أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - الخديعة الكبرى العرب بين الحقيقة والوهم 3















المزيد.....



الخديعة الكبرى العرب بين الحقيقة والوهم 3


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 4432 - 2014 / 4 / 23 - 13:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إشـكالية تاريخ الـعـربان الإسـلامـوي

« إذا أردنا أن نتـكـلم مع شعب ما نتعلم لـغـتـه، أما إذا أردنا أن نفهم هذا الشعب يجب علينا أن نقـرأ تاريخـه ». محمد حسنين هيكل

❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--

ـ مـحـاولة للـفـهم
ـ خـلـط الدين بالتاريخ السياسي
ـ «حـدثوا عـني ولا حـرج»
ـ مـهـنة الـكلام
ـ مـاذا قـيل عن العـربان ؟

مـحاولة للفـهـم

كثيرا ما يتساءل غـير المتأسلمين، خاصة الأوروبيون منهم : لماذا يكـرهنا العـربان المتأسلمون جميعا؛ بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في بلادنا وينعمون بخيراتنا؟ وهم يكـررون هذا السؤال دائما لأنهم لا يفهمون العـربان، وهم لا يفهمونهم لأنهم لم يقـرأوا تاريخهم الديني قـراءة موضوعـية ونزيهة. فدين العـربان وتاريخهم الإسلاموي يشكلان ثقافتهم وتقاليدهم وسلوكهم وكل حياتهم . وإذا أراد أي إنسان أن يفهمهم ويفهم تقاليدهم وسلوكهم وحياتهم بالكامل، عـليه أن يقـرأ أولا هذا التاريخ، قراءة حـيـادية، وبدون أحكام عاطـفـية مسبقة. عليه أن يتوغَّـل كـثيرا أو قـليلا في متاهتهم التاريخية والفقـهية التي لا نهاية لها.

ولكن من الواضح تماما أن المتأسلمين أنفسهم في كافة بقاع الأرض لا يفهمون العـربان الذين يتباهون بهم ولا يفهمون دينهم الذي ينتحرون من أجله، ولا يقـرأون تراثهم الذي يحدد مصائرهم في الحياة، ولا يريدون الخوض في تلك المتاهة التاريخية والفقهية التي يصول ويجول فيها كم هائل من العملاء والدجالين وقطاع الطـرق والمرتزقة. فيكتفي المتأسلمون بأخـذ ثقافـتهم الدينية من أفواههم . يرتاحون إلى الثقافة السمعية المغـرضة والمضللة، التي تجعلهم يكـرهون أنفسهم ويكـرهون الآخـرين، وتعمل على إفساد حياتهم وتلويث سلوكهم، فيصابون بمـرض الفصام السلوكي المزمن.

ومما لا شك فيه أن أية محاولة تؤدي إلى فهم البدو العـربان الذين عَـرَّفـوا أنفسـهم بإسم " العـرب "، سوف تجعلنا ـ نحن المصريين ومن هم على شاكلتنا ـ نفهم أنفسنا بصفتنا "مستـعـربين" من قبلهم، خاضعين لجهلهم مصدقين لأكاذيبهم منذ قـرابة 1500 عام. « فقـد اعـتلونا، ولم يفـرضـوا علـينا الجـهل المقـدس فحـسب، بل فـرضـوا علينا ما هو أدهي من ذلك بكـثير، إذ فـرضـوا علينا ألا نقـول بأنه فـرض علينا..!! وإنما نقـول بأننا نحـن الذين أحـببنا هذا الجهل المقـدس وآمـنا به لأنه أخـرجنا مـن الظـلـمات إلى الـنور..!!*1* ».

لـقـد وضعـونا في مـزبلتهم وجعلونا نستحب العيش فيها، ونتباهى بالانتماء إليها والاغــترار بها منذ زمن بعيد، وهذا الأمر يقتضي منا قراءة واضحة وصريحة لتاريخهم، الذي هو تاريخنا منذ أكثر من 1400 عام وربط الماضي بالحاضر، قدر المستطاع . إنها لا بد وأن تكون محاولة شاقة بهدف معـرفتهم ومعـرفة من نحن منهم، وأين نقـف في تلك الـمنظـومة التاريخية الحقيرة التي فُـرِضت علينا، وتشكل ثقافتنا، وتحدد معالم وجودنا. وما هي الكيفية التي قد يكون عليها مستقبلنا. إنها إذن محاولة تتطلب منا الاستماتة في تبيانها، لأنها ليست سهلة، فسوف تحملنا على الغوص في بحار من الرمال التي تغمر صحرائهم القـفـراء، كما تجبرنا على تلمس مكانا لأقدامنا في مجاهل "الـتراث" الذي ابتدعه عملاؤهم، وجعلونا نقـدسه . وسوف تعرضنا ـ بلا شك ـ للجهلاء الذين غُـيِّـب وعيهم وأزيلت عقولهم وأصبحوا أدوات ساحقة ماحقة في أيدي المـرتزقة من الـدين والـمنتفعين من الــترويج له.

ولكن ـ وبصـرف النظـر عن ردود الأفعال العشوائية أو العمياء السائدة في ثقافتنا المريضة ـ فإننا سوف نصطـدم في البداية بعقبتين أساسيتين:

الأولى : الـتاريخ نفـسه

التاريخ، سواء كان سياسيا أو دينيا، يصنعه عادة الأقوياء المنتصـرون ويـقـره الضعفاء المهـزومون. فهو في حقـيقته ليس إلا صناعـة بشـرية تـفـرضـها المصالـح السياسـية التي يعـتمد الأقـوياء ـ اعتمادا تاما ـ في تحقيقها على استخدام القـوة والقـوة وحدها سواء كانت مادية أو معنوية. وهم بذلك وحدهم الذين يصنعون التاريخ ويكـتبون أحـداثه التي تخدم مصالحهم، بعيدا عن الأديان أو العقائد أو المبادئ أو الأخلاق أو غـير ذلك من الأماني والأوهام، وهم وحدهم الذين جبلوا على إقحام هذه الأمـور في التاريخ منذ نشأته وحتى اليوم بهدف تـبريـر أحداثه ووقائعه وشخصياته، ومن ثم تحويلها إلى قضايا مسلم بها. ولذلك يتعمدون تجاهل أو تدمير الوثائق والدلائل التي تدينهم أو التي لا تتفق مع أغراضهم ـ إن وجدت ـ، الأمر الذي يلقي على التاريخ ظلالا كثيفة من الغموض والإبهام، خاصة وأنه لا يقوم على حقائق انتهى أمـرها، وتم التسليم بها، بمعنى أن أحداثـه ليست مـبـررة لـذاتها، ولكنها تشكل منظومة تاريخية يجـب أن نعـود إلى قـراءتها ودراستها دائما بهدف التوصل ـ في يوم ما ـ إلى حـقيقـة أسبابها ودوافعها والنتائج التي أسفرت عنها؛ أو جـزء منها أو عـدم التوصل إليها على الإطلاق.

إن التاريخ يتعامل مع الأحداث والوقائع والشخصيات في زمان ومكان وجودها، ويتولى نقلها مـرة واحـدة من الـذاكرة التاريخية لـدي البشر إلى الـتدوين الـتاريخي كما هي، مدعومة بما يتوفـر من الوثائق والأدلة. ثم يقوم المؤرخـون بمحاولة تتبع أسباب حـدوثها ودوافعها الحـقيقية، ورصد نتائجها الآنية والمستقبلية. ولـذلك من الـمفـترض ألا يؤلف أحد تاريخا من بنات أفكاره، وأن كل ما يفعله المـؤرخـون هو مجـرد قـراءة التاريخ وليس تأليفه، لأن التاريخ يسجل مـرة واحدة فقط، وتعاد قــراءته عشرات بل مئات المـرات برؤى مختـلـفة، وفي هذا تكمن قيمته الـعـلـمية وفائدته العملية للبشـر. وغالبا ما نسمع من يقول بأن "التاريخ يعيد نفسه"، والواقع أنه يعيد نفسه بالفعل لأننا لا نتعلم منه، أو لأنه تاريخ مبتور وموتور ومغـرِض كما هو الحال في تاريخ البدو العـربان الذي يتحكم في منطقة الشـرق الأوسط برمتها.
فعلى سبيل المثال :

لا ينكـر أحد في العالم حقيقة حدوث غـزوة مانهاتن في نيويورك، في 11/9/2001، والتي قيل إن إسلامويين قاموا بتنفيذها*2*، وتم فيها هدم برجي التجارة العالمية وقتل أكثر من 3500 شخص!!؟؟.

وبصـرف النظـر عـن دوافـعها ومـرتكبيها، فإنها تسببت في قيام الأمريكيين بالاستيلاء عـلى أفغانسان في عام 2001م وعـلى العراق في عام 2003م ، واسقطوا نظامي حكمهما واحتلوا أرضيهما، وأبادوا ما أمكنهم إبادته من شعبيهما، ودمـروا ما أمكنهم تدمـيره مـن عمـرانهما وأصولهما. هذه حـقيقـة تاريخية سوف تظل باقية إلى أبد الآبدين، وقـد يلحق بها ـ بين حـين وآخـر ـ بعـض الـوثائق والأدلة المكتشفة، مثلها مثل كافة الأحـداث التاريخية الأخـرى، ولكن الأسباب والدوافع الكامنة وراءها، وأيضا النتائج التي أسفـرت عنها عـلى الـمدي القـريب أو البعيد سوف تظل دائما وأبدا موضوعا يتبارى الـمـؤرخـون في الكشف عنه مادام هناك بشــر على سطح الأرض . وسوف يبقى قـدر كـبير من الألتباس والغموض والتناقض قائما حول هذه الحقيقة التاريخية مادامـت الـعقائد الـدينية أو المبادئ الأخـلاقية تدخلت لـتبريرها. فهل ترك الأمريكان بلادهم وذهبوا آلاف الأميال وجاءوا إلى أفغانستان أو العـراق أو غــيرهما، كي يَقـتُـلوا ويُقـتَـلوا من أجـل نشـر الـديموقـراطية والحـرية والعـدالة الاجـتماعـية؟، وبأمـر إلـهي مـن ربهـم الأعـلى ـ كما ادعـوا ـ، أم أنهم جاءوا لأغـراض أخـرى؟؟؟. فنحن نسمع رئيسهم "جـورج دبلـيو بوش" يتشدق بقوله : « لـطالما كانت الحـرية والخـوف ، والعدالة والوحـشية في الحـرب، ولكـننا نعلم أن الـرب ليس على الحياد بينهما*3* »، ويقول كذلك إن « الحـرية التي نناضل من أجلها ليست هـدية أمريكا إلى العالم، بل هي هدية الرب إلى البشرية*4* » . وفي نفس الخطاب يتملق رعاياه ويقتبس مباشرة من أحـد أقـدم الـتراتيل الإنجيلية قـوله : « [قـوة ، قـوة خارقة] في صلاح ومثالية وإيمان الشعب الأمـريكى ». أعـد النظـر عـزيزي القارئ في عبارة : « صـلاح ومثالية وإيمان الشعب الأمـريكي »، ألـيست شـبيهة تـمـاما بعـبارة : « شعب الله المختار » العبرانية أو عـبارة : « خـير أمـة أخـرجت للناس » العـربانية؟؟.

ونظرا إلى أننا أمام آلهة تعاني من مرض العنصرية، فقد جاء قـرآن المتأسلمين أن الله " فضل " بني إسرائيل على العالمين (البـقـرة 47). والتفضيل أقوى من الاختيار، فقد يضطر المرء، تحت ظروف معينة، إلى اختيار شيء لا يفضله، بينما يفضل دائما، وبمحض إرادته، ما يحب ويهـوى.

إنها إذنْ اللـوثة العـقائدية التي تصيب مـن يريد تحقـيق مآربه عـلى جثث الآخـرين، ويستغل قـوته وتفـوقه في السيطـرة عـلى غـيره، فيعـمد إلى احتلال البلاد وقـتل العباد، فإذا صدقه عامة الناس وجـرى على جـريه بعض الـمؤرخين وأشباههم من العملاء، تصبح الحـقيقة مبررة لـذاتها ومسَلَّم بها، فتضيع الأسباب والدوافع الحقيقية للصـراعات السياسية المكـوِّنة للتاريخ، وتتوارى خلف ستار كثيف من الخـداع والكـذب . ويصبح التاريخ عـندئذ مادة تحايلية مضللة وخادعـة للناس، وأداة لـنثر بذور التخـلـف والانحطاط بينهم .
وهذا هو شأن تاريخ العربان الإسلاموي منذ نشأته وحتى يومنا هذا، ولكن الأمل سيظل معقودا بعزم وإصرار لدي كافة العقلاء في العالم على تغيير مساره الذي تعاني منه البشـرية جمعاء، ويقـف عـقبة كأداء أمام دول المنطقة في طـريق التقـدم والحضارة والـرقي المادي والمعـنـوي معا.
والثانية : قارئ التاريخ "المـؤرخ"

من ناحية أخـرى يجب على المؤرخ أن يتوخى في قراءته قدرا كبيرا من الموضوعية التاريخية والتزاهة العلمية، الأمـر الذي يتطلب منه امتلاك ثقافة مميزة وتحـررا من الـهـوى القومي أو الحماس الديني أو السعي وراء الكسب المادي أو المعنوي، أو غير ذلك من الدوافع التي تجعله يلـوِّن التاريخ أو يعبث به، فهو أولا وأخيرا يجب أن يقرأ التاريخ لا لمصلحته الشخصية أو لمصلحة الساسة، ولكنه يقـرأه كضرورة حياتية تخـدم الأجيال الحالية والمقبلة عـلى حـد سواء. عليه أن يقدم أبحاثا عـلمية يعالج فيها الوقائع والأحداث والشخصيات التاريخية التي وجدت في يوم ما على سطح الأرض بناء على وثائق وأدلة مادية ملموسة، وهو في ذلك، يجب أن، يختلف اختـلافـا أساسـيا عـن رجـل الـدين الـذي يُفـتَرَض أنـه يتناول ـ عادة ـ النواحي الإلهية والشخصيات الـربَّانية، التي هبطت من السماء لتعشش في أذهان البشـر. ومن ثم يتعـامل مع الحاجات الــروحـانية لـدي الـناس بمثـالية غـير مـوجـودة بينهم، ولكن ـ وبلا شك ـ يتوق الكـثيرون منهم إليها.

وعـلى صعيد تاريخ العربان الإسلاموي الذي مازال يؤثر في المنطقة وفي العالم بأسره منذ أكـثر من ألـف وربعمائة عام، نجد أنه ظـل لأكـثر من مائة وخمسين عاما بعد ظهـور الأسلمة المحمدية يعتمد على النقل الشفهي فقط ودون أسانيد مدونة أو وثائق تاريخية ثابتة، مثلما كان عليه الحال بين العـربان قبل ظهـورها. حيث كانت القـوى الدافعة الرئيسية عند الـبدو العـربان حـرصهم على سمعتهم وحفظهم لـمآثر أجـدادهم، لا سيما أعـمالهم البطـولية. وكانت الأحـداث والوقائع التاريخية تروى في مجالس القبائل على ألسنة رؤسائها وشعرائها بهدف التسلية والتهـذيب الخـلقي والتفاخـر وحث الحاضـرين على مواصلة أعمال السطـو على القبائل الأخـرى وقتل رجالها وسلب أو نهب ممتلكاتها وسبي أولادها ونسائها، ولم يعـرفوا في حياتهم الـتدوين التاريخي، إذ فـرضت عليهم طبيعة البيئة التي يعيشون فيها التنقل من مكان إلى آخـر دون أن يتركوا أي أثر وراءهم، فبقت أحداثهم ووقائعهم وشخصياتهم التاريخية كامنة في ذاكرتهم يتناقلونها من جيل إلى آخـر عن طـريق السـرد الشفهي، لذلك لم تكن تخلو من المبالغات والإفـراط في استعمال الخيال والتخيل واختلاق الأحـداث التي تخـدم أغـرضهم السياسية في المقـام الأول . وجاء المؤرخون وأشباههم ليتمادوا في هذا الأمر إلى حد الهزيان والهلوسة كما يتضح لنا فيما يلي من صفحات.

لقد بدأ التاريخ في عصور مـوغـلة في القـدم عندما أدرك المزارعـون في مجتمعاتهم المستقـرة دون غـيرهم أن لديهم ذاكـرة تاريخـية يمكنها رصد وتخـزين واجـترار الظـواهر الطبيعية والاجتماعية التي تحدث بين حين وآخـر بينهم أو من حـولهم، وأن البعض منها يسبب النفع لهم ويخدم مصالحهم الحياتية مثل سقوط المطـر وجـريان الأنـهار وسطـوع الشمس وطـلوع القـمـر، وما يحدثه ذلك من خصب ونماء، و البعض الآخـر يلحق الضـرر بهم وبمزروعاتهم ومواشيهم وممتلكاتهم ويهـدد حياتهم بأكملها مثل الجفاف والفيضانات والأعـاصير والـزلازل والـموت والـقتل وغـيرها من الظـواهر، ومن ثم حاولوا تفسيرها وفهم أسبابها ومعـرفة الدوافع الكامنة وراءها، ونظـرا إلى أنهم لم يجدوا تفسيرا مقنعا لها، فقد نسجوا حولها الأساطير، ونسبوها إلى آلهة تكمن وراءها لثـواب الـناس أو لعقابهم، وأصبحت القـراءة الأسطورية لتلك الأحداث وغـيرها جـزءا لا يتجزأ من حياتهم، ومصدرا هاما لـهـويتهم الـثـقافية والـعـقائديه. فأنشأوا بذلك حـضارات، مازال العالم ـ وسوف يظل دائما ـ يتنـدر بعـظمتها وروعـتها.

وأعطوا لتلك الآلهة أسماء ومُهِـمَّات تقوم بها، فالسوماريون في بلاد ما بين الـرافدين [دجلة والفرات] اعتبروا أن الشمس "الإلهة شمش" تمثل قـوة الـنور والحق والعـدل. وكوكب الـزهرة "الإلهة عشتار" هي نجمة الصباح والخصوبة والإنوثة والتكاثر والأمومة، والتي سميت بـ"العزة" لدي البدو العـربان، وإله القمر "سين" هو إله المشاعـر والحدس والتأثـيرات السحــرية، وقـد أقسم به إله الـبدو الـعـربان في سورة "ياسين". وكان جوهر الدين يتلخص في كلمة واحدة هي "الإخصاب"، الذي ينجم عن تلاقح عشتار مع روح الذكورة الممثلة بالإله "تموز" ابن المياه وجالبها، والذي مازال يحمل إسمه شهر إبريل في بلاد الهلال الخصيب (العراق وسوريا وفلسطين). هذا الإله أصبح إسمه "بعل" لدي الكنعانيين في الشام وانتقل إلى العـربان بمعنى السيد والزوج، ودخل إلى قرآنهم بنفس الإسم والمعنى، وقد ورد إلى مكة كصنم احتل مكانة مميزة بين أصنام الكعبة قبل الإسلام بإسم "هُبَل"، على اعتبار أنه إله الرعي المرادف لـ"راعي الغنم هابيل" إبن آدم .

وكان الناس في منطقة الهلال الخصيب يقدمون القـرابين للإلهة عشتار على مـدار العام والصلوات للإله الأكبر أو الأعلى رب السماء "إيل" من أجل أن تهبط عشتار إلى الأعماق وتنقذ تموز وتعيده من جديد إلى الأرض ليخصبها في مطلع الربيع. وقد وجد هذا التثليث الإلهي عند قدماء المصريين في: جب "الأب" وأوزيريس*5* "الإبن" وإيزيس "الأخت والزوجة" وفي المسيحية: الأب والإبن والـروح الـقـدس وعـند الـبدو العربان: الــلات والـعـزة ومناة.

❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--

خـلـط الـدين بالتاريخ الـسياسي

بدأ إقحام الـديـن في التاريخ السياسي للبشـر بظهـور مجـموعة من البدو " العـبرانيين " مجهولي الهوية ومعدومي الثقافة على الساحة السياسية في شمال شبه الجزيرة لـيـؤثـروا في العالم أجمع، فقد عمدوا في غـفلة من الـذاكرة التاريخية إلى فـبركة أساطير بلاد الرافدين والشام ومصر واليمن وبلاد الفرس وتحويلها إلى تاريخ ديني خاص بهم، بهدف إكسابهم هـوية وثقـافة معينة، فانبثقت بذلك الـقـراءة الدينية للتاريخ التي تقدم العظة والعبرة من خلال التلقين الديني والأخلاقي للبدو العبرانيين، وحثهم على قتال الآخرين المخالفين لهم ولديانتهم، وقد أخذها عنهم إخوانهم بدو الصحراء القابعون في الجنوب، وأجـروا عليها بعض التعديلات وأضافوا إليها مزيدا من الخرافات والأكاذيب والشعائر الوثنية السائدة بينهم وتتفق مع طبيعة حياتهم، ثم عمَّمُوها ونشـروها بسيوفهم وحـرابهم على البلدان المجاورة لهم تحت إسم " الإسلام "، وتلقفها العملاء الدجالون والمتزلفون في هذه البلدان للارتزاق من ورائها، فكان لابد لهم أن يدافعوا عنها بشتى الطـرق والأساليب.

لا شك أن المصالح المادية تستحكم دائما وأبدا بنفوس البشـر، لذلك ظهرت في وقت متأخـر الـقـراءات العنصرية لتـبرير التحركات الاستعمارية لبعض الدول، وتأكيد أحقيتها في احتـلال دول أخـرى، أو لتبرير رسالة الرجل الأبيض في مواجهة الملونين من الناس، فاستعملها المغامرون وقطاع الطـرق والمجـرمون الأوروبيون في إبادة الهنود الحمر في أمريكا، ومحاولة إبادة السـود في جنوب أفريقيا. كذلك ظهـرت الـقـراءة الـعـرقية ذات الطابع النازي أو الفاشي لتبرير الادعاء بالتفـوق الـعـرقي لفئة عنصرية معينة على الأعـراق الأخـرى. ومن الثابت أن اليهـود والعـربان مازالوا يستعملون هذه الـقـراءة حتى اليوم تحت شعاري "شعب الله المختار" و "خير أمة أخرجت للناس"، ومن ثم انبثق منهما ما يعرف بـ"الصهيونية" و"العـروبة، أو الأمة أو الجماعة الإسلامية ... إلى آخـره"، وجميعها مصطلحات سياسية ـ دينـية.

إن الحركات السياسية المشابهة في أي مكان من العالم تستعمل دائما تلك الشعارات التي تثير نعـرة الغـرور والغطـرسة لدي الشعوب؛ فمثلا تمكن « هتـلـر » في ألمانيا النازية من بلشفة الشعب الألماني بشعار "ألمانيا فوق الجميع"، وركـز على مقولة "الشعب الآري" النقي، ووضع معايير له، وعمد إلى إبادة ما عـداها. ومع أنه لم ينسب شعاراته إلى إله ما، إلا أن أحـدا لم يسأل نفسه لماذا تكون ألمانيا وحـدها فوق الجميع؟ ولماذا يجب أن يكون الألمان شعبا نقيا دون غيرهم؟. وهكذا فالعـبرنيـون " شعب الله المختار " والبدو العـربان " خـير أمة أخرجت للناس "، والأمريكان " قوة، قوة خارقة في صلاح ومثالية وإيمان الشعـب الأمريكى". وأيضا دون أن يسأل أحـد نفسه: لماذا وكيف؟؟. إنها إذن شعارات تُنْسَب إلى آلهة عـنصـرية بهـدف إثارة النعرات السياسية وخلق الإحساس بالقـوة والغـرور والغطـرسة تجاه الآخـرين، ومن ثم السيطرة عليهم وابتزازهم وسلب خـيرات بلادهم.

بالطبع فإن نجاح أمثال أولئك القراصنة المخبولين في تنفيذ مخططاتهم العنصرية الشوفانية، سوف يجعل منهم أنبياء وفي أقل تقدير أولياء الله الصالحين الذين يجب أن يتأسَّى (يقتدي) بهم المـرتزقة وقطاع الطـرق ويخضع لهم البلـهاء والجهـلة والمستضعـفون في الأرض.

ومن ناحية أخرى ربما يكون من السابق لأوانه القول بأن حركة المجتمعات البشرية وتطورها أديا إلى تثبيت مبدأ الـديموقراطية والمجتمع المـدني ومحـاولة الالتزام بهما في الوقت الحاضر، إذ أن الـقـراءة الشعبية التي تبرز دور الشعب بما فيه من أقليات وطوائف وأعـراق مختلفة في صنع التاريخ وتشكيل أحـداثه، لم تكتمل فصلوها ولم تتضح معالمها وترسخ قواعـدها حتى في الدول التي تتبناها وتتشدق بها ليلا ونهارا. وجاءت "العـولـمة" في الوقت الحاضر لتفسح المجال للمصالح الاقتصادية بوجه عام على حساب الـمد الديموقـراطي في كـثير من الدول، ولكنها ـ في نفس الوقت ـ أزاحـت العقائد الدينية جانبا، الأمـر الذي سوف يفضي إلى إعادة تشكيل التاريخ وكتابته من جـديد، خـاصة في هـذه المنطـقة الموبوءة بديانة " التأسلم والأسلمة " وترتيب أحداثه ومعـرفة الكـثـير من دوافعـها الحقيقية. خاصة وأن تاريخها لم يصل بعد إلى أن يكون علما بالفعل يمكن الاستفادة منه بمعزل عن المذاهب الدينية التي تتحكم فيها بشدة، إذ مازالت الشعارات الدينية الجوفاء ومفـردات الوعـظ والإرشاد تستخدَم ضمن المواد التحايلية التي تهدف إلى بلشفة المقهـورين من البشـر والتحايل عليهم وتضليلهم، ومن ثم الاستفادة من ورائهم.

من المفترض أن أي دين ما هو إلا علاقة شخصية بين الفـرد وربه، ومن المفترض أيضا ألاَّ يتدخل الآخرون في هذه العلاقة، بينما السياسة تقوم بتنظيم العلاقات بين الأفـراد في المجتمع الواحد وبين المجتمعات المختلفة وبعضها البعض، لذلك فهي الصـراع من أجـل التسلط عـلي الناس، أو الاستفادة من ورائهم، وفي أفضل معانيها هي محاولة لمنعهم من الانحطاط أو الانجراف نحو الانتحار في سعيهم الدائم والدؤوب لتحقيق أهدافهم الحياتية. ولكن نظـرا إلى أن التعامل مع الآخرين ليس سهلا، فقد تم إدخـال الأديان إليه كمحاولة بشـرية لتنظيمه وضبطه بمبادئ إلهية راسخة، إلا أن تلك المحاولة أثبتت الخـبرة التاريخية فشلها فشلا زريعا، لتعارضها مع ميول النفس البشرية وأهوائها، وتحقيق احتياجاتها المادية أو المعنوية، فقـد أُستُـغِـلت الأديان في بعض الأوقات والدين الإسلاموي في كل الأوقات لتـبرير الأحداث السياسية وتمـريرها، بجعلها من المسلمات التي لا يمكن التصدي لها، أو الاعتراض عليها لكونها من قضاء الله المـزعوم وقدره المحتوم. بينما الإنسان بوجه عام وفي كل مكان من العالم؛ مازال يبحث بلا هوادة عن السلام والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--

« حـدثوا عـني ولا حـرج »

لقد امتلأت الملايين من صفحات الكتب بأقوال على لسان نبي الأسلمة صلعم، ويضاف إليها كل يوم أقوالا أخرى، مع أن الكثير منها متناقض ولا يمكن أن يقـبله عـقل سوي، وسواء كانت هذه الأقوال حقيقية أو مختلقة، فإنها ما زالت تتحكم في سلوك المتأسلمين، وتحدد معالم حياتهم بكاملها.

كانت النقطة الفارقة في تاريخ البدو الإسلاموي ما جاء على لسان رواة السيرة بأنه عندما ظـهـرت الأسلمة منع محمد صلعم تدوين أحاديثه وكافة أحداثه باستثناد القـرآن، فقال: « لا تكتبوا عني غـير الـقـرآن، ومن كتب عني غـير القـرآن فليمحـه، وحدثوا عني ولا حـرج، ومن كـذب عليَّ متعمدا فليتبوأ مقـعده من النار*6* » بمعنى أن يقولوا على لسانه ما شاءوا بلا خـجـل أو حـياء، بشرط ألا يكذبوا على لسانه. مع أنهم نسبوا إليه أيضا في " حـَجـَّة الـوداع " وهي الحجة الأولى والأخيرة له خلال عشـر سنوات قضاها في يثرب (المدينة حاليا)، قوله المتناقض: « قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة رسوله »، هـل كان يعتـقد بأن سنته هذه يجب أن تتناقها الأجيال المتعاقبة بالتواتر الشفهي فقط، ولذلك أمر بعدم تدوينها؟؟!!، وبرر العملاء الملفقون عـدم سماحه بكتابة سنته؛ لخـوفه من أن تطغى عـلى القـرآن، الأمـر الذي حدث بالفعل أو كاد، ومع ذلك لم يتم تدوين أو جمع القرآن نفسه على الوجه الأكمل، كما سنرى فيما بعد. وبقيت أحداث صلعم وأحاديثه (سنته) تتداول على الألسنة لأكـثر من مئة وخمسين عاما، ولم يُدَوَّن شيء منها، وراح المتأسلمون بجميع مذاهبهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم وأشكالهم وألوانهم يتحدثون عنه بلا حـرج، كما طلب منهم. ولكنهم على ما يبدو فضلوا ـ أو اضطروا إلى ـ الكـذب عليه وعلينا منذ ذلك الوقت وحتى الآن، حتى يتبـوأوا بذلك مقاعدهم الأثـيرة من النار، فعمدوا إلى " فــبركة " سيرته وسنته، بل وديانته بالكامل، وغـرسوا فيها قدرا لا حدود له من التخـريف والتحـريف والهزيان والهلوسات، وقدموا لنا صورة عنه وعن إلهه تفوق الصور المشينة التي قدمها العبرانيون لآلهتهم وأنبيائهم الملوك. وقد استملح العملاء المتأسلمون تلك الصورة لأنهم وجدوا فيها أنفسهم بكل ميولها ونوازعها ورغـباتها الدنيئة، فجعلوا منه " أسوة حسنة "، كما سيتضح لنا على الصفحات التالية.

ومن الثابت تاريخيا أنه لم يسمح بالتدوين الجزئي للسنة الذي يعتمد علي قدر قليل من الـتراث الفعلي للعربان إلا في أواخر العصر الأموي وبالأحـرى في عهد عمر بن عبد العزيز (717 ـ 720م)، بهدف تجميل الصورة المتردية للعـربان الأمويين في أعـيـن المتأسلمين، ووضع حد للكذب المتفشي على صلعم وغيره ممن عاصـروه وناصـروه، ولم يكتمل تدوينها إلا في القرن التاسع بعد ما يزيد على 200 عام من وفاة النبي. ولكن « قام جامعوا السنة بجمع ما يتفق مع أهوائهم من الأحاديث الرائجة في السوق بدعوى صحة إسنادها*7* ». ويقول محمد ابن سيرين المتوفي عام 110ع : « كان الناس لا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد*8* »، و" الفتنة " التي يقصدها هي مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان وولاية علي بن أبي طالب وخـروج معاوية عـليه وقـتله. ومن ثم محاولة تبريـر ذلك مـن خلال أحاديث أبي هريرة الصلعمية الكاذبة.

إلا أن الكـذب التاريخي بدأ بين القريشيين قبل ظهور الأسلمة المحمدية في مكة، بهدف إيجاد أصل وهوية لهم، ثم انتقل إلى المتأسلمين، وظل مـرافقا لهم حتى الآن.
أما كتابة المؤلفات التاريخية بالمفهوم الحقيقي فلم تبدأ إلا في العـراق مع استيلاء العـربان العباسيين على الحكم، وبتشجيع منهم بهدف تبرير أحقيتهم في الخلافة الإسلاموية أكــثر من غيرهم، بصفتهم " أهل بيت النبي ". فكان كتاب « المغازي للـواقدي » الذي يعد أقدم كتب التاريخ التي وصلت إلينا، وهو لا يتضمن ـ كما يتضح من عنوانه ـ سوى الـروايات التي رويت شفهيا عن حروب صلعم. وقد توفى مؤلفه أبو عبدالله محمد بن عـمر الملقب بالواقدي (توفى في عام 207ع ـ 822 م) بعدما لبث سنوات عديدة يتقلد منصبا مـرموقا في بلاط العباسيين. فاشتهـر بالوضع واتهم بالكـذب والـنـفاق.

كما أن بداية التاريخ العام المكتوب من وجهة نظر دينية، فتعود إلى أحمد بن يعقوب المسمى بـ" اليعقوبي "، وكان ينتمي إلى طبقة أمناء السـر العاملين في خدمة دولة العربان العباسيين، وعاش حتى عام 284ع ـ 897 م، وتناول في كتابه بدء الخليقة تبعا لما ورد عنها في توراة العـبرانيين اليهـود، وتاريخ العـربان في الـعصر السابق على ظهور الأسلمة والعصر الإسلاموي حتى عام 259ع ـ 872 م من منظـور ديني إسلاموي. وقد لاحـظ الـمؤرخون أنه تغلب عـليه الـنزعة المعادية للأمويين والموالية للشيعة والعباسيين، كما تميزت رواياته بالإفراط في التملق والنفاق والمبالغة في اختلاق الأحداث.

وكان التدويـن التاريخي بطبيعة الأحـوال يتم نقلا عـن الـرواة الذين لم يعيشوا أحداث التاريخ بأنفسهم، ولكنهم أخذوها بالتواتر (النقل الشفهي) خلال أجيال عديدة، تماما مثلما جمع البخاري (توفى 256ع ـ 870 م) الأحاديث الصلعمية وقام آخرون بالشيء نفسه، ومع أنها أحاديث كاذبة وغير موثقة وفيها الكثير من التناقض والتعارض مع قرآن صلعم، فقد سميت بـ" صحيح البخاري ومسلم ومالك ... "، وهي صحيحة بالفعل في كشف الدجل الإسلاموي لا أكثر. فقد راحوا جميعا يتحدثون عن نبيهم بلا حـرج، وينسبون أقوالهم إلى آخرين من المستحيل التأكد حتى وجودهم في يوم ما.

وكنتيجة لذلك، وفي محـاولة يائسـة مـن المتأسلمين، ظهر ما يعرف بـ" الإسناد " الذي ابتدعه العملاء في وقت مبكـر كإجراء ترقيعي ضد الخداع الشفهي والتباين السردي. وهو متابعة الحديث من خلال الأشخاص المسْنَد إليهم حتى الوصول إلى الشخص الذي نقله عن صلعم مباشرة والتأكد مما إذا كانوا أشخاصا حقيقيين وذي ثقة أم لا. ومع أن عملية الإسناد هذة جعلت البخاري في منتصف القرن التاسع الميلادي (بعد 250 عام من موت صلعم) ينتقي 7397 حديثا من 600000 حديث كانت شائعة بين المتأسلمين، إلا أنه اضطر إلى تقسيم ما انتقاه من الأحاديث الصلعمية إلى حسن وردئ ومشكوك فيه ... إلخ. وهكذا لم يتمكن البخاري المنعوت بـ" الصحيح " من إثبات صحة هذا الكم الهائل من أقوال صلعم، ولم يتمكن غيره حتى يومنا هذا من تنقية الكتب التراثية الحبلى بالمغالطات والمبالغات واختلاق الأحداث والأكاذيب والتناقضات والتلفيقات وغـيرها. وقد ابتدع العملاء ما يسمى بـ" الاجتهاد " وهو نقيض " الإسناد "، تماما كـ" لعـب الـقمار " الذي يكسب دائما، فإذا أصاب المُجْتَهِد فـله أجـران وإذا أخطأ فله أجـر. الأمر الذي أطلق العنان للقـرائح الـذهنية والإمكانيات اللغوية بهدف لوي الحقائق أو طمسها، والإفـراط في الخيالات والتخيلات والنقل وتفسير التفاسير وتبرير الأقوال ونقيضها في وقت واحد، مما أدى ذلك إلى لعبكة الأحداث وملء المكتبات بملايين الكتب التي تحملها في بطونها. وبذلك تم خلق " متاهـة " فقهية وتاريخية لا يعرف مداخلها ومخارجها إلا " العملاء " الذين يصولون ويجولون ويتبارون فيها وحدهم كل يوم تحـت مسمى جـامع شامل هـو " العـلماء "، إنهم فعلا عـلماء في إخفاء العلم الحقيقي بهذا الدين وتاريخه عـن عـامة الناس.

وهكذا تسبب التأخير المتعمد ـ أو الناتج عن الجهل ـ في التدوين الكتابي والوثائقي لتاريخ البدو العربان في إضفاء قدر كبير من الغموض والإبهام عليه، فأصبح مادة مستباحة لكل من هب ودب من الدجالين والأفاقين وأدعياء العلم والمعرفة وقطاع الطـرق والمـرتزقة من الدين، لـيضيفون إليه ما يشاءون ويغمضون أعينيهم عما يشاءون، ويساهمون بقدر كبير في تعـقيد المتاهة الفقية والتاريخية لهذا الدين، خاصة وأن كُـتَّابَه الأوائل لم يجدوا أمامهم أية أسانيد أو وثائق يمكنهم الاعتماد عليها، فكان اعتمادهم بداية وبلا شك على القـرآن، فوجدوا فيه اختلافات وتناقضات كبيرة وكثيرة، وتكـرار ممل وأساطـير خـرافية من كل صوب، فلجأوا إلى الأحاديث أو الأحداث التي نسبت إلى النبي صلعـم بواسطة سلسلة متواترة من الرواة في " عنعنة " طويلة ومملة، ولا يمكن التأكد من صحتها، مما ترك مجالا واسعا لخيالهم وتخيلاتهم، فتفتقت قرائحهم عن أقوال وأحداث نسبوها بدورها إلى النبي ومعاصريه، رغم تناقضها أو تحيزها، وامتلائها بالآراء الشخصية والقصص المختلقة والملفقة، التي لا تتفق مع العقل ولا تنسجم مع المنطق. وأصبح همهم الأول هو مـزج الدين بقـوة وعنف بالسياسة لتحقيق مصالحهم الشخصية، تماما كما يفعلون الآن. فجعلوا من أحداث تلك الروايات ووقائعها وشخصياتها حقائق مسلم بها ومبررة لذاتها، ولا داعي للبحث عن صحتها أو عواقبها أو أسبابها ودوافعها. وهنا يحاول المستشار محمد سعيد العشماوي الفصل عبثا بين الدين والتاريخ، فيقـول: « أصبح التاريخ الإسلامي يرتبط عند بعض الناس بالإسلام دينا، وهو فهم خاطئ وخلط سيء، لأن تاريخ الدين غير الدين نفسه، وقد يشذ التاريخ أو يسوء أو يضطرب أو يتخذ مسارا مخالفا للدين ذاته*9* ». إذ يتجاهل العشماوي أن الدين الإسلاموي كما هو الحال مع الدين العبراني إتخذ مسارا سياسيا قبل أن يلجأ صـلعم إلى يثـرب من خلال "التقية" في مكـة والتي رافـقها عـمليات سلب ونهـب وقـتل وسبي من أتباعه "الصعاليك"، ثم من خلال معاهدتي العقبة الأولى والثانية بوساطة من عمه العباس، واللتان مهدتا للجوئه السياسي إلى أخواله في يثرب، لينطلق منها مع عصابته في صنع التاريخ، فأصبح التاريخ الإسلاموي منذ تلك اللحظة هو الدين الإسلاموي نفسه، لا فرق بينهما على الإطلاق، فالسياسة هي التي فرضته وعملت على انتشارة وتشكيل تعاليمه. إن قـراءة للتاريخ الإسلاموي على نحو ما قاله العشماوي تجـرده ـ دون تواريخ العالم بأسـره ـ من نسقه الانتقائي الذي يقدمه بالضـرورة أي تاريخ للبشـر في توجهاتهم نحو معـرفة الواقع الذي يعيشونه، ومحاولة استشـراق آفاق المستقبل الذي يبتغونه. فالحقيقة هي أن الدين الإسلاموي شذَّ أو ساء باستخدام السياسة، والسياسة شذَّت وساءت باعتمادها عليه. فتكـوَّن نتيجة لذلك تاريخ مبتور وموبوء بالأفكار الدينية الإسلاموية الشاذة والسيئة، والأحداث السياسية الهابطة والمشينة، فكان هذا سببا رئيسيا فيما نعاني منه الآن، وما سوف تعاني منه الأجيال القادمة.

وكان لابد لتاريخ مبتور وموبوء مثل هذا أن تأتي قراءته مبتورة وموبوءة بالمثل، وتخضع لمعايير ذاتية تحددها الأهواء الشخصية أو الحماس الديني، الذي بلغ ذروته في هذا العصر، وأصبح " هوسا " حقيقيا، أو ـ وهذا هو الأهم والأعم ـ استغلالها للسعي إلى تحقيق المنافع المادية والمعنوية. وفي سبيل ذلك لابد من تقديس الأشخاص وأقوالهم تقديسا أعمي، سواء الأحياء منهم أو الأموات، والوصول بهم إلى مصاف الآلهة أو الملائكة على أقل تقـدير، والإسـراف الممل في الإشادة بمناقبهم ومسالكهم والتباهي بإنجازاتهم، دون الاهتمام بمشاكل الحاضـر، وكأن هذا وحده كفيل بالتغلب على تلك المشاكل وحلها. كما غلبت على تلك القـراءات السـمة الدينية المثالية التي تتبنى البحث عن العظة والعبرة في تاريخ العربان الإسلاموي بهدف التلقين الديني والأخلاقي فحسب، والتي أثبتت فشلها مـنذ زمن بعيد، خاصة وأن « التاريخ ـ بوجه عام ـ يعلمنا أن العـظة والعـبرة الوحيدة في التاريخ هي أن أحدا لا يتعظ أو يعتبر من قراءته مالم يكن الهدف منها موجها بشكل محـوري وأساسي نحو فهم عناصر ومقومات الحاضر من خلال تحليل أحداث الماضي وتفسيرها، ومن ثم إرجاعها إلى مسبباتها ودوافعها الحقيقية ورصد الظروف الموضوعية التي أحاطت بها وأوجدتها ومن ثم تفهم معناها*10* ». وهذا بالضبط ما سنحاول عمله على الصفحات التالية.

ولكن قبل هذا يجب أولا الاطلاع على ثلاثة نماذج نمطية مما كتبه المؤرخون وهي تمثل ثلاثة إتجاهات رئيسية لا يمكن الاستفادة منها، إذ فيها الكثير من الهـزيان والتناقض والاستهانة بعقول البشر، والـرغبة في شرزمة العوام المتأسلمين بين المذاهب الإسلاموية المختلفة:

1. يحـيا الأمـويون يمـوت العـباسيون!!

نجد الثعالبي*11* في قراءته لتاريخ العربان الإسلاموي وقد تحيز بشكل صارخ للأمـويـين ضد العـباسيين الـذين يتهـمهم دون تحـفـظ « بالأنانية وحب الذات »، والعمل على تفكيك الوحدة الإسلامية، عـلى حد قـوله وفهـمه. وهم في نظره « طلاب تـراث وملك، لا طلاب إصلاح، وما القناع الذي على وجوههم إلا لأخفاء مقاصدهم عن الناس ». أما الأمويون فيقول عنهم إنهم: « أنشأوا على أنقاض حكومة الخلفاء الراشدين هيئة أكثر تشكلا بالطبيعة البشـرية، وأوسع قابلية للتطـور، فانتقلت بالمسلمين من طـور البداوة والسـذاجة إلى طـور الحضارة والإنتظام ». بـيـد أنه اضـطـر إلى الاعـتراف بما ارتكـبه الأميون من « هفوات سياسية » أهمها في نظـره « سوء معاملة المسلمين الأعاجم [الموالي] في البلدان التي استولوا عليها واحتلوها »، ولم يستنكـف عن تـبرير سياستهم الجـائرة هـذه بقـوله: « إلا أن عذرهم في ذلك واضح، تبرره سياسة الفتح والاستيلاء وهو تطوير المفتوحين وفصلهم عن ماضيهم ».

ونحن نتساءل هل هذا كلام يعـقل؟ هل هذه قـراءة تاريخية موضوعية ونزيهـة؟ هل كانت حكومة الخلفاء الأوائل لا تتفق مع الطبيعة البشرية، مع وصفهم بـ" الـراشدين "؟، وهـل البداوة طـور من أطـوار حياة البشـر أم أنها نمـط من أنماط الحـياة، تفـرضه عـليهم الظروف الموضوعية التي يعيشون فيها؟. وهل العربان الذين يعيشون الآن في المدن "المتسعودة" لم يكونوا بدوا في يوم من الأيام، ومازالوا يفتخـرون ببداوتهم ويتوقـون إليها؟؟. كما أنه يريد إفهامنا بأن الأمـويين العـربان الـذين خـرجـوا لـتـوهـم مـن « طـور البــداوة والسـذاجة » إلى « طـور الحضارة والانتظام »، كانوا يهدفون بسياستهم الظالمة والغاشمة لغـير العـربان من المتأسلمين في العـراق والشام وبلاد الفرس ومصر إلى تطويرهم وفصلهم عن ماضيهم الحضاري العريق الذي لم يكن له مثيل في العالم أجمع، مع أن كل إنسان يعـرف حق المعـرفة أن تلك السياسة مخالفة تماما لما جاء في قـرآن الـفـترة المكية من أنه لا فضل لـعـربي على عجمي إلا بالتقوى وأن المسلمين أخوة. وأنها لذلك كانت سببا رئيسيا في انهيـار دولة بني أمية وقيام دولة بني العباس على أنقاضها!!.

ولعله أدرك مدى اهـتراء أقـواله هذه، فحاول أن يدفع عن نفسه تهمة التحيز والابتعاد عـن الـموضوعـية التاريخية والـنـزاهة العلـمـية، فـقال: « لسنا ندافع عن سياسة الأمويين، ولكننا نريد إنصافهم، ونقول ما نعتقـده صـدقا، ولا أجـمل من المؤرخ إذا كانت حليته الصدق والإنصاف ». إذن هو يقول " ما يعتقده صدقا " ولكنه لم يبرهن عـلى صدق اعـتقاده، لأنه يهـزي.

ومن ناحية أخـرى، وقبل أن نترك هذا " الهزيان " المتفشي كالوباء في هذه المنطقة من العالم، نسأل هذا المؤرخ وأمثاله عن الكيفية التي يتحلى بها وبأقل قدر من الصدق والإنصاف وهو في نفس الوقت يحاول تبرير سياسة ظالمة لحكام ظلمة وفاسدين ومفسدين، دائما وأبدا تحت غطاء كثيف وعنيف من الدين؟.

2. يحـيا العـباسـيون يمـوت الأمـويون!!

وعـلى العكس مـن الثعالبي نرى أحمد عبد الحفيظ وقد ذهب إلى أن « نقد الذات وتصحيح الأخطاء وإعادة تقييم الأوضاع كان هو الفريضة الحقيقية التي غابت عن التاريخ الإسلامي منذ انتصار الأمويين على الإمام علي بن أبي طالب في معركة الفتنة الكبرى واغتصابهم لسلطة الخلافة وتحويلها إلى مُلْك عضود، واعتمادهم التصرف في أموال المسلمين وكأنها أموال خاصة بهم، يخضع التصرف فيها لمطلق إرادتهم»، وقال: « إن الأمويين اعتمدوا في هذا السبيل عدة أساليب منها الغـواية والإغـراء والابتزاز والتهديد*12* ». وقد صدق في العبارة الأولى مع تغافله لفـترة ما قبل انتصار الأمويين المزعوم والذي صاحبه بالمثل عدة أساليب منها ما ذكره مضافا إليه الإرهاب والقتل.

أما سيد أمير على فقد فضل اتخاذ موقف متحيز تماما للعباسيين، فرأى أن « استيلاءهم على الخلافة الإسلامية كانت ثورة لم يشهد التاريخ أعظم منها لا في العصر الحديث ولا القديم، وذلك أنه كان لها تأثير عملي في الأعلان الديموقراطي للمساواة والإخاء الإنسانيين »، ومع ذلك يقول إن « الخليفة العباسي كان مصـدر السلـطات جميعها، وعنه تصدر جميع الأوامر المتعلقة بإدارة الدولة*13* ». وبصـرف النظـر عن المبالغة العقيمة التي لا تهدف سوى إلى إثارة الرعاع، فإننا نسأله عن الكيفية التي ينسجم فيها القول بأن الخليفة العباسي كان مصدر السلطات جميعها ... إلى آخـره مع التأثير العملي لأي إعلان ديموقراطي للمساواة والإخاء الإنسانيين المـزعومين؟؟، بيد أن هذا القول يرضي كافة حكام المنطقة الموبوءة بالتأسلم، لأنهم دائما مصدر للسلطات جميعها تأسيا بنبيهم. هذا بالإضافة إلى الخطأ الشائع الاستعمال لمفهوم كلمة " الـثـورة " في قـراءة تاريخ المنطقة برمتها.

3. يحـيا العـثمانيون يمـوت الآخـرون!!

وأذا ألقينا نظـرة سريعة عـلى بعـض القراءات الحديثة نسبيا التي تناولت تاريخ العثمانيين، وهم أتراك مستعمـرون، اغتصبوا السلطة مثلهم مثل الأعـراب الأمويين والعباسيين، وساروا على نهجهم في ترويج الانحطاط وأشاعة الفساد والتخلف في المنطقة بأسرها، وقتلوا بإسم الأسلمة المحمدية أكثر من ثلاثة ملايين شخص أغلبهم من الأرمن، نجد أنفسنا أمام " هـزيان " أقل ما يقال عنه أنه هـزيان الـمـرض المُـزمن، الـذي يجـمع بـين الـهـوى الـقـومي والحـمـــاس، بـل " الـهـوس " الديني معا، إذ يقول الصلابي: « لقد كانت المصالح الفرنسية ترى في دعم محمد علي ليتحقق لها أطماعها المستقبلية وتقوية محافلها الماسونية، وإضعاف الدولة العثمانية، وزرع خنجرها في قلب الدولة العثمانية، ولذلك أنشأت لمحمد علي أسطولا بحريا متقدما وترسانة بحرية في دمياط، والقناطر الخيرية لتنظيم عملية الري في مصر ». والواقع أنه عندما يتمكن المرء من استعمال عقله لا يرى أية غضاضة في أن يعمل الحاكم على تقـوية البـلد الذي يحكمه ويحاول تنظيم عـملية الـري فيه بمساعدة من فرنسا أو غيرها، حتى وإن أدى ذلك إلى إضعاف أو زوال إمبراطورية استعمارية متغطـرسة، إذ كان من الأحرى بها أن تقوم بهذا العمل، ولكن المؤرخ يستطرد في هـزيانه قائلا: « هل كان هـذا حبا في شخـص محمد عـلي؟ أو حبا في مصر؟ إنما لتنفيذ المخطط الصليبي الذي فشلت الحملة الفرنسية في تنفيذه بسبب اضطرارها للخروج ». ولا يكتفي المؤرخ بهذا، بل يمعن في هزيانه وهلوساته، فيعمد إلى تلوين الحقائق التاريخية والعبث بها، إذ يقول: « لقد قام محمد علي بدور مشبوه في نقل مصـر من انتمائها الإسلامي الشامل إلى شيء آخـر يؤدي بها في النهاية إلى الخــروج من شـريعة الله*14* »، هكذا ببساطة مفـرطة، لا يصدقها سوى البسطاء ولا يتعلق بها إلا الأغبياء. فالسيد الصلابي لم يقل لنا ماذا أقام العثمانيون الأتراك من مشاريع تنموية في مصر أو غيرها، بل ولم يقل لنا ماذا فعل البدو العـربان أنفسهم في مصـر أو غيرها من البلاد التي احتلوها ومصوا دماءها واغتصبوا أو سبوا نساءها وبناتها وأجـبروا أهلها على اعتناق دينهم ولغتهم تحت شعـار " إخـراجهم من الظلمات إلى النور ". كل ما فعلوه هو أنهم شجعوا سكان تلك البلاد على بناء المساجـد التي أصبحـت تقض مضاجع البشر ليلا ونهارا بـ" نعـيق بلال "، وإقامة الأضرحة التي يقتات منها المستشيخون من الكسالى والبلطجية والأفاقين وتجار الدعـارة.

هذا قـليل من كثـير، فمن نصدق ياترى !!، وماذا نصـدق؟؟، وما جـدوى مثل هذا الكلام طالما نعيش في حاضر مـزر تماما وأمام مستقبل دامس الظلام؟؟!!.

إن التحليل الموضوعي لظاهـرة الهزيان التاريخي هذه: هو أننا نتعامل مع تاريخ مفبرك من أساسه وغير محدد المعالم ومفتوح لكل ما هب ودب، ونظرا إلى أن حاضرنا يسير من سيء إلى أسوأ باستمرار، فإننا نتعلق دائما بالماضي البعيد أو القـريب، للبحث فيه عن شخصيات أسطورية ـ مثالية كي نجعل منها أبطالا نعلق عليه أمالنا وأحلامنا. وبطبيعة الحال نجد دائما من يحاول تجميل ذلك الماضي، وإبراز أولئك الأبطال الوهميين بهدف صـرف الأنظار عن السوء الذي حل بنا، وهو بذلك يساهم بقدر كبير ومباشر في زيادة هذا السوء، وإدخالنا في منظومة لطم الخدود وشق الجيوب والبكاء على الأطلال، بدلا من العمل على إزالتها والبناء من جـديد.

❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--

مـهـنة الكــلام

مـادام نبي الأسـلمة قد طـلـب من المتأسلـمين أن يتحـدثوا عـنه بلا حـرج أو كسوف، ومادام الكـلام لا يكلف شيئا، وأنه كـان ـ ومازال ـ عـند الـبدو العربان وجها من وجوه الذات وعنصرا من عناصر الشخصية، وليس من الضروري أن يعـبر عن معنى أو أن يكون وسيلة للتواصل مع الغـير أو نظاما لـتراكم المعارف والمعلومات أو سبيلا للنمو الذاتي والاجتماعي، فقد اقتصر دوره على الشعارات والمفـردات اللغـوية التي يجب ألا يقوم أحد بتدقيق معانيها. وانتقل هذا الـوباء إلى كل البلاد التي اعـتلـوها، وفـرضوا لغتهم عـلى شعـوبها. فأصبح تاريخها العـربي الإسلاموي منذ بدايته مادة كلامية مستباحة للقاصي والداني، يتسلى بها من يعـلم ومن لا يعـلم ويلعـب بها العاطلـون وغير العاطلين، ومن ثم يستغـرقون في الصـراعات السياسية الـدائرة حولهم دون بحث لدوافعها أو تقييم لأساليبها أو معرفة حقيقية لأهدافها، فيقدمون قراءات سطحية أو تحايلية مغـرضة كي يستخدمها الساسة العجـزة أو المنحـرفين كـوقـود لتحريك دعاواهم المضللة وتبرير شعاراتهم السياسية الخادعـة، فـيـلونون التاريخ ـ مثلا ـ بلـون اشـتراكي في عصر الاشـتراكية ولون رأسمالي في عصر الرأسمالية، إذ نجد مثلا محـمـود شلـتوت شـيـخ الأزهـر في عـصر عـبد الناصر وقـد أفـتى بأن « القوانين الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام ». « ونشطت العقول الـدينية والمؤسسات الإسلامية في مصر وغيرها من الدول، لتبرير سياسة الثورة الاشتراكية بتبيان انسجامها مع الإسلام*15* ». وعندما انقـض السادات عـلى اشـتراكية سلـفه وأعـاد الـرأسمالية تحـت شعار « ثورة التصحيح » في عام 1971م أفتى محمود الفحام الذي تولى المشيخة في الفترة من 1969 ـ 1973م بأن هذه « خطوة تأتي من أجـل كفالة الحـريات للـوطن والمواطنين وسيادة القانون وبناء الدولة الجديدة » الأمر الذي لم يتحقق حتى الآن ولن يتحقق ـ كما يبدو ـ في المستقبل المنظـور.

وطبعا، إذا التبست الأمـور السياسية عـلى الـعـملاء الـملفـقـين ـ وهي غـالبا ما تلتبس عـليهم ـ، وهوت مـطـرقة الحـاكم الغلـيظة على رؤوسهم، ـ وهي عادة ما تهوي عليها؛ إكـتـفوا بالـقـول القـرآني الشامـل الجامع: « أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وألي الأمـر منكم »؛ هكـذا دون استعـمال للعـقـل أبدا.

وبمرور الأجيال وتردي الأحوال ومع انتشار وسائل الإعلام المتطورة مثل التليفزيون والفضائيات والإنترنت وغـيرها، ودخولها كل بيت تقريبا، تضخمت وتورمـت طـبقة العـملاء، وظهـرت منهم مجموعة تطلق على نفسها " الدعاة الجُدُد "، وهم في غالبيتهم من غير رجال الدين المتخصصين، لينتفعون بدورهم من الدين ويتاجـرون فيه بالكلام، ماداموا يتحدثون عن نبيهم بلا حـرج. ومع أن هذه المجموعات وغـيرها موجودة ـ إلى حد ما ـ في كافة بلدان العالم، إلا أن أفـرادها في البلاد المتأسلمة يعـرِّفون أنفسهم بـ" العلماء " بدون علم ومن دون العلماء الحقيقيين، ووجدوا في هذه الديانة تجارة مربحة للغاية، ولا تحتاج إلى رأس مال سوى أتقان " فـن " الكلام في مجتمعات محبطة ومضللة ولا ولا تقرأ ولا تحسن الاستماع ولا تجيد الفهم، و« أخذوا يبسطون سطوتهم لمراقبة الحقيقة، ومع تضييق الخناق على الحقيقة تعاظمت سلطتهم ليصبحوا أقرب إلى الجنود منهم إلى العلماء*16* »، وهم في حقيقة الأمر ليسوا أقـرب إلى الجنود كما ذهب الدكتور صادق جلال العظم، بل أصبحوا جنودًا بالفعل، ولكن لا تحكهم ضوابط أو تعليمات، فتمكنوا من إكساب المؤسسة الدينية يدا غليظة تهوي بها على كيان كل من تسول له نفسه المساس بـما يزعمون أنه " الثابت من الدين بالضـرورة "، فتهدمة أو تقوضه، مع أنه لاتوجد في حياة المجتمعات البشـرية أية ثوابت على الإطلاق ـ لا دينية ولا سياسية ولا أخلاقية ـ، فالمجتمـعات البشـرية ليست أحجارا جامدة، بل هي في حـركة ديناميكية مستديمة غـيَّرت وتغـيِّر باستمرار الدين والتاريخ والعلم واللغة والأخلاق وغيرها.

إن مشكلة المؤرخين في بلادنا وأولئك العملاء تكمن في أنهم جميعا لا يجدون أمامهم تاريخا أو دينا موثقا ومدونا بدقة وأمانة ، بحيث يمكنهم الاعتماد عليه، فتحـولوا منذ اللحظة الأولى إلى " عـملاء " لأسيادهم البدو العربان، يروجـون لخـرافاتهم التي اقـترنت بنشر التأسلم على مـر القرون، مما أصابهم بالهوى القومي والحماس الديني من أجل الكسب المادي والمعنوي، وقد حدث لديهم إنفصام في الشخصية، حال بينهم وبين إدراك حقيقة أن واقع المجتمعات البشرية يتحرك ويتغير باستمرار، ولذلك لا يمكن إخضاعه لأية وصايا أو تعليمات مجهزة سلفا، أو انقضى أجلها وعـفى عـلـيها الـزمن، وكان من الواجب إلقائها منذ وقت طويل في مـزبلة التاريخ، مع أنها [ربما] كانت صالحة تماما في حينها، و[ربما] أدت واجبها آنذاك على الوجـه المطلوب، لأنها اتفقت حقيقة مع الظروف الموضوعية التي أحاطت بمجتمعـها في ذلك الوقـت.

ومن ناحية أخرى لا يعلمنا التاريخ ما يجب علينا عمله، من خلال أسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه يعلمنا فقط ما يجب علينا تجنبه، فالواقع الذي نعيشه هو وحده الذي يملي علينا ما يجب علينا عمله كي نواجه مشاكله المستجدة بفاعلية ونجاح، وأن ما يجب علينا عمله يتوقف على قـرارنا الذي يجب أن يفـرضه الواقع. إذ « يمكن لمجتمع ما أن يأخذ من ماضيه ما يفيده في توجيهه وإرشاده، لأن التاريخ يحمل داخله نوعا من الإنذار المبكـر لمن يعرفون كيف ينصتون إليه ويحسنون قراءته*17* »، وهذا بالضبط ما سوف نحاول الـتعـرف عليه، بالرغم من أن إنجاز معرفة الماضي مـرة واحدة أو للمرة الأخيرة أمر صعب أو مستحيل، خاصة في تاريخ مبتور وموبوء ومصطنع بخصوصية شديدة جدا، ولكن لابد من تجديد الدعـوات دائما لقـراءة هذا التاريخ من حين لآخـر، وأن نستهوي النبش في الماضي كي يكسبنا بصيرة تاريخية نافذة إلى الحاضر والمستقبل على حد سواء. وعندما يقول الفيلسوف الألماني هيجل إن اللحظة التي يعيشها الإنسان محكومة دائما بصورة ما من الماضي، فإننا سوف نبحث هنا عن هذه الصورة وربطها بالحاضر الذي يعـرفه القاصي والداني، لعلنا نتمكن من تشخيص الداء ومعرفة الدواء. مع قناعتنا التامة بأن الباحث عن هذه الصورة في ركام التاريخ المستعرَب والـمتأسلم، كالـباحث عن إبرة في كـومة من الزبالة العـفـنة. فكل أحـداثه مشكـوك فيها، وكل أشخاصه تدور حولهم الأقاويل، بما فيهم محمد وعصابته. وكل ماقيل عنه أو عنهم لا يخلو من الأكاذيب والتناقضات والاستهانة بعقول البشر، ولذلك يمهـره السادة العـملاء دائما بعبارات مثل "والعلم عند الله" أو "والله أعلم"، (هنا نلاحظ تأكيدا لـ"علمهم" المزعوم بأن الله أعلم منهم). ولكن الحقيقة هي أننا جميعنا لا نعـرف حتى الآن : لماذا أخفى هذا الإله البدوي الصحـراوي عـلمه عنا، إن كان يعلم شيئا بالفعل ؟!. ولماذا تركنا لقمة صائغة لهؤلاء الملفقين والدجالين يتلاعبون به ويضغطون بإسمه على مشاعرنا ومقدراتنا. لذلك لا يسعنا إلا أن نترك "علم الله الخفي" ونجتهد في البحث عن الحقيقة، دون انتظار أي أجـر من أحد، ولكن فقط من أجل خلاص الأجيال القادمة من هذا الهراء البدوي المقدس الذي أطبق على وجودنا منذ ما يقرب من 1500 عام.
❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--

ماذا قـيل عن العـربان؟

إن الحـقيقة دائما واضـحـة، ولكن العـقـول الـهـشة هي التي تعـجـز عـن أدراكـها.

❉-;---;-- بعض مما قاله الآخرون

من الطبيعي أن يكون للبدو العـربان من المناقب [المحاسن] والمثالب [العيوب] ما لغـيرهم من البشر، ولكن الغـير طبيعي هو أن تطغى المناقب بعنف على المثالب وتطمس معالمها بشدة، وتصل إلى حد التقـديس لهم ولدينهم ولغتهم وحياتهم وتاريخهم، بالـرغم من أن الكثير من هذه المناقب مصطنع وملفق ولا يتفق مع طبيعة البشر، وينضح منها الازدراء السافر لعقلية الإنسان، إلا أن العميل الذي سمح لنفسه ـ أو سُمِح له ـ أن يروج بضاعة فاسدة ومفسدة لا بد وأن يغلفها بغلاف ذهبي ويخفي عن زبائنه أوجهها القبيحه ويحسن صورتها في أنظارهم. وقد يضطر البعض ـ أحيانا ـ إلى قول الحقيقة أو جزء منها ، فبعض الناس لا يستطيعون العيش مدى حياتهم في كذب وخداع ونفاق ورياء، والبعض الآخر يستطيع ذلك.

جـاء في العـقد الفريد لابن عبد ربه أن كسرى قال للنعمان بن المنذر: « لم أرى للعـرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة. ومع أن ما يدل على مهانتها وذلها وصغـر همتهما، محلتهم التي هم بها من الوحـوش النافرة والطير الحائرة ، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل بعضهم بعضا من الحاجة. فقد خـرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشاربها ولهوها ولذاتها، فأفضل طعام ظفـر به ناعـمهم لحـوم الإبل التي يعافها كثير من السباع، لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها. وإن قـري أحدهم ضيفا عدها مكـرمة. وإن أطـعم أكلة عـدها غنيمة تنطق بها أشعارهم وتفخر بذلك رجالهم »، وقال له :
« ثم لا أراكم تستكينون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس، حتى تفخرون وتريدون أن تنزلوا فوق مراتب الناس». ثم قال عن قبائل العرب: «إنها كالذئاب العادية والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثوقون في حلق الأسـر، ونساؤها سبايا مـرادفات على حقائب الأبل*18* ».

وقد نقل إلينا الواقدي صورة مما قيل عن العرب، ففي مساجلة بين فلسطين بن هرقل وعمرو بن العاص، قال فلسطين:
« شيمتكم أيها الـعرب الغـدر والمـكـر »، فرد عليه عمرو بصراحة قائلا:
« نريد أن ... نأخذ ما في أيديكم من العمارة والأنهار عوضا عما نحن فيه من الشوك والحجارة والبلد القـفـر*19* ».

وجاء على لسان هـرقل قوله:
« هؤلاء العـرب خـرجوا من بلاد الجـدب والقحط وأكل الذرة والشعير إلى بلاد خصبة كثيرة الأشجار والثمار والفواكه، فاستحسنوا ما نظـروه من بلادنا وخصبنا، وليس ما يزجرهم شيء لـما فـيـه مـن الـعـزم والـقـوة وشـدة الحـرب*20* »، ووصفهم بأنهم
« أضعف الخلق، عـراة الأجساد، جياع الأكباد*21*». وجاء نفس الكلام على لسان وردان أحد قادة الروم، قال فيه عن العـرب:
« إن أكثرهم جياع، وعـبيـد، وعـراة، ومساكين، أخـرجهم إلينا قحط الحجاز وجوعُه وشدة الضـرر والبلاء*22* ».

أما هربيس الرومي بطريارق حمص فقد قال لجماعـته:
« إن العـرب مثلهم كمثل السبع إذا وجد فـريسة لم يرجع إلى غـيرها، وهم قد لحقهم الجوع في مدينتهم، وإذا أشبعناهم انصـرفوا عنا*23* ».
وفي خطاب توجه به بولص القائد الأعـلى لقـوات الـروم في مصر إلى الغـزاة العـرب، قال:
« قد علمنا أنكم كنتم في بلادكم، قبل أن تفتحوا البلاد، في قحط وجـوع، وتموتون هزالا، وقد ملكتم بلادا، وشبعتم لحما، وركبتم خيولا مسوَّمة وتقلدتم بسيوف مجوهرة، وسعدتم بعد فقركم وفاقتكم*24* ».

ونجد نفس الشئ في مروج الذهب، حيث قال المغيرة بن شعبة لـ"ذي الجناحين" ملك نهاوند: « إنا معشـر العـرب! كنا أذلة يطؤنا الناس، ولا نطؤهم، ونأكل الكلاب والجيف*25* ».

وقال عنهم ابن خلدون في قدمته الشهـيرة:
« إن العـرب لا يتغلبون ألا على البسائط وذلك أنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قـدروا عـليه من غـير مغالبة ولا ركـوب خـطـر، ويفـرون إلى منتجعـهم بالقـفـر». وقال: «إن العـرب أذا تغلبوا على أوطان أسرع أليها الخـراب، والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصارت لهم خلقا وجبلة»، واستطـرد قائلا :«وأيضا فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس، ... وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعـون انتهبوه»، وقال كـذلك: «إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة*26* ».
بطبيعة الحال انبرى طه حسين لهذه الأقوال بالتفـنيد والنقـد في كتابه « فلسفة ابن خلدون الاجتماعية » وقال :
« إنه غـمـط العـرب حقهم وشدد النكـير عليهم ».
ولم يوضح لنا عميد الأدب العربي ما هو " حـق العرب " هذا الذي يجب علي ابن خلدون وعلينا أن نقدمه لهم والذي كثيرا ما نتباهى به، ونجعل منه محك صدق في كل تعاملاتنا دائما وأبدا، يبدو أن طه حسين لم يكن يعرف حقيقة العـرب ولا يود معرفتها. أو أنه يعرفها ولكنه تعمد السير على نهج العوام في نفاقه لهم. فالعـربان كما سنرى فيما بعد ليس لهم حق على أحد، لأنهم لم يقدموا أي شيء لأحد على الإطلاق، بل على العكس تماما، قتلوا الآخـرين وسلبوا ونهبوا ممتلكاتهم واغتصبوا أولادهم وبناتهم ونساءهم، وكانوا دائما ومازالوا يأخذون فقط "أموال الحجاج مثالا"، مع أن ثروة النفـط الفاحشة مكنتهم لأول مـرة في حياتهم من العطاء، ولكنه عطاء مغرض، لا يخدم سوى أهدافهم السياسية الدنيئة التي سيتم رصد القليل منها لاحقا في هذا الكتاب.

وجاء في كتاب « الـعـرب، من هم وما قيل عنهم » لعمـر كحالة أن لامنسي قال:
« إن الـعـربي الذي يعـد مثلا أو نموذجا ماديا، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية ضيقة، ولا يقيمها إلا بحسب ما تنتج من نفع. يتملك الطمع مشاعـره، وليس لديه مجال للخيال ولا للعواطف ولا يميل كثيرا إلى الدين ولا يكـترث بشيء إلا بقـدر ما ينتجه من فائدة عمليه يملأه الشعور بكـرامته الشخصية ». وقال كحالة:
« أن العـرب لا يدينون بالطاعة لرئيس أو حاكم، وكان عهد عمر بن الخـطاب عمرهم الذهبي لأنه شـغلهم عـن حـروبهم الــداخـلـية بحـروب خارجية، وأنه ـ رضي الله عنه ـ مُنِح فهما عـميقا مـمتازا لـنـفسـية العـرب »، ويستـطـرد قـائلا إن:
« البدوي يتصف بالفـردية ولذلك لم يرتق إلى مستوى الحيوان الاجتماعي ... ومما يدل على ذلك أن حـركة الفتح العـربي أفادت البدو بأن نزعتهم من بيئتهم المملة، فاندفعوا إلى الغزو والاكتساح، ولكنهم لم يشتركوا بشيء في تنظيم الدولة العـربية وإنالة الخلافة، فقام السوريون بتنظيم الخلافة الأموية، كما اشتغل الفارسيون بتأييد الخلافة العباسية والمصريون بالخلافة الفاطمية، وهكذا. وأن تلك الصفة الفـردية وحــدها تشـرح ما نراه في البدو من عدم الإخلاص للمصلحة العامة المشتركة، بل من جهل بهذه المصلحة العامة وما تحققه في خـلقه من خـلـو من عواطـف الشفقة والـرحمة، بل عواطف الإنسانية ».

وحديثا جاء في كتاب « عنوان المجد في تاريخ نجد » للمؤرخ الشهير الشيخ عثمان بن عبدالله بن بشر النجدي الحنبلي ـ هكذا ـ المؤلف من مجلدين كبيرين تضمنا حقائق لا تحصى ولا تعد عن عمليات السلب والنهب والقرصنة والقتل، جرت على أيدي المتسعوديين، قال عنها إنها مواقع حربية أو غزوات، كما هو الحال مع مثيلاتها الإسلاموية المحمدية من قبل، هذه أمثلة منها:
« ... فأغاروا على بلدة الزلفي فأخذوا عليهم أغـناما ورجعوا ».
« ... ونازلوا بلدة رغبة المعروفة فخان منهم ناس وأدخلوهم ثم خانوا
فيهم ونهبوا البلد وجميع ما فيها ... ».
« ... فآوقع بأهل الدلم وقتل من أهلها ثمانية رجال ونهبوا بها دكلكين
فيها أموال ».
« ... وقصد بلد نعجان وقطع فيها نخيلا ودمَّـر زرعا وقتل رجالا ».
« ... وأقام ... أياما محاصرا لهم ، يخرب في بلادهم ويقطع في
نخيلهم ... »
« ... وأخذ جميع ما معهم من الأموال والقماش والمتاع والإبل وغير
ذلك وقتل منهم قريب سبعين رجلا ...» ... إلى آخره.

ومما لا شك فيه أن هذا هو الأسلوب البدوي العربي الوحيد الذي يجب عليهم اتباعه في صـراعاتهم، فقد اتبعه نبيهم " الكـريم "، واتبعه عبد العزيز بن سعود في تكوين مملكته النفطية الحالية.

وقد جاء في كتاب « تاريخ الدولة السعودية » لمؤلفه أمين سعيد عن منطقة نجد التي تشكل قلب شبه الحزيرة العربية ، إنها
« كانت قبل النهضة المباركة [يقصد قبل تدفق الثراء النفطي الفاحش عليها] مقسمة إلى مشيخات وإمارات لا رابطة تربط بين شيوخها ولا تعاون ولا تآزر و الجار يفتك بجاره والأخ يقتل أخاه، الأموال منهوبة والأمن مفقود والفوضى عامة والبدع متفشية والخرافات منتشرة ». وهذا شأنهم دائما وأبدا.

وقد أطلق الروائي المصري العظيم: نجيب محفوظ إسم « الجرابيع » عليهم في روايته الخالدة « أولاد حارتنا »، إذ ظهر من بينهم « قاسم » الذي يرمز إلى النبي محمد، كي يعمل على إصلاح أحوالهم المتردية وحياتهم الفاسدة، فـزادها ترديا وفسادها.

بطبيعة الحال سوف نجد الكثيرين من العملاء المتطفـلين يقولون لنا إن المقصود بتلك الأقوال وغيرها هم « الأعـراب » الذين هم أشد كـفـرا ونفاقا وليس الـعـربان الذين هم خير الأمم على الإطلاق. وكأننا أمام جنس آخر من البشـر غير ذلك الذي اتسم حقيقة بالخسة والحقارة، كما يتضح مما قالوه عن أنفسهم.

❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--

❉-;---;-- بعـض مـما قالـوه عـن أنفـسهـم

عقب تدفق عائدات النفط أثار البدو العـربان بسلوكهم داخل بلادهم وخارجها موجة عارمة من السخط والاحتقار حول العالم، مما حمل جـريدة " الشـرق الأوسط " العـربية السعودية التي تصدر من لندن وتطبع بـ« الفاكس » وتوزع في جميع أنحاء العالم على عدم تجاهل تصرفاتهم. ففي عدد يوم 14/7/1978 كتب محـرر باب « صباح الخـير » عن ثلاث مشاهد مشينة ومهينة للعـرب، ختمها بالحكمة القائلة « إذا ابتليتم فاسـتتروا »، وفي عدد يوم 2/1/1979 كتب في نفس الباب تحت عنوان « درس في قـلة الـذوق » متسائلا :
« كيف أصبح إسم الـعـربي مـرادفا لغباء الـثروة؟ وهل هو فعلا كذلك؟ هل يستحق أن يصبح (استيريوتايب) قلة الـذوق في الملبس والمأكل والمعشـر؟ »، ويشـير إلى حقيقتهم بقوله :
« سؤال هدفه معـرفة ما إذا كان الـعـرب نسيج وحدهم في سوء التصرف والبطر والجهل؟ »، ويستطـرد نفس الكاتب في عدد يوم 13/3/1979 قائلا : « قد مضى زمن كان الـعـرب فيه أساتذة الدعاية كما كانوا رجال حـرب وقتال، وترك الـعـرب على جاهليتهم ذكريات الشجاعة والكرم والوفاء مع أن الصفة الغالبة على الجاهلية كانت اللصوصية، فالـغـزو أساسه أن يسرق القوي الضعيف أو يغـدر به، مع ذلك فقد غلف شعراؤهم والقلة من خطبائهم ذلك بهالة أسطورية، مع أن الحقيقة الناصعة التي لا جدال فيها أن الإسلام هو وحده الذي أعطى العـرب قيمة إنسانية، ولولا ذلك لبقى الـبـدو يغـزون ويسرقون، وأهل المدن يعبدون الأصنام ».

بالطبع لم يوضح لنا هذا الكاتب ما مدا القيمة الإنسانية التي أعطاها الإسلام للبدو الـعـربان، إن كان قد أعطاهم قيمة بالفعل، وكم من الوقت دامت تلك القيمة المـزعومة، فهم تحولوا بالإسلام من عبادة الأصنام إلى عبادة صلعم وألى الأمر منهم، ومن غـزو وسرقة وسبي بعضهم البعض إلى غزو الآخرين وسرقتهم وسبي نسائهم وبناتهم وبنينهم وجعلهم يتباهون بهم ويتماهون معهم.

ومع أن هذا الكاتب حاول أن يبدو كغيره من الكتاب وكأنه يتحدث عن عـربان آخرين غـير عـربان النفط الحقيقيين "أحفاد صلعم"، فقد اختفى إسمه بعد ذلك من على صفحات الجريدة العربية المتسعودة ولم يعد يقرأ له أحد أو يسمع عنه شيئا، ولم يقدم لنا إجابة ما عن تساؤلاته حول الـعـرب، ولم يروي لنا قصتهم.
وأخيرا أود الإشارة إلى صديقي البدوي المتسعود ـ رغم أنفه ـ والمتنوِّر «ع. ق.» الذي كان يردد دائما أثناء مناقشاتنا معا في شئون بلده قوله:
- نحن أنجس شعب في أطهر أرض.
فكنت أعقب عليه قائلا :
- كونكم أنجس شعب فهذا أمـر تأكدت منه الآن ولا أشك فيه على الإطلاق، أما أنكم في أطهر أرض، فهذا مالم أستطع التأكد منه قط .
ويقول:
- نحن شعب ينكح الأرض ويؤدي الـفـرض.
فأقـول له:
- الحقيقة أنني لا أفهم أن تكون أرضكم أطهر أرض وهي تُنْـكَـح في نفس الـوقـت من كل شخص.
وعندما سألته عما يشيع عنهم بين المتأسلمين في البلدان الأخـرى من كـرم وعدل وشجاعة ووفاء، وأنكم خير أمة أخـرجت للناس ... إلى آخره . رد قائلا باختصار ووضوح ودون تردد:
- قبل ظهور النفط في بلدنا وتصديره إلى الخارج لم يكن لدينا سوى صناعة الكلام وفـبركة هذه الخـرافات والأكاذيب وتصـديرها إليكم، فصدقـتموها، وتعلـقتم بها، هذه إذن مشكلتكم أنتم.
صحيح إنها مشكلتنا نحن، وهي من الأمراض المزمنة أو المستعصية التي أصابونا بها، وقد آن الأوان أن نحاول معالجتها بالخروج من زنزانتهم الصحراوية القذرة ورؤية نور الحياة مرة أخرى مهما كان الثمن.

علينا إذنْ أن نبدأ قصة " خـرافات وأكاذويب أولئك الذين ينعتـون أنفسهم بالـعـرب " من بدايتها.

❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--❊-;---;--
*1*صلاح الدين محسن: ارتعاشات تنويرية ودعوة لعهد تنويري جديد، والذي سجن بسببه ثلاث سنوات، 2000-2003: http://www.alkalema.us/tanwir أو http://servant13.net/tanwir/index.htm
*2*إعـترفت منظمة القاعـدة الإسلاموية الإرهـابية بذلك.
*3*خطابه إلى الكونجرس في 2001/9/20.
*4*خطاب الأمة في 2003/1/29.
*5*هو النبي «إدريس» عند البدو العربان.
*6*صحيح مسلم ، ج18 ، ص 229 .
*7*إبراهيم فوزي : تدوين السنة ، ط2 ، ص 77 ، رياض الريس للكتب والنشر لندن 1995 .
*8*مقدمة صحيح مسلم : مصدر سابق .
*9*المستشار محمد سعيد العشماوي: الخلافة الإسلامية، ط2، ص 5، سينا للنشر ، القاهرة 1992 .
*10*د. قاسم عبده قاسم : قراءة التاريخ ، مجلة العربي ، عدد 1999/1/1 ، الكويت .
*11*عبد العزيز الثعالبي: سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية ، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1995 .
*12*أحمد عبد الحفيظ: الفريضة الغائبة والمفاهيم المغلوطة، جريدة الأهرام في 2002/1/1.
*13*سيد أمير علي: مختصر تاريخ العرب، دار العلم للملايين، بيروت ط1، 1961.
*14*محمد الصلابي: الدولة العثمانية ، دار التوزيع والنشر الإسلامية ، القاهرة 2001 .
*15*د. صادق جلال العظم: نقد الفكر الديني، ط9، ص23، دار الطليعة - بيروت 2003.
*16*د. صادق جلال العظم: مصدر سابق.
*17*د. قاسم عبده قاسم: قراءة التاريخ ، مصدر سابق .
*18*أبو عمر بن محمد ابن عبد ربه الأندلسي: العقد الفريد، ج2، ص 6 و7، دار الكتاب العربي، بيروت، بدون تاريخ.
*19*محمـد بن عـمـر الواقـدي: فتوح الشام، جزءان في مجـلـد واحـد،ج2، ص21، دار الجيل، بيروت، بدون تاريخ.
*20*نفس المصدر، ج1، ص 41.
*21*نفس المصدر، ج1، ص161.
*22*نفس المصدر، ج1، ص61.
*23*نفس المصدر، ج1، ص149 وج2، ص98.
*24*نفس المصدر، ج2، ص237.
*25*المسعود: مروج الذهب ومعادن الجوهر، 4 أجزاء في مجلدين، مج 2، ص323، تحقيق يوسف داغر، دار الأندلس، بيروت 1973.
*26*عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة، ج1، ص 197-199، الدار التونسية للنشر 1989.



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخديعة الكبرى العرب بين الحقيقة والوهم 2
- الخديعة الكبري العرب بين الحقيقة والوهم 1
- هل الإسلام جاء من بلاد الفرس؟ 5
- هل الإسلام جاء من بلاد الفرس؟ 4
- هل الإسلام جاء من بلاد الفرس؟ 3
- هل الإسلام جاء من بلاد الفرس ؟ -2
- تعليق سريع على حوار القراء المتمدن
- هل الإسلام جاء من بلاد الفرس؟
- المرض المزمن الذي أصاب المصريين
- الناس اللي تحت
- إنتو شعب واحنا شعب حكاية حزينة للغاية
- مصر والطريق إلى الديموقراطية
- الشيخ أحمد وزملاؤه
- أما آن الأوان للأزهر أن يتحرك؟؟
- بين هذا وذاك
- العربان المتأسلمون
- الشيطان الأكبر


المزيد.....




- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف موقع اسرائيلي حيوي ...
- المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهداف قاعدة -عوفدا- الجو ...
- معرض روسي مصري في دار الإفتاء المصرية
- -مستمرون في عملياتنا-.. -المقاومة الإسلامية في العراق- تعلن ...
- تونس: إلغاء الاحتفال السنوي لليهود في جربة بسبب الحرب في غزة ...
- اليهود الإيرانيون في إسرائيل.. مشاعر مختلطة وسط التوتر
- تونس تلغي الاحتفال السنوي لليهود لهذا العام
- تونس: إلغاء الاحتفالات اليهودية بجزيرة جربة بسبب الحرب على غ ...
- المسلمون.. الغائب الأكبر في الانتخابات الهندية
- نزل قناة mbc3 الجديدة 2024 على النايل سات وعرب سات واستمتع ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - الخديعة الكبرى العرب بين الحقيقة والوهم 3