أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوتيار تمر - أُم ايبو / الهجرة المليونية















المزيد.....


أُم ايبو / الهجرة المليونية


جوتيار تمر
كاتب وباحث

(Jotyar Tamur Sedeeq)


الحوار المتمدن-العدد: 4440 - 2014 / 5 / 1 - 02:44
المحور: الادب والفن
    


أم ايبو...
جوتيار تمر
مضى موسم الصيف سريعاً، فالتقطت الارض انفاسها، حيث عادت الغيوم تجتمع فوق سماء القرية، على العموم الصيف لايطول على الاغلب في هذه المناطق الحدودية حيث تبقى الثلوج على سفوح الجبال اغلب اشهر السنة، لكن صيف هذه السنة كان مختلفاً لانه حمل معه تباشير طيبة بالاخص ل(ام ايبو) فقد استطاع ابنها قبل اختفائه المفاجئ ان يبيع اغلب محاصيل الفاكهة التي تمتلكها، فحصلت على وارد طيب يمكنها ان توئمن به متطلباتها القليلة اصلاً خلال موسمين لاحقين، طالما هي لاتسرف مثل البعض في تبذير اموالها للتباهي او في امور كمالية..يبدو اني استرسلت في الحديث ولم اعرفكم بعد بالقرية وبأم ايبو وابنها.... القرية تدعى(سروو كاني) وهي من القرى الواقعة على الحدود مشهورة بطول شتائها وقصر صيفها، وعلى الرغم من ذلك فهي تشهد اسابيع حارة جدا في الصيف، اما باقي ايامها فانها تعيش حالة من الاعتدال النسبي والبرد القارص في الشتاء لكثرت هطول الامطار وسقوط الثلوج ولكونها محاطة بجبلين احدهما على الجهة الشمالية والاخر الغربية فان منظر الثلوج يعانق مخيلة ابنائها طوال فترات الشتاء وبعض الاسابيع في الصيف ايضاً..اما اهلها فهم طيبون مسالمون جداً يعملون في الزراعة وفي تربية المواشي بالاخص الاغنام التي تدر عليهم منافع كثيرة.. و ام ايبو التي سبق وان ذكرتها اسمها( ممى) وملقبة بام ايبو.. و ايبو هو تصغير لاسم ابراهيم، وفي القرى عادة تصغير الاسماء ظاهرة ملحوظة، وطالما نتحدث عن ايبو دعوني اعرفكم به اكثر، هو طويل ذا بشرة سمراء على حمراء، درس الابتدائية والمتوسطة في قريته، واكمل الاعدادية في مجمع سكني قريب من قريتهم، فاغلب القرى انذاك لم تكن تمتلك مدارس اعدادية وذلك لعدم وجود مدارس كثيرة اصلا فيها، ولقلة اعداد الطلاب فبعض القرى لم يكن يتجاوز سكانها العشرين بيت او الثلاثين بيت، ولهذا لم تكن الحكومة تتبنى فكرة بناء مدارس كثيرة يمكنها ان تحتوي جميع المراحل الدراسية في القرية الواحدة، انما كانت تجمع الابتدائية والمتوسطة في بناية واحدة، وتبني المدارس الاعدادية في قرى اكثر كثافة سكانية او التجمعات السكنية بحيث تتوسط القرى الاخرى فيأتوا اليها، او انها كانت تتبنى فكرة المدارس الثانوية التي تجمع الطلاب من الاول المتوسط الى السادس الاعدادي، سنعود في وقت اخر لنصف لكم كيف هي هذه المدراس، لاننا لم ننتهي من بعد ايبو... كما قلت بانه ارتاد الاعدادية في مجمع سكني قريب من قريته، وبعدها درس سنتين اثنتين في معهد المعلمين المركزي، وخلال السنتين هذين ابتعد كثيراً عن امه الوحيدة، لانه كان قد اضطر للسفر الى المدينة وفيها اجتهد واكمل دراسته وعاد بعدها مسرعاً الى قريته حيث عمل في مدرستها.
كانت القرية عموما تعيش حياة هادئة نسبياً، الا انها احيانا كانت تضطرب متأثرة بالظروف العامة للمنطقة، واهالي القرية معهم ام ايبو وابنها كانوا يتبنون فكرة الحفاظ على امن القرية من خلال تكليف احد رجالاتها( المختار) بالاهتمام بشؤونها وادارتها، وهذا الاخير كان يتبع سياسة خاصة في التعامل مع الازمات والمشاكل داخل القرية، اما لماذا نذكر اسم ام ايبو دون غيرها فلانها الوحيدة في القرية التي ليس لها سوى ابنها الشاب، فزوجها قد اختفى ذات يوم بصورة مفاجأة وابنها لم يكن قد تجاوز التسعة اشهر من عمره، ولم يعرف احد لماذا، بل الامر الذي لم يزل يقض مضجع ممى انها لم تعرف مصير زوجها لحد كتابة القصة هذه، حيث مثلما تقول هي عندما يسأل احدهم عنه "انشقت الارض وبلعته" طبعا تقولها وعيونها تحمل ما لايتحمله انسان من حزن ودمع، عانت ام ايبو كثيرا في حياتها، فمع حزن اختفاء زوجها، ومهمة تربية ابنها الصغير وتعليمه وتحمل مشقات العمل وتحمل مشقات الحياة بدون زوج بعد زواج لم يستمر الا سنتين، ومن ثم تحمل ما تسمعه احيانا من اخبار متضاربة حول مصير زوجها، فمن تقول بانه تزوج وهو يعيش في مدينة داخل البلد المجاور، ومن تقول بانه توفي ولكن لااحد يعلم كيف، ومن يقول بان الحكومة اخذته لكونه كان ينتمي الى جماعة تعمل بالسر ضدها لاسيما ان هناك في القرية بل على مقربة منها تلة كبيرة عليها ثكنة عسكرية فيها ضابط هو المسؤول عن القرية وجنود مدججين دائما بالسلاح وقد حدث وان ذهبت ممى ومختار القرية وبعض رجالاتها الكبار الى تلك الثكنة يسألون عن سمكو في بداية اختفائه الا انهم لم يحصلوا على شيء منهم، واقاويل كثيرة اخرى كلها تنهك وتثقل كاهل ام ايبو، ومع ذلك فهي لم تستسلم ابداً لليأس وكافحت لحين ان اوصلت ابنها الى هذه المرحلة، بل انها واجهت كل التحديات بصرامة وتحدي غير معهود من قبل في القرية حتى عندما اراد الضابط ان يستغل اختفاء زوجها وارسل بعض جنوده لاحضارها الى الثكنة الا انها رفضت الذهاب لوحدها فلجأت الى المختار وبعض الرجال الاخرين وعندما وجدهم الضابط معها ادرك صعوبة استغلالها فتركها لحالها.
لانقول بانها فعلت ذلك لوحدها، وبدون مساعدة اهل القرية، الا انها تحملت العبء الاكبر بلاشك، اما كيف استطاعت ان تصل بابنها الى هذه المرحلة فدعوني اقول لكم عن وضعها المعيشي، كان (سمكو) شاباً نشطاً ومنتجاً في آن واحد، حيث عندما تزوج من ممى وعدها بان يؤمن حياتها بتسجيل اغلب املاكه التي ورثها من والده باسمها، وكان يملك مزرعتين كبيرتين الاولى للفاكهة من تفاح وخوخ واللوز والعنب، والاخرى حولها الى مرعى للماشية، ثلاث بقرات، وحصان، وبعض الاغنام..هذه الاملاك في مثل تلك القرى تعد مكاسب كبيرة للعائلة الواحدة بل تعد من العوائل الغنية قياساً بمعيشة الاخرين التي غالباً ما تكون اقل دخلاً بكثير..فنظام القرى لدينا يعتمد على الكسب اليدوي والموسمي اكثر، المهم في الامر ان سمكو وهو تصغير لاسم اسماعيل كان يحاول دائما ان يوئمن قوته في موسم بحيث يكفي لادارة شؤونه لموسمين وهذه صفة عرفها الاخرون عنه، أي انه بعدما ورث تلك الاملاك قبل زواجه من ممى باربع سنوات ظل يعمل ويعيش على تلك القاعدة مما يعني بانه كان قد استطاع من توفير قوت اربع سنوات قبل زواجه، وبعدها استمر بالعمل لسنتين مما يعني قوت ست سنوات اضافية، أي ان بامكان ممى ان تعيش لسا سنوات دون ان تعمل، ولهذا بعد اختفاء سمكو لجأت ممى الى تكليف احد ابناء القرية بالعمل لديها مقابل النصف، أي ان يكون الارض والماشية منها، والناتج يكون بالنصف لهما، وبهذا ايضا استطاعت ان تتفرغ لابنها المولود البكر بعد اختفاء والده.
كانت ممى تملك بيتاً بغرفتين وبعض الملحقات الصغيرة من مطبخ صغير وحمام ومرافق صغير ايضا مع مخزن هو الاخر كان صغيراً، البيوت غالباً ما كانت تبنى من الطين، حتى سقوفها كانت طينية، حيث توضع الاخشاب الكبيرة ( اغصانها) عرضياً على السقف ومن ثم يوضع القصب بشكل كامل على تلك الاغصان فتسد اغلب الفراغات وبعدها يتم تغطيتها كلياً بالتراب الممزوج ببقايا الاعشاب الجافة التي يخلفه طحن الحنطة والشعير على الاغلب.. وبالطبع هذه البيوت لاتصمد طويلا امام الظروف الجوية القاسية في تلك المناطق، ولكن اهالي القرى تلك اعتمدو وسيلة للحد من اضرار الامطار، حيث كانوا يقومون وبواسطة حجر اسطواني ثقيل وكبير بتعديله في اليوم مرتين او ثلاث وكان ذلك يجعل من الطين يتماسك اكثر، ويمكنكم الان ان تتصوروا كيف كانت ام ايبو تكافح وتجتهد في الابقاء على ممتلكتها وبيتها وابنها، والانكى من كل هذا ان مواسم الثلوج كانت تتطلب صبرا وتحملاً اضافياً لان عملية تنظيف السطوح من الثلج هي عملية لم تكن ابداً سهلة لاسيما في قرى الثلوج فيها شبه دائمة، لنعد الى البيت نفسه من الداخل ففي الغرفة التي كانت ام ايبو تنام فيها يوجد سرير كبير من حديد اطرافه من عدم استبداله قد صدأت، وبعض الاضلع التي تستند عليها من داخله مكسورة وقد قامت ام ايبو بربطها بسلك او قماش، ليحافظ على توازنه، وفي الجانب المقابل للسرير يوجد دولاب خشبي قديم ومهترء تضع فيه ملابسها القليلة وبعض حاجياتها الاخرى من قطع القماس، كما يوجد لديها ماكنة خياطة يدوية تقضي بها حاجاتها من خياطة الملابس والحاجيات الاخرى، كما انها احيانا تخيط لاولاد جيرانها ملابسهم عندما يطلبون منها ذلك، اما ارضية الغرفة فقد فرشت بسجاد ملون كان سمكو قد اشتراه لها اثناء احدى زياراته للمدينة بعد زواجهما بسبعة اشهر، حيث كان المرة الاولى التي يغيب عنها لايام، وفي الغرفة الثانية التي كانت فارغة قبل ان يصبح ايبو شابا قامت بوضع سرير ودولاب ومرآة فيها، ومنضدة يضع عليها ايبو حاجاته وكتبه، فهذا الاخير كان محبا للقراءة والمطالعة على الرغم من كثرت اشغاله وهمومه.. والشيء الذي كان ايبو يعتز به هو الكرسي الخشبي القديم الذي كان والده يجلس عليه وقد ورثه منه، حيث ان امه دائما كانت تقول له بان والده سمكو كلما كان يعود من العمل يجلس عليه امام عتبة الباب ويشرب الشاي، وكان يغرق احيانا في التفكير بحيث لايلاحظ اني كنت اناديه، وهو كرسي باربعة ارجل تبرز المسامير من اطرافه من كثرت ما تم ترميمه وتصليحه، الا انه مازال صالحاً للجلوس عليه.
عاشت ام ايبو وابنها بشكل لائق وبحالة معيشية متوسطة فمواسم الحصاد لم تكن كما كانت احيانا بسبب قسوة الظروف الجوية، على الرغم من انهما لم يكونا يعتمدان على الحصاد فقط، باعتبار ان ايبو كان له وارد ثابت من وظيفته، وطالما نتحدث عن وظيفة ايبو دعونا ننقل لكم صورة او مشاهد من المدارس في القرى بصورة عامة.. حيث اغلب القرى كانت تعتمد على احدى البيوت الترابية كمدرسة في البداية، وهذه البيوت لم تكن تستوعب الا العدد القليل من التلاميذ، وكانت بحالة مرزية بشكل وعندما التفت الحكومة وبنت مدارس في بعض القرى لم تكن هذه المدارس تحوي سوى ادنى مستوى للخدمات الضرورية واللازمة التي تحتاجها المدارس بشكل عام، ومع ذلك فان اقبال التلاميذ عليها كان جيداً قياساً بالظروف التي كان الناس يعيشونها في تلك القرى، وايبو كان مخلصاً في وظيفته كما كان وفيا لارضه وقبلهما لامه.
وحتى لانبتعد كثيراً عن ايبو اود ان اشير الى انه كان يميل الى الصمت كثيرا وكثير التفكير، وحتى ان تحدث لم يكن يطيل الحديث بل كان يختصره.. لهذا كان محط انظار الجميع بما فيهم الثكنة العسكرية التي كانت تراقبه احيانا وتستدعيه لمقرها فيعود بعد ساعات من التحقيق معه انسانا محملاً بهموم لاتسعها الارض " الخراب" كما كان يقول عنها، وكانت امه تقلق كثيرا عليه لكونها كانت تخشى ان يأخذوه ايضاً وكأنها في نفسها ويقينها كانت مؤمنة بأنهم هم من اخذوا والده، لهذا لطالما كانت تتحدث الى ابنها وتقول له: بُني عليك ان تكون حذرا من هولاء لانهم لايرحمون احداً..واخشى ان افقدك ايضاً.. فكان ينظر الى امه ويتأمل وجهها فينهض ويقبل رأسها ويضمه الى صدره ويقول: فقط كوني راضية عني... فتجهش امه بالبكاء وتقول ساكون راضية عنك الى اخر نفس لي.
جرت العادة ان يجتمع اهل القرية ليلاً عند المختار في ايام الخميس وكان ايبو ممن يحضر جلسات الليل تلك، وذات مرة سأله المختار ابني ماذا يريدون منك..فرد يحققون معي فقط يا مختار لاتقلق لن يعرفوا شيئا، وعلى وقع تلك الكلمات كانت الامسيات تلك تعيش الامان، فايبو المدرس الفلاح ليس وحده من يدرك ما هية العيش تحت وطأة التحقيق المستمر بل كان هناك ممن يعيش حالته تلك ومن ضمنم المختار، لذا كلما وجد المختار ايبو صامدا كان يعيش حالة راحة وامان.. مع ان الامر هذا كلما سمعت به ممى ام ايبو كان يربك حساباتها ويجعلها تعيش قلق مزدوج على ابنها وعلى المختار سندها، ولربما نسيت ان اقول بان المختار هو في الاصل عم والدها، ومع ذلك لم يكن شيء ليوقف ما سيحدث لاسيما وان الحياة لم تكن لتستمر على الاستعبادي ذاك.
ذات ليلة وصلت مجموعة مسلحة الى القرية، ودخلوا بيت المختار، وفي نفس الوقت ارسلوا في طلب ايبو، الذي ودع امه وقال لها ساعود فلاتبكيني كما تبكين والدي، ادركت الام بان شيء ما سيحدث لكنها لم تكن تعلم بالضبط ما هو، فنهضت وضمت ابنها طويلاً وقالت له بُني كن حذراً..وعُد لامك لانها لاتملك في الحياة غيرك..قبل ما بين عينيها وضمها للمرة الاخيرة وسارع بالخروج وما هي الا ساعات حتى كانوا قد وصلوا الى الجانب الاخر من الجبل الذي يفصل بينهم وبين القرى الحدودية على الجانب الاخر، وفي تلك اللحظات كانت الثكنة بكل من فيها وبعض القوات الاخرى التي اتت لمساعدتها قد دخلوا القرية مدججين بالاسلحة، فجمعوا اهالي القرية بمن فيهم المختار وام ايبو، وهم يبحثون عن بعض شبابها..قال الضابط المكلف بالمهمة للمختار تتعاونون مع المتمردين وتشكلون شبكات وتنظيمات ضد الحكومة الا تعرفون بان عقابكم سيكون كبيراً.. نظر المختار الى اهالي القرية ونظر الى الاسلحة تلك الموجهة اليهم، قال ياحضرة الضابط نحن لم نفعل شيئا من ذلك..فرد عليه الضابط غاضباً اذا قل لي اين ( وذكر بعض الاسماء... من ضمنهم ايبو...)، رد عليه المختار بانهم منذ فترة تركوا القرية ولايعلم احد عنهم شيئاً..توجه الضابط الى ام ايبو وامسك بكتفها وجرها اين ابنك تكلمي والا جعلتك عبرة للعالم كله،، حاول المختار ان يتدخل لكن وقف الجنود بينه وبين ام ايبو..قامت ام ايبو بعد ان وقعت من شدة جر الضابط لها، ووقفت امام الضابط قالت زوجي لااعرف عنه شيئا منذ سنوات بسببكم وابني تركني بسببكم ولست اخشى منكم فخذوني واقتلوني لاني لااهتم بشيء بعدهما..تراجع الضابط قليلا ووجه بمسدسه تجاهها قال وهل نهتم لامثالكم انتم الذين تخربون البلد، ردت ام ايبو وهل نهتم نحن بامثالكم الذين لايعرفون ربهم ولايرحمون عباده..صفعها الضابط على وجهها فسقطت على الارض فاثار ذلك غضب اهالي القرية الذين هجموا عليهم فتعالت الصيحات مع صوت الرصاص، ولم تمضي سوى لحظات حتى تراكمت الجثث وسط القرية، انسحبت اثنائها الثكنة وبدأ اهل القرية بتفقد الجثث، فوجدوا المختار مع خمس من رجالات القرية قد غرقوا بدمائهم وهم فوق جثة اخرى...التي لم تزل تتنفس بعد، وتبكي بصوت عالي وتصرخ وتندب حظها وهي تقول ما الذي فعلناه يارب يارب يارب... ام ايبو كانت تحت الجثث وقد اصيبت بطلق ناري في صدرها الا ان المختار والرجال الاخرين كانوا قد التفوا اثناء الاشتباك حولها ليدافعوا عنها فاصيبوا جميعا وفارقوا الحياة اثر قيام الجنود بالرمي عليهم..ولم تمضي سوى لحظات بعدها حتى فارقت ام ايبو ايضا الحياة..شيع جثمانهم في الليل الى مقبرة القرية حيث لم تعش القرية مثل هذا الموقف من قبل، لاسيما ان حفر القبور امر لم يكن سهلاً ويحتاج الى وقت طويل لعدم وجود آليات تقوم بالحفر، والاعتماد على الحفر اليدوي، وتحت انظار الثكنة التي كانت متخوفة من قيام الاهالي بعمل ما ضدهم تحت تأثير الفجيعة التي ألمت بهم، الا ان الاهالي قاموا بدفن الجثث وعادوا الى بيوتهم وانتظروا النهار يطلع لعمل عزاء جماعي في مسجد القرية الواقع بالقرب من بيت المختار الراحل، وعلى الرغم من ان المسجد لم يكن كبيراً الا انه كان يفي بالغرض.. واثناء الايام الثلاثة للعزاء وصلت وفود من القرى القريبة التي سمعت بالخبر واعلنوا تضمانهم مع اهالي القرية اذا ما ارادوا فعل شيء حيال ما قامت به تلك الثكنة العسكرية تجاه افضل رجالات القرية، الا ان (مام شيخ زاد) الرجل الرصين الكبير بالعمر والذي كان يلجأ اليه الجميع مع المختار في حل القضايا والمشاكل قال لهم ليس الان وسيأتي يوم ما نعلمكم بما نريد القيام به، فالعيون كلها الان موجهة الينا وترصد كل حركاتنا.. واثناء ذلك وصل وفد من الثكنة ومعهم رجل غريب لاداء العزاء حينها خرج جميع اهالي القرية خارج المسجد ولم يبق سوى عدد قليل ممن كانوا يستقبلون المعزين مما خلق نوع من الهلع في نفوسهم وكانوا قد جلبوا معهم بعض المواد الغذائية استقبلهم مام شيخ زاد وبعد حديث قصير خرجوا وحملوا اغراضهم معهم لان اهالي القرية رفضوا انزالها واخذها.
تناقلت الاخبار بسرعة بين القرى.. كما اسلفنا، وجاء الكثير منهم الى اداء واجب العزاء.. واثناء عودتهم الى قراهم حملوا معهم تفاصيل الحادث، ولان ايبو وجماعته كانوا يتناقلون وقتها بين القرى الحدودية للحصول على المعلومات عن حركات قطاعات الجيش الحكومي، وصلتهم اخبار ما حدث في قريتهم، كان وقع الخبر كالسكين على ارواحهم الا انهم كانوا بصدد القيام بعملية ضد احدى الثكنات المرابطة على الحدود والتي يوجد فيها ذخيرة ومؤن..فتحاملوا على جراحهم وانتظروا وقت البدء بالعملية وبعد ايام من الاستطلاع وجمع المعلومات والاستعداد والحرص والحذر والعمل استطاعوا ان ينفذوا العملية بنجاح تام حيث التفوا حولها على الرغم من عددهم القليل وعدتهم القليلة قياسا بما تملكه تلك الثكنة من رجال وحراس لاهميتها باعتبارها مخزن للاسلحة والمؤون التي تغذي حاجيات المنطقة كلها الا انهم بحماسهم وبما يحملون في ذواتهم من وجع صنعوا المجد وثأروا لارواح الابرياء الذين دائما ماكانوا ضحايا تعسف ضباط وجنود تلك الثكنات.. وبعدها استأذنوا قيادتهم على القيام بعملية اخرى ضد الثكنة التي بقريتهم.. وبعد مشاورات اخذوا الموافقة..وما هي الا ايام حتى سمع اهالي القرية صوت رصاص قوي...فخرج البعض منهم الى السطوح ليستكشفوا الامر واذا باصواتهم تتعالى بانهم يضربون الثكنة فخرج بعض الشباب بسرعة الى هناك محملين باسلحتهم ليلتحقوا باخوتهم وبعد كر وفر استطاع الشباب من اقتحام الثكنة وقتل اغلب الجنود العاملين فيها بمن فيهم الضابط الذي اصيب باكثر من طلق ناري في صدره ورأسه وكأن رصاص الشباب وغضب القدر كانا موجهين اليه اكثر من غيره. هذه العملية لم تكن صعبة بالنسبة لهم على الرغم من ان الجنود كانوا في استعداد وحذر بسبب احداث القرية وكأنهم كانوا دائما يتوقعون حدوث شيء ما، ولكن ذلك الاستعداد وتلك الحيطة والحذر لم يكن كافياً للحد من وقوع ماكان يجب ان يحدث منذ وقت طويل وذلك للظلم الذي كان يمارسه هولاء العسكر تجاه اهالي القرية.
عاد ايبو والشباب الى القرية وبدأ العزاء الحقيقي حيث صراخ وبكاء النساء لم يتوقف لحظة... وبعد لحظات من الصمت من قبلهم.. قال ايبو علينا ان نخرج بسرعة من القرية لانهم سيعدمون الصغار والكبار الرجال والنساء عندما يعودون..فقاموا بحمل ما يستطيعون حمله وخرجوا جميعاً من القرية التي كانت مهجورة تماماً وبعد يومين عندما دخلها الجيش الذي ارسل للانتقام من اهاليها.. تصاعدت السنة النار والدخان في ارجاء القرية التي احرقت تماما..لكنها لم تكن الوحيدة التي احترقت بمثل تلك النيران، فقد امتلئت سماء المنطقة كلها بالدخان الاسود، الذي امتزج بالغيوم والمطر.
فالمنطقة كلها كانت تعيش حالة من النفير العام حيث الاخبار وردت بحملة عسكرية كبيرة من قبل النظام الحاكم التي تحركت بالفعل قطاعات جيشه بكل اصنافه من مشاة ومدرعات وطائرات نحو الشمال وهي محملة باوامر واضحة وصارمة تعطيهم الحق بالقضاء على جميع الاحياء صغاراً كانوا ام كبار... حيث التطهير العرقي كان هدفهم الاساس، فخرجت جموع الناس من المدن والقرى في بداية اذار حيث الامطار والبرد والثلوج لم تزل تغمر المناطق الجبلية، وحملت تلك الجموع ما تستطيع ان تؤمن بها قوتها اليومي لبضع ايام، وسارت نحو المناطق الجبلية بطرق وعرة تغمرها الوحل احياناً والثلوج في احيان اخرى، والصخور والانهر في احيان كثيرة.
لم تكن الرحلة سهلة كما تصورها بعض الرجال انذاك حيث كانوا يرون بانها مجرد ايام قليلة ويصلون الى غايتهم وهي العبور الى حدود الدول المجاورة، بحيث يكونوا في مأمن من قوات النظام، لكنهم صدموا بتلك الظروف الجوية القاسية جدا التي قضت على الالاف من الصغار وعلى الكثير من الرجال والنساء بالاخص المسنين منهم الذين لم يتحملوا ذلك التعب وتلك البرودة فقضوا نحبهم ودفنوا في العراء بدون شواهد ولا مراسيم دفن تليق بهم، وما زاد من صعوبة الموقف ان الاخبار كانت ترد بملاحقة القوات العسكرية لهم، واحيانا كانت اصوات الطائرات وهي تقصف بعض المناطق تقض عليهم مضاجعهم، واستمرت الحالة لاشهر، وبقي الناس في مخيمات مسيجة على الحدود وادخلوا بعدها في مجمعات سنكنية تحت رحمة السماء التي لم تبخل عليهم بالمطر والبرد من جهة، وجبروت جنود تلك الدول من جهة اخرى، ظل الناس في تلك المخيمات لفترة طويلة يعيشون على تلك المساعدات التي يحصلون عليها من ابناء جلدتهم في القرى المتاخمة للحدود وتلك المساعدات التي كانت تقذفها طائرات الاغاثة الدولية بواسطة المظلات، ومن لم يشاهد كيف كان الناس يتدافعون بشكل بدائي للحصول على بعض الاغذية المعلبة او الخبز لايمكنه ان يشعر بالحرقة التي كانت تخرق قلوب الاباء والامهات وهم ينظرون الى اطفالهم والى اهاليهم بتلك المشاهد التي عرت انسانية الانسان وجعلته وحش كاسر لايفكر الا بنفسه وعائلته، تحت تلك الظروف المعيشية القاسية وضعف الجانب الصحي عاش الناس وفق قانون فكر بيومك ودع غدك يأتي.. ثم فكر به، مات الالاف ودفنوا بالقرب من تلك المخيمات.. ولقسوة تلك المشاهد حفرت في الذاكرة بعمق حيث كلما تحدث احدهم بعد سنوات عن تلك الايام يتنهد وتدمع عيونه وكأن ليس هناك من لم يفقد شخصاً عزيزاً في ذلك النزوح الجماعي، والغريب ان اغلبيتهم يتذكرون التفاصيل الدقيقة التي اصبحت جزء من ذاكرتهم الحية بها، وما استوقفني كثيراً هي الصور التي تغطي مساحات واسعة من ذاكرتهم بالاخص فيما يتعلق بالاطفال الذين ماتوا من الجوع وسوء التغدية ومن البرد القارص وعوائلهم لايمتلكون ادنى متسويات حمايتهم من مأوى او مكان يجنبهم المطر والثلوج وقسوة الطريق، فكأن جثثهم الطاهرة اصبحت هي الحمل والوجيعة والذاكرة والتاريخ كله بالنسبة لهم.
دهوك/ 23/7/2003



#جوتيار_تمر (هاشتاغ)       Jotyar_Tamur_Sedeeq#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دلبرين في شهرزاد / عامودا
- الحكومة الاعلامية
- فوضى الاعلام تمتزج بفوضى الاحزاب
- قراءة نقدية في نص- عبودية- للشاعرة ايلينا المدني / جوتيار تم ...
- قراءة في نص- عذراً منك- للشاعرة ريم هاني
- الوعي السالب للبناء في كوردستان
- قراءة في احدى نصوص الشاعرة رنا اسعد/ جوتيا رتمر
- دمشقيات
- قصص قصيرة جدا
- قراءة في نص - مطر من الارض- للشاعر شكري اسماعيل/ جوتيار تمر
- رسالة البابا الى الحكام
- قراءة في نص - وقفة - للشاعر هلكورد قهار / جوتيار تمر
- الفعل بالضرورة / مسرحية
- قراءة في نص- لاجدوى- للشاعر شعبان سليمان/ جوتيار تمر
- عندما يصنع الموت حياة / قصة
- قراءة في نص (الوحوش داخلي نائمة) للشاعرة سوزانة خليل/ جوتيار ...
- الحقيقة (مسرحية)
- انثى القلق
- قراءة في لاوعي قصيدة- منذ آدم- للشاعر التونسية ضحى بوترعة / ...
- لا ...يا كاظم ....!


المزيد.....




- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جوتيار تمر - أُم ايبو / الهجرة المليونية