أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ياسين المصري - المرض المزمن الذي أصاب المصريين















المزيد.....

المرض المزمن الذي أصاب المصريين


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 4320 - 2013 / 12 / 29 - 02:28
المحور: المجتمع المدني
    


جميع الكائنات الحية تصاب بأمراض لا حصر لها. والمرض - كما هو معروف - عبارة عن خلل يصيب أحد أجهزة الجسم (مرض عضوي) فيعجز الجهاز عن آداء عمله أو يصيب النفس البشرية (مرض نفسي) فيعجز المرء عن التكيف بشكل ما مع الآخرين.

ولكن أن يصيب المرض دولة بكاملها، ويلحق الشلل والعجز والعوز بأجهزتها جميعها، فهذا ليس بالأمر المألوف ومن الصعب تخيله. بيد أن المصريين (مثلهم مثل باقي شعوب المنطقة) أصيبوا منذ زمن بعيد بنوع خاص من الأمراض التي لا يمكن علاجها بسهولة ولا تحظى باهتمام ما، مالم تؤدي أولا إلى الخراب المادي والمعنوي للبلاد والعباد على حد سواء. إنه مرض خبيث أخذ مكانه بثبات في تشكيلة الوعي الجمعي لأفراد المجتمع، وأحدث خللا جسيما في المنظومة السلوكية للمواطنين، بمن فيهم العاملين في أجهزة الدولة ومؤسساتها العامة والخاصة. إنه مـرض " الولع بالألقاب ".

بدأ هذا المرض الوبائي منذ أكثر من 1500 عام مع غزو أجلاف الصحراء لمصر واحتلالهم لها أسوأ وأحقر إحتلال لم تشهد البشرية له مثيلا في أي مكان أو زمان، إذ عمد أولئك الأجلاف المنتصرون من البداية إلى إرغام المصريين على تغيير ديانتهم ولغتهم ومسح هويتهم الوطنية وغرس الغرور في نفوسهم على أساس خرافة "إخراجهم من الظلمات إلى النور" وانضمامهم إلى "خير أمة أخرجت للناس"، ومن ثم التمسح بهم والتماهي معهم بصفتهم "عربان" مثلهم. وهذا ما حمل البكباشي عبد الناصر على أن يخفي فشله السياسي في كل المجالات تحت شعارات كاذبة وخادعة مثل "العروبة" و "الأمة العربية" و "الوحدة العربية" وغيرها من الشعارات.

قسموا الناس تبعا لحكيمهم علي بن أبي طالب إلى ثلاثة: "عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى حصن وثيق".

ولكن لحسن حظ المصريين أن الأثر الاجتماعي والنفسي لهذا التقسيم الرديء ظل لمئات السنين لا يتعدى عتبة المساجد، حتى ابتليت بلادهم بالعثمانيين - الأتراك الذين احتلوها تحت شعار "الخلافة الإسلاموية" الكاذب. فقسموا المجتمع إلى نخبة مميزة من البشوات الأتراك المسيطرين ومعهم قلة من الأثرياء المصريين من ناحية، وباقي الشعب من الهمج الرعاع الخاضعين المقهورين، يتبعون كل ناهق ويميلون مع كل ريح من ناحية أخرى. وأصبح التباهي بالأصل التركي معادل للتباهي بالأصل العربي، وانعدم الأصل المصري الذي تنحني له كافة شعوب العالم المتحضر احتراما وتبجيلا.

لا ضرر من ذلك على الإطلاق طالما كان هناك احترام متبادل بين الفريقين، وكل منهما يمارس مهنته ويؤدي واجبه بما يمليه عليه وضعه الاجتماعي والثقافي، وطالما ظل طريق "البشوية" أو "البكوية" مفتوحا - لمن يقدر - على شراء اللقب، ليخلع نفسه من بيئته ويدخل في زمرة النخبة المميزة.

ولكن في عام 1952 قامت مجموعة فاشلة من ضباط الجيش بانقلاب عسكري أطاحوا فيه بكل مقومات الحياة المادية والمعنوية في مصر فتسببوا فيما نشاهده اليوم من خراب مادي ومعنوي على كل الأصعدة وفي كل المجالات. ولأنهم كانوا ثلة من الضباط الفاشلين في عملهم فقد استهواهم رونق السلطة الذي لا يضاها خصوصا في مجتمعات الهمج الرعاع، الذين يتبعون كل ناهق ويميلون مع كل هوى. لم يحترفوا السياسة من قبل ولم يقبلوا المساعدة من محترفيها، لم يكن لهؤلاء الضباط الذين سموا أنفسهم بـ"الأحرار" برنامج سياسي علي الإطلاق، لأنهم أساسا ليسوا سياسين، ورفضوا العودة إلى ثكناتهم وترك السياسة لمن يحترفونها، كما رفضوا العمل معهم. ولم يكن أمامهم طريق سياسي واضح غير الدخول في عصر الجماهير وتعبئة الغوغاء والرعاع من خلال الشعارات الخادعة والكلمات الرنانة. لذلك انخرطوا في مغامرات عسكرية وتجارب سياسية فاشلة من أساسها، وقاموا بأحداث هزة جذرية عميقة للمجتمع المصري بكامله، كانت نتيجتها صعود وهبوط وانحدار وانكسار وهروب وتشتت للمواطنين في كافة بقاع الأرض، فلأول مرة في تاريخ مصر يترك المصريون بلدهم للعيش في بلاد غريبة، تحولت مصر من دولة جاذبة إلى دولة طاردة، حتى لأبنائها، وبدأ يدب فيها قدر كبير من الفساد والانحطاط. فانقلبت الموازين وتمزقت النفوس وتحطمت المباديء وانهارت القيم.

إمتلأت نواصي الشوارع والأزقة والحواري وكل المناصب السياسية والاقتصادية والاجتماعية العليا للدولة باللواءات. وأصبح على المواطن العادي - كي يتغلب على البيروقراطية القاتلة - أن يصطحب معه أحدهم إلى المصالح الحكومية لاستخراج بطاقته الشخصية أو رخصة لقيادة سيارته ... إلخ. أضحوا هم السوبر بشوات الجدد. لقد أرخ الدكتور حسين مؤنس للفترتين في كتابه "بشوات وسوبربشوات الصادر عن دار الزهراء للإعلام العربي ط2 القاهرة عام 1988" ونقل صورة دقيقة لمصر في عصر "بشوات" حكم الأتراك وعصر "سوبر بشوات" حكم العسكر.

إن فترة حكم العسكر التي دامت 60 عاما تعد من الفترات الهامة جداً في تاريخ مصر والتي تم التعتيم عليها، ولم يجري تقييمها بموضوعية ودقة تاريخية حتى الآن. إن هذه الفترة هي التي أدت إلى خراب البلاد وانحطاط العباد وأفرزت نخبة ضعيفة وهزيلة في كل مجالات الحياة، وليس في المجال السياسي فحسب.

وتجدر الإشارة إلى أن عبد الناصر - بلا أدنى شك - لم يكن ينوي خراب مصر ، وأنه كان حسن النية في توجهاته السياسية، ولكنه كان جاهلا بما يجب عليه عمله ولم تكن لديه الكفاءة الكافية لذلك، ولم يكن على استعداد للاستماع إلى الآخرين. فالسياسة لايمكن أن تمارس في أي مكان في العالم بحسن النية، ولكن بناء على برامج عمل وآليات تنفيذ، ومتابعة وتقويم وتعديل يتفق عليها أغلبية المواطنين، حتى يتم الوصول إلى أهداف تنفعهم وتنفع دولتهم في المقام الأول.

في عهد السادات بدأ مرض الولع والتعلق بالألقاب في ازدياد بإضافة "المحمدات" إليه، فكان هو نفسه ممن تلقبوا بإسم: محمد. وظهرت على جبهته "زبيبة" الصلاة السوداء، والتي أزالها بعملية تجميلية في وقت لاحق من حياته. وسار على نفس المنوال مبارك وحاشيته من الوزراء جميعهم (تقريبا)، مع ملاحظة أن الزبائب السوداء لم تظهر على جباههم، كل هذا وغيره كان نوعا من المغازلة السياسية والنفاق الغبي للمتأسلمين السياسيين الذين كان عددهم ونفوذهم في ازدياد كل يوم.

قد يسأل البعض بتعجُّب: وما هو الغريب في هذا؟ إنه تطور طبيعي في أي مجتمع متخلف ومقهور، ويتبع كل ناهق ويميل مع كل هوى!!

صحيح، ولكن الغريب هو أن البشوات في عصرهم كانوا بشوات بالفعل، فكانوا يحترمون الآخرين ويحظون بالاحترام المستحق من الآخرين. أما السوبر بشوات، كانوا عسكر فاشلين في عملهم بالفعل، وأتوا بالفشل الذريع إلى أعمالهم الجديدة في مجالات الحياة، فانهارت القيم وتصدعت النفوس وتحطمت القلوب، وانتشرت العشوائيات في كافة أرجاء البلاد وغرقت القرى قبل المدن في طوفان عارم من التلوث البيئي والتلوث السمعي والتلوث الثقافي جنبا إلى جنب.

ولكن بلغ المرض أشده وازداد خبثه في المجتمع المصري بظهور لقب "الدكتور" الذي اكتسح القرى والمدن وغزا النفوس والقلوب.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد لاحظ كاتب هذه السطور أثناء وجوده في دولة آلـ سعود في بداية الثمانينات من القرن الماضي انتشار هذا اللقب، وشاء حظه العثر أن يعمل مع أحد حاملي هذا اللقب من أهل البلاد وكان وزيرا، بيد أن تصرفاته تنم عن جهل فاضح بكل شيء، وبالفحص والتدقيق إتضح أن هناك إعلان يظهر بين حين وآخر في الجرائد المحلية لمنح درجة الدكتوراه من كبرى الجامعات الأمريكية مقابل 600 دولار. بطبيعة الحال "دكتوراه فخرية" كالتي تعطى للزوار العالميين الكبار. فكان أي شخص يمكنه فك الخط أو حتى توقيع إسمه أن يدفع المبلغ، فتأتيه ورقة باللغة الإنجليزية مزينة وتحمل إسمه وقد وضعت في إطار مُذْهٓ-;---;--ب ليتقدم بها إلى "طويل العمر صاحب السمو الملكي الأمير" فيحصل على وظيفة عليا في الدولة، وهو لا يحظى بأدنى كفاءة علمية أو حتى مقدرة سلوكية.

في عهد الإخواني المتأسلم محمد مرسي العياط الذي دام عاما، بدأ يصعد لقب "دكتور" إلى قمة السلطة في البلاد، وطغت على المشهد العام وجوه لم يشهدها المصريون من قبل إلا نادرا، وجوه متجهمة تتدلى منها لحى كثيفة وغير مهذبة، وظهر خطاب سياسي فج وسفيه في أغلب الأحيان، وممارسات عامة وخاصة تتسم بالسفالة والانحطاط. أصبح فجأة في مصر لصوص ودجالون وزناه وقتلة بدرجة دكتوراه.
يتعلق الإنسان بالرتب والألقاب عندما يشعر بانعدام قيمته في المجتمع، ومن ثم يعتقد بأن الرتبة أو اللقب يعطيه قيمة أو يعوضه عن فقدانها. ولأن الإنسان هو الذي يعطي لجميع الأشياء من حوله قيمها، فعندما يفقد قيمته، تفقد كل الأشياء من حوله قيمها، يصبح الوقت والأهل والوظيفة والعمل والمال والأخلاق .... ألخ، بلا قيمة يعتد بها.



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الناس اللي تحت
- إنتو شعب واحنا شعب حكاية حزينة للغاية
- مصر والطريق إلى الديموقراطية
- الشيخ أحمد وزملاؤه
- أما آن الأوان للأزهر أن يتحرك؟؟
- بين هذا وذاك
- العربان المتأسلمون
- الشيطان الأكبر


المزيد.....




- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة
- زاهر جبارين عضو المكتب السياسى لحماس ومسئول الضفة وملف الأسر ...
- حماس: لا نريد الاحتفاظ بما لدينا من الأسرى الإسرائيليين
- أمير عبد اللهيان: لتكف واشنطن عن دعم جرائم الحرب التي يرتكبه ...
- حماس: الضغوط الأميركية لإطلاق سراح الأسرى لا قيمة لها
- الاحتلال يعقد اجتماعا لمواجهة احتمال صدور مذكرات اعتقال لعدد ...
- مسؤول أمريكي: قرار وقف النار وتبادل الأسرى بيد السنوار.. وقد ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - ياسين المصري - المرض المزمن الذي أصاب المصريين