري لإنتاج وسائل معيشة العامل الضرورية خلال الفترة التي يتقاضى عنها أجره الأسمي.
12- يستكمل ديفيد ريكاردو، ابتداءً من قانون القيمة، الخط المنهجي الذي وضعه أدم سميث بشأن التفرقة ما بين الرأسمال الأساسي والرأسمال الدائر، بيد أن استكماله لهذا الخط المنهجي إنما هو في الواقع إعادة نظر ليس في التقسيم أو في محتواه، وإنما في معياره؛ فعلي حين يرى سميث أن معيار التفرقة بين الرأسمال الأساسي والرأسمال الدائر يعتمد على شرط مدى بقاء ملكية ذلك الجزء من الرأسمال الذي يتجسد في السلعة، على نحو ما رأينا أعلاه، يعتمد ريكاردو معياراً جديداً يرتكز على معدل الاستهلاك، أو الديمومة؛ فإذا كان ذلك الجزء من الرأسمال مما يستهلك في وقت قصير، أو يستهلك كلية في فترة وجيزة، مثل الجزء من الرأسمال المدفوع كأجرة، فإن ذلك من قبيل الرأسمال الدائر. أما إذا كان مما يطول بقاؤه ويدوم استخدامه في الوظيفة التي تم إعداده لأجلها، كالآلات والمباني، فإننا نكون أمام رأسمال أساسي. كما يقول ريكاردو، مع ملاحظة أنه لا يُحدثنا عن المواد الأولية أو عن المواد المساعدة.
ثالثاً: كارل ماركس
1- انشغل ماركس، مثل جميع مفكري الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، بمشكلة القيمة... الأمر الذي جعله يبدأ من تحليل السلعة؛ لأنها التي تتجسد فيها القيمة.
وفي أثناء تحليله يفرق، كما سميث وريكاردو، بين نوعين من القيمة: الأول: قيمة استعمال السلعة، أي صلاحية السلعة لاشباع حاجة إنسانية معينة، وهذا النوع من القيمة هو الذي يشكّل المضمون المادي للثروة فى المجتمع. أما النوع الثاني فهو قيمة المبادلة، أي صلاحية السلعة للتبادل بسلعة أخرى، وهي تتبدى كعلاقة كَمية، أي كنسبة يجري بموجبها تبادل قيم استعمالية مِن نوع ما بقيم استعمالية مِن نوع آخر؛ فسلعة معينّة، كيلو جرام واحد مِن القمح مثلاً تجري مبادلته بمقدار س مِن الأرز، و ص مِن الحرير، و ك من الفضة، وما إلى ذلك، وباختصار، بسلع أخرى بأكثر النسب تبايناً. وبالتالي، ليس للقمح، كسلعة، قيمة تبادلية واحدة، بل الكثير جداً مِنها، ولكن بما أن س مِن الأرز، ص مِن الحرير، ك مِن الفضة، تُشكل القيمة التبادلية للكيلو مِن القمح، فإن س من الأرز، و ص من الحرير، و ك مِن الفضة، وما إليها، يجب أن تَكون قيماً تبادلية قادرة على أن تحل محل بعضها البعض، أي أن تكون متساوية فيما بينها. ومِن هنا ينجم أن القيم التبادلية المختلفة للسلعة تعبر عن شىء واحد. فمهما تكن العلاقة التبادلية بين الحرير والفضة، يُمكن على الدوام التعبير عن هذه العلاقة بمعادلة تَتَعادل فيها كَمية معيّنة مِن الحرير مع كَمية معينة مِن الفضة. مثلاً: مبادلة 10 أمتار مِن الحرير بـ 5 جرامات مِن الفضة، فعلام تَدُل هذه المعادلة؟ إنها تدل على وجود أمر مشترك مقداره واحد. إن كلاً مِن هذين الشيئين، الحرير والفضة، مساو لشيء ما ثالث، لا هو الأول ولا هو الثاني، وبالتالي لابد وأن يكون كل منهما، باعتباره قيمة تبادلية، قابلاً للإرجاع إلى هذا الشىء الثالث الذي لا يكون، كما يقول ماركس، متمثلاً في خصائص هندسية أو فيزيائية أو أية خصائص طبيعية أخرى للسلع؛ إذ إن خصائص السلع الجسدية لا تُؤخذ في الاعتبار على وجه العموم إلا بقدر ما تتوقف عليها منفعة السلع، أي بقدر ما تجعل مِن السلع قيماً استعمالية، وفي هذا الشأن يَنقل ماركس، عن باربون(1640- 1698) قوله:
"إن نوعاً من السلع هو صالح تماماً كأي نوع آخر إذا كانت قيمتهما التبادليتان متساوييتين ولا فرق أو اختلاف بين الأشياء التي لها قيم تبادلية متساوية فكَمية مِن الحديد أو الرصاص بمائة جنيه لها نفس القيمة التبادلية كما لكمية مِن الفضة أو الذهب بمائة جنيه".
إن الأمر الثالث المشترك بين"قيمة السلعتين التبادلية" هو العمل، فكلاهما نتاج قوة العمل. هنا يجد ماركس نفسه منشغلاً، بشكل رئيسي، بقيمة قوة العمل. متسائلاً: ما هي قيمة قوة العمل؟ ومن أجل الإجابة يسير التحليل على النحو التالي: ان قيمة كل سلعة تُقاس بكمية العمل اللازم لإنتاجها وقوة العمل توجد في شكل العامل الحي الذي يحتاج إلى كمية محددة من وسائل المعيشة لنفسه ولعائلته، مما يضمن استمرار قوة العمل حتى بعد موته. ومن هنا، فإن وقت العمل اللازم لإنتاج وسائل المعيشة هذه يُمثل قيمة قوة العمل.
2- وعلى ذلك، يدفع الرأسمالي للعامل أجره، أسبوعياً مثلاً، شارياً بذلك استخدام قوة عمله لهذا الأسبوع. بعد ذلك فإن الرأسمالي يجعل عامله يبدأ في العمل. وفي وقت محدد سيقدم العامل كمية من العمل توازي أجره الأسبوعي، فإذ افترضنا أن أجر العامل الأسبوعي يمثل ثلاثة أيام عمل، فإذا بدأ العامل عمله يوم الإثنين؛ فإنه يكون في مساء يوم الأربعاء قد "عوض"الرأسمالي عن"القيمة الكاملة للأجر المدفوع". ولكن هل يتوقف العامل عندئذ عن العمل؟ إطلاقاً. لقد اشترى الرأسمالي "قوة عمل" العامل لمدة أسبوع، وعلى العامل أن يستمر في العمل خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من الأسبوع كذلك، وهذا العمل الفائض الذي يقدمه العامل فوق الوقت اللازم لتعويض أجره وزيادة عليه هو"القيمة الزائدة"، ومصدر الربح والتراكم المتزايد للرأسمال على نحو مستمر. يمكن هنا اعتبار ما وصل إليه ماركس، على هذا النحو، بمثابة استكمال للبناء النظري الريكاردي وحل للمشكلة التي سبق أن واجهت ريكاردو، ومن قبله سميث، بصدد: لماذا يكون الأجر أقل من القيمة التي يخلقها العمل؟ فالرأسمالي لم يشترْ العمل، كما ظن الكلاسيك، إنما اشترى قوة العمل، كما توصل ماركس.
3- وعقب أن أتم ماركس تحليله للقيمة، على نهج ريكاردو، وجد ضرورة مراجعة تصورات الكلاسيك بصدد أنواع الرأسمال. فقد كان آدم سميث وديفيد ريكاردو، والكلاسيك بوجه عام، يرون، كما ذكرنا، أن الرأسمال اللازم من أجل عملية إنتاجية ما، ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الرأسمال الأساسي: ويحتوي على المباني والآلات والمعدات، وكل ما لا يُستهلك في عملية إنتاجية واحدة. والقسم الثاني: الرأسمال المتداول: وهو الذي يُستخدم في عملية إنتاجية واحدة مثل المواد الأولية والمواد الوسيطة والعمل الإنساني. ولكن هذا التقسيم لم يكن يتناغم مع نظرية ماركس في القيمة. الأمر الذي جعله يعيد النظر في التقسيم، إنما ابتداء من معيار مختلف هو معيار القيمة نفسها، متسائلاً ما هي الأجزاء من الرأسمال التي تغير من قيمتها أثناء عملية الإنتاج أي الذي يمكن أن تخلق قيمة أزيد من قيمتها؟ وما الأجزاء التي لا تغير من قيمتها أي تظل قيمتها ثابتة عبر العملية الإنتاجية؟ حينئذ رأى ماركس ان تقسيم الكلاسيك ليس خطأ كلية إنما يحتاج إلى تعديل؛ فالرأسمالي، من أجل الإنتاج، يستخدم قسمين من الرأسمال: القسم الأول: الرأسمال ذو القيمة الثابتة، ويتكون ذلك القسم من: جزء أساسي مثل الأدوات والمعدات والمباني. وجزء دائر مثل المواد الوسيطة والمواد الأولية، وهذا القسم من الرأسمال لا يغير من قيمته أثناء العملية الإنتاجية، لأنه يدخل عملية الإنتاج ويخرج منها بنفس القيمة.
فالآلة مثلاً، بما تحتويه من عمل مختزن، يحسب معدل استهلاكها على أساس قيمتها وطاقتها الإنتاجية، وهي تدخل في حساب تكلفة الإنتاج بهذه القيمة دون زيادة أو نقصان. القسم الثاني: الرأسمال ذو القيمة المتغيرة، ويتكون من: قوة العمل. وهذا القسم من الرأسمال يحقق أربعة أمور:
(أ) ينقل قيمته إلى الناتج،
(ب) يزيد قيمة الناتج،
(ج) يسمح بنقل قيمة الرأسمال الثابت إلى الناتج،
(د) يخلق قيمة جديدة غير مدفوعة الأجر. ويتم ذلك بأن يدفع الرأسمالى للعامل 2 جنيه ويأخذ منه عملاً يساوى 3، أو 4، أو 5، أو... إلخ. ولذلك سمى هذا القسم من الرأسمال بالرأسمال المتغير. بعبارة أدق الرأسمال ذي القيمة المتغيرة. كتب ماركس:
"...إن ذلك القسم من الرأسمال الذي يتحول إلى وسائل إنتاج أي مادة خام ومواد مساعدة ووسائل عمل، لا يغير مقدار قيمته فى عملية الإنتاج. لذلك فأنا أسمّيه بالقسم الثابت للرأسمال، أو بإيجاز: الرأسمال الثابت، وعلى العكس، فذلك القسم من الرأسمال الذي تحول إلى قوة عمل، يُغيّر قيمته أثناء عملية الإنتاج، فهو يُجدّد إنتاج معادله الذاتي ويشكل بالإضافة إلى ذلك قيمة زائدة يمكنها أن تتغيّر بدورها وأن تكون أكبر أو أقل، وهذا القسم للرأسمال يتحول بصورة متواصلة من مقدار ثابت إلى متغيّر، ولذلك فأنا أسمّيه بالقسم المتغيّر للرأسمال، أو بإيجاز: الرأسمال المتغير".
4- ان هذا العمل غير مدفوع الأجر يمثل قيمة زائدة يستحوذ عليها الرأسمالي. والرأسمالي يجدد إنتاجه من خلال تحويل هذه القيمة الزائدة إلى رأسمال مجدداً، على نطاق متسع؛ ونمط الإنتاج الرأسمالي لا يقتصر على إعادة إنتاج الرأسمال بصورة مستمرة، ولكنه يعيد إنتاج فقر العمال بصورة مستمرة في ذات الوقت، بحيث أنه يضمن على الدوام، تركز الرأسمال من جهة، ويضمن أيضاً وجود جماهير غفيرة من العمال المضطرين لبيع قوة عملهم إلى هؤلاء الرأسماليين لقاء كمية من وسائل العيش التي تكفي بالكاد لبقائهم قادرين على العمل، وعلى إنجاب جيل جديد من العمال من جهة أخرى. إلا أن الرأسمال لا يُعاد إنتاجه فحسب بل يزداد ويتضاعف على الدوام بقدر ما تتضاعف سطوته على طبقة العمال المفتقرين لوسائل الإنتاج وكما أن الرأسمال يُعاد إنتاجه بمعدلات تتزايد بأطراد فإن نمط الإنتاج الرأسمالي المعاصر يعيد إنتاج طبقة العمال المعدومي الملكية بمعدلات متزايدة أيضاً.
5- وعلى مستوى الأداء اليومي للمشروع الرأسمالي، ينتهي ماركس، ابتداءً من نظريته في القيمة والقيمة الزائدة المستندة إلى تصورات ريكاردو، إلى:
- ان جميع السلع هي نتاج العمل البشرى، وهذه الخاصية يُمكن قياسها؛ فالعمل يُقاس بكمية الزمن المنفَق على إنتاج السلعة، فكمية العمل الضروري المبذول في إنتاج السلعة، إذاً، هي التي تُحدد النسب التي تَتَبادل بها بعض السلع بالبعض الآخر.
- إن جميع ظواهر الكون سواء أكانت بفعل الإنسان أو ناتجة عن قوانين الطبيعة، لا تقدم سوى فكرة تبدل الأشكال المادية للسلع، إن الضم والفصل هما العنصران الوحيدان اللذان يكشف عنهما الذهن البشري بتحليله لعملية الإنتاج، إذ أن العملية الإنتاجية ما هي سوى عملية فصل وضم أشياء موجودة سلفاً في الطبيعة.
- إن نفقة إنتاج قوة العمل هي النفقات الضرورية، لجعل العامل عاملاً، ولإبقائه عاملاً. وإن إستهلاك العُمال يؤخذ في الحسبان المحاسبي، شأنه شأن إستهلاك الآلة.
- ان الاستثمارات في فروع القطاعات المشاركة في الإنتاج على الصعيد الاجتماعي تحكمها معدلات الربح؛ ومن هنا انشغل ماركس بتحديد شروط التوازن بين فروع الإنتاج، فأي رأسمالي يرغب في استثمار أمواله سوف ينظر أولاً لربحه المحتمل. وهو لن يقدم على الاستثمار في فرع إنتاجى معين، وليكن الحديد والصلب، إلا إذ ما كان هذا الفرع الذي يريد استثمار أمواله فيه يحقق أعلى معدلات ربح. فكيف تتحدد معدلات الأرباح التي تحكم قرارات المستثمر؟ يتعين، قبل الإجابة، أن نوضح أن تحليل ماركس بوجه عام في رأس المال هو تحليل ساكن يفترض:
- ثبات كل من: كمية النقود، والكمية المطلوبة من السلع وكمية الربح الممكن توزيعه على الرأسماليين؛ فلو إفترضنا أن:
(أ) مجموع الرساميل = 500 وحدة،
(ب) عدد المشروعات = 5 مشروعات،
(ج) كمية النقود التي توزع كأرباح = 110 وحدة،
فإن نصيب كل مشروع من الربح سيكون 22 وحدة. ومعنى ذلك أن أي مشروع جديد سوف يدخل السوق سوف يُشارك المشروعات الخمسة القائمة في كمية الربح المحددة وهي 110. فإذ ما أفترضنا أن 5 مشروعات جديدة دخلت السوق فسوف يكون نصيب كل مشروع من المشروعات الـ 10 مقداره 11 وحدة فقط. وذلك مرتبط بشرط واحد هو أن كمية الطلب الكلي محددة؛ فمهما زادت الكمية المعروضة بدخول مشروعات جديدة، فلن يزيد المجتمع من استهلاكه لهذه السلعة. وبالتالي سوف تتنافس المشروعات على تلبية كمية محددة سلفاً من السلع من جهة، وعلى اقتسام كمية الأرباح المحددة أيضاً سلفاً، من جهة أخرى.
- كما يفترض التحليل أن السلع تُباع بقيمتها،
- وأن المجتمع مُغلق، أي لا يدخل في علاقات مع بقية أجزاء الاقتصاد العالمي،
- وأخيراً، وهو الأهم، يفترض تحليل ماركس سيادة المنافسة الكاملة في مجتمع يسعى فيه الرأسماليون إلى تحقيق أقصى ربح.
وبناءً عليه تتحدد معدلات الأرباح، ابتداءً من قانون القيمة؛ وفقاً للجدول أدناه على النحو التالي، مع مراعاة افتراض: قطاعاً إنتاجياً معيناً يضم خمسة مصانع تستخدم تراكيب مختلفة من الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير، وأن معدل القيمة الزائدة 100 بالمئة:

الرأسمال الثابت
(ث)
الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت
(ثَ)
الرأسمال المتغير
(م)
معدل
القيمة الزائدة 100%

قيمة السلعة
(ق ز)
ثمن التكلفة
(ك)
معدل الربح الوسطي
(ح)
ثمن الإنتاج
(ج)
إنحراف
الثمن/القيمة
80 50 20 20 90 70 22 92 + 2
70 51 30 30 111 81 22 103 - 8
60 51 40 40 131 91 22 113 - 18
85 40 15 15 70 55 22 77 + 7
95 10 5 5 20 15 22 37 + 17
78 38 22 22 82 60 22 82 تطابق

- مجموع القيمة الزائدة المنتجة فى كل المصانع 20+30+40+15+5= 110.
- مجموع الرساميل في كل المصانع 100+100+100+100+100= 500.
- التركيب المتوسط للرأسمال، هو: مجموع الرأسمال الثابت إلى مجموع الرأسمال المتغير مقسوماً على الرأسمال الكلي.
- التركيب المتوسط للرأسمال، وفقاً لمجموع الرساميل= ( 78ث + 22م).
- معدل الربح الوسطي= 110÷500= 22%.
- سوف تقوم المشروعات المختلفة (وفقاً لقوى السوق. اليد الخفية عند آدم سميث) بإدخال تعديلات في التركيب العضوي للرساميل؛ حتى تتلائم مع التركيب المتوسط للرأسمال على الصعيد الاجتماعي، وكذلك مع الربح الوسطي.
- ثمن التكلفة يتكون من: الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير.
- قيمة السلعة تتكون: من الجزء المستهلك من ث + م + ق ز.
- أما ثمن الإنتاج فيتكون من ثمن التكلفة + معدل الربح الوسطي.
- على الرغم من أن كل رأسمالي، وفقاً للجدول أعلاه، بمفرده يحصل على قيمة زائدة مقدارها 100% إلا ان حساب الربح، ومن ثم تجديد الإنتاج، لا يعتمد على القيمة الزائدة التي تتحقق فى مصنعه هو فحسب، إنما يعتمد في المقام الأول والأخير على الربح الكلي الذي أنتجه الرأسمال الاجتماعي الكلي.
6- ولكن، ماركس يحذر. فالرأسماليون الذين يكثرون من استخدام القسم الثابت من الرأسمال على حساب القسم المتغير، سوف يتعرضون للإفلاس والخراب! لأن القيمة الزائدة التي يتحصلون عليها إنما يحصلون عليها بالاعتصار من الرأسمال المتغير وليس من الرأسمال الثابت. فالأدوات والمواد تخرج من العملية الإنتاجية بنفس القيمة التى دخلتها بها. ولكن المسألة كما يعلن ماركس ليس اختيارية إنما إجبارية. فمع تطور التقنية واحلال الآلة محل العمل يحدث تدهور مستمر في معدلات الربح وتتجه بوجه عام هذه المعدلات إلى الانخفاض لأن الرأسمالي لا يستطيع أن يستخرج قيمة زائدة من الآلة. فليس بالضرورة إذاً أن تؤدي الزيادة في الرساميل إلى الزيادة في معدلات الربح؛ بل على العكس قد تؤدي هذه الزيادة إلى الانخفاض في هذه المعدلات. فالرأسمال ليس مبلغاً مِن النقود، إنما هو علاقة إجتماعية. وهو يَفترض العمل المأجور، والعمل المأجور يَفترض الرأسمال. فكُل منهما شرط الآخر. وبقدر ما ينمو الرأسمال المنتِج، وبقدر ما يتسع تقسيم العمل واستخدام الآلات، بقدر ما تَنتشر المزاحمة بين العمال، وبقدر ما ترتفع مؤشرات البطالة، وبقدر ما تنخفض مقادير القيمة الزائدة. وبقدر ما تأخذ الرأسمالية في طريقها الهابط لجفاف منابع سر نشأتها وحياتها وتطورها. القيمة. والقيمة الزائدة.
فمع ادخال الماكينات يبدأ العامل في الصراع ضد وسيلة العمل ذاتها، والتي هي الشكل المادي لوجود الرأسمال؛ فما أن ظهرت وسيلة العمل بشكل الماكينة حتى أصبحت مزاحِمة للعامل نفسه؛ فإن عدد العمال الضروريين لإنتاج نفس الكمية من السلع يتناقض أكثر فاكثر بفضل التقدم الآلي وتحسن الزراعة وميكنتها... إلخ. وهذا يؤدي إلى نمو عدد العمال الزائدين عن الحاجة بسرعة أكبر من نمو الرأسمال نفسه. وحينئذ يتسائل ماركس: ما هو مصير هذا العدد المتنامي من العمال؟ ويرى انهم يشكلون جيش الصناعة الاحتياطي الذي يتقاضى، في فترات الأزمات الدورية التي تمر بها الرأسمالية، أجراً أدنى من قيمة عمله، كما أنه يستخدم بصورة غير دائمة.
وبناءً عليه يضع ماركس القانون العام المطلق للتراكم الرأسمالي على أساس أنه كلما كانت الثروة الاجتماعية أكبر تعاظم جيش الصناعة الاحتياطي، وكلما كانت نسبة الجيش الاحتياطي أكبر من الجيش الفعلي (العمال الدائميين) كلما تضخمت جماهير السكان الفائضين التي يتناسب بؤسها بصورة طردية مع مشقة عملها. وأخيراً كلما اتسعت فئات المعدمين من الطبقة العاملة وجيش الصناعة الاحتياطي، كلما تزايد الفقر على الصعيد الاجتماعي.
رابعاً: الاقتصاد السياسي: المباديء العامة المجردة
يمكننا الآن؛ في ضوء التحليل أعلاه أن نستخلص، على نحو مجرد، مباديء الاقتصاد السياسي، التي يتعين أن نخضعها بدورنا للنقد، على النحو التالي:
- الاقتصاد السياسي هو عِلم نمط الإنتاج الرأسمالي المتمفصل حول القيمة.
- المنفعة شرط القيمة، وليست مقياساً لها.
- تعتمد قيمة السلعة على: مدى ندرتها، والعمل المبذول في إنتاجها.
- تُقاس القيمة بالكمية النسبية الضرورية للعمل المبذول في إنتاجها.
- العمل المختزن في مواد العمل وأدوات العمل يؤخذ في الاعتبار عند قياس قيمة السلعة. فالرأسمال ليس سوى مجموعة من المقادير الاجتماعية، فكل المنتجات التي يتكون منها هي سلع. إذ يتكون الرأسمال من مواد عمل وأدوات عمل، وكل هذه المكونات التي يتركب منها الرأسمال هي منتجات عمل.
- كمية العمل المتحققة في السلعة هي التي تنظم قيمة مبادلتها.
- القيمة الزائدة هي مقدار الفارق بين ما يُدفع مقابل قوة العمل وما يستأثر به الرأسمالي.
- معدل القيمة الزائدة هو: النسبة بين القيمة الزائدة إلى الرأسمال المتغير.
- تنحل القيمة الزائدة إلى الربح والريع والفائدة. فالقيمة التي يخلقها العمل تتوزع بين الرأسماليين الصناعيين والملاك العقاريين والرأسماليين الماليين. ولا يحصل خالقوا هذه القيمة، الشغيلة، على أي نصيب في ما أنتجوه. فالشغيلة بعد أن يقوموا بإنتاج معادل قوة عملهم (الأجر) يقومون بإنتاج دخول باقي الطبقات في المجتمع.
- الرأسمال الثابت هو الذي يتحول إلى وسائل إنتاج (أدوات عمل، ومواد عمل)، ولا يغير مقدار قيمته أثناء عملية الإنتاج. وهو ينقسم إلى قسمين: الأول: رأسمال أساسي لا يُستهلك في عملية إنتاجية واحدة، مثل المباني والآلات. القسم الثاني: رأسمال دائر يُستهلك في عملية إنتاجية واحدة، مثل المواد الأولية والمواد المساعدة.
- الرأسمال المتغير هو الذي يتحول إلى قوة عمل، ويُغيّر قيمته أثناء عملية الإنتاج. فهو، أولاً، ينقل قيمته إلى الناتج. وثانياً: يزيد قيمة الناتج. وثالثاً: يسمح بنقل قيمة الرأسمال الثابت إلى الناتج. ورابعاً: يخلق قيمة جديدة غير مدفوعة الأجر.
- تبرز ثروة المجتمعات، التي يهيمن عليها نمط الإنتاج الرأسمالي، بوصفها تراكماً هائلاً من السلع. ولكي يعد الناتج سلعة يجب أن يكون معداً للبيع من خلال السوق وليس للاشباع المباشر.
- قيمة السلعة = المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير+ القيمة الزائدة.
- ثمن التكلفة = الجزء المستهلك من الرأسمال الثابت + الرأسمال المتغير.
- معدل الربح الوسطي = مجموع القيمة الزائدة ÷ مجموع الرساميل.
- ثمن الإنتاج = ثمن التكلفة + معدل الربح الوسطي.
- التركيب المتوسط للرأسمال = مجموع الرأسمال الثابت إلى مجموع الرأسمال المتغير ÷ الرأسمال الكلي.
- قوة العمل هي القدرة على العمل، هي مجموع القدرات المادية والمعنوية التى يتملكها الإنسان مستعملاً إياها فى سبيل إنتاج القيمة الاستعمالية. وقوة العمل، مع نمط الإنتاج الرأسمالي، ليست سوى سلعة، يقوم مالكها (العمل المأجور) ببيعها إلى الرأسمالي من أجل أن يعيش.
- إن الحد الأدنى للأجرة شأنه شأن تحديد ثمن السلعة بنفقات الإنتاج على وجه العموم، إنما يصح على الجنس، لا على الفرد بمفرده. فهناك عمال، ملايين العمال، لا يحصلون على ما يكفي للمعيشة والتناسل؛ ولكن أجر الطبقة العاملة بأسرها يساوي هذا الحد الأدنى، ضمن حدود تقلباتها.
- إن نفقة إنتاج قوة العمل هي النفقات الضرورية، لجعل العامل عاملاً، ولإبقائه عاملاً. وإن استهلاك العُمال يؤخذ في الحسبان المحاسبي، شأنه شأن إستهلاك الآلة. والعامل يستهلك وسائل المعيشة، لغرض واحد هو إدامة قوة عمله مثلما يستهلك المحرك البخاري الفحم والماء، وتستهلك العجلة الزيت.
- بما أن عملية الإنتاج هي في الوقت نفسه العملية التي يستهلك فيها الرأسمال قوة العمل، فإن ناتج العامل يتحول، وبشكل مستمر، لا إلى سلعة فحسب، بل أيضاً إلى رأسمال. والعامل على هذا النحو يُنتج باستمرار ثروة موضوعية، ولكن في شكل رأسمال.
- ان النقود والسلع ليستا بالضرورة رأسمالاً بحد ذاتهما. شأنهما في ذلك شأن وسائل المعيشة ووسائل الإنتاج. فهي بحاجة إلى أن تتحول إلى رأسمال. ولكن هذا التحول لا يجري إلا في ظل ظروف نمط الإنتاج الرأسمالي حيث تتبادل قوة العمل الحرة بالنقود.
خامساً: ولكن، هنا توقف الاقتصاد السياسي، ولم يصل إلى:
- كيف تتحدد القيمة الزائدة نفسها؛ إذ اكتفى الاقتصاد السياسي بتحديد معدلها دون تحديدها هي. فقد توقف الاقتصاد السياسي عند القول بأن معدل القيمة الزائدة هو النسبة بين القيمة الزائدة إلى الرأسمال المتغير. دون أن يصل إلى محددات القيمة الزائدة نفسها. فكيف تتحدد القيمة الزائدة؟ هل تخضع لأهواء الرأسماليين؟ أم ثمة قانون موضوعي يحددها؟
- اتجاه القيمة الزائدة، على الصعيد العالمي، التي خلقتها الشغيلة في بلدان الأجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالي. إذ لم يُثرْ الاقتصاد السياسي إشكالية لا تقل أهمية في حقل التوزيع؛ وهي أين تذهب القيمة الزائدة التي تَتخذ من الربح والريع، وربما الفائدة، صوراً لها، تعكس وجودها كدخول للطبقات الاجتماعية المختلفة؟ أي أين تذهب تلك الصور التي تتخذها القيمة التي زادت بفعل الإنتاج في الاقتصاد القومي خلال فترة زمنية معينة؟ هل يُعاد ضخها في مسام الاقتصاد القومي المنتِج لها، أم تتسرب إلى الخارج من أجل شراء السلع والخدمات التي تُنتجها البلدان المتقدمة؛ وتتوقف عليها عملية تجديد الإنتاج الاجتماعي في الأجزاء المتخلفة؟
- كيف تتحدد نسبة المبادلة بين العمل البسيط والعمل المركب. إذ اكتفى الاقتصاد السياسي بالقول بإمكانية مبادلة س من العمل البسيط بـ ص من العمل المركب، دون أن يصل إلى أساس هذه المبادلة؛ فعلى أي أساس تتم مبادلة س من السلعة (ط - عمل بسيط) بـ ص من السلعة (ن - عمل مركب)؟
سادساً: الإجابة ليست مهمة
ولأن الإجابة على الأسئلة، الثلاثة، التي تُثيرها الأفكار المذكورة أعلاه ليست مهمة؛ إنما المهم هو الطريق الذي سيسلكه الذهن في سبيله لتقديم هذه الإجابة؛ فدعوة هي إذاً لإعمال الذهن. دعوة لاستكمال الاقتصاد السياسي. استكماله بعد أن كف عن التطور مع غلق آخر صفحة من كتاب رأس المال.



















قراءات مقترحة
----------------------------------

A. Smith, The Wealth of Nations. New York: Barnes & Noble. 2004.
A. Emmanuel, Unequal Exchange. A Study of Imperialism of trade London: Monthly. Review Press, 1972.
Baptiste, A Treatise on Political Economy. Philadelphia: Lippincott, Grambo & Co, 1855.
Dugald Stewart, Lectures on Political Economy. London: Macmillan & co, 1875.
D. Ricardo, The Principles of Political Economy and Taxation. New York Barnes& Noble. 2005.
E. Roll, History of Economic Thought. London: Faber and Faber, 1973.
Francois Quesnay, Tableau Economique, Paris: A La Institut National de Etudes d Emographiques, 2005.
Henri Denis, Histoire De La pensee Economique. Paris: Presses Universities de France, 1966.
J.Schumpeter, The Theory of Economic Development, Cambridge University press, 1967.
John S.Cambs, Man, Money, and Goods. New York: Columbia University press, 1952.
John Fred Bell, A History of Economic Thought .New York: The Ronald press company, 1953.
J.Schumpeter, The Theory of Economic Development .Cambridge University press, 1967.
K. Marx, Capital: A Critique of Political Economy. New York: The Modern Library, 1906.
Lewis Haney, A history of Economic Thought. New York: Macmillan Company, 1936.
M.Dobb, Studies in the Development of Capitalism. London: George Routledge, 1947.
John Stuart Mill, Principles of Political-;- Economy with some of Their Applications to Social Philosophy. London: Longmans, Green &Co, 1909.
Michel Beaud, A History of Capitalism 1500-1980 .London: Macmillan press.1989.
R. Cantillon, Essay on the Nature of Trade in General, London: Frank Cass and Co. 1959.
Rosa Luxembourg, The Accumulation of Capital. London: Rutledge and Kegan. 1963.
R.Heilbroner,The worldly Philosophers. New York: Simon & Schuster, 1961.
S.Amin, Le change inegale et la loi de la valuer, la fin d un debat. Arthropods-IDEP, Paris, 1973.
Turgot, Robert Jacques, Reflections on the Formation and Distribution of Wealth. London: E.Sprag, 1898.
Thomas Robert Malthus, Definitions in Political Economy. London: John Murray, 1827.



#محمد_عادل_زكى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التاريخ العام للرأسمالية
- فى المسألة الفنزويلية
- كيف نفهم، كعرب، إيران؟
- السودان بعد التفكيك
- ملاحظة بصدد أزمة التعليم فى العالم العربى
- النداء الأخير
- نقد المركزية الأوروبية فى الاقتصاد السياسى
- نقد ديالكتيك ماركس فى رأس المال
- هيكل اقتصاد مصر
- خلاصة الرأسمالية
- محاضرات دورة كتاب رأس المال
- موضوع الاقتصاد السياسى
- مسخ الاقتصاد السياسى
- نظرية القيمة عند الكلاسيك وماركس
- من ماركس إلى قانون فى القيمة
- الاقتصاد المصرى
- التبعية مقياس التخلف
- مبادىء الاقتصاد السياسى
- للحق، لا للقضاء، للمحامى المصرى رامى الحدينى
- ما قبل هيمنة ظاهرة الرأسمال


المزيد.....




- هكذا أنشأ رجل -أرض العجائب- سرًا في شقة مستأجرة ببريطانيا
- السعودية.. جماجم وعظام تكشف أدلة على الاستيطان البشري في كهف ...
- منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي محذرًا: الشرق الأوسط ...
- حزب المحافظين الحاكم يفوز في انتخابات كرواتيا ـ ولكن...
- ألمانيا - القبض على شخصين يشتبه في تجسسهما لصالح روسيا
- اكتشاف في الحبل الشوكي يقربنا من علاج تلف الجهاز العصبي
- الأمن الروسي يصادر أكثر من 300 ألف شريحة هاتفية أعدت لأغراض ...
- بوركينا فاسو تطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين بسبب -نشاطات تخري ...
- حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره ويستهدف مواقع للاحتلال
- العلاقات الإيرانية الإسرائيلية.. من التعاون أيام الشاه إلى ا ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد عادل زكى - أصول الاقتصاد السياسى