أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بلال سمير الصدّر - رواية الضائعون















المزيد.....



رواية الضائعون


بلال سمير الصدّر

الحوار المتمدن-العدد: 4427 - 2014 / 4 / 17 - 22:51
المحور: الادب والفن
    


هذه الرواية مسجلة باسمي في دائرة المطبوعات والنشر الاردنية.....بلال سمير الصدّر

(الفصل الأول)
يوم أن كانت كل الحكايات مريضة....ويوم أن رحلت كل ذكريات الماضي، وقف سعيد متأملا على حافة الجسر، ينظر إلى زرقة مياه خيالية أسطورية، ويعد ِنقاط المياه التي تنثرها الطيور المهاجرة عن حواف ريشها....مثلما كان يعد في يوم من الأيام نقاط ضعفه وحالات يأسه ونكبات زمنه.
وقف ينظر....وينظر....ثم نظر مرة أخرى نحو الأمام....نحو الخلف....نحو الانحناءات الإنسانية كأنه يرسم لوحة تشكيلية........كالمرآة عندما تطبع قوام النساء، أو مثل الذاكرة عندما تطبع الحالات الذهنية الخالدة التي لا تمر في العمر لأكثر من مرة.
كان يريد طباعة اللحظات الأخيرة بعينيه، ويرسخها في ذاكرته، مثلما تطبع الكاميرا المشاهد كما هي من دون أي إضافات أو بدع جمالية تشوه المنظر وتهدم اللحظة.
هذا بعد أن يلاحظ المصور عظمة أللقطة وجماليتها، وبعد أن يصل إلى الهدف لتفعيل الخيالات المتأرجحة الخصبة والاندفاع نحو الجمال والاحتفاظ به على شكل صورة فوتوغرافية.
لكنه لم يصل إلى شيء يعبر عن لحظات الاختلاف, التي تبني في الإنسان حب الاكتشاف، ولم تعد لتلك المتناقضات التي تحرك الإنسان نحو أنواع مختلفة من الصراعات برأيه موجودة.......
كان يشعر إنه لا بد أن يتعمد الوصول إلى حالة من التركيز الذهني حتى تعاود تلك اللحظات موضعها إلى نفسه....لحظات النشوة....لحظات الاقتراب من الذات التي تغمز بعينيها لأحد مسارب الوجود.....
فجأة أحس أن جسده يطلب منه شيئا أعمى.....يطلب منه شيء يعود به ويكون قادرا على الإحساس بمنبهات الحياة.
أخرج من جيبه علبة حمراء مستطيلة، وسرعان ما أخرج منها عصا هشة بيضاء قصيرة لا يتراوح طولها طول الإصبع الواحد، ومد يده نحو معطفه ليخرج منه شيئا يشبه عود الثقاب، وبعد أن حكه بشيء ما قال عبارته المعهودة:
لن تكوني أبدا سيجارتي الأخيرة......
فجأة تحول نظره من عوالم الطبيعة التي تسبح فيها الطيور على مجاري الأنهار، إلى تجمع حاشد تخرج منه ضجة فظيعة أيقظت الحشرات في مساربها وجحورها.
نظر ببصره وأحس عند ذلك بالوجود غير المرئي يخرج من أنفاسه، وتحرك يدفعه حب للاستطلاع كان قبل لحظات قليلة يثير في نفسه القرف والغثيان.....لقد أراد مطالعة آخر ما أفرزته أحداث الحياة.....
مشي بخطوات بطيئة باردة، كارها أن تكون الخطوات والحركة ميزة أساسية من مميزات القلب النابض.....والسيجارة لا زالت في فمه تعبر عن حنقها من هذا الجو البارد بحركات راجفة غير مستقرة، بينما كان يضع يديه في جيوب سترته الطويلة المبطنة بالصوف في أنحائها الداخلية.... وعندما وصل شعر أنه وصل قبل الأوان.....حدّث نفسه: (ربما وصلت مبكرا )
وإذ بشخص يصرخ:يا إلهي إنها فظاعة....!!!
وإذ بامرأة أخرى تصرخ و بينات الحسرة واضحة على نبرات صوتها:لقد ماتت هذا كل ما حدث.....وشخص آخر من الجمهور العريض:
لابد أن تأخذ العدالة مجراها....لابد أن يجدوا القاتل ثم سأل....وربما سأل نفسه:
لكن ما الدافع إلى هذا العمل الفظيع.....
وقال أحد العقلاء بعد أن ألقى نظرة تملؤها الشك والريبة:اسألوا عن الغريب القادم إلى قريتنا؟؟!
كان سعيد ينصت إلى كل ذلك مركزا، متوقفة أعضاؤه عن الحركة أو حتى الإحساس، باستثناء أذنيه التي كانتا تسترقان السمع وفمه الذي كان يحمل بقايا رماد بالكاد كان مشتعلا.....
وإذ بأصوات رجال الشرطة تفرق الحاضرين وتطلب من الجميع المغادرة......
بينما كان سعيد غارقا في محاولات تأملاته، صرخ أحد رجال الشرطة في الشخص الوحيد الباقي من هذا التجمع:أنت أيها الغارق.....هل تبحث عن شيء ما؟
نظر إليه سعيد بعينين متناعستين متشككتين....رفع حاجبه الأيمن وقطب حاجبه الأيسر، أشاح بوجهه وتحرك في مكانه كأنه يريد العودة من نفس الطريق التي قدم منها من الجسر.....وخطا الخطوة الأولى نحو الأمام متجاهلا الصوت الذي سمعه قبل قليل، إلا أن ذلك الصوت (الضجيجي) أرّق حالته التأملية وأخرجه من الاستغراق في أفكار الجسد، وصرخ به: قف مكانك يا سيد؟!
تسمر سعيد في مكانه وعاد إلى حالته السابقة, عندما كان قبل لحظة واحدة فقط يرفع حاجبه الأيمن ويقطب حاجبه الأيسر......
لم يكلف سعيد نفسه مغبة السؤال، بل تسّمر في مكانه كالصنم منتظرا ما يريد هذا الشخص أن يقوله.....صرخ عادل به: تقدم نحوي يا رجل.....
لم يعلق سعيد على لهجة عادل الغاضبة الصارمة، ولم يبدي اهتماما واستغرابا من درجة ثقته بنفسه الزائدة عن حدها، ولكنه عامل عادل بإستحقار صامت عندما تقدم نحوه بهدوء شديد حتى لم يعد يفصل بينهما سوى خطوات قليلة.....وعندها توقف
رفع رأسه الذي كان متسمرا يلقي بنظرات عميقة نحو الأرض، كأنه يريد سبر أغوارها أو اختراقها ليصل بنظراته إلى مواقع الأرواح السفلى التي تصرخ باحثة عن الهروب من مرمى الجحيم........
وعاود تلك النظرات التي كانت موجهة بتركيز نحو عادل، بعد أن خلع قبعته الصوفية وحملها بين ذراعيه اللتان كانتا تنفردان أمامه....وظل لائذا متمسكا بالصمت.
وكأنه بصمته يوجه سؤالا بذيئا وقحا إلى عادل:ماذا تريد؟
نظر إليه عادل باستغراب لا ينم عن أي غضب وقال:مرحبا
وتكلف سعيد بالرد:أهلا.....
ضحك عادل....ثم ضحك....وعاود الضحك....وبعد أن فرغ من هذه النوبة وقال:
هويتك....إثباتك....أو أي شيء يخبر عن هويتك أيها المتواضع....؟!
قال سعيد بهدوء:حسنا سأعطيك إياها بكل تواضع.....وتابع سعيد كلامه:
ولكن تذكر يا حضرة الضابط أن تتعامل معي على أساس إنني شخص ما..إنسان.... مواطن، بأي صيغة تريدها تعبر في الوقت نفسه عن الاحترام المتبادل.
ثم قدم إليه سعيد ورقة صغيرة أخرجت عادل من لحظات ذهوله....وسرعان ما نطق
سعيد بركات....وتابع عادل نطق الإثباتات الأخرى
تاريخ الميلاد ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين.....وسرعان ما قاطعه سعيد وأوقف كلماته الساخرة قائلا:ماذا تريد مني؟
لقد عرفت أن اسمي سعيد وهذا كافي لحد الآن على الأقل
سأل عادل:ولماذا الاختصار؟!
سعيد باستغراب:لماذا الاختصار!!....اسم سعيد كافي كمدخل لما تريد أن تقوله لي
حسنا يا سعيد....قل لي ما سبب وجودك هنا؟!
سعيد:نوع من الفضول....نزعة غريبة لمعرفة أسباب التجمعات
عادل:وما الذي اكتشفته؟!
قال سعيد بلهجة تدل على عدم الرغبة بالحديث أو بالمتابعة:
لابد إنني شخص ذكي....لأنني اكتشفت أن هناك شيء ما خارج عن الطبيعة البشرية قد حدث....جريمة قتل ربما....
بعد لحظة صمت وجه سعيد نظرات عنيفة نحو عادل هذه المرة وقال:أليس هذا ما حدث؟!
نظر إليه عادل وعلامات الذهول من هول اكتشاف سعيد واضحة بادية عليه: نعم هذا صحيح...أرجوك تابع كلامك فأنا أستمع
سعيد:أرجوا أن لا تعتبر كلامي موصوم باللهجة الرسمية.....بالمناسبة ماذا تريد مني؟!!!!
عادل:أعتقد أنك أحد المشتبهين بهم....
سعيد:وكيف قدرت ذلك....؟!
نظر إليه عادل نظرة مختلفة....نظرة تنم عن استعلاء وإستحقار وقال:
ليس من المهم أن تعرف يا أستاذ سعيد....
لم يهتم سعيد لهذه اللهجة التي يخاطبه بها عادل، بل أزاح وجهه وعاد إلى هيئته السابقة وقال بكل برود:
سأوافيك بعد قليل إلى مركز الشرطة.....احتفظ بإثباتاتي حتى أعود إليك
قال عادل:بامكاني القبض عليك الآن.....لكن لك ما تريد وإياك أن تتأخر
تحرك سعيد ببطأ، تائها غير مقرر العودة إلى لحظات التأمل الجسرية، بعد جرعة المنبهات التي تناولها من عادل ومن الجريمة التي ألصقت به.
تحرك سعيد بخطا ثابتة فوجد أن قدماه تقودانه إلى المواجهة....تقودانه إلى مكان واحد.......
* * *
بعد عشر دقائق فقط دخل عادل إلى مكتبه في دائرة الشرطة، وكم كان مذهولا عندما وجد شخصا ما بانتظاره، وتمالك عادل نفسه وهمّ بالسؤال:
كيف وصلت بهذه السرعة؟!!
قال سعيد بلهجة آمرة:أدخل في الموضوع مباشرة....
عادل:أولا عليك أن تخبرني من أين أنت يا سيد سعيد....يبدو لي إنك لست من هذه البلدة؟
سعيد:هذا صحيح....أنا من البلدة المجاورة
عادل:متى حضرت وما هو سبب مجيئك؟!
سعيد:اليوم...لقد جئت اليوم، وسبب حضوري هو التنزه
عادل:مع من تعيش في بلدتك....أقصد هل أنت متزوج؟
سعيد:لا أنا لست متزوجا....ولكني كنت أعيش مع أبي الذي توفى منذ فترة قصيرة
عادل:وإلى أين أنت متوجه....أقصد هل لك وجهة معينة؟!
سعيد:في الحقيقة أنا لا أعرف
عادل:إذا أنت تريد الذهاب إلى مكان أنت لا تعرفه؟!
سعيد:عليك أن تصلح من تعابير كلامك، إن وجهتي هي مكان غير محدد ولم أفكر فيه بعد وليس كما تقول.....
عادل:لهجتك تدل على أنك لست من الفلاحين....هذا واضح أيضا من هندامك
سعيد:كنت فلاحا وأصبحت بعد ذلك من الملاك....
نظر عادل إلى سعيد لحظة وبدأ يحرك ذقنه كأنه يحلل شيئا ما يدور في ذهنه، ثم تابع أسئلته:لندخل في صلب الموضوع.....ماذا كنت تفعل في ساحة الجريمة؟
سعيد بكل برود:كنت أستطلع فقط....نوع من الفضول ليس إلا....بالمناسبة من الذي مات؟ّ
عادل:وهل من المفروض أن أرد على أسئلتك؟
سعيد:وهل من المفروض أن أرد أنا على أسئلتك؟!
صمت عادل لبرهة ثم قال:إنها فتاة في السابعة والعشرين من عمرها، يبدو أنها تعمل في مهنة مشينة.....في الليل طبعا
وتابع عادل كلامه:هل تريد أن تعرف كيف قتلت؟!
أومأ سعيد برأسه بالإيجاب، فتابع عادل:
ثلاث طعنات سكين متقنة, الأولى اخترقت الكبد، والثانية قريبة جدا من القلب ويبدو إنها لامست حوافه، والثالثة أحدثت ثقبا في الرئتين.....وبعد لحظة صمت تابع عادل كلامه مستغربا متعجبا:
وكأن القاتل قد أخذ وقته الكافي في التركيز وفي الطعن وفي التسديد....ثم قال عادل في نفسه:من الواضح جدا إنه يعرفها، وهدم سعيد لحظات تأملاته وقطع عليه حبل أفكاره عندما سأله:إذا ما الذي تريده مني....؟!
عادل:يبدو لي أنك شخص طيب، ولست من دائرة المشتبهين بهم، كل ما علي فعله هو أن أتأكد من صحة ادعاءاتك....أي أنك فعلا تقطن في البلدة المجاورة مع....
ثم سكت عادل واضعا قلمه على رأسه بحركة تدل على إنه يتذكر شيئا ما....ثم تابع:
مع والدك أليس كذلك...؟!!
قال سعيد:قلت لك أن والدي مات منذ فترة قصيرة
إذا كنت كذلك سأرفع عنك الشبهات، لأن القاتل من هذه القرية بل هو يقطن فيها منذ زمن....سأحتفظ بإثباتاتك ويمكنك أن تمر في الغد وتستردها.
قال سعيد:شكرا لك...سأمر في الغد
رفع سعيد وجهه المدور المحمر عن التسمر بالأرضية المبلطة ببلاط أسود ذو قطع صغيرة، كأنها الظلام مقسم إلى قطع هندسية، وبدأ يحرك قامته الفارعة.....هندم سترته الطويلة ونفض بحركة سريعة ما علق بها من غبار، وأدار وجهه بعد أن أرسل سلاما سريعا براحة يده إلى عادل، وباتت أقدامه تجره ببطء نحو المخرج.....
كانت مشيته تعكس اللون الحائر العالق بين البني والأسود، متأثرة بألوان تلك الملابس التي كان سعيد يرتديها......
وعالج سعيد لحظات خروجه بسيجارة أشعلها بيدين ترتجفان، فأوقفته قدماه عن المسير، وعاد ليشعر بانتمائه إلى قانون الجاذبية، وإنه لا زال شخصا....رجلا.... كينونة قادرة على التحكم بذاتها.....وعندما لامست عيناه باب المخرج، توقف سعيد من شدة الدهشة، وسرقت منه عيناه قدرته على التحكم في ذاته، وعاد ليتأمل مشهد الخريف هذه المرة....
رغم أن شتاء عام 1980 قد شارف على وسطه، إلا أن أوراق الشجر المتساقطة قد أماتت حسه الواعي، وألقت بحبات رمل في إدراكه الحسي، فبدأ ينظر من عتبة اللاوعي....بحاسة غير حاسة البصر....كان ينظر إلى الدنيا من عميق عميق ذاته...
كأن الألوان قد غابت أو ماتت وخلفت وراءها وريثا وحيدا يعبق بالون الأصفر.
فتلك الألوان المتساقطة أشعلت لونها في جميع أنحاء نواحي المدينة القديمة, بشوارعها الرمادية المليئة بالحفر، وأسطح منازلها التي تتراوح بين الجديدة والمنهارة، وتقف موقفا وسطا بين الكبر والصغر....
لقد تحول العالم إلى عالم مليء بالصفرة.....عالم تغطيه الصفرة.....حتى السماء انعكست ألوان الأرض إليها ونقلت إليها عدواها فصبغتها باللون الأصفر.....
هذا أول ما رآه سعيد عندما هم بالخروج من مركز الشرطة.....وظلت عيونه سابحة مطمأنة وهي خارج الجسد، تحاول البحث عن إجابات لأسئلة مؤقتة سوف تنسى عما قريب ويغطيها (اللامعنى) عندما تعود تلك العيون مجبورة مغصوبة إلى مآسي الجسد.
كانت السماء تتلاقط أوراق الخريف من على الأرض ومن على أسطح المنازل، تتلاعب فيها وتنقلها من هنا إلى هناك.....تغريها أحيان بالعودة إلى البدايات...إلى مسقط رأسها لتلامس الأرض من جديد محاولة إقناعها أنها اقتربت من الوصول إلى وطنها والمكوث في مسقط رأسها....لكن سرعان ما كانت تخيب ظنها وتتقاذفها وتوصلها إلى أعالي السماء....إلى مواطن الندم والاغتراب.....إلى المصائر المجهولة والطرق غير المعبدة، في دورة سرمدية منطقية لطبيعة متناقضة تسيطر بعض أجرائها على الأجزاء الأخرى.
تحرك سعيد نحو نقطة البداية، وقرر العودة إلى الجسر، لأنه كان متأكدا أن العودة إلى البدايات هي التي تنير الدرب الصحيح، وإن الخروج من المسارب المعتمة غير المحسوب حسابها يبدأ حين يعود الإنسان إلى نقطة بداية متصورة صحيحة.... حين يعيد الإنسان حساباته....حين يعود إلى ذهنياته وحلول عقله....
يمشي ببطء والريح تعبث به من كل ناحية، حتى شعر أن هناك شيئا ما قد ضاع منه، حين بدأ رأسه يطلق وخزات تشبه وخزات الإبر تخبر سعيد أن رأسه هو العضو الوحيد في جسده غير المغطى أو محمي بأي قطعة تهبه الدفء...حين أحس سعيد بألم البرودة اكتشف أن قبعته التي كانت تدفئ رأسه قد ضاعت
وسرعان ما تطور ذلك الألم وتلك النخزات إلى صداع قاس.....
ورغم ذلك لم يرفع سعيد رأسه ولم يستيقظ من انحنائه، ولم يسمح لأي شيء أن يلفت انتباهه......أي حدث في هذه المدينة، التي تختلط فيها روائح تلوث المدينة وفي نفس الوقت نسمات الريح العليلة.
ظل محدقا في الأرض.... كأن الأرض بانحناءاتها ور سماتها غير الواضحة عبارة عن مسرحية شيقة يتابعها سعيد بهدوء وانتباه شديدين.
كل وحولات الأرض وتعرجاتها.....كل مساربها الطينية... كل أرصفتها المختلطة بأوراق الشجر، وغبارها المختلط بأنفاس الفلاحين القادمين من نواحي المدينة والمدن الأخرى محملين بمختلف أنواع ما تنتجه الأرض، باحثين عن مكان يسوقون فيه منتجاتهم....
تلك الأرض المختلطة بأحذية العابثين، تحولت إلى حكاية تأملية تدور أحداثها على شاشة سينمائية كبيرة جدا يصل مداها إلى مساحة قطعها سعيد مشيا على الأقدام بربع ساعة حتى وصل إلى الجسر......
وقف نفس وقفته الأولى....حاول عبثا استرجاع تأملاته، ولكن كل ما رآه وأحس به هو قطرات المطر التي بدأت رياحينها بالتفتح والسقوط، وصوت وساوس رأسه المتألم من شدة البرد.
كل هذا أعطى لسعيد حجة منطقية لإبطاء تطوره حين رأى بعد أن عاين ما حوله إشارة تدل على وجود فندق قريب.....
عاد سعيد إلى حركاته المحسوبة وخطواته البطيئة التي كانت هادفة هذه المرة.... وأثناء مسيره صادف رجلا عجوزا متكوما منكمشا على نفسه من شدة البرودة التي يشعر بها.....يجلس صامتا فاقدا الأمل بأن تتحول بضاعته التي أمامه إلى أي نوع من النقود أو القطع المعدنية التي تسد الرمق أو الحاجة.....
التقط سعيد شيئا من أمام هذا الرجل، ولم يعدل هذا الرجل من جلسته ليستقبل ضيوفه، بل ظل هادئا ساكنا مركزا نظراته بعمق وقوة نحو يدين سترمي له بقطعة نقدية ثمنا لسلعة لم تعرف قيمتها بعد....وكان الثمن كبيرا غريبا لفرط ضخامته....
وضع سعيد يديه على رأسه وارتسمت ابتسامة عابرة على شفتيه تعبر عن فرحه بممتلكاته الجديدة، والتي ربما ستعطي رأسه بعض الراحة وتعمل كمسكن للألم.
نظر سعيد إلى هذا المبنى الحديث المزركش البادي على شكل عبق قادم من القرن الثامن عشر....
أعمدة رخامية بيضاء تغطيها خطوط طويلة تفصل بين أنحائها، والمدخنة الحديدية التي تتوسط أحد زوايا سقف المبنى.....ذلك الدرج الخشبي الشبيه بأدراج حانات رعاة البقر التي تظهر في أفلام الغرب الأمريكي بالإضافة إلى الأسدين اللذان يقفان حارسان عن يمين الدرج وعن شماله.....
تلك الباحة الشبيهة بالبستان الذي تنمو فيه نباتات متشككة غير محددة موقفها تتذبذب بين الخضرة والصفرة، والباب الأسود الضخم الذي يتوسطه شكل على هيئة ديناصور أو حيوان أسطوري يفتح فمه ويخرج لسانه الرهيب، ويتوسط لسانه عين سحرية تسمح لأصحاب الفندق بالنظر من خلالها لمعرفة قدرهم القادم.....
كل تلك المعالم أكدت لسعيد إنه في عالم خيالي وهمي، يخلط بين الواقع والخيال، وبعد أن تأكد تماما أن اليد الذهبية التي تستخدم للطرق على باب الفندق ليست إلا عبارة عن تراث قديم، أو ربما جزءا غرائبي من هذا الفندق، وضع يده بهدوء على مفتاح صغير مدور تحيط به دائرة حمراء أكبر منه، فخرج صوت يشبه صوت قرع الجرس.
لم ينتظر سعيد الرد، بل دفع هذا الباب الضخم وهمّ بالدخول....وأول شيء وقع عليه بصره أثناء دخوله امرأة ذات شعر أشقر مقرف يميل إلى اللون الأبيض من شدة اصفراره، متوسطة الطول، ينقصها شبر واحد أو ربما أقل لكي يصبح بالامكان نعتها بالقصر، تضع على وجهها أطنانا من المساحيق لكي تخفي عن وجهها تجاعيد نهاية الأربعين.....ترتدي بنطا لا أسود مصنوع من القماش، يعلوه قميص أحمر اللون في وسطه منديل أزرق يلتف حول رقبتها، إلا أن نعومة صوتها خففت عن سعيد رغبته الشديدة بالتقيؤ، عندما سألت:
أهلا بك يا سيد في فندق الأعمدة البيضاء
قال سعيد بنبرة هادئة:هذا واضح....اسم يكتسب صفته من أعمدة شرفات المبنى
قالت السيدة وابتسامة واضحة تظهر على شفتيها الغليظتين:
هذا أمر لا يحتاج إلى دقة ملاحظة.....
ابتسم سعيد، وأدار رأسه بنظرة فاحصة للمكان الذي قد يستقر فيه، وأول ما لاحظه هو الغبار الذي يغطي معظم أرجاء المكان، فعرف وتأكد -خاصة بعد أن رأى هذه السيدة- أن هذا الفندق لا يأوي سوى الحقراء من العوام....أولئك البشر الذين هم أعلى بدرجة واحدة من المشردين.....
أما الاحتمال الثاني الذي وضعه سعيد تفسيرا لحال هذا الفندق المزري، هو أنه يعاني من نكسة اقتصادية شديدة.
قال سعيد:أريد غرفة لفترة ما.....ربما تستغرق أسبوعا أو أكثر
قالت السيدة:وعلامات الحدة واضحة على طريقة كلامها:
أي نوع من النزلاء أنت؟
سترتك من النوع غالي الثمن....لا أعتقد أنك من الفلاحين، فهل أنت من السكارى الذين يبحثون عن مكان لقضاء بقية ليلتهم؟.....لا يبدو لي ذلك أيضا
لم يكن سعيد بحاجة إلى الاستفسار عن سر هذه الأسئلة....فقد كان واضحا أن هناك غرفا خاصة لنوع معين من النزلاء التقليديين كالسكارى الذين تحدثت عنهم هذه السيدة قبل قليل، أو الذين يأتون في وقت معين من السنة في كل عام مثل الفلاحين.
قال سعيد:أولا, فتخمينك صحيح لأن سترتي كما قلت من النوع غالي الثمن وهذا يدل على أني لست من الفلاحين، كما إني قلت لك بأني سأقضي هنا مدة, قد تستغرق أسبوعا أو أكثر.
نظرت السيدة له باستغراب شديد, وأزاحت رأسها إلى ناحية اليمين وأغلظت شفاهها كأنها تريد أن تسأله:من أنت؟
قال سعيد بعد أن فهم فحوى حركاتها:أنا زائر من القرية المجاورة.....قرية القصر
السيدة:أهلا وسهلا بك، سأعطيك غرفة واسعة خاصة للزوار فقط ممن هم من أمثالك، وهي أكبر غرفة في الفندق....
ثم أرادت هذه السيدة أن تكمل من سردها عن الميزات الأسطورية لتلك الغرفة، ولكن سعيد قاطعها قائلا:حسنا....حسنا أوافق
ابتسمت السيدة وقالت:هذا جيد....اسمي أحلام وسأكون مضيفتك طول المدة التي ستقضيها عندنا في الفندق.
تمتم سعيد ببعض الكلمات:يبدو لي أنك حليمة ولست أحلام؟!!!
قالت السيدة غير مصغية أو مهتمة بتمتمات سعيد:هل معك أي إثباتات شخصية لتسجيل المعلومات عنك....هذا إجراء عادي كما تعرف
قال سعيد بعد أن وضع رزمة من النقود على الطاولة:
لا...إن إثباتاتي محجوزة في مركز الشرطة, فأنا في الحقيقة أحد المشتبهين بهم في جريمة قتل حدثت في مدينكم هذا الصباح.....وتابع سعيد كلامه:
ولكن لا تخافي فسأسترد أوراقي الثبوتية في الغد......وبحركة سريعة تناول سعيد من يدها المفتاح المزخرف المعنون بالرقم ثلاثمائة وخمسة وهم بالصعود إلى الطابق العلوي آملا بالخروج والابتعاد من هذا العالم الزهري الذي طليت به جميع جدران قاعة الاستقبال، وعندما اختفى سعيد بين ضباب عالم الطوابق العلوية، أمسكت أحلام بسماعة الهاتف مباشرة:ألو....السيد عادل مدير مركز الشرطة لو سمحت
* * *
عندما وصل سعيد إلى غرفته تحققت أول أمنياته في المدينة القديمة، فقد كانت جدران الغرفة -التي كانت واسعة كما وصفتها المدعوة أحلام- مغطاة بورق جدران مزين بأشكال هندسية تتراوح بين المربع والمثلث وتتوسط هذه الأشكال بقع سوداء مدورة.
بالإضافة إلى دولاب كبير ضخم مزخرفا بشكل جميل وبطريقة فنية يدوية بشكل محترف متقن يدل عن إتقان الصنعة.
خشبه ضخم أيضا، سميك، ومن الزان الأسود الأصيل، ولكن كان ينقصه شيء واحد فقط هو الكتب.
لم يكن هذا الدولاب الذي ربما يتسع لألف كتاب يحوي في داخله أي كتاب أو أي مخطوطة من نوع آخر، بل كان مغطاً بالغبار وزواياه تحيط بها شباك العنكبوت من كل ناحية، وأتضح لسعيد فيما بعد أن هذا الدولاب لم يكن يستخدم لحفظ الكتب بل لحفظ زجاجات الخمر وبعد أن انتهت وظيفته لسبب ما لم يعرفه سعيد، نقلته السيدة من الطابق السفلي إلى هذه الغرفة، بعد أن أصبح عالة عليها وعلى الطابق الأرضي الذي كان يشغل حيزا كبيرا منه.
كان هذا الدولاب يتوسط بين مدخل لغرفة سعيد وباب غرفته المطلي باللون الزهري أيضا، محدثا غرفة صغيرة تتوسط المدخل والغرفة الرئيسية التي كان سعيد ينام بها.
غرفة يتوسطها سرير مزدوج، ويرتكز إلى أحد جدرانها خزانة قديمة جار عليها الزمن، ولا يفصلها عن التآكل والانهيار الكامل سوى خطوات قصيرة.
هذا بالإضافة إلى كرسي خشبي ملقي في أحد زوايا الغرفة تحت طاولة حديدية ملامح الصدأ والاهتراء واضحة بادية عليها.
من هذه النظرة السريعة التي لم تكن بحاجة إلى تأمل أو طول تفكير، عرف سعيد أن فندق الأعمدة البيضاء ينظر إلى الفلاحين على أساس منتشر منذ آلاف السنين....
ويعتبر في بعض الأحيان موضوعي, خاصة إذا كان ينم عن خلفيات فوقية أو أرستقراطية...... فهذا الفندق لا يصلح إلا للحقراء.
لم يكن سعيد من تلك الفصيلة البشرية التي تهتم بدقائق الأمور كثيرا، ولا بتفصيلات الحياة أو حتى هوامشها، فأقفل الباب من الداخل، وتأكد في نفس الوقت أن باب شرفة غرفته ذات الأعمدة البيضاء مغلق أيضا....
استلقى سعيد على سريره شاعرا بنوع من الطمأنينة التي لم يشعر بها منذ فترة طويلة، ودفعه هذا الشعور إلى الاستغراق في نوم عميق.... عميق جدا.
















{الفصل الثاني}
كانت قرية القصر، قرية زراعية صغيرة تابعة بامتدادها الجغرافي إلى المدينة القديمة
حيث تعتبر هذه الأخيرة مركزا للقرى المجاورة، والمكان الذي يحب أن يتوارد إليه الباحثين عن السعادة، بينما كانت مدينة القصر أشبه بالمزرعة الضخمة التي تنتج مختلف أنواع المحاصيل التي تتميز بالوفرة والنضج، مما يجعل أمر تسويقها سهلا في المدن الأخرى المجاورة وخاصة المدينة القديمة، التي تعتبر أكبر مركز لبيع وشراء المحصول بين القرى الأخرى التابعة لها مركزيا, مما جعل من النادر أن يعاني أهل قرية القصر من الكساد في لأنهم يبيعون منتجاتهم بناء على التوصيات المسبقة.
أما أشهر المزارعين في قرية القصر، فهو شيخ عجوز، قوي البنية عريض الجثة، أسمر البشرة، ذو وجه طويل يتناثر عليه نقاط من الشعر الأبيض، ورغم تجاوز عمره عن المائة عام إلا أنه كان قادر على جر عربة لا يقوى بغل شاب على جرها.
لقد كان الشيخ بركات إحدى معجزات تطور الإنسان من فصيلة الحيتان الضخمة إلى فصيلة البشر، أو ربما -كما كان يدعوه أهل القرية-إحدى نتائج عمليات الاستنساخ الناجحة عن ثور.
إلا أن قوته بدأت تخور وتضعف عندنا توفت زوجته أسماء وهي لا زالت في سن الخمسين الذي كان عمرا متوسطا بالنسبة لأعمار أهل القرية، بعد أن عانت الأمرين من قسوة زوجها وتحجر جمجمته، ولم تستطع الصمود أمام عناده وجديته خاصة إذا كانت في الأمور التي تخص الأرض....لم يكن بركات يرحم أحدا
كان يقول لها دائما عندما تتذمر من قسوة تعامله معها ومع جميع أولادها:
أنا تزوجتك صغيرة، وأكرمت أبويك بمهر لم يدفعه شخص في القرية لعروس من قبل، من أجل أن تساعديني فقط في أعمال الأرض.
كان يقارن عملها بالأرض بعمل البغل الذي يمتلكونه، فكان محدد لها أن تعمل في اليوم بمقدار نصف الأعمال التي يستطيع أن يقوم بها البغل...... كانت بالنسبة إلى لبركات نصف بغل لا أكثر.
استطاعت أسماء حين كانت شابة أن تصمد، واستطاعت أن تنجب له خمسة ذكور، ولكن كان سن الخمسين سنا منطقيا جدا لحلول أجلها بالنسبة إلى ما ذاقته من بركات.
بعد أن توفت أسماء شعر بركات بالندم، وعانى من نوبات حزن وتأنيب الضمير، شاعرا بالذنب، محملا نفسه مسؤولية موت أم أولاده الخمسة، وبدا له أن شعوره صحيحا وأن زوجته توفت بسبه، لكن القدر لم يعطي بركات فترة كبيرة للتفكير في أخطائه أو حتى في تصحيح أخطائه، بل كان القدر مسئولا عن محاكمته، لأنه بدأ يفقد مملكته وجنة حياته دفعة...دفعة.
كان الولد الأكبر أرعنا وقحا، لا يخاف من أي شيء، ولا يعطي أي قدر من الاحترام الزائد للآخرين، حتى لو كان هؤلاء الآخرون هم (والده).
فوقف وقفة النزال مع بركات بعد أيام قليلة من موت والدته وصارحه بالحقائق الخفية والكلمات المكبوتة......
أنت السبب بموتها....لقد طلبت منك الشفقة والرحمة ولكنك رفضت....
طلبت منك الراحة بعد الخمسين بعد أن شبعت من ما تناولته من تراب الأرض وما شربته من طينه، ولكنك رفضت.....رفضت أن تهبها الرحمة ظنا منك أن القدرة لا زالت لديها لمواصلة العمل الشاق الذي كنت تفرضه عليها....ظنا منك أنها تمتلك القدرة على التحمل مثل البغل...أو ربما مثلك
لقد قتلتها وكنت السبب في موتها....
ظل عمر الولد الأكبر يتابع كلامه فيما كان بركات ينصت لما يقوله بكل هدوء، كأن الذي يتحدث يهمس بنصائح حسنة، أو ربما كان صفيرا للريح ينبأ بعاصفة قادمة.
هذا الهدوء وعدم الاكتراث اللذين أظهرهما بركات، دفعت عمر إلى الموت من شدة الغيظ، ولم يتمالك نفسه وتقدم محاولا التهجم عليه.
نظر إليه بركات بشدة وبحزم، وأوقفه بيده التي التفت حول رقبته، وبدأ يضغط بشدة على تلك الرقبة حتى كاد عمر يختنق، فطرحه بركات أرضا ثم قال له:
لولا الرحمة التي كنت تتحدث عنها وتطلبها قبل قليل لقتلتك, وتابع بركات:
أخرج من أرضي....لا تعود وإلا اعتبر نفسك ميتا لا محالة.
كل ما عرفه بركات وأولاده عن عمر منذ ذلك اليوم إنه قد سافر بعيدا، إلى مكان غير موجود على هذه الأرض، ولم يجرؤ أحد من أولاد بركات على التلفظ باسمه أمام والدهم منذ تاريخ سفره، أي في أواسط عام 1976خوفا من عقاب بركات الشديد له.
بعد عام واحد فقط من سفر عمر، مات إحسان الولد الثاني لبركات متأثرا بلسعة من أفعى ضخمة لم يرى أحد من قبل مثلها لفرط ضخامتها، وكل من رآها أكد أن هذه الأفعى لا تظهر إلا بأمر روحي لمعاقبة أحد الفاسقين أو المفسدين في الأرض.
منذ ذلك اليوم ظن الجميع أن أللعنة قد حلت ببركات وأولاده وأن يد الله تنتقم من بركات وتعالج عناده بأولاده.
لم يهتم بركات بمثل هذه الأمور، ولم تأثر عليه هذه الكلمات التي أعتبرها مجرد خزعبلات، وبقي صامدا واقفا على أقدامه رغم طعنه بالسن، ورغم كل الظروف ولم يتقاعس في يوم ما عن إحياء الأرض.....لكن الأرض كانت تخونه وترفضه, وتحيك المؤامرات ضده عندما اضطر إلى بيع ما يقارب ربع الأرض لمعالجة ولده الرابع في الترتيب الذي يدعى سعيد من مرض عضال ألم به.....
خرج سعيد من ذلك المرض واهنا ضعيفا، وتضاءل حجم الأرض أكثر وأكثر، وزاد ضعف بركات في الوقت نفسه ولم يهبه الزمن القدرة على المتابعة.....
كان كلما يشعر بزيادة مقدار ضعفه، يصيبه الغم ويفقد جزءا من لسانه فيقل كلامه وتزيد إشاراته..... وظلت الأيام تقتلع من لسانه حتى خضع للصمت ولم يعد ينطق بأي كلمة.
ترك بركات الأرض واشترى كرسيا هزازا عاليا، وضعه على باب منزله الخشبي، واكتفى بالجلوس من أول النهار حتى آخره، يراقب أولاده وهم يتقاسمون أملاكه ويوزعونها فيما بينهم بينما لازال هو على قيد الحياة.
قرر عمران الولد الثالث لبركات بيع الأرض، ورفض سعيد التعليق على ما آل إليه أخيه، وكان موقنا أن أخوه عمران يكرهه، وليس هناك من شيء سيجعله يشعر نحوه بأي حنان، كما أن بنيته الضعيفة وقوته الخائرة نتيجة لما خلفه له مرض (السل) أجبرته على الصمت وعدم محاولة إطفاء نيران الانتقام داخل صدر أخيه عمران.
لذلك لم يبقى في مواجهة عمران إلا علي، الأخ الأصغر لعمران والولد الخامس في الترتيب، فقرر التمرد على ما يريد عمران فعله رغم إنه لا زال في السادسة عشرة من عمره، ورفض التخلي عن الأرض أو عن حصته فيها، كما رفض بيع أي جزء منها، متمسكا بمبادئ أبيه وارثا لها، مدفوعا بقوة الشباب والفتوة في الإصرار على قراره....
وعلل عمران موقف علي هذا، بأن علي لا زال شابا صغيرا، لم يذق بعد مرارة العيش مع أبيه يوم أن كان ديكتاتورا متجبرا.
لم يأبه لكلام أخيه الأصغر، ولم يعطيه أي اهتمام زائد عن الحد, ظانا إنها فورة غضب ستزول عندما ترضخ للأمر الواقع....
في يوم، بينما كان سعيد وعلي منهمكان بزراعة الأرض وبركات يجلس كعادته على كرسيه الهزاز، يراقب ويعد آخر أيام عمره، مبحلقا متسمرا في مكانه معلقا نظره في خط مستقيم.....يحاول أن يري ما وراء هذه الاستقامة، كأنه يختبر قوة نظره أو الحاسة الوحيدة التي بقيت له بعد أن فقد صفة الكلام وصم أذنيه عن السمع.
كان مشغولا بالتفكير والتأمل والتساؤل عن الذي يقع خلف تلك الصخرة.....كم كان يتمنى أن يرى أبعد من تلك الصخرة.
كم تمنى أن يخترق نظره تلك الصخرة ويفتتها ليرى ما أبعد منها، وعند ذلك يعلن انتصاره الأخير....وفي ذلك اليوم أعلن بركات انتصاره الأخير....
لقد استطاع بركات النفاذ ببصره إلى البعيد.....إلى ما أبعد من تلك الصخرة وما خلفها....
لقد رأى شخصا ما وكان يعرفه، ويحفظه عن ظهر قلب، ومعه شخصا آخر يلبس ثيابا غريبا أنيقا.
لقد عرف ومن الوهلة الأولى أن أحد الاثنان هو ابنه عمران، أما الشخص الثاني فلم يشغله باله كثيرا به، ولم يحاول التركيز بشكل أكبر أو يغرق بصره أكثر في محاولة للتعرف عليه، بل أغمض عينيه مقررا أن يريحهما من عناء الرؤية، بعد أن حققتا له أمنيته الأخيرة وتوجتا له انتصاره الأخير، فأغمض عينيه وغط في سبات عميق أراح فيه عينيه من عناء الرؤية، لكن جسده بقي مستيقظا يهتز بشدة في مكانه، كأنه يطلب من بركات الحركة واسترداد قوة الأيام الغابرة.....ولكن منذ متى كان الجسد آمرا للروح؟!.....بل منذ متى كانت الروح تتلقى الأوامر!!!
وصل عمران إلى الأرض، وخطا خطوات ثابتة واثقة من نفسها، متجاهلا أخواه اللذين كانا يعملان في الأرض، جاعلا نفسه كمن لا يراهم.
بدأ عمران يؤشر بيديه نحو محيط الأرض، ومن طريقة كلامه، بدا واضحا إنه يلقي بمحاضرة تفصيلية عن ما تحتويه أهم دقائق الأرض....
عندما لاحظ علي ذلك تحرك مسرعا ونية الشر واضحة في عينيه, بادية في حركته، ولم يكن سعيد بحاجة إلى دقة أو حسن إطلاع لكي يعرف أن الشرر يقدح من عيني أخيه، وحاول سعيد أن يهدأ من روعه، ويمسك به ولكن قوته خانته وتغلبت عليه روح الصبا التي كانت تشع من داخل علي ممزوجة بجبروت التراث وعظام السنين.
صرخ عمران به محاولا منعه:أريد بيع حصتي في الأرض فقط، لن أعتدي على حصة أي واحد منكم.
رد علي بحدة وقال له:لن تبيع أي شيء، ولن تقسم أرضنا
في نفس اللحظة حمل علي معولا وحاول ضرب الرجل الذي أحضره عمران معه، ولكن هذا الرجل لا ذ بالفرار فأراد علي اللحاق به، لكن عمران أمسك به ومنعه بعد أن أحس بالغضب يتدفق إلى كل عضو في جسده، فامسك علي وطرحه أرضا متناسيا متغافلا أن هناك معولا يحمله علي بين يديه، فعالجه علي بضربة سريعة، حققت لعمران إصابة بالغة سقط إثرها على الأرض غير قادر على المكوث واقفا، أو قادرا على منع تدفق سيل الدماء الذي بدأ يتدفق من قدمه بغزارة.....
وبعد لحظة بدأ الجو يعبق بالهدوء والتأمل......
كان علي لا زال في مكانه، مرميا متمددا على الأرض والمعول بين يديه، وصوت لهاته هو الصوت الوحيد الواضح في هذه اللحظات التي تمر بسرعة شديدة، بينما كان عمران غارقا في دمائه فحدث ما لم يكن متوقعا.

أخرج عمران مسدسا من كم سترته وأطلق رصاصة واحدة على مرمى نظره، فاخترقت رقبة علي وخرجت من الجهة الأخرى.
ولم يعد الجو يعبق بصوت اللهاث بل بالصمت المطبق............
كان سعيد يراقب كل ما يحدث، أفقدتهه الدهشة القيام بأي ردة فعل، وبعد أن استيقظ من سباته كان عليه التفكير بسرعة......
دخل سعيد إلى المنزل وخرج مسرعا وفي إحدى يديه صرة كبيرة، وتحرك صوب عمران موجها إليه الصرة قائلا:
خذ هذه, ففيها كل ما نملك من نقود....خذها وأذهب واختبأ في الغابة، وبعد أن توقف نزيفك لذ بالفرار بعيدا.....
لم يعلق عمران على أي كلمة قالها سعيد له، بل تحامل على نفسه واستطاع الوقوف وبدأ بالركض برجل عرجاء تنزف دما, وقدم أخرى بالكاد كانت قادرة على المسير
ركض عمران، ولاذ بالفرار بعيدا كما قال له سعيد.....هرب إلى الأعماق.....الأعماق التي لا تستطيع أن تراها عيني بركات مهما ألحت بتنفس عبق الانتصار الأخير....
وأكمل سعيد خطته، وحمل جثة أخيه بين يديه وهم بالركض هو الآخر إلى خلف المنزل.......
* * *
في المساء, عندما كان الظلام يبعث إلى الدنيا إشارات اقتراب الرعب، وانتصار الخوف على الطمأنينة، استيقظ بركات على صوت سعيد وهو يلهث بشدة والعرق ينصب منه تباعا.
كان بركات متأكدا أن هناك شيئا ما قد حدث، لكنه لم يكلف نفسه بالخروج عن صمتها بالسؤال أو حتى الاستفسار عن شيء لا تعرفه....
دخل سعيد وهو تعب جدا إلى المنزل، بعد أن قام بحفر حفرة كبيرة وصل طولها إلى متران وعرضها إلى متر واحد، بينما بلغ عمقها أكثر من متر واحد، أردى فيها جثة أخيه، من دون أن يصاحب دفنه أي طقوس مقدسة.
دخل إلى منزله تعبا، لدرجة إنه لم يستطع أن يكمل المسافة من مدخل منزله إلى سريره، فارتمى على الأرض مستلقيا على بطنه في أحد زوايا المنزل وهب في سبات عميق..
استيقظ في الصباح الباكر، فوجد والده يستعد لجلوسه النهاري الطويل على كرسيه الهزاز، فوقف سعيد في مواجه أبيه وأحنى قامته ووضع عينيه في عيني والده الصامتة غير القادرة على الحركة، وقال له:
لقد سافر عمران....سافر إلى مكان بعيد جدا وقد لا يعود منه أبدا
كان سعيد يريد أن يتابع كلامه ويخبر والده بقصة كاذبة عن رحيل علي المفاجئ ولم يشأ أن يخبره بأنه قد مات، ولكن بركات لم يعطه الفرصة لأنه أشاح بوجهه متخلصا من تحديق سعيد بعينيه، وحرّك يده علامة عدم الاهتمام.....
كان بركات يعرف كل الذي حدث، وبنظرات خاطفة لم يفهمها إلا سعيد تلقى سعيد أمرا صارما من أبيه بالسكوت والصمت النهائي عن ما حدث، وكأنه سراب أو نوع من أحلام اليقظة غير المتوقعة التي تحدث لمرة واحدة....

بعد تلك الحادثة، بدأت التحولات في مجرى حياة سعيد، عندما صار آمرا ناهيا على أرض كان يملكها من قبله ثمانية أشخاص، فعين الكثير من العمال، وعين شخصا يثق به مراقبا عليهم، بينما اكتفى هو بشراء كرسي هزاز كبير يشبه الذي اشتراه والده في السابق، ووضعه بجانبه متأملا مثله طوال النهار، مراقبا العمل في أرضه في نفس الوقت.
حاول مرارا وتكرارا أن يكلم أبيه ولكن من دون جدوى.....
قال له ذات مرة:ها أنا أحقق أحلامك وأبني أرضك وأعيد طلائها من جديد....
وها هو محصولك قد زاد وكبر حتى صارت مزرعتك أكبر مزرعة في القرية ولم تبقى بقعة في أرضك لم يصلها ورق النبات....ألا يسعدك هذا؟!
ولكن بركات أشاح بوجهه كعادته ولاذ بالصمت
بينما لم ييأس سعيد وحاول جاهدا، واستغرق جميع الحيل لإقناع والده بالعدول عن صمته....كان يسأل نفسه دائما مستفسرا عن الحيلة التي سترده عن صمته وتحقق له السعادة.
قال له مرة ثانية:
سأعمل على شراء قطعة الأرض ذاتها التي بعتها لكي تعالجني من مرض السل.....
ومرة أخرى ثالثة:
سأعمل على توسيع الأرض حتى تصل حدودها إلى أقصى بقاع الأرض.....
ومرة رابعة:سأهدم المنزل وأبني منزلا آخر يليق بك بعد أن صرت سيدا للقرية...
وظل يحاول ويعيد ويكرر الكرة...خامسة وسادسة وسابعة وثامنة....
لكن بركات رفض الكلام أو حتى الابتسام كأدنى درجات التعبير وردود الفعل على اقتراحات ولده.
لكن الملل لم يصب سعيد، ولم يكن ليصيبه لولا أن هناك هواجس أخرى ألمت به، واستبدت بدقات قلبه، وأصبحت تستغرقه وتسيطر على تفكيره....
بدأ يشعر بشيء ما، لم يستطع تقديره أو إعطائه أية صفة.....شيء ما مختلط متخبط ينمو في داخله لا يعرف كهنته ولا سببه ولا حتى مصدره....
بدأ يفقد قدرته على التركيز، واستغرق في حالات طويلة من التأمل شارد الذهن، تنطبق عليه صفة النسيان والحاجة إلى شيء ما.... وسرعان ما تحولت تلك المشاعر إلى كوابيس سببت له أرقا طويلا، واكتئاب أضفى عليه حالة من الجمود الفكري، فاق في بعض الأحيان حالة الجمود التي سبقه إليها والده....
لم يكن قادرا على اكتشاف ما الذي حل به، وما الذي تغير في دقات قلبه، إلا في ذلك اليوم الذي قرر به الذهاب إلى الغابة بعد أن مل من جلوسه الطويل على كرسيه الهزاز.
مشي سعيد صوب الغابة، ولكنه لم يكن يعرف لماذا أو إلى أين بالذات، لكن مسيره قاده في النهاية إلى شجرة كبيرة تتناثر تحتها أوراق خضراء كبيرة أيضا، فقاده شيء ما إلى الجلوس تحتها
متوكئ بظهره على جذع تلك الشجرة الضخمة، وبدأت يديه تتحرك حركات بطيئة.تزحف، وتتحسس بزحفها أرضا رطبة....كأنها تبحث عن شيء ما، وقادها بحثها إلى أن تمسك ورقة خضراء كبيرة وتجرها بسرعة نحو صدر سعيد.
في نفس الوقت شيء ما دفع سعيد إلى الاستلقاء والتمدد بعفوية....
بدأت يديه تسرق أوراق الشجر، وتمررها على جسده بحنان دافئ وبهمجية معلنة صريحة كأنها حالة من رجوع ذات الإنسان إلى أصلها البدائي أو الحيواني.....
بينما تلك الأوراق تتمشى على جسده، خلع سعيد قميصه وبدأ يعري نفسه حتى من أبسط القطع التي تداري السوءات والعورات، مستلقيا مغمضا عينيه يحاول تخيل شيئا ما، لكن كل ما استطاع رؤيته في أحلام خياله هو صورة لأجساد مقطوعة الرأس، تتحرك أمامه عارية، وتقوم بقفزات غريبة وحركات تشبه حركات من يرقصون التانغو، أو ربما حركات استعراضية لمهرج يقيم عرضا إيمائيا في إحدى دور السيرك.
ظل هذا الجسد-الذي كان سعيد يراه في مخيلته- يتعرى حتى كشف عن شيء غريب لم يره سعيد قبل ذلك في حياته.
ظلت اليدين تحرك الأوراق على جسده بحساسية مفرطة، وسرعان ما أصبحت تضغط أوراق الشجر على جسده شيئا فشيئا حتى تحول هذا الضغط إلى محاولة للتوحد مع هذا الورق....محاولة اندماج غير طبيعية بين ذاته وأوراق الشجر المنسابة على جسده كشلال دافئ....
لم يكتشف سعيد سر هذه الحركات ولا عن مقدار السعادة التي كانت تحيط به، ويشعر بها من أعماق قلبه....تحقق له النشوة وحالة عالية من النظر على هذا الجسد مقطوع الرأس...
لكن في لحظة ما.....بعد دقيقة واحدة....تكسرت صور الأجساد في مخيلته إلى أشلاء متناثرة، وفتح عينيه فجأة وأحس بما كان يفعله، فألقى ما كان يحمله من ورق شجر بقرف شديد، وغمره الضيق ونوع من قبض النفس والتعب بعد أن خرج من جسده سائلا ما....فارتمى في مكانه وهو لا زال عاريا من كل شيء.
بعد لحظات قليلة تذكر سعيد حلاوة ما حدث، وأشتاق إلى تلك اللحظات التي سبقت خروج السائل من جسده حد الجنون، فقرر أن يعيد الكرة..... أن يعيد التجربة ذاتها في اللحظة ذاتها فأغمض عينيه وبدأت يديه تسرق أوراق الشجر وتمررها على جسده بقليل من الضغط هذه المرة، ومع قليل من التركيز استطاع سعيد أن يرى في مخيلته تلك الأجساد الاستعراضية مقطوعة الرأس....
واستمرت لحظاته هذه المرة أطول من المرة السابقة، وبدأت تلك الأجساد بعد أن كانت تخلع ملابسها في المرة السابقة، بالإشارة نحو أعضاء خفية من أعضاء الجسد.
واحتاج إلى أن يجبر تلك الأجساد على القيام بأوضاع لم يفهمها حتى خرج منه السائل مرة أخرى.....
بعد هذه الحادثة عرف سعيد سر متاعب نفسه, وسر لحظات إكتئابه....عرف ما هي حاجته وتوصل إلى الحل في اليوم التالي....
جلس سعيد في الصباح الباكر على كرسيه الهزاز، وكان والده عادته يجلس إلى جانبه، وظل سعيد يرقب سير العمل ويلقي ببعض النصائح والتوجيهات بين لحظة وأخرى....وبعد ساعة من صمت نطق سعيد موجها كلامه إلى والده:
يبدو أن محصولك يا والدي قد زاد كثيرا، وأصبح يزيد عن حاجة القرية...لابد من البحث عن مكان آخر لبيعه فيه....وتابع سعيد كلامه بعد لحظة صمت:
سأذهب في الغد إلى المدينة المجاورة, (المدينة القديمة), لأبحث عن مسرب آخر لتسويق بضاعتنا فيه.
لم يهتم سعيد حتى بالنظر إلى والده لكي يتعرف على رأيه بما قرره، لأن ردة فعله معروفة مسبقا، وستسبب لسعيد الضجر والضيق.
صرخ سعيد بوالده فجأة:ستكون أنت المدير منذ اليوم....انطق.....تحدث.....تخلص من صمتك....لكن بركات لم يدر حتى وجهه للنظر إلى سعيد.
قال سعيد وعلامات اليأس بادية واضحة عليه:رغم كل ذلك سأسافر في الغد...
سأسافر لأنني مللت من منظر الأرض والتربة والطين والديدان.....
سأسافر لكي أرى المدينة....
ابتسم بركات وقال في نفسه:أعرف ذلك....وأعرف انك لن تجد شيئا.
* * *
كان عام 1977، وسعيد لازال في التاسعة والعشرين من عمره، عندما خطت قدماه لأول مرة في شوارع المدينة القديمة.
كانت المفاجأة بالنسبة إليه ضحلة، وغير متوقعة بالنسبة لما كان سعيد يتمنى أن يراه في مكان يدعى بالمدينة.....
لم يكن هناك شيء فوق طبيعي أو خارق للطبيعة، ولم يلفت نظره شيء خارج عن المألوف....
لقد أدرك في ذلك اليوم أن من يدير هذه الدنيا هم بشر مخلوقون من طينة واحدة، مجبولون على طبائع واحدة، وسوف تكون دنياهم كخلقتهم وكطبائعهم....واحدة.
لم يحس أو يدرك أي شيء من معالم المدينة، فالأراضي المزروعة خضراء شبيهة تماما بأرضه، والفلاحين الذين يعملون في الأرض وتعلوا هاماتهم الغبار، هم بنفس هيئة الفلاحين الذين يعملون في أرضه....بل بنفس هيئته عندما كان يعمل في الأرض.
فكّر عندما خطا أول خطواته بالعودة أدراجه ولكن دافع البحث عن الغرائز والحاجات أنبتت في نفسه طبائع الافتراس، لكي تتغلب في نهاية الأمر على جبن العودة.
وبينما كان سعيد غارق في تلك الأفكار، سمع صوتا ما, يصرخ به بلهجة حادة:
أنت يا أخ.....هل أنت ذاهب إلى مركز المدينة؟
إذا كنت كذلك فأصعد....لقد بقي راكب واحد فقط
تحرك الباص الصغير، و بالكاد كان قادرا على المسير....أخرج زئيرا عاليا وسحابة دخان أسود عملاقة، ثم بدأ بالمسير حاملا في جوفه أكثر من عشرين مسافر ومسافرة -وهو لا يحمل أكثر من اثني عشر شخصا في الوضع الطبيعي- تحتك أجسامهم ببعضها البعض بقسوة طوال الرحلة....كانت وجوههم مألوفة بالنسبة إلى سعيد الذي أثار الشك من حوله بعد أن كان يبحلق في وجوهم بشكل مثير للارتياب....فمنع سعيد نظراته وركزها نحو نافذة الباص الصغيرة، التي لم يكن يظهر منها سوى أراض صحراوية مقرفة، تختلف عن الأراضي الخضراء اللامعة من شدة خضرتها والتي رآها سعيد عند بداية وصوله إلى المدينة القديمة.
ومع الوصول إلى مركز المدينة، اكتشف سعيد، بل أكد اكتشافا سابقا له، بأن المدينة ليست إلا عالما كان متصورا ومدركا بالنسبة إليه.
لم يري شيئا غريبا أو جديدا يفوق تصوراته عن انتظام العوالم....لم تكن المدينة بأكبر مما كان قد رآه في خيالاته عندما سمع كلمة المدينة لأول مرة.
كان هناك أبنية كثيرة, تختلف عن بيتهم الخشبي في مدينة القصر، إلا أنها لم تكن تختلف عنه في انحناءاتها أو التفافاتها....لم يكن الشكل ليغلب المضمون.
وكانت هناك عربات فخمة مختلفة، لكنها تشبه العربة التي أقلته إلى مركز المدينة, كان يتوقع أن يرى اختراعات أخرى لم يكن قد توصل لها بعد أهل الريف.
شيء مثل سلم يمكن من يصعده بالوصول إلى القمر، أو إلى مكان عال يستطيع من يقف فيه أن يرى سطح الأرض بكامل استداراته....كان يتمنى أن يرى أنواعا أخرى من الأجساد البشرية التي ألف رؤيتها....أجساد ربما تمشي بأربعة أقدام أو تتوسط عيناها عين ثالثة أخرى.
لم يلاحظ أي شيء يعطيه سببا مقنعا للتمييز بين هذا المكان الذي يسير به الآن، عن المكان الذي ولد فيه، أو الذي كان يطلقون عليه الريف.
شوارع عريضة سوداء, تنقسم إلى مربعات كبيرة مثل لوحة الشطرنج، وجسر عريض قصير يربط بين ضفتين من ضفاف هذه المدينة.
ومع أول نظرة لسعيد لهذا المكان شعر بالقرف، وحالة من نوع انكفاء الذات.
حالة من نوع الحاجة القصوى إلى التصالح مع النفس.....شعر أن نفسه أقرب إليه من تلك العوالم المتشابهة.....وأراد الرحيل
ولكن شيطانه طغى على أفكاره المتشائمة، ودفعه إلى البحث عن الأماكن التي يدعونها بالحمراء، وتذكر ما قالوه له ذات مرة عن هذه الأماكن:
إنها الأماكن التي يقضي فيها الإنسان جميع حاجاته، وتعيد إلى الإنسان شباب قلبه...
تلك الأماكن التي يخرج منها الإنسان وهو راض سعيد كأنه ولد من جديد.... كأنه أطلق جميع رغباته المكبوتة من علبة مقفلة بألف قفل....يعود الإنسان إلى حالته الطبيعية.....
إلى أيام شبابه الأولى بعد أن وصلت البشرية إلى شيخوختها المطلقة.
بدأ بالتجوال وحيدا، وبدا واضحا عليه انه يبحث شيء ما....شيء يدله على تلك الأماكن الحمراء المحرمة، فكان يتعمد الدخول إلى أي مكان يعتقد أنه مشبوه.
وبعد طول عناء وصل سعيد إلى مكان عرف من أول وهلة إنه المكان الذي يبحث عنه.
شعر سعيد بالغرابة، لأن هذا المكان هو أكثر الأماكن هدوءا في هذه المدينة التي لا تخلوا من الزحام.....
دخل من باب مزري في شارع طويل موحش, وشعر بقليل من الخوف عندما هم بالدخول لهذا المكان لأنه كان فارغا سوى من شخص واحد....
صرخ به الرجل من بعيد:لم يحن موعد استقبال الزبائن بعد....
قال سعيد وصفة التردد واضحة بادية عليه:أنا غريب!!
ولم ينتظر سعيد أن يقتنع الرجل بالكلمة التي قالها له، بل تابع حديثه:
أنا أحضر لأول مرة...وليس لدي أدنى فكرة عن المواعيد التي تحدثت عنها...
ضحك الرجل....ضحك بشدة وقال: يبدو لي أنك تحفة؟
سأل سعيد وعلامات السكون والخوف لا زالت تضيء ملامحه:ماذا تقصد؟
لاشيء...لا أقصد شيئا....و تابع الرجل حديثه:ما اسمك لو سمحت؟
اسمي سعيد.....من مدينة القصر
الرجل:إنها القرية المجاورة....أليس كذلك؟!
قال سعيد:نعم هذا صحيح، ثم قال بدون أي تردد:
أريد الحصول على المتعة التي تبيعونها......التي طالما سمعت عنها
قال الرجل بعد أن ضحك مرة أخرى:هل معك نقود تكفي لما أنت تطلبه....؟!
سعيد:فوق ما تتصور
الرجل:إذا بماذا تحب أن تبدأ
قال سعيد بهدوء شديد:أريد أن أجرب الخمر
الرجل:بسيطة.... وأي نوع من الخمر تفضل يا سيد سعيد
سعيد:لا أعرف....انصحني أنت، ثم سأل بتهكم:
هل هناك شيء مفيد لأحد الخارجين بصعوبة من مرض السل؟
ابتسم الرجل وصب لسعيد قدحا كبيرا من الخمر الأصيل وقال:
عليك أن تجرب ثم تحكم أنت بنفسك.....
أمسك سعيد القدح وبدأ بالشرب، ومع أول رشفة له من القدح شعر بشيء مر حار شديد يتدفق داخل جسده.....وشعر بألم شديد يسري في داخل عروقه أفقده القدرة على الرؤية, وحرق معدته وشعر برغبة شديدة للتبول...
وبعد أن تمالك سعيد نفسه، وأمسك بالقوة المتبقية له بعد هذه الرشفة، قاطع شربه، ووضع الكأس على الطاولة محدثا ضجيجا عاليا وقال:
أي نوع من المتعة يحقق هذا المشروب الرديء المقرف.....
قال الرجل:إذا أردت الحصول على المتعة عليك المتابعة....حتى المتعة لها ثمن، وثمنها مؤلم حتى تتمكن من الوصول إليها يا سيد سعيد....
سعيد:أريد متعا أخرى.....أشياء غير هذا الذي تدعونه الخمر
قال الرجل:هذا لم يحن وقته بعد....لم تحضر العاملات، إن عملهم يبدأ في الليل إذا كنت لا تعلم...!!
قال سعيد وعلامات السكر بدأت تسري في دمه وتؤثر على نبرة كلامه:
ماذا تقصد بالعاملات....أنا أريد عاهرات....أريد ذوات الشعر الأحمر الذي حدثني عنهم الفلاحين....الملائكة التي تهب السعادة
الرجل:لم يحن وقت قدومهم بعد، ولكني أدعوك إلى الانتظار ساعات قليلة ضيفا عزيزا على حاناتي، باعتبارك تحضر إلى مدينتنا لأول مرة....
ظل سعيد صامتا، يجرب شتى أنواع المشروب وأحيانا كان يكتفي برشفة واحدة ثم يطلب كأسا من نوع آخر.....
وتعلم سعيد في ذلك اليوم التدخين، وكان تدخينه شرها بعكس شربه، حتى فاحت رائحة التبغ المحترق في كل مكان، وتحولت الحانة إلى مكان يشبه الحمام الشعبي الذي تنتشر فيه كتل بخار الماء الضبابية.....وبعد عدة دقائق أخرى لم يعد سعيد قادرا على فتح عينيه.
سأل سعيد:هل التدخين نوعا من أنواع المتعة....؟!!
الرجل:لا, هو أشهر أنواع المنبهات
رفع سعيد رأسه, مدفوعا ببقايا المنبهات المنتشرة كالسحاب في أنحاء الحانة، وأراد أن يلقي نظرة سريعة إلى ما حوله.
كان كل شيء يعبق بالسواد....المقاعد سوداء من بدايتها وحتى نهايتها.....والطاولات بكامل استدارتها سوداء....حتى صورة المرأة التي تتوسط جدارا في أحد أنحاء الحانة, وترتدي فستانا أحمر تحيط بها سماء سوداء من كل ناحية....
قال سعيد مستغربا:ما هذا التعلق الغريب بالألوان؟
حرك الرجل وجهه، وأغلظ شفاهه كعلامة لعدم الفهم....ولكن سعيد لم يأبه بردود أفعاله بل تابع نظراته إلى المكان....
أشخاص لا يبدو عليهم أنهم من الفلاحين، ولا من الأرستقراطيين, ولا حتى من الحقراء
ودلت أشكالهم لسعيد على أنهم من مخلفات الطبقة الوسطى، أو التي تتنازع الانتماء إلى طبقة معينة...كانوا مرحلة أولى من مراحل صراع الطبقات، ولم يكن هذا النزاع بدافع الاعتلاء أو إثبات الحقوق، بل بدافع الانتماء....الانتماء فقط
كانوا يجلسون في الجزء المعتم من الأرض....يتمتعون براحة كبيرة وهم على الحافة...وهم يعتبرون من هوامش المجتمع ومن مخلفاته الصعب التخلص منها.
كانت الحانة بالنسبة إليهم, أفضل من اتخاذ أي قرار يدعو إلى الانتماء إلى جزء معين من هذه الأرض....أو الانتماء إلى جزء مفكر من البشر.
استيقظ سعيد على صوت صفقات الرجل وهو يصرخ:
وداد....هناك زبون لك
عرف سعيد عندما سمع الجملة الأخيرة، أن هذا الرجل يعمل على إسعاده، ولكن أزمة السكر التي كان سعيد يعاني منها، لم تعطه فرصة لتمييز حتى شكل التي دعاها الرجل بوداد، التي أصبحت تمسكه من يده الآن وتجره إلى مكان في الأعلى لا يعرفه.
دفعت وداد سعيد بقسوة إلى السرير، وبدأت تخلع ملابسها قطعة... قطعة، ولم تبقي شيئا يستر جسدها، ولكن هذا السكران لم يكن قادرا على فتح عينيه.
وقفت وداد أمامه عارية تماما، وكل ما لاحظه سعيد غير جسدها العاري، سيجارة طويلة يبدو عليها أنها من نوع فاخر تضعها في فمها، وشعر أجعد منساب على كتفيها....
فقال سعيد:هذا أجمل ما رأيت في حياتي، ثم ضحك ضحكة عالية أسطورية وتابع حديثه:لكن دعينا نؤجل هذه المتعة قليلا...لأن الرغبة هي التي تحدد المتعة, ورغبتي الوحيدة الآن وفي هذا الوقت بالذات هي النوم.
أغمض سعيد عينيه، هانئا سعيدا مبتسما، لأنه أدرك أول حقيقة له في حياته....
أدرك قاعدة من قواعد الحياة:بالمال أستطيع تلبية جميع رغباتي.



















{الفصل الثالث} نزل سعيد من حجرته في فندق الأعمدة البيضاء، بعد أن نعم بنوم هادئ لم ينعم بمثله منذ فترة طويلة، وألقى بتحية الصباح على السيدة أحلام....
صباح الخير سيدة أحلام
قالت أحلام:نوما هنيئا، هل تريد أن أجهز لك الفطور
سعيد:أنا لا أفطر في العادة....أريد الذهاب
أحلام:إلى أين في هذا الوقت المبكر
سعيد:أريد مراجعة مركز الشرطة....لا بد أن أقابل عادل وأحضر منه إثباتاتي الشخصية....
في هذه اللحظة دخل رجل إلى الفندق, ضخم الجثة, أثار انتباه سعيد من أول نظرة له....
كان جسمه متكورا، يتوسطه كرش واضح، ووجهه مدور قبيح، تنتشر عليه البثور والندب من كل ناحية، قصير القامة نوعا ما، تحرك بخطوات متثاقلة نحو السيدة أحلام....صرخت أحلام بسرعة:
أنت مرة أخرى....ماذا تريد...أخرج خارجا؟
أريد الحديث معك فقط....أريد بعض التفاهم....أريد
ولكن أحلام قاطعته وصرخت به قائلة:أخرج فقط...لا أريد أن أراك؟
قال الرجل:بل سترينيني، وسوف تتحدثين معي أيتها الوقحة القبيحة, وإلا هددت هذا الفندق فوق رأسك وفوق رأس زبائنك.....
صمتت أحلام لبرهة، وكان من الواضح عليها أنها تشعر بالهزيمة، وأنها اقترحت الاستسلام كحل، ربما يكون مؤقتا لإسكات هذا المارد الصارخ بكلمات من نار....قالت:
حسنا....عد عند استراحة الغداء وليس الآن.....عد بعد ساعتين أرجوك
بعد أن سمع الرجل هذه الكلمات، بدا كالحمل الوديع وقال:حسنا...أمرك
وهم بالخروج متغاضيا عن النظرات التي يرمقه بها سعيد.
قالت أحلام بعد أن خرج هذا الرجل وفي لهجتها بعض الارتباك:
إنه خليل زوجي السابق...
عندما سمع سعيد كلمات أحلام بدا على وجهه الامتعاض والضيق، وبسرعة أزالت أحلام علامات امتعاضه بأن أجابت على استفهامه:
لقد تزوجته في السابق، لأنه كان يملك هذا الفندق....على طمع بصراحة أكثر
لم يهتم سعيد ليسمع المزيد من التفاصيل بل قال:أنا في طريقي إلى مركز الشرطة
قاطعته أحلام مسرعة، بعد أن جففت آثار دموعها:يجدر بك أن تفعل لأن عادل استفسر عنك منذ الصباح الباكر.....
لم يعط سعيد أي اهتمام لكلمة أحلام الأخيرة، ولم بيدي أي استغراب بل قال:
حسنا أنا في طريقي إليه
خرج سعيد من باب الفندق، ومع أول خطوة له في باحة الفندق....وإذ بيد تمسك ذراعه:
إلى أين ذاهب يا أستاذ سعيد.....
لاحظ سعيد علامات التهكم في لهجة عادل، ولكنه رد عليه قائلا:
كنت في طريقي إليك....
قال عادل:إذا وجهتنا مشتركة....ما رأيك أن نمشي قليلا؟
سعيد:موافق...في الحقيقة صداقتك ومعرفتك تهمني كثيرا بوصفك من أشهر رجال هذه المدينة الصغيرة...
عادل:شكرا لهذا الإطراء....ولكن كن حذرا من أمر الصداقة التي تطلبها
سعيد:أنا حذر فوق ما تتصور....لذلك دعنا ندخل في صلب الموضوع كما قلت..... وتابع سعيد كلامه:إذا كنت متردد من أمر الصداقة، ومتخوف منه، فلا بد أن هناك سببا لذلك...لابد أن لكلامك معنى....هل تريد مني شيئا بالضبط؟
عادل:ليس بالضبط....هي بعض الاستفسارات فقط إذا كنت تسمح؟
سعيد:استفسر كما تشاء
عادل:ما سبب زيارتك إلى هنا، وهل هذه أول مرة تزور فيها المدينة القديمة؟
سعيد:نعم، هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها المدينة القديمة، ويبدو لي أن سبب زيارتي هي للاستقرار....لقد أعجبتني هذه المدينة كثيرا...وتابع سعيد مفسرا كلامه:
لقد احترقت مزرعتي هناك، في قرية القصر، فقررت مغادرة القرية بعد أن أصابني التشاؤم والغثيان....لم أكن قادرا على النظر إلى مزرعتي الكبيرة وقد باتت رمادا، فقررت الرحيل إلى مكان لا أعرفه، وساقني القدر إلى هنا....
عادل:قلت أن هذه هي المرة الأولى التي تحضر فيها إلى هنا؟
سعيد:نعم...هذا صحيح فهذه المرة الأولى التي أحضر فيها إلى هنا
عادل:دعني أسألك بشكل أوضح....هل لك أي علاقة بالمدعوة رانيا خليل؟
سعيد:ماذا تقصد بالضبط؟
عادل:أقصد الجثة التي لفتت انتباهك بالأمس....صباح الأمس
سعيد:إذا أنا في موقع الشبهات....أو ربما بصياغة أفضل في موضع الاتهام.
عادل:يمكنك أن تقول ذلك
سعيد:رانيا....أنا لم أعرف في حياتي شخصا بهذا الاسم
عادل:إذا خذ....ومد عادل إليه بورقة صغيرة، وتابع كلامه:
هذه إثباتاتك، ولا تغادر هذه المدينة قبل حديث آخر لي معك
سعيد:آمل أن يكون لقاؤك معي قريبا....أو لنقل استجوابك
عادل:سيكون لقاءنا قريبا فلا تخف
سعيد:آمل أيضا أن يكون لقاءنا الأخير
عادل:وأنا كذلك
* * *
تحرك عادل مباشرة صوب المركز، وبدأ يحلل أشياء في عقله، ويجادل نفسه بأسئلة لم يتوصل إلى حلها بعد.....
ثم تنهد عادل تنهيدة عميقة، تدل على أن هذا الجسد الذي يحمل روح عادل مهموم من أمور أخرى غير هذه الجريمة، ولكنه تابع حديثه مع ذاته حول الموضوع نفسه:
آه....سعيد من الواضح أنه كاذب، فهذا الرجل قد حضر إلى هذه المدينة آلاف المرات، ولكن إن لم يكن هو القاتل فلماذا يكذب إذا؟؟!
وقف عادل فجأة، وأستيقظ من سبات عقله، وغير مسارب طريقه....قرر أن يمشي إلى المنزل بدلا من التوجه إلى المركز....
شعر بضيق نفس شديد وغثيان، وبدأت الدنيا تعتم أمام عينيه....لا بد أنها بشائر المرض
هكذا قال عادل في نفسه عندما أحس بتغير حاله....
عندما وصل إلى منزله، كان منهكا وتعبا جدا.....وقف أمام المرآة التي تقف خلف باب شقته في الطابق العاشر، فلاحظ شحوب وجهه الشديد، ومقدار احمرار وجنتاه، وعيناه المتورمتان من شدة السهر، فأدرك أن جسده الآن يقاتل فيروسات الحمى.....
تحرك عادل ببطء، واضعا يده على رأسه، لأن بشائر الصداع بدأت تدق أبواب دماغه، وبخفة متناهية، رمى عادل نفسه على كرسي أنيق فخم، مصنوع من أرقى أنواع الخشب، متربع خلف مكتب ضخم لا يجاريه الكرسي من حيث الأناقة والفخامة...
كل ما على هذا المكتب هو كمية من الورق الأبيض الفارغ المرتب فوق بعضه البعض
نظر وحيد إلى منزله...وأعاد النظر مستغربا كأنه يراه لأول مرة حياته....
نظر بعين ثاقبة إلى مكتبه، التي كانت مليئة بالكتب، والتي لم يقرأ منها أي كتاب في حياته....
بعد لحظات قليلة, بدت له أشباح زوجته بلحظات استرجاع دقيقة، وهي تعتني بالكتب..تذكر كيف كان يسخر منها في كل يوم عندما كانت تقوم بذلك....عندما كانت تعبث بمحتوياتها في كل دقيقة، وتمسح الغبار عنها في كل ثانية....تذكر مقدار الحب الذي يكنه لها في أعماق قلبه....
نظر إلى طاولة السفرة، لكنه لم يرى سوى زوجته وهي تحتسي حساء الخضروات....
وتذكر مع هذا المشهد كم حاولت أن تجعل منه دقيقا في تناول طعامه وشرابه، ومحاولاتها لفرض عليه طبيعة حياة النبلاء، الذين يحافظون على روتين معين في طعامهم وشرابهم، من حيث نوعه ووقته وطريقة تحضيره....
تذكر واستعاد، دماغه الصلب، و تفكيره الفوضوي، الذي اكتسبه نتيجة عشرته للفلاحين....
تذكر كيف كان يتعمد إغاظة زوجته ومداعبتها، عندما كان يخرج كل ما في الثلاجة ويضعها أمامه على الطاولة، ويبدأ بترتيبها ساخرا منها مقلدا حركاتها، متهكما عليها...مصطنعا صفة الرقابة في الأكل....وكم كانت تبتسم عندما يفعل ذلك
كم كانت تضحك عندما تتحول هذه الرتابة إلى نوع مصطنع من الشراهة، بإفراغه في معدته شتى أنواع الطعام وأصنافها، بسرعة ومن دون تفكير
وعندما تتحول الطاولة إلى كومة من القذارة، بعد أن يفرغ من طعامه....
كانت تسأله:كيف تميز مذاق الطعام الذي تناولته الآن؟!
فيقول لها وهو يعبث بجيوبه, باحثا عن علبة سجائره:
وهل تحسبين نفسك من الكائنات آكلات الطعام...كل ما تتناولينه عبارة عن خردة
وتعود زوجته إلى ابتسامتها، وتبدأ بتنظيف الطاولة من حول زوجها، حتى يعود المنزل إلى حالته الأصلية.......
كان هناك صورة كبيرة لها تتوسط غرفة الجلوس.....ولأول مرة يلقي عادل نظرة فاحصة متأملة لهذه الصورة......
عند ذلك لاحظ عادل مدى تطابق الصورة مع شكل زوجته....
هذا الوجه المدور، والعيون السوداء الصغيرة، والشعر الأشقر الغامق بصفرته، والبشرة البيضاء بياضا ناصعا ورقبتها الطويلة التي حاول الرسام الذي رسم الصورة، أن يخفي طولها الزائد، بأن أفرد عليها خصلات من شعرها وجعله منسابا فوق كتفيها، فلم تظهر رقبتها إلا بجزئها العلوي بشكل يجعل الرائي يظن أن رقبتها ترتبط مع رأسها من فوق خصلات الشعر فقط....
أحس عادل بشيء ما يدغدغ أصابعه....لقد انتهت السيجارة، ووصلت إلى حد بدأت به تحرق أصابعه....ولكن عادل لم يأبه بها، وتركها تتلذذ بحرق أصابعه، كأنه يطلب منها تعذيبه وحرقه عقابا له على شيء ما فعله في حياته وها هو يتذكره الآن...
لقد ألهمه المرض حالة استغراق تام....بدا كأنه يصعد سلما ما خطوة خطوة، ولم يستطع الهرب أو التغاضي عن الخطوة التي لا يريد الوصول إليها.....التي يريد القفز عنها...ولكن كيف يهرب الإنسان من ذاته ومن عواقب أفعاله......قد يستطيع الإنسان خداع جميع الآخرين إلا ذاته.....

لقد عاد الزمان بعادل...عاد به إلى وقت مبكر نوعا ما من حياته....عاد به إلى مكان دراسته....عاد به إلى كلية الشرطة المشهورة بتعليمها العالي، والخاصة بأبناء الذوات التي يحظر فيها على الفلاحين أو على أبنائهم بالانتساب إليها....
في ذلك الوقت كان الجميع يبحث عن عادل....
ظهر عادل فجأة وسأل أصدقاؤه على حين غرة:عن ماذا تبحثون؟!
نظر إليه أصدقاؤه بتعجب واضح:كيف دخلت إلى هنا؟
إنه سر المهنة يا فتيان...المهم لماذا تبحثون عني؟!
قال أحدهم:لقد تغيبت عن التدريب اليوم، ولحسن حظك فقد؛ أشرف على التدريب هذا اليوم الرائد حسام نفسه....!
قال عادل:يا لحسن حظي، ثم تابع كلامه:
ولا بد أنه يطلبني الآن.....
نعم هذا صحيح....
سأل عادل بسرعة:منذ متى؟
منذ نصف ساعة تقريبا....بالمناسبة أين كنت؟
قال عادل:قلت لا شأن لكم قبل قليل....
إذا أسرع، فيبدو أن الرائد حسام لن يتقبل أعذارك هذه المرة....
تحرك عادل مسرعا صوب مكتب الرائد حسام، الذي بمجرد سماعه صوت أصابع عادل تدغدغ بابه قال مسرعا:أدخل يا عادل
دخل عادل، ولاحظ الرائد حسام بخطوات عادل بعض التردد والتلعثم، وسرعان ما ألقى عادل التحية العسكرية للرائد حسام، ولكن الأخير صرخ به قائلا:
أين كنت اليوم؟.....هذا ثالث تغيب لك, وتابع الرائد حسام كلامه:
كيف يفعل أفضل طالب عرفته كلية الشرطة مثل ذلك.....
قال عادل:أن آسف، ولكني متوعك اليوم يا سيدي
الرائد حسام:وهل تريدني أن أصدق ذلك.....لولا أن والدك صديق قريب لي، ورفيق طفولتي الأول لكنت قد طردتك منذ زمن....منذ اليوم الأول الذي تغيبت به بلا عذر
قال عادل بعد أن أحمر وجهه، وبدت علامات التلعثم واضحة على لسانه:
صدقني يا سيدي......
الرائد حسام:كاذب....الشرطي المحترف المتمرس يكشف الجاني من نظرات عينيه، وطريقة كلامه وتحريك شفاهه، سأتغاضى عنك هذه المرة، ليس لأن والدك صديقي، بل لتفوقك فقط، وإ عذا أردت الخروج مرة أخرى عليك أن تطلب الإذن, لا أن تتسلل مثل اللصوص.
قال عادل بغضب مكتوم، بعد أن عرف أن الرائد حسام يدرك تماما سر غيابه المتكرر:
أنا آسف جدا....آسف يا سيدي
ضحك الرائد حسام بشدة، وقال وعلامات الضحك لازالت واضحة المعالم في وجهه:
اجلس يا عادل
ابتسم عادل هو الآخر، ونسي أو تناسى غضبه، وعادت الدماء التي كادت تنفجر من رأسه قبل لحظة واحدة إلى مجاريها وهم بالجلوس قائلا:
شكرا لك يا سيدي.....
تابع حسام:ما آخر أخبار الممرضة...؟
تلعثم عادل:عن أي ممرضة تتحدث....و أي ممرضة تقصد؟!!!
وعاد الرائد حسام إلى الضحك مرة أخرى.....وبعد أن فرغ من نوبة الضحك التي كانت طويلة هذه المرة قال: لا داعي للكذب....ما أخبار الحب يا دون جوان؟
قال عادل بعد أن استنفذت جميع السبل للهرب من أسئلة حسام:
بخير....لقد اتفقنا في هذا اليوم على الزواج
قال حسام، وقد عاد إلى لهجته الحادة في الحديث:هذا جيد
لاحظ عادل أن هناك شيئا ما يخفيه الرائد حسام ويريد أن يقوله:
ما الأمر يا سيدي؟!
قال الرائد حسام متمسكا باللهجة الرسمية:
أنت كما عهدتك يا عادل....لماح, ثم تابع حديثه متسائلا:
كم بقي من الوقت لك حتى تتخرج يا عادل
عادل:ثلاثة أشهر على الأكثر يا سيدي....هكذا خططنا أنا وهي اليوم
وبعد لحظة صمت، سأل الرائد حسام:
ما هو نوع سجائرك المفضلة.....؟
ولم يعطي الرائد حسام أي فرصة لعادل للرد على سؤاله، بل أخرج من علبة كانت ملقاة أمامه سيجارتان، وضع الأولى في فمه، وقدّم الثانية بيد واثقة إلى عادل، الذي أمسكها ووضعها في فمه من دون أي تعليق، بل انتظر من الرائد حسام أن يكمل معروفه، ويقوم بإشعالها له.....
قال الرائد حسام بعد أن قام بذلك:
هناك مهمة بانتظارك
لم يرد عادل، بل انتظر من الرائد أن يفسر كلامه
قال حسام:هناك مدينة تدعى (المدينة القديمة), هل سمعت بها من قبل؟
عادل:نعم....أذكر باني سمعت اسم هذه المدينة من قبل
قال الرائد حسام:هذا جيد....هناك قاتل يعبث بها وأريد منك الإمساك به
عادل:ولكن أنت تعرف يا سيدي إن الوقت لازال مبكرا على قبولي بمثل هذه المهمة
حسام:أعرف ذلك، إذا وافقت على قبول هذه المهمة سأصادق بنفسي على أوراق تخرجك بعد ثلاثة أسابيع فقط....
قال عادل وعلامات السعادة والفرح بادية عليه:أنا موافق
ابتسم الرائد حسام، وتنفس الصعداء، وظهرت عليه علامات الارتياح وقال:
إذا خذ بقية هذا الأسبوع إجازة، واستمتع مع حبيبتك، وإياك أن تهرب مرة أخرى من الكلية وإلا عاقبتك....
قال عادل:حاضر يا سيدي
حسام:عد إلى مكتبي بعد انتهاء إجازتك لنتحدث في التفاصيل.....

كان عادل لازال يبلغ من العمر أربعة وعشرين عاما عندما قبل بمهمة حكم المدينة القديمة في عام 1976....
ولم يفكر عندما عرض عليه الرائد حسام المهمة، بتبعية قراره ولا بالأمور المترتبة عليها، لأنه كان هناك شيء آخر يستحوذ على تفكيره في تلك الفترة......
دخل عادل مسرعا إلى غرفته، وهناك كان جميع أصدقاؤه بانتظاره، وعلامات الفضول تكاد تتدفق من داخل أعينهم....
سكت عادل وقطب حاجبيه عندما رآهم ينظرون إليه بتلك الطريقة, وعلامات الانزعاج غطت ملامحه، ثم ضحك فجأة وقال:
لقد تلقيت عقابا صارما ظالما من الرائد حسام.....ثم صرخ بأعلى صوته:
إجازة لمدة ثلاثة أيام....
ثلاثة أيام لا أرى فيها وجوهكم المقرفة أيها الأوغاد.....
ثم بدأ يجمع أغراضه باندفاع وعشوائية واستعجال، بينما كان أصدقاؤه لا يزالون فارغين افواهم من هول الصدمة، مستغربين كيف نال هذا الهارب المتغيب عقابا على هذه الصورة.....
وبعد أن فرغ عادل من جمع حاجياته القليلة، هم بالخروج قائلا:
سأحضر لكم الحلوى عندما أعود....

بعد أن استقر عادل في أحد الفنادق، أخرج من جيبه بطاقة كرتونية، وبدأ يحرك قرص الهاتف:ألو مرحبا....سكن الطالبات....أريد سعاد, سعاد عز الدين لو سمحت...
وإذ بصوت رقيق يرد عليه قائلا:ماذا تريد.....كيف تتصل بي في السكن أيها المعتوه؟!
عادل:لأنني معتوه....غبي.....مجنون بحبك
سعاد:اختصر....ماذا تريد....قل مسرعا؟
عادل:أريد أن أراك الليلة....؟!!!
سعاد:الليلة !....أنت وقح، كيف سأفعل ذلك؟
عادل:حسنا....حسنا لا تغضبي, إذا في الغد
سعاد:ولكن
عادل:أرجوك بدون لكن، لقد حدثت لي معجزة...هناك ثلاثة أيام....ثلاثة أيام كاملة يا سعاد من غير أن تحسبي هذه الليلة...
سعاد:ماذا تقصد بثلاثة أيام؟
عادل:ثلاثة أيام إجازة من الكلية
سعاد:وكيف حصلت على هذه الإجازة؟
قال عادل:إنه إعفاء وليس إجازة
ضحكت سعاد:إعفاء.....هل طردوك من الكلية؟؟!
عادل:لا, الأمر ليس كذلك....سأخبرك في الغد
سعاد:أنت واثق جدا من كلامك....
عادل:فوق ما تتصورين.....
سعاد:إذا أراك في الغد.....في الساعة الثانية عشرة ظهرا
عادل:الثانية عشرة ظهرا....وتابع عادل كلامه بضيق مصطنع واضح:
الثانية عشرة ظهرا وقت مبكر جدا!
سعاد:ماذا تقصد.....أوضح كلامك يا فصيح؟!!
عادل:سأقول لكن أرجوك لا تغضبي......أنا أريد شيئا من الرومانسية....شيء مثل عشاء راقص على نغمة هادئة...شيء مثل رقص وليل ونجوم وقُبل....
قاطعته سعاد قائلة:ماذا قلت أيها الوقح؟
عادل مسرعا:لا...لا أنا لا أقصد ما قلته.....ربما أنت سمعت بشكل خاطئ، فأنا أعاني من السعال....كح....كح....وأحيانا تختلط الحروف في فمي....!
سعاد:حسنا....لقد صدقتك، ما رأيك إذا أن نؤجل موعدنا حتى تشفى من السعال
صرخ عادل:لا.....الأمر لا يحتاج إلى الراحة....سأنام الليلة بعمق، وأصحو في الصباح الباكر مثل الحصان......
سعاد:حسنا أيها الحصان الجامح، أراك غدا في الثانية عشرة ظهرا، إلى اللقاء الآن...
وأغلقت سعاد سماعة الهاتف....ثم قالت في كلمة نطقتها من أعماق ذاتها ((أحبك))
وعلى الجانب الآخر، كان عادل لازال ممسكا رغم أنه قد عرف أن حبيبته أقفلت الخط، أي بمعنى آخر، أقفلت السماعة في وجهه، ولكنه ظل يتمتم ببعض الكلمات:
آه, لقاء رسمي....في الثانية عشرة ظهرا، تماما مثل غداء عمل أو فطور وظيفي.....يا إلهي، إلى متى هذه المعاناة ولكن.....
قبّل عادل سماعة الهاتف قبلة طويلة، وتبعها بأخرى، ثم أغلق الخط.....
استيقظ عادل في صباح اليوم التالي مبكرا، وقام بحلق ذقنه بعد أن طلب فطورا خفيفا، ثم هم بالخروج في تمام الساعة العاشرة، وبدأ يمشي مسرعا باحثا عن شيء ما...
وسرعان ما عادت خطواته إلى الرزانة والبطء، عندما وصل إلى سوق يبيعون فيه الذهب....
دخل إلى المحل الثالث لأنه كان يتفاءل بالرقم ثلاثة، وبمجرد دخوله سأله البائع:
هل أخدمك بشيء يا صديقي...؟
عادل:أجل، أريد خاتما لحبيبتي
ابتسم الرجل وقال:بكل سرور
وصل عادل في وقت مبكر، إلى وسط المدينة، حيث اعتاد أن يلتقي سعاد في هذا المكان، ومن هذه النقطة، يقرران بتلقائية ومن غير تخطيط، المكان الذي سيقضيان به الساعات وأحيانا الدقائق التي سيمكثاها مع بعضاهما البعض.....
في ذلك اليوم تأخرت سعاد.....
شعر عادل بقلبه يخفق، ثم بدأ العرق ينصب منه تباعا، وكان كلما خطر على مخيلته أن سعاد لن تحضر لسبب ما، أو ألقى إليه عقله فكرة مفادها أن سعاد استهزأت به، تبدأ عبراته محاولة لاختراق عينيه، إلا أن الأمل هو الوحيد الذي كان يمنع هذه الدمعات من التدفق.
حتى حضرت سعاد وهي تمثل دور عدم المكترث، مفاجئة لعادل الذي كان شارد الذهن، يفكر في عمق بمقدار محنته، وبمقدار صعوبة الدقائق القادمة....
مساء الخير....أنا آسفة على التأخر
نظر إليها عادل بعينين حادة، غاضبة، مريدة راغبة بالانتقام بشدة، فقاطع حديثها وقال لها بصوت أقرب إلى الهمس منه إلى الكلام:
خذيني إلى المستشفى، فأنا على وشك الانهيار...هناك اضطراب في دقات القلب أعاني منه،وربما ستحدث لي جلطة بعد لحظة واحدة....
قالت سعاد مستغربة غير مصدقة الكلام الذي تسمعه من عادل:
ما بك....؟!!!
نظر إليها عادل وبدا الإنهاك واضحا عليه:
لأول مرة في حياتي أكتشف بأني أحبك....لأول مرة في حياتي أكتشف بأني أعيش من أجلك, لأنك لو لم تحضري في هذا اليوم....لو تأخرت لحظة واحدة لوجدتني ميتا.... ثم صمت لحظة وتابع حديثه:
في النهاية تسأليني بعدم اكتراث كأن لحظاتي معاناتي لا تعنيك وبعد أن تأخرت ساعتان كاملتان.....ما بك!
سعاد:ما بك....لا أعهدك جادا إلى هذه الدرجة؟!
عادل:اكتشفت أني جاد عندما يتعلق الأمر بك....ثم صمت عادل ولم يعط أي فرصة لسعاد في الكلام، أو حتى لتبرير فعلتها، وأخرج علبة ذهبية من جيبه وطلب من سعاد أن تفتحها بلهجة صامتة ولكنها صارمة في الوقت نفسه....
عندما فتحت سعاد الصندوق، خرج منه موسيقي تقليدية، كانت سعاد تعرفها جيدا....
إلا أن الذي كان في داخل هذه العلبة كان أجمل بعيون سعاد من أنغام بيتهوفن بكثير.
خاتم ذهبي لامع، تتوسطه حبة لؤلؤة كبيرة مزينة بنقوش خلابة من حولها....
قالت سعاد بذهول واضح:هل هذا لي..؟!
نظر عادل إليها باكتئاب، شاعرا بالغثيان ينتاب جسده كأنه نوبة قلبية....نظر إلى الأرض نظرة عميقة، ثم قال لسعاد:
أنا آسف جدا يا سعاد....أنا تعب جدا هذا اليوم
لم تتلفظ سعاد بأي كلمة، بل تفارق الاثنان في ظل لحظات صمت مطبقة، لم يؤرق صمتها سوى أنغام بيتهوفن التي دعتها سعاد بالتقليدية.
عندما وصل عادل إلى الفندق، بكى بكاء شديدا، وكانت المرة الأولى التي يبكي فيها في حياته.....
كانت لحظات انهيار صارمة، أخرجت من جسده جميع السوائل العاطفية التي تجسدت على شكل عبرات منهمرة....
بدأ يبحث في غرفة الفندق عن شيء ما يهدأ أعصابه، فلم يجد إلا السجائر لكبح جماح غضبه، ومنذ هذا اليوم توطدت علاقة عادل بالتدخين إلى علاقة لم تنفصم حتى هذا اليوم.....
كانت هذه اللحظات المدمرة، هي أول اللحظات التي بدأ فيها عادل يكتشف طبائع ذاته، ويتقصى عن كينونته ويعيد حساباته معها.....
منذ تلك اللحظة، تحولت ضحكاته إلى مسرحيات رديئة، يؤديها أشخاص كأنهم هواة....
لقد ماتت الطفولة في داخله...ماتت البراءة وظهرت معالم القسوة....معالم كره الآخرين والحقد عليهم....ظهرت حقيقته....ظهرت حقيقة عادل بكل وضوح.
أما سعاد، فظلت هائمة على وجهها في السوق....وكأنها عرفت السبب الذي جعل من عادل يغضب إلى هذه الدرجة، ولم يعد الذي حدث بالنسبة إليها حادثة تافهة عادية.... وتابعت التفكير، وتأملت، لتصل إلى حالات تعني الانتقاص، إلى حالات دفعت الأبطال الوهميين الذين يعيشون أحلام اليقظة إلى التحول إلى حشرات عند مواجهة الواقع أو الاصطدام بسوءاته....حالات الانتقاص التي تدفع الأبطال إلى التوحد مع ذاتهم...التي تدفعهم إلى الخوف والريبة والشك فيما يقوله الآخرون...
رغم سطحية سعاد وبراءة تفكيرها استطاعت التوصل إلى كل ذلك....
قررت أن تطيب خاطره، في أول إشارة واضحة لا يعتريها أي شك بأنها تحبه....لقد أحبته منذ اليوم الأول الذي تعرفت فيه عليه....
ذلك اليوم، الذي يجتمع فيه الشبان القادمين من شتى أنحاء الدنيا في مجمع المدينة، ويبدؤون بسؤال بعضهم البعض عن الطرق المؤدية إلى كلياتهم، وتخصصاتهم العلمية، باحثين عن شخص أو أشخاص يتقاطعون معهم في نفس التخصص ليشاركوهم معاناتهم الأولى في الاغتراب ومحاولة التعرف على أماكن لم يسمعوا بها من قبل....
في ذلك اليوم الذي لاحظت فيه عادل، وهو يرتدي بذلة بيضاء، ويلف حول نفسه متشككا بكل خطوة يمشيها.....يتحرك إلى الأمام عندما يرى شخصا ما يشعر أن له علاقة به، ثم يتردد بسؤاله فيعود إلى موضعه باحثا عن شخص آخر....
انتبهت سعاد إليه، ونست أو تناست السؤال عن الطرق وعن إجراءات التسجيل، أو عن أماكن السكن التي كانت تبحث عنها مثل الأخريات المقبولات في كلية التمريض.
اخترقت عينيها جميع من كان يعبث بالزحام، لتركز على هذا الذي دعته:
الراقص في وضح النهار، عندما، وبعد لحظات قليلة انتبه إليها، ولاحظ أنها تقوم بالضحك عليه، فنظر إليها مبتسما وعندما لاحظت ذلك, أشاحت بوجهها عنه، وأدارت قامتها متجاهلة أن هناك رجلا مبتسما ينظر إليها في هذه اللحظة، واستغرقت بالبحث في الساحة عن الباص الذي سيقلها إلى كليتها، ولكن وبعد دقيقة واحدة، شعرت بشخص ما يتقدم نحوها، فقالت في نفسها بكل ثقة:لا بد إنه الراقص في وضح النهار
وسمعت بصوت يصطنع الرقة يسألها:هل تعرفين الباص الذي يذهب إلى كلية الشرطة؟
نظرت إليه سعاد مصطنعة الدهشة وقالت بعدم اكتراث:لا....
ولكن عادل تابع كلامه:إذا إلى أين أنت تذهبين؟
ابتسمت سعاد ابتسامة تدل على الامتعاض وقالت متسائلة:
هل أبدو لك كشخص يرغب في التسجيل بكلية الشرطة....
قال عادل بثقة:لا....وتابع حديثه بابتسام ونوع من الانحناء الكوميدي:أنا آسف
وتابع عادل طريقه، وتوجه نحو تجمع كبير من الشبان والشابات، الذين ينظرون أو يحاولون النظر إلى قائمة معلقة على الحائط, ولم تجد سعاد من وسيلة لحل مشكلتها سوى بأن تتبعه، وبعد لحظة وجدت نفسها تقف خلف حشد كبير من الطلاب المتنازعين على مكان للوقوف خلف قائمة معلقة عليها أسماء الطلبة الجدد وأسماء كلياتهم، والحافلة التي يحب عليهم استقلالها.....لم تعرف سعاد ماذا تفعل...وقفت حائرة أمام هذا الحشد الهائل الذي يقترب تنازعهم وتدافعهم حد الاقتتال....
وإذ بها تفاجأ بصوت سمعته قبل قليل يقول لها:ما اسمك؟
نظرت إليه سعاد وتجاهلت سؤاله، فقال لها:أنت حرة
وإذ بهذا الشخص يدخل ضمن هذا الفوج الهائل، ويرد على كدمات الآخرين له بكدمات أقوى منها....وكلما كان يقطع خطوتين أو ثلاثة يقف ليسترد قليلا من أنفاسه ثم يتابع مسيره بثبات وجسم صلب حتى وصل إلى المقدمة.....
ابتسمت سعاد وقالت في نفسها:إنه ليس راقص فقط....بل مقاتل
وإذ بصوت يقطع عليها تأملاتها، ويؤجل النتائج التي وصلت إليها:
أنت...هيه.....
بدأت سعاد تتتبّع مجرى الصوت حتى رأت عادل يلوح بيده لها من بعيد، وهو محاط بأمواج هائلة من الشبان المتدافعين....
نعم أنت....أنا أنادي عليك....ما اسمك
لم تعرف سعاد ماذا تفعل، فردت عليه قائلة:
سعاد........اسمي سعاد عز الدين
نظر إليها عادل وعلامات الغضب واضحة عليه، بعد أن أخرج تنهيدة أسطورية بدت لسعاد كأنها من نار....قال عادل:
هذا لا يكفي يا آنسة سعاد...ما اسم كليتك أو تخصصك؟
صرخت سعاد:كلية التمريض
وبلمح البصر، غاب عادل عن نظرها فجأة ولم تعد تراه.....
مر وقت طويل ولم يظهر عادل، حتى تناست سعاد وجوده، وإذ به يصرخ بجانبها لاهثا:
سعاد عز الدين، كلية التمريض، المهجع رقم عشرة، الحافلة رقم إحدى عشر
نظرت إليه سعاد، ولكنه قاطع نظراتها قائلا:
عادل، كلية الشرطة، المهجع رقم ثمانية عشر، الحافلة رقم اثني عشر
ضحكت سعاد....ضحكت من حلاوة الصدف....ضحكت من هيئة هذا الشاب الذي دعته قبل قليل براقص في وضح النهار، ولكنه الآن بعد أن اتسخت بدلته البيضاء وتدهورت تسريحة شعره، وتحولت إلى شيء يشبه عرف الديك...
سألها عادل:مما تضحكين....أهكذا تقدمين الشكر لي...!!!
قال عادل لها ذلك، وهو يحمل قطعة كرتونية صغيرة كان يكتب عليها شيئا ما....
قالت سعاد:أنا آسفة.....شكرا لك
عادل:حسنا هذا جيد....
وقدم عادل إليها كرتا معطرا مكتوب عليه جميع الإثباتات الأخرى التي قد تحتاجها سعاد، ثم قال لها:
كنت أتمنى أن يدوم تعارفنا، ولكن رقم الباص الذي سأستقله يزيد عن رقم الباص الذي سوف تستقلينه برقم واحد....
حمل عادل حقيبته وصرخ بأعلى صوته:
الباص رقم اثني عشر فليدلني على نفسه وإلا قتلته.....
أما سعاد فتابعت نظرها إليه حتى غاب عن بصرها.....نظرت بأسف إلى موقع اختفائه، ثم إلى جميع ما حولها، ثم أمسكت حقيبتها وبدأت تركض باحثة عن الحافلة رقم إحدى عشر....تركض جارة خلفها تنورتها السوداء الطويلة، ضاغطة بشدة على حذائها الأسود الشاحب....
في المساء، بعد أن هدأت الأمور، وماتت كل تلك الأصوات الضاجة في عتمة الليل، حيث كانت سعاد قد استقرت في معجها وأصبحت في هذه اللحظة مستلقية على سريرها...
وبعد لحظات ...عاودتها نوبات الضحك التي انتابتها حين رأت عادل بشعر يشبه عرف الديك....
وضحكت أكثر وأكثر، وكانت الدموع على وشك الخروج من عيناها...لأنها عرفت وتأكدت وأيقنت أنها تحب من دعته:
الراقص في وضح النهار

في صباح اليوم التالي، بينما كانت سعاد على وشك الخروج لمواجهة يومها الأول، صرخت مديرة المهجع:سعاد عز الدين....أين هي؟
ولم تسمع سعاد في المرة الأولى صوت مديرة المهجع، أو ربما ظنت أن سعاد المقصودة هي سعاد أخرى....
ولكن هذه المديرة ذات الصوت الجهوري, سرعان ما صرخت مرة أخرى وبصوت أعلى:سعاد صلاح عز الدين....
عند ذلك انتبهت سعاد، وقالت بارتباك:نعم...حاضر....أنا موجودة
المديرة:هناك طرد لك......
ناولت المديرة طردا صغيرا لسعاد، ملفوف بورق أصفر لامع فاخر، يحيط به خيط أبيض شفاف.....
وطردت سعاد وساوسها، وقضت على دهشتها عندما همت بفتح هذه العلبة الصغيرة فرأت كرتا معطرا يشبه الذي تناولته في البارحة من الشخص الذي دعي نفسه عادل...
كان مكتوب عليه:أتمنى لك يوما جميلا....
لا تخافي من اليوم الأول....فهذا اليوم بعد لحظات قليلة
سيصبح البارحة....كوني واثقة من نفسك
(عادل)
عادت سعاد إلى الضحك، و ابتسمت, ثم قالت غير قادرة على إخفاء شيء ما يتغلغل داخل نفسها:ما أجمل يومي الأول.....
واستمر عادل يبعث لها بكروت الصداقة كل يومان، حتى جاء اليوم العاشر، وكانت سعاد تنتظر منه الكرت الخامس على أحر من الجمر، وإذ بصوت المديرة يصرخ:
سعاد...سعاد....سعاد....
قالت سعاد بلهجة الملهوف:نعم.....
قالت المديرة مبتسمة:هناك طرد آخر لك، وتابعت المديرة كلامها:
لا بد أنه من معجب أليس كذلك..؟
ابتسمت سعاد وقالت لها:هذا صحيح أنه من معجب...
دخلت سعاد مسرعة واختبأت تحت غطاء سريرها، وفتحت العلبة المغلقة المغلفة بورق أصفر لامع فاخر يحيط به خيط أحمر شفاف....وقرأت سعاد:
صباح الخير.....أو مساء الخير، فهذا يعود إلى الوقت الذي ستصلك به هذه الرسالة...
ولكن أنا أشعر بالبرد....إنه خريف بارد...بارد جدا....رغم ذلك دعيني أقترح عليك اقتراحا....؟!!...اقتراح فقط....دعينا نسميه طلبا...أو ما رأيك بالرجاء....!
غدا يوم عطلة....وهناك محل يبيع المثلجات...لا، أعتقد أن المثلجات غير ضرورية في مثل هذا الجو البارد...هو في الأصل يبيع شايا ساخنا...إنه نفس المكان الذي تقابلنا فيه أنا وأنت.....سأنتظرك غدا إذا تكرمت، وإذا سمحت....سأنتظرك في الثانية عشرة ظهرا......
ربما ستحضرين....وربما لا....ولكني سأكون بانتظارك، فخذي وقتك فأنا معتاد على الانتظار.....
بعد أن قرأت سعاد تلك الرسالة، ابتسمت، وشعرت لأول مرة في حياتها تبتسم، وقالت في نفسها:أنا لا أحب الثقل الزائد....سأذهب، ولكن دعيه ينتظرك ساعة....ثم تراجعت وقالت:لا ساعة كثيرة....لنقل نصف ساعة...نعم نصف ساعة تكفي...
حضرت سعاد في صباح اليوم التالي، في تمام الساعة الثانية عشرة والنصف، ورأت لأول مرة بوضوح وجه الراقص في وضح النهار, ومنذ ذلك اليوم أصبح مركز المدينة المكان الذي يلتقي فيه كل من سعاد وعادل في كل مرة.
* * *
كانت هذه التجربة بالنسبة لعادل، شيء أكبر من الانتقاص أو إهمال العواطف، فقد عملت هذه التجربة على انبعاث جميع الأفكار السوداوية التي لم تخطر على باله من قبل....بدأ يفكر بتجربة أخرى، بعد أن أصبح يرى الحياة غير طبيعية غير مرضية وكأنها صورة بالمقلوب....
بدأ يفكر في تجربة النسيان....وعندما أراد الوصول إلى البيت، خطرت على باله فكرة كانت مبكرة بالنسبة إلى تأمل أولي......
أراد عادل الانتحار.....
اكتشف أن في داخله تكمن رغبة خفية تكره الحياة، وتكره الموجودين فيها.....
لم تكن سعاد هي السبب في ذلك، بل كانت مثل من يسقط حجرا في بحيرة هادئة ساكنة، فتحدث على أثره حركة مضطربة تشمل جميع قطرات هذه البحيرة....
لقد رمت حجرا في صدره, آلمه بشدة، فتفتحت على أثره جميع الآلام التي كانت مختبئة في أعماق أعماق صدره الداكن.....
وأخرج عادل سيجارة من علبة ما كان يحملها بين يديه، وأشعلها بلهفة قاسية مضطربا مطبقا فكرة الانتحار البطيء....ولكن بعد قليل تناسى عادل هذه الأفكار عندما سمع صوت سعاد على الهاتف:
ما رأيك بجلسة رومانسية هذه الليلة...؟!
ما رأيك بالضحك، والعشاء والقمر والنجوم والرقص....
ثم صمتت سعاد لبرهة وعاودت الحديث:لكن عليك أن تنسى الكلمة الأخيرة.
ضحك عادل....ضحك من أعماق قلبه وقال:موافق
بدأت الأزهار تتفتح في أرض الجحيم، والأضواء تسطع في ذهن كان قبل قليل مشبع بالسوداوية....
لكن دروب التشاؤم والسوداوية أصبحت ممهدة، ولم تلبث أن تعود مجددا في لحظات عادل المستقبلية.
أصلح عادل هندامه، ووقف أمام المرآة محاولا إخفاء ملامح اليقظة التي بدت عليه قبل قليل...كأنه أراد إخفاء التجاعيد التي تظهر بوضوح بعد سن الخمسين.
خرج عادل وقد استرجع شيئا ما من ملامح أفكاره السابقة، ولم تكن ابتسامته لتظهر بشكل تلقائي عندما قال في نفسه:(موعد رومانسي...أخيرا)

ظهرت سعاد في المكان نفسه من السوق في حوالي الساعة الثامنة، وكان ظهورها حالة مغايرة لمظهرها السابق، بوجه يلمع، وشعر أسود متقن الصبغ، وفستان بلون شعرها يكشف عن مقدمة كتفيها التي كانت تغطيهما بشال أبيض حريري شفاف يكشف ما خلفه إذا دقق الناظر إليه.....
نظر عادل إليها، وعلامات الذهول واضحة عليه عندما قال لها:
أم يختطفك أحد بعد....؟
ألا يوجد في هذه الدنيا من يعشق بجنون، أو فنان يعشق اللوحات النادرة....
ألا يوجد في هذه الدنيا عازف تائه يبحث عن لحن خالد أو عن نغمة أسطورية...
ضحكت سعاد وقالت:
كلامك هذا يذكرني بلقائنا الأول، أيها الراقص في وضح النهار
عادل:حسنا....ماذا تقصدين بعبارتك الأخيرة؟!
ضحكت سعاد مرة أخرى، متجاهلة الإجابة عليه, وقالت:
أنا آسفة....آسفة جدا لـتأخري هذا اليوم....واعدك بأني لن أتأخر بعد اليوم لأكثر من...
وبدأت سعاد بالتأتأة ثم قالت:لأكثر من نصف ساعة فقط....هل هذا جيد؟
وتابعت سعاد:نصف ساعة فقط.....هل تذكر؟
عادل:نعم أذكر، والآن دعينا من إسترجاعاتك لذكريات لا زالت غير بعيدة، ولا داعي للأسف....
تابع عادل كلامه:دعينا نشبع عقدنا الرومانتيكية، التي ظهرت في نفسي منذ ذلك اليوم الذي عرفتك فيه....أين تريدين الذهاب؟
سعاد: ما رأيك لو تمتعنا بالهدوء قليلا.....لنبحث عن مكان هادئ نتمشى فيه...
قال عادل باستغراب:مكان هادئ نتمشى فيه وأين.....في وسط السوق، أين ذلك المكان؟!!!
سعاد:دعنا نبحث عنه......
قال عادل: أنا من النوع الذي يحب الرومانسيات التقليدية.....أي الرومانسيات العادية التي لا مكان للبحث فيها، ولا أحب الغوص إلى أعمق من ذلك؟!!
سعاد:ماذا تقصد....؟
عادل:هل معك الخاتم الذي أعطيته لك اليوم؟!
سعاد:نعم إنه معي....!
نظر عادل إلى يدها، ولم يرى خاتمه داخل أي إصبع من أصابعها الطويلة، فبدأت ملامح الصدمة بالعودة إلى رأسه، إلا إنه حاول التغاضي عنها، ولم يعطيها الفرصة لكي تفسد عليه هذه اللحظات فتابع كلامه:إذا أعطني إياه!
أخرجت سعاد شيئا ما من حقيبتها، وبعد لحظات قليلة، ناولته العلبة المذهبة
فقال عادل:إذا ابقي صامتة، أو دعك صامتة حتى أفرغ من عملي.....
وصرخ عادل بعد لحظة واحدة:تاكسي.....
أمسك عادل بسعاد، ودفعها داخل التاكسي، وهي تنظر إليه....
لكن عادل لم يعطها أي فرصة للحديث أو التعليق عن ما يجري، بل صرخ بأعلى صوته:أيها السائق، هل تعرف مكان أفخم مطعم في المدينة؟
قال السائق بلهجة تشارك عادل في بهجته:نعم أعرفه....إنه مطعم الشجرات الخمس
وأراد السائق التحرك، ولكن عادل ربت على كتفه إشارة له بأن يتوقف....
عادل:لكن ماذا عن أغلى مطعم في هذه المدينة؟
السائق:إنه مطعم الشجرات الخمس
عادل:ماذا عن مطعم مجهز بقاعات للرقص....
السائق:إنه مطعم الشجرات الخمس أيضا....
أزاح عادل عند ذلك يده عن كتف السائق، إشارة إلى الموافقة، وأكد هذه الموافقة قائلا:
إذا إلى الشجرات الخمس.....
بعد أن تحركت السيارة، تابع عادل كلامه موجها به إلى سعاد هذه المرة:
لماذا علينا البحث عن شيء موجود....؟
لماذا علينا إعادة اكتشاف شيء مكتشف.....
دعينا من البحث....دعينا من التعقيد...دعينا نعيش قصة حب غير معقدة...وتابع عادل كلامه:على الأقل أنا أريدها كذلك.....
صمتت سعاد عندما سمعت هذا الكلام واعتبرت نفسها موافقة عليه....
بعد دقائق معدودة، كان عادل وسعاد يجلسون خلف طاولة في مكان هادئ، تحيط به النغمات الرقيقة، مع سكون ليلي صامت.....
كان مكانا مثل الذي أراد عادل الوصول إليه....مكانا تقليديا يصلح لأي عاشقين...
قال عادل:دعينا نسرد الحكايات.....وأخرج عادل من جيبه العلبة المذهبة، وفتحها لتخرج منها تلك الموسيقى التقليدية (لبيتهوفن)....أغلقها عادل بسرعة لأنها لفتت انتباه جميع من كان يجلس قريبا من عادل، وفي تلك اللحظة، رفع عادل يده وألقى التحية على جميع من كان ينظر إليه، مما دفعهم الاهتمام بشؤونهم.....
لم تستطع سعاد أن تكتم ضحكتها، ولكن عادل قاطع لحظات تهكمها قائلا:
لنعد إلى الموضوع
وحمل عادل الخاتم, ووضعه بحركة سريعة متقنة، في أحد أصابع سعاد وقال لها:
سعاد....هل تتزوجيني؟!
سعاد:ولكنك طلبت مني هذا الطلب قبل هذه المرة.....؟!
قال عادل مبديا امتعاضه:لا تفسدي هذه اللحظات....تصرفي بمنطقية أرجوك....
ثم أخرج عادل مشطا من جيبه، وأعاد تسريح شعره، ومسح وجهه ببعض الماء الذي أفرغه من كأس كان ملقيا أمامه، ثم أعاد تكرار طلبه:
سعاد....هل تتزوجيني...؟!
قالت سعاد:حسنا سأتصرف بمنطقية....أوافق
ثم عادت سعاد إلى الحديث و التساؤل:ولكن من سيمول مشروع زواجك
قال عادل:شكرا لك...أبي هو من سيمول مشروع زواجي بك...أما أنا فمن أين لي الزواج بك؟!
سعاد:ولكن أباك غاضب علينا كما قلت لي!
عادل:هذا صحيح ولكنه والدي....أي بعبارة أخرى هو أبي.....
وتابع عادل حديثه:ليس لأني رفضت أن أعمل إقطاعيا في أرضه, معناه أن يتخلى عن رابطة الدم التي تجمع بيننا....
لاحظي أن والدي رغم غضبه مني، ولعنه لي، ولكن في نفس الوقت هو من يمول جلستنا الآن....لاحظي أيضا أني ابنه الوحيد، ووريثه الوحيد في نفس الوقت....
ولاحظي أيضا أن أبي مريض بسرطان الدم....
سعاد:تقولها بكل أريحية.....هل تتمنى موت والدك؟
عادل:أنه الممول، ولكن ليس الوالد.....لقد أنجبني في لحظة كسل....في أحد لياليه الحمراء، واعتبرني حتى وقت متأخر من عمري غلطة حياته الوحيدة...
وأضطر لتربيتي بعد أن توفت العاهرة التي خرجت من بطنها....
بالكاد سمعت صوته طوال حياتي، بل كل ما أذكره منه هو تجهمه وقلة أدبه، وتفننه باستخدام الكلمات البذيئة الساقطة، وتلذذه باستخدام السوط لمعاقبة أحد البسطاء، الذي لم يرتكب سوى خطأ بسيط مثله....
قالت سعاد بعد أن أخرجت تنهيدة عميقة غير مكترثة:وماذا تنوي أن تفعل بعد أن يموت
قال عادل بثقة:سأبيع كل أملاكه، وكل ما يذكرني به، ثم أتوظف غير محتاج الوظيفة، سوى للاستمتاع بلحظات غريبة غير طبيعية، تدعى بلحظات إثبات الذات...
نظرت سعاد إليه، وأرادت أن تخبره عن جحوده، وشدة حقده، ولكنها آثرت الصمت.
وبعد لحظة صمت طويلة قال عادل:
لا تفسدي علينا هذه اللحظات بكثرة أسئلتك....قلت لك قبل قليل لا داعي أن نبحث عن شيء موجود بيننا.....دعينا نرقص
كان رقصا صامتا حزينا، ينظر فيه كل واحد إلى الآخر بحزن غير معروف مصدره....
كانت الدقائق والثواني تمر ببطء والعيون لا تفارق النظر إلى بعضها البعض....كأنها تسأل سؤالا صامتا، يريد تجنب الندم الذي قد ينتج مستقبلا....تسأل سؤالا متبادلا لا تعبر عن أهميته سوى لغة العيون:
هل يجب أن ارتبط بك....؟
هل يجب أن ارتبط بكِ....؟

تزوج عادل سعاد في وقت ما من عام 1975، واستقرا في شقة متواضعة في ضواحي المدينة القديمة، بعد أن باع عادل كل ممتلكات والده التي تبقت بعد أن استغنى عن جزء كبير منها لعشيقات والده، وأولاده الوهميين، لأن الاستغناء عن المال كان بالنسبة إليه خير من تربية طفل غير متأكد من صحة نسبه، يمارس عليه حين بلوغه الجحود الذي مارسه من قبله والده المشكوك بأمره....
ولم تكن مهمة عادل بالمهمة الصعبة في المدينة القديمة، إذ استطاع الإمساك بذاك القاتل المتسلسل، الذي أرعب الجميع، بمجرد أن درس الأدلة، ولم يعطه الفرصة لكي يرتكب جريمة أخرى....
ومنذ اليوم الأول الذي استلم فيه سلطاته كمدير للمركز وحاكم للمدينة القديمة، كانت أصوات صوت والده تعبق بأذنيه، فحكم عادل المدينة بيد من حديد....
وسرعان ما اعتاد أهل هذه المدينة الصغيرة على تصرفاته، لأنه حقق لهم الأمان والهدوء، رغم تمردهم بين فترة وأخرى على صرامته في التعامل معهم.
وحتى هذه اللحظة، منذ أوائل عام 1976، تاريخ استلامه لقيادة الشرطة في المدينة...لم تحدث سوى جريمة واحدة، أو بالأحرى جريمتان........
أحداهما هي الجريمة الأخيرة التي حدثت منذ أيام بمقتل رانيا خليل....
أما الثانية فقد حدثت قبل هذه الجريمة، بأربعة أعوام، أي في العام نفسه الذي استلم فيه عادل القيادة، لكنها لازالت مجهولة حتى هذه اللحظة، ولم يعلم بها أحد.

{الفصل الرابع}
وصل سعيد إلى فندق الأعمدة البيضاء، فرأى أحلام تجلس مع ذلك المدعو خليل في مكان معزول منزو في أحد زوايا الفندق....
كان صوتهم منخفضا كأنهم يتحدثون ويتهامسون بالأسرار، ولم يشأ سعيد أن يؤرق عزلتهما، أو يقطع عليهما حديثيهما، فأراد الصعود إلى غرفته، ولكن أحلام انتبهت إليه فصرخت منادية عليه:مساء الخير يا سعيد
فنظر إليها سعيد مبتسما وقال:أهلا.....
ثم هم سعيد بالصعود متجاهلا نظرات أحلام إليه.....
دخل سعيد إلى غرفته واستغرق في تفكير عميق، سأل نفسه:
هل أبدأ بالبحث الآن؟
لكن هذا سيثير الشبهات من حولي....لا بد من المغامرة يا سعيد، عليك الذهاب قبل فوات الأوان، وتابع سعيد حواره مع نفسه:
ولكن عادل....سيمسك بك في النهاية فلا تخف لأن كل الدلائل تشير إليك، كل ما تفعله هو عبارة عن تأخير لقدر حتمي، فعادل ليس غبيا....هيا اذهب...
كان الجو باردا جدا في الخارج، فبحث سعيد عن شيء مفقود من حوله....كانت القبعة التي اشتراها في ذلك اليوم، الذي كان به في طريقه إلى فندق الأعمدة البيضاء.
خرج سعيد متوجها إلى أماكن معينة...أماكن يحفظها عن ظهر قلب ويغرف كل ما فيها...وكلما اقترب سعيد من هدفه كلما ظهرت إشارات لأضواء حمراء وبدأت بالظهور....
دفع سعيد الباب بقدمه، فرأى وداد أمامه....صرخ بها أين يحيى؟!
لكن وداد كانت غارقة في دوامة سكر، تمشي نحوه بترنح، و بالكاد كانت قادرة على الوقوف:
أهلا سعيد....لقد غيرت شكلك ولكن ملامحك لا زالت كما هي...أستطيع معرفتك حتى لو قمت بتغيير جلدك...
صرخ سعيد مرة أخرى:أين يحيى؟؟
وداد:لازال صوتك كما هو يا حبيبي....كما عهدته في أول ليلة قضيناها سويا....هل تذكرها...هل تذكر تلك الليلة؟
وهمت وداد به،واندفعت نحوه محاولة تقبيله،ولكن سعيد أمسكها من كتفيها وبدأ يهز جسدها ويصرخ بها:
وداد....استيقظي....لقد انتهت كل القصص التي لازلت تتحدثين فيها
ماتت الحكايات وانكشفت كل الأكاذيب....أين يحيى؟
عند ذلك خرج يحيى من مكان ما، كأنه ولد من الظلمة التي تحيط بهذا المكان....
التفت إليه سعيد، وأزاح وداد من بين يديه بخشونة، ثم اتجه صوب يحيى بخطا واثقة غاضبة....
أمسك سعيد المدعو يحيى من رقبته ضاغطا عليها بشدة وقال له:
لقد سئمت....ما الذي حدث؟
أبعد يحيى يدي سعيد عنه بكل ما واتته من قوة، وتابعه حركته بدفعة غاضبة، أسقطت سعيد على الأرض، وخاطبه وهو لازال في مكانه:
كيف تجرؤ على الحضور إلى هنا....أنت قاتل....كيف واتتك الجرأة على الظهور أيها المغفل....
نهض سعيد من مكانه, ونفض ما علق على ملابسه من غبار بحركة سريعة، وقال بصوت خافت حزين:نعم أنا القاتل.....
يحيى:إذا ما الذي تريده مني....هل تريدني أن أشهد معك؟....وتابع يحيى كلامه:
وما الذي ستستفيده من شهادتي، وهل سيصدقها عادل؟....
خاصة بعد أن يكتشف أن بصماتك هي التي على السكين....لقد أردت حل جريمة يا سعيد ولكنك قمت بجريمة أخرى....؟!
لم يكن يحيى على علم بنوايا سعيد، لكنه كان متأكدا أن سعيد رمى بجثة رانيا في منتصف البلدة، ولم يخفها لسبب ما يدور في خلده، لم يعرفه يحيى بعد...
لكن مهما كان هذا السبب، فهو سيؤدي إلى الإمساك به حتما، وتابع يحيى كلامه:
لو كنت استعنت بي، لما حدث ما قد حدث....على الأقل كنت ساعدتك في إخفاء جريمتك، ومواراة جثة رانيا الثرى في أي مكان من غير الممكن أن يكتشفه أحد حتى عادل نفسه....
صرخ سعيد به:ألم تفهم بعد أيها الثمل، استيقظ....استيقظ ولو لمرة واحدة في حياتك أيها الغبي...وتابع سعيد كلامه بلهجة أهدأ من السابق:
أنا من وضع جثة رانيا في منتصف البلدة لأني أردت ذلك....أردت من عادل أن يكتشفها ويلقي القبض علي.....
قال يحيى:لأول مرة أتأكد بأنك ذلك القاتل....
سعيد:نعم تأكد....فأنا القاتل، وكل ما أريده الآن قبل أن ألتقي بعادل وأعترف له بكل شيء حتى قبل أن يسألني أو حتى يستدعيني....كل ما أريده هو شيء واحد فقط
أمسك يحيى يد سعيد، وقال له:تريد أن تعرف مكان قدر أليس كذلك؟؟؟
* * *
في ذلك اليوم الذي تأمل فيه جسد وداد العاري وغط بعد ذلك في نوم عميق نتيجة للسكر، نزلت وداد من عنده بعد أن ارتدت ملابسها، وهمت بالبحث عن يحيى، وبعد أن رأته غمزت له بأحد عينيها غمزة فهم منها يحيى أن سعيد قد غط في نوم عميق، وهي النهاية التي كانت محسومة بالنسبة ليحيى خاصة وقد مر عليه مثل سعيد الكثيرين....
وبذلك تكون وداد حصلت على أجر ليلة بدون تعب أو عناء، كما أنها لازالت تحتفظ بقوتها للبحث عن شخص آخر....
أما يحيى، فقد عاد إلى عمله وبدأ يصب الشراب للزبائن والباحثين عن المتعة، أو يلقي النصح ويوجه كل شخص إلى مطلبه ويوصله إلى غايته....كان أمينا جدا في عمله
استيقظ سعيد في الصباح الباكر، وأول ما شعر به هو بشائر المرض، فقد كان يعاني من حمى شديدة، ولم يكن قادرا على فتح عينيه، فجمع ملابسه مسرعا وأراد الخروج، ولكنه وقع من على السلم المؤدي إلى الطابق السفلي، ولم يستطع النهوض من مكانه لشدة تعبه وإرهاقه وسكره، حتى أشفق عليه يحيى وهم بمساعدته بالنزول، ثم أجلسه على نفس الكرسي الذي جلس عليه في الليلة السابقة.
كانت أول كلمة نطق بها سعيد هي:شكرا لك
يحيى:لا داعي للشكر، ولا تخف على نفسك إن كنت تشعر بالدوار أو بالحمى أو بالغثيان، فهذه كلها أعراض الاستيقاظ من السكر.
سأل سعيد:ما الذي حدث في ليلة البارحة....
قال يحيى: لاشيء....لم يحدث أي شيء
بدأ سعيد بحك دماغه، ونفض رأسه بحركة سريعة مثلما تنفض الطيور قطرات المياه عن ريشها وقال:لقد تذكرت...؟
لقد نمت بعد أن رأيت أجمل مشهد رأيته في حياتي.....
ضحك يحيى وقال:لا تخف، فهذا إعجاب متبادل وهي دائما في الخدمة....
سعيد:آه....وداد....لقد تذكرت....أين هي الآن؟
يحيى:لقد انتهت ورديتها....عليك الانتظار حتى الليل، ولكن ليس هنا
قال سعيد متغاضيا عن جملة يحيى الأخيرة:
ولكن إياك أن تشغلني بالسكر هذه الليلة أيضا.....
ضحك يحيى وقال:أنت الذي طلبت ذلك
فقال سعيد بعد أن بدأت آثار الاستيقاظ تظهر عليه:بالمناسبة...ما أسمك؟
يحيى....يحيى يا أستاذ سعيد
وأراد سعيد أن يكمل كلامه ولكن لفت انتباهه شيء لم يرى مثله من قبل في حياته.... كان فيما هنالك في الحانة، فتاة سمراء فاتنة، ترتدي نظارات ذات عدسات بيضاء مدورة حول عينيها.....يتساقط شعرها الأسود حول كتفيها....تجلس بصمت وهدوء شديدين، لا تكاد تُظهر أي معلم من معالم الحياة ولولا أنها حركت يديها لتشرب من قدح كان أمامها لظنها سعيد جثة هامدة...
تلك الشفاه الغليظة, وذلك الوجه المضيء، لم يوحي لسعيد أن هذه المرأة تعمل في العهر أو في البغاء....
نظر إليها مندهشا، مدفوعا من شدة جمالها، منجذبا إليها، شاعرا لأول مرة في حياته بالحب، ولاحظت هي مقدار تحديقه بها، فابتسمت في وجهه بلطف، ورفعت له يدها قاصدة السلام، فبادلها سعيد التحية وهم بعد ذلك بالخروج....
نظر سعيد إلى يحيى، وعلامات الدهشة لازالت واضحة في وجهه وسأله:من هذه؟؟
يحيى:أنها رانيا....
قال سعيد:وهل لها علاقة بالعهر؟
يحيى:نعم، للأسف أقولها من كل قلبي، فهي عاهرة ولكن من نوع آخر
سعيد:ماذا تقصد بكلمة(من نوع آخر)؟
يحيى:أولا، هي مثقفة مما يجعلها صعبة المراس، تتحلى بنوع كبير من الكرامة وعزة النفس.....فهي تختار زبائنها بعناية أو بالأحرى هم الذين يختارونها، وتطلب منهم أجورا خيالية عالية، وترفض أن تنام مع أكثر من زبون في ليلة واحدة....لقد أصبحت معروفة، بل هي معروفة منذ اليوم الأول الذي حضرت به إلى هنا, فزبائنها يطلبونها بالاسم.....وتابع يحيى كلامه:
ورغم كل الذي قلته لك، فهي مطلوبة بشكل كبير، ولولا الشروط التي تفرضها على من يرغب بجسدها لكان الحجز عليها مسبقا....
سعيد:يبدو لي أنها مجبرة؟
يحيى:من الواضح أن لها قصة، ولكن هذه القصة واضحة على الأقل من وجهة نظري.
سعيد:ماذا تقصد.....؟!!
يحيى:إن والدها هو خليل، ولو كنت ابنا لهذه المدينة لكنت عرفت من هو خليل
نظر إليه سعيد وعلامات التساؤل واضحة على شكله غير المرتب، فتابع يحيى كلامه:
كان المدعو خليل، يمتلك أكبر بيت للعهر في المنطقة، وليس في المدينة فقط.....ثم سكت يحيى....
قال سعيد:إذا....ماذا بعد ذلك؟
لقد تزوج....ثم رهن هذا البيت لزوجته...والآن يعيش مشردا
سعيد:كيف ذلك....
يحيى:عاقبه عادل في يوم ما بشدة....هذا كل ما أعلمه، وتابع يحيى:
إذا كنت ترغب بها فحاول معها، وليس معي، فهي سيدة نفسها....
نظر إليه سعيد مبتسما وأرتشف قدحا من الخمر كان يحيى قد أعده له، ثم قال:
يكفيني وداد الآن....إلى اللقاء, سأحضر في المساء....
وأخرج سعيد رزمة كبيرة من النقود ووضعها أمام يحيى، ثم قال:
هل هذا يكفي.....؟
قال يحيى:أهلا وسهلا بك.....
* * *
بعد هذا اليوم توطدت علاقة سعيد بهذا المكان، وكان يذهب إلى مزرعته في قرية القصر كل يومان، تاركا والده وكيلا عنه في الإدارة، خادعا نفسه مقنعا لها بالحيل والأكاذيب عن هذا الشيخ ذو المئة عام، الذي لم يعدل من جلسته ولا من مسار نظره طوال ثلاثة أعوام.......
إلا أن الليالي التي كان يقضيها مع وداد كانت تكفي لأن تشكل عذرا مقنعا للثقة العمياء بوالده، وترك مزرعته بين يدي أشخاص مهملين سرعان ما تكاسلوا واكتفوا بالعمل أمام سعيد فقط، لأن بركات لم يكن ليحيد عن صمته، أو يعيد استعمال حاسة البصر لديه، بعد أن وهبته ذلك الانتصار الذي دعاه هو في يوم ما بالأخير....
كان سعيد غارقا في المتعة مع وداد، حتى صار زبونها الخاص، ولم يحدث أن نظر إلى غيرها طوال عام كامل، بينما كانت هي تشعر بالسعادة الغامرة حين تسمع خطواته، وتنطلق إليه مهملة كل الآخرين من أجله، منتظرة على أحر من الجمر الهدية التي سيحضرها له معه في كل مرة....
لقد منحها سعيد الحب لأول مرة في حياتها....لأول مرة في حياتها يتحول عالم الحانة إلى عالم وردي، مليء بالتفاؤل والأمل....
تتحول فيه الحانة بضربة سحرية من جنية خيالية، إلى عالم يتكون من شخصين اثنين....إلى عالم تموت فيه كل المشاعر إلا مشاعر الحب التي أمامه تركع كل الرغبات الحيوانية.....
ومع الأيام انقلبت حياتهما، لتتحول من زبون ومومس، إلى زوج وزوجة.
أما سعيد فكان هناك شيء واحد يكدر عليه حبه، ويعطل عليه مساره، ويجعله لا يشعر بذلك المقدار من السعادة الذي تنعم فيه وداد....
كان كلما نظر إلى تلك السمراء الفاتنة الصامتة، انقلب تفكيره، وأصبحت وداد بالنسبة إليه ليست أكثر من عاهرة تلبي رغباته وحاجاته.....بل هي لا تستحق منه كل ذلك العطف والحنان التي ينعم بهما عليها......
عندما يحاول النظر إلى تلك العيون بوضوح، محاولا اختراق ما يغطيهما من حاجز زجاجي مدور يطلقون عليه اسم العدسات، تنتابه نوبات غريبة.....نوبات من الغضب
الممزوج ببعض الاكتئاب والكره للحياة....
كلما نظر إلى تلك العيون كان يسأل نفسه:
من أنا...من أكون....عن ماذا أبحث؟
ما لذي تركته خلفي، وما هو الذي أمامي؟
تنبعث أسئلة الذات منه كسيل عارم، كقلب نابض لا يتوقف عن الخفقان، كنيران....كجحيم يأكل بعضه بعضا.
واعتادت وداد على تلك اللحظات، رغم أنها لم تعرف سببها، ولم تحاول أن تسأل سعيد ولو لمرة واحدة عن سرها، مقدرة أن سعيد يعاني من مشاكل الحياة اليومية، ولا بد له من منفذ لتنفيس غضبه، ولم تكن تهتم كثيرا بتلك الطريقة التي ينفس بها عن غضبه، لأنه سرعان ما كان يستيقظ ويعود إلى طبعه ورقته في التعامل والحديث ، وتمرير يده على جسدها.....وانقطعت وداد عن النوم مع شخص آخر أو سواه.
لقد اعتبرته زوجها، برابطة مقدسة هي التي خلقتها، وهي التي أخلصت لها....
أما سعيد فبعد أن اجتاحته هذه الأفكار في بداية معرفته بوداد، إلا أنه سرعان ما اعتبر ما يفعله ليس إلا فحش معلن وإعجاب زائد عن حده بعاهرة.
ولكن سعيد الذي انتقص من قيمة وداد واعتبرها مجرد عاهرة، كان ينبض بالحب في داخله لشخص ما يعرفه....يشعر أنه يعرفه منذ آلاف السنين.
وسرعان ما سيعرف إنه وقع بحب امرأة مثل الذي احتقرها في السابق....وقع بحب عاهرة.
أما يحيى فكان يلعب دور المراقب فقط.....ويعلق داخل نفسه على مجرى الأمور، مثل المعلق الرياضي، الذي يعلق على مباراة لكرة القدم وهو صامت.

لم يكن سعيد ليرفض أي طلب لوداد، خاصة عندما طلبت منه تغيير روتين حياتهم الرتيب، وطلبت منه الخروج معها لقضاء يوم بعيد عن أعين الذين يرتادون الحانة....بعيد عن الذين تكرههم وتكره رؤيتهم
غيرت وداد شكلها، واتخذت مظهر الآنسة الأنيقة الراقية، ولم يكن ليظن أحد أو يصدق أن هذه الفتاة هي وداد العاملة في الحانة....
كان يوما دافئا من شتاء عام 1979، استنشق فيه سعيد ووداد الهواء العليل غير الممزوج برائحة أنفاس المخمورين أو سحب الدخان المنبعثة من سجائر العابثين في أنحاء الحانة.....
في هذا اليوم أعلنت وداد حبها لسعيد بكل بصدق وبكل صراحة.....أعلنت له ابتسامتها وخفة ظلها، أعلنت له حبها بخوفها عليه....بخوفها من فقدها له، وعدم تصديقها للأفكار الدونية التي تعبث في رأس سعيد، أعلنت له حبها عندما وعدته بالتوبة، وترك خبث المهنة، والالتفات له وحده فقط، دون أن تبدي اهتماما لأي أحد غيره.....
أما سعيد فكانت تلك الأفكار دائرة في دماغه، متشككة، تسأل نفسها سؤالا واحدا:
كيف سترتبط بعاهرة يا سعيد....؟
هل هذا هو الحل، هل ستأمن مستقبلك إذا عشت معها؟....وكيف ستثق بها؟
شعر سعيد بنوبة الغضب تنتابه مرة أخرى بعد أن دارت في دماغه هذه الأفكار، لكنه تمالك نفسه ومنعها من إبداء أي ردة فعل ثائرة متمردة على الذي يحدث....على الحيرة التي يعيش بها ولا يعرف منها مهرب.....
ابتسم ابتسامة خافتة وقال لوداد:
إلى اللقاء، سأذهب إلى القرية الآن.....وأدار سعيد وجهه من غير أن يلقي أي نظرة أخيرة لوداد....
نظرت إليه وداد بيأس واضح، بيأس يتنبأ بشيء قادم لا محالة......
لكنها سرعان ما خدعت نفسها مرة أخرى وأعطته أعذارا لا مبرر لها وصرخت بأعلى صوتها:سأنتظرك.....
وظل سعيد ماشيا في دربه كأنه لم يسمع أي صوت ينادي عليه واعدا إياه بالانتظار.
وبدلا من أن يتوجه سعيد إلى قريته كما قال، توجه إلى الحانة بشكل لا شعوري وإرادة لا واعية, وهناك جلس على كرسيه المعتاد، أمام يحيى مباشرة، وبدت علامات الانزعاج وضيق النفس بادية عليه، ولم يشأ يحيى أن يعكر صفو تفكيره؛ فصب له كأسا ممتلئ عن آخره وقال لسعيد:
النسيان نعمة....نعمة لا تفرط بها
وأزاح يحيى الكأس بيده ليصدر ضجيجا خفيفا وليستقر في نفس الوقت أمام سعيد بالضبط، بينما تابع يحيى عمله من غير اكتراث أو اهتمام بسعيد، وإذ بسعيد يتكلم:
يحيى...لو كنت مكاني هل ترتبط بوداد؟
يحيى بعد أن أدار وجهه:ألم تخبرك وداد شيئا ما؟
سعيد:ماذا تعني....شيئا مثل ماذا على سبيل المثال؟!
يحيى: لا اقصد شيئا....لو كنت مكانك أو في مكان أي رجل آخر سأرفض طبعا....إن المومس هي لإشباع الرغبات فقط, ولا أعتقد أنها تصلح كزوجة ولكن أنت بالذات عليك التفكير مليا...
سعيد:كأنك تتحدث بالألغاز....ماذا تقصد؟
يحيى:أعتقد بأنك ستعرف عن قريب ما أقصده.....
سعيد:لك ما تريد، لن ألح عليك بالأسئلة لأنك ساعدتني كثيرا....وأرتشف سعيد رشفة كبيرة طويلة من الكأس الذي أمامه ثم بدأت عيناه تدور حول الحانة السوداء، كأنها تبحث عن شخص ما.....
وبعد لحظة استقر نظر سعيد ووجد هدفه المنشود، فقام مسرعا وتحرك صوب شخص كان يشغل تفكيره منذ قديم الأزل.....تحرك صوب شخص رقيق ناعم بمجرد أن تحدث معه أحس برغبة عارمة في البكاء......
ابتسمت رانيا له وأشارت له بالجلوس.....
جلس سعيد واضعا كف يده على يدها التي أرادت الوصول إلى قدح الشاي الساخن الذي كان يستقر أمامها....
ابتسمت رانيا التي لم تعجبها هذه الحركة، وأرادت الحديث، ولكن سعيد رفع يدها وقبلها ثم أنزلها ببطء وهدوء مرجعا إياها إلى المكان الذي سحبه منها....
وقال بصوت يبعث على الضحك:أنا سعيد.....سعيد بركات
ابتسمت رانيا وكانت على وشك الضحك عندما قالت له:
أعرف ذلك....أعرف ذلك عن ظهر قلب
سعيد:هذا يسرني.....ما الذي تعرفينه عني؟
رانيا:أعرف إنك زبون خاص بوداد منذ عام كامل....كنت دائما أشاهدك في هذه الحانة معها طبعا، وترفض معاشرة فتاة غيرها حتى بدأت أظن أن هناك نوع متبادل من الود بينكما....
سعيد:أنا....لا هذا ليس صحيحا
ضحكت رانيا وقالت:إذا مللت منها أخيرا
قال سعيد بتلعثم واضح:لا الموضوع ليس كما أنت تفهمينه
رانيا:إذا ماذا تريد مني؟
سعيد:أنا لا أريد شيئا سوى التحدث معك.....لا أريد أي شيء آخر
رانيا:وبعد هذا الحديث.....
فكر سعيد مليا قبل أن يقول:أريد دعوتك إلى مكان هادئ
ضحكت رانيا...ضحكت بشدة ثم قالت:أن آسفة، ولكني لأول مرة في حياتي أتلقى مثل هذا الطلب....وتابعت رانيا حديثها:أنت شخص مختلف
سعيد:ماذا تعنين
أعني بكل صدق، أنك نختلف عن الآخرين الذين يرتادون هذه الحانة....يبدو لي أنك تتمتع بشيء من الأخلاق النادر أن تجدها بين هؤلاء الشوارعيين القذرين الذين يرتادون هذا المكان.....
سعيد:أشكرك على هذا الإطراء....وما قلتيه صحيح جدا
رانيا:في نفس الوقت لا أستطيع أن أقبل دعوتك....هل تعرف معنى أن تحرم مومس من الحب....فكر فيما أقوله بشكل عميق يخترق العاطفة ليدق أبواب العقل...
هل تذوقت مثل هذه السعادة....هل تذوقت الأمل بحياة جديدة مختلفة...أنا آسفة، أنت لست زبونا عاديا لوداد، أنت تقريبا زوج لها...
صرخ سعيد غاضبا:إياك أن تقولي مثل هذه الكلمة مرة أخرى....وداد حبيبتي وسيدتي، وأكثر امرأة أحببتها في حياتي، ولكنها ليست زوجتي، ولن تكون أبدا زوجتي.
رانيا:أعرف أنك كنت ستقول ذلك، لأنكم كلكم متشابهون، وفي نفس الوقت لن أقبل دعوتك....
لأول مرة لاحظ سعيد مقدار الجمال الذي تتمتع به رانيا....لاحظ تلك العيون السوداء المدورة الرائعة التي تختفي وراء تلك العدسات....
قال سعيد:يبدو لي أنك أيضا لست وجها للعمل الذي تقومين به....يبدو لي أنك تتمتعين بقدر جيد من الأخلاق التي تحدثت عنها قبل قليل، فما الذي رماك على مثل هذه المهنة
ابتسمت رانيا:سمعت مثل هذا الكلام كثيرا....كلكم تتساءلون عن السبب...ألا يكفيكم أن ألبي متعكم....أن أشبع غرائزكم
قال سعيد:بشيء من الاهتمام:لا هذا لا يهمني....أريد أن أعرف السبب مصرا متأكدا أن هناك سبب ما يدفع هذه اللهجة المنمقة التي تدل على ثقافة وحسن إطلاع، على العمل بمثل هذه المهنة...
قالت رانيا والغضب بدا واضحا عليها:أولا عليك أن تعرف بأني لا أعمل بشكل رسمي، ولا أعرض نفسي للبيع مثل الأخريات....ثم صمتت رانيا
قال سعيد بهدوء محاولا امتصاص غضب رانيا:وثانيا....؟
رانيا:ثانيا، لا شأن لك ولا تتدخل فيما لا يعنيك....
أرادت رانيا النهوض، وأمسكت حقيبتها السوداء المزينة بسلسلة فضية بيضاء...
ولكن سعيد منعها بأن أمسك يدها مرة أخرى بنفس الطريقة وقال:
رانيا....اجلسي ولا داعي للعصبية
رانيا بعد أن عاد إليها شيء من هدوئها:وما الذي يدفعني إلى ذلك....ما الذي يدفعني إلى الجلوس معك...
صمت سعيد وأراد النطق بكلمة، ولكنه تردد في النطق وعاود إلى الصمت، وعند ذلك صرخت رانيا من جديد:
أنت كاذب، دع يدي وإلا قمت بضربك أيها الحقير...
حررت رانيا يدها من بين براثن سعيد وأرادت الذهاب، ولكن سعيد أمسك بيدها بقسوة هذه المرة وصرخ بها:لأني أحبك
لم تأبه رانيا لكلامه وقالت:اذهب ونم مع غيري...فتش عن وداد التي كانت خادمة لك طوال عام كامل، فأنا لست ممن يخدعون بسهولة....
صرخ سعيد بغضب:وداد نزوة في حياتي فالتذهب إلى الجحيم....طوال ذلك العام كنت أحبك أنت وليس هي...طوال ذلك العام وأنا أتمنى الحديث معك ولكن كانت وداد دائما تسرق مني الفرصة....أنا أحبك وأرغب بك كأي رجل لا يستطيع أن يكتم رغباته عندما يراك أو يرى شعرك الأسود الناعم....أنا أرغب بك ولكن كزوجة لي...
ابتسمت رانيا باستهزاء غير مصدقة كلمة،من الكلمات التي قالها سعيد لها، غير واثقة بحسن نواياه وقالت:لا بد أنك قلت هذا الكلام لوداد من قبلي...
سعيد:لا....وكما قلت لك فالتذهب وداد إلى الجحيم مثلها مثل كأي عاهرة أخرى..
رانيا بعد أن عاد الغضب يتدفق من وجنتيها:ولكن أنا عاهرة أيها الغبي....!
سعيد:لن تكوني كذلك إذا قبلت الزواج بي....الآن في هذه اللحظة إذا أردت....
دخلت وداد إلى الحانة في هذه اللحظة، ورأت سعيد يجلس مع رانيا، ولكنها لم تفقد أعصابها، ولم تذهب حتى لسعيد أو تحاول لفت انتباهه بحضورها، بل نظرت إلى يحيى وسرعان ما همت بالسؤال:
ماذا يفعل سعيد مع رانيا يا يحيى؟
نظر إليها يحيى بأسف ولكنه تمالك نفسه وقال:إنه لقاء تعارف فقط
قالت وداد باستهزاء:هذا ما يبدو لي....
نظر إليها يحيى بأسف مرة أخرى وقال لها:
وداد أنت لست غبية, ويبدو أن قصة تقليدية على وشك الحدوث....يبدو أن سعيد قد مل منك يا وداد
وداد:ولكن هذا لم يكن متوقعا هذه المرة بالذات يا يحيى....
يحيى:أعرف ذلك....عليك أن تخبريه يا وداد
وداد:ليس الآن....دع كل شيء في وقته، وأبقى متكتما على سري....
يحيى:كما تشائين يا وداد....كما تشائين.























{الفصل الخامس}
كانت الضجة عالية في ذلك المكان، وأصوات القادمين والذاهبين والتائهين في غمرة الازدحام في هذا المكان واضحة جدا.....
رائحة مقرفة تعبق بالمكان، وأصوات ضحكات قذرة عالية تخرج من فترة إلى أخرى..
يخمرون،ينتمون إلى إحدى الطوائف(الخليستية) التي تؤمن بالمشايعة الجنسية، وتعيش الحياة حبا بالرذيلة وانتقاما من أي جزء من الأخلاق....
يخمرون ،يسكرون،تفوح منهم رائحة العرق المتعبة من الملذات....ذو وجوه سمراء مقرفة، ولحا طويلة خشنة تعلق بها السوائل المسكرة وقطرات العرق المنسابة تباعا من وجوه أصحابها الخائفة المختبئة خلف سحب كبيرة ضخمة من الدخان...تظهر من خلالها أجساد لطيفة ناعمة مترنحة لأنها تعمل بالدعارة....
تخرج منها ضحكات أسطورية تعبر عن الخروج من الجسد....تعبر عن الفراغ الداخلي كأنها دمى تتحرك من غير أي إدراكات إنسانية.....من غير انحدارات تأملية نحو التفكير بالدوافع والأهداف....
كلهم كانوا ينادون بالمتعة رخيصة الثمن.....كلهم كانوا يعانون من انحرافات خلقية وجنسية هدفها الوصول إلى أكبر قدر من المتعة لينشروا هذه الانحرافات في كل مكان...على السلالم....على الطاولات....على الجدران كان هناك رجل يمارس الفاحشة مع امرأة بعد أن انكشفت الرغبات، وأيقن أصحابها أنها رغبات متشابهة لا داعي للخجل منها أو إخفائها خلف جدران، أو ممارستها من خلف أبواب....
لم تكن أوضاعهم تدل على (ماز وكية ) ولا على (سادية) أوعلى شذوذ جنسي أو حتى شذوذ بشري بخروجه عن الطبيعة، لأنهم كانوا طبيعيين جدا في ممارستهم لرغباتهم في مكان لا يدق أبوابه العقل إلا في التركيز على مقدار الرغبات.
وأحيانا، كان يستطيع أي شخص دخول هذا المكان مستغلا الزحام وانشغال أصحابه، ليفعل ما يشاء ويخرج، من دون أن يدفع قرشا واحدا....

دخل خليل في تلك الليلة من عام 1956 غاضبا على غير عادته....دفع الباب بقدمه ورأى منظرا اعتادا على مشاهدته في كل يوم....عاهرات ترقص عاريات تماما من أي قطعة، أشخاص ممدون على طاولة فوق بعضهم البعض....اثنان من السكارى يتعاركون عراكا واهنا لشدة سكرهم....أربعة شبان يلاطفون امرأة واحدة بعمر جدتهم.
صرخ خليل بأعلى صوته:فليخرج الجميع الآن....
نظر الجميع إليه باندهاش واضح إلى مالك هذا المكان...!!!
وتابع خليل كلامه الغاضب:هل تعتقدون أني أمزح معكم أيها الأوغاد...
تحرك خليل إلى وسط الصالة، وأمسك أكبر طاولة كانت تتوسط الصالة، ورفعها بكلتا يديه إلى أن أصبحت فوق رأسه، ثم ألقاها بقوة أسطورية فتهشمت إلى قطع صغيرة محدثة ضجة عالية أيقظت الجميع من سكرهم، ولفتت انتباه النائمين الممارسين لطقوسهم المقدسة في الطوابق العلوية....
ظل الجميع ينظر إليه باندهاش ولم يحرك أحد ساكنا، مما أثار غيظ خليل أكثر، فأخرج من جيبه مسدسا وبدأ يطلق منه طلقات عشوائية فرقت الحاضرين، وأحدثت زوبعة من الخوف فيهم دفعتهم للخروج بتدافع من الصالة، نحو الباحة الكبيرة التي تحيط بحانة الؤلؤة.....
صعد خليل إلى الطوابق العلوية، وبدأ يقتحم الغرف ويخرج من فيها بقوة وعنف، وكان على وشك أن يحمل واحدا منهم ويرميه إلى الطابق الأرضي لولا أنه لاذ بالفرار وهو عاري من كل شيء.....
عندما تأكد خليل إنه لم يعد هناك أحد داخل المبنى، خرج إلى الباحة وصرخ بأعلى صوته:
أيها الأنذال....أيها الحقيرين، إن رأيت واحدا منكم داخل الباحة بعد دقيقة واحدة سأقوم بقتله بمسدسي هذا.....
ثم عاد خليل يطلق النار من مسدسه كما كان يفعل قبل قليل......
دخل خليل، وأغلق الباب من خلفه، ونظر وتأمل في الفوضى التي عمت المكان، وهذا الصمت الذي يحيط به بشكل لم يعهده خليل من قبل....
في نفس الوقت، كان هناك وجها ما يرقبه من مكان بعيد في الحانة، ولم يشعر به خليل بعد، فأمسك هذا الشخص كأسا زجاجيا ورماه على الأرض قاصدا كسره للفت انتباه خليل إليه، وعندما سمع خليل هذا الصوت خرّ في مكانه متجمدا مقشعرا، والتفت إلى مصدر هذا الصوت.....
كانت هناك فتاة تجلس على طاولة ما، تحرك قدميها بهدوء إلى الأمام وإلى الخلف .... نظرت إليه بعدم اكتراث أو اهتمام وقالت:ما بك أيها الضخم....؟
كان خليل بهيئته تلك، يشبه الكائنات الأسطورية لفرط ضخامة جثته، يمتلك وجها طويلا لامعا تتوسطه عينين غائرتين تحيط بها هالة من السواد، و بالكاد ينمو على رأسه الشعر، فقد كان أصلعا صلعا ماحقا....ورغم ضخامة جثته، إلا أن جسده لم يكن متناسقا لأن هناك كرش واضح يظهر أمامه ويشوه منظره......
قال خليل:لقد فقدت عقلي.....لقد قتلت شخصا ما
نظرت إليه أحلام باندهاش واضح, ثم قالت متسائلة:
ومن الذي قتلته....وأين جثته؟
قال خليل:تمهلي فأنا لم أفقد عقلي بعد، لقد أبرحته ضربا وهو على وشك الموت....
وتابعت أحلام نظراتها المستفسرة....فتابع خليل كلامه:
هذا الرجل الذي أتحدث عنه خطف ابنتي رانيا، وقال إنه لم يردها إلا إذا سددت دينه....
قالت أحلام بعدم اكتراث:إذا سد إليه دينه.، وتابعت أحلام كلامها:
ومن رانيا هذه....؟
أحلام ما بك!...رانيا ابنتي....عمرها ثلاث سنوات هل عرفتها؟
أحلام:أعذرني يا خليل فإن بناتك كثر، وأعتقد إني عرفت الرجل الذي ضربته....إنه جابر, أليس كذلك؟
وتابعت أحلام حديثها:أنه جابر الذي داهمت منزله في بداية حياتك كمجرم، واغتصبت زوجته، وسرقت أمواله وبنيت فيها هذه الحانة....أو بيت الدعارة
خليل:لك ذاكرة قوية يا أحلام، وأنا أعرف ذلك، ولست بحاجة إلى إثبات لكلامك، أنا أريد ابنتي الآن....
قالت أحلام:أخرج الرجل من السيارة، وأحضره إلى هنا، وبعد ذلك سأعرف بطريقتي مكان ابنتك....
كان لأحلام سيطرة كبيرة على خليل، فبعد أن عطفت عليه وداوت جراحه، بعد أن قام بمشاجرة عنيفة استطاع فيها صرع ثلاث رجال، وكان الغدر من شيم خليل، ومن شيم من يتشاجر معهم أيضا، فتلقى خليل ضربة من الخلف ثم أحاط به هؤلاء الرجال وابرحوه ضربا ثم لاذوا بالهرب....
في ذلك اليوم قام مدير الحانة وعماله برميه خارجا وهو مثخن بالجراح، ولكن أحلام شعرت بالشفقة عليه وحملته، وقامت بمداواة جراحه في منزلها...
بعد أن استيقظ خليل من محنته ومن طول غيبوبته، اكتشف أن هذه الفتاة البشعة قامت بإنقاذ حياته......
منذ ذلك اليوم أحب خليل أحلام حبا شديدا، ولم يكن ناكرا للجميل، وارتبط معها بعلاقة مودة لم تنفصم حتى الآن.....
لم يكن خليل على علم بأنها أنقذت حياته بناء على حاجة محضة....بناء على رغبة مدفوعة من اللاوعي، لأنها هي نفسها لم تعرف لماذا قامت بإنقاذه، وعطفت عليه إلى هذه الدرجة.....
كانت تعرف نفسها، موقنة حقيقة تلقنتها منذ الصغر، بأنها فتاة بشعة قبيحة، فاقدة الأمل منذ الطفولة من أن ينظر إليها أي رجل، فوجدت حلا عادلا لحاجتها....أنقذت مجرما من حالة موت أكيدة مقابل أن يقع في حبها....
ولكن خليل فهم الموضوع بشكل خاطئ، فعطف عليها وتبناها وولاها إدارة أملاكه فيما بعد، لكنه لم يطمع ولو لمرة واحدة بها، واعتقد إنه لو فكر هكذا لتنكر إلى جميلها....تنكر إلى من أنقذ حياته وأصبح جاحدا لجميلها...
لم تكن تعمل كخادمة في أملاكه، بل سيدة آمرة ناهية، وخليل نفسه هو الذي أبعد عن تفكيرها أفكار العهر ومقوماته وعدم الاختلاط بأصحابه أو الاتحاد معه، مؤمنا لها كافة وسائل العيش الكريم من وسائل غير كريمة....
في بعض الأحيان، كان خليل يعطيها نصف ريع الحانة، متقاسما معها قوته، معتبرها شريكة له في كل شيء، ولكنه لم يفكر ولو لمرة واحدة بالزواج منها، ليس لأنها كانت بشعة، بل على العكس فبعد أن اعتاد خليل على شكلها أصبح يراها جميلة....بل جميلة جدا.

في ذلك اليوم الذي استرد فيه خليل قوته وعافيته، سألته أحلام بعد أن لاحظت أنه ذاهب إلى مكان ما:إلى أين أنت ذاهب؟
كان الشرر يتطاير من عيني خليل، وعلامات الغضب ظاهرة واضحة على كل ملامحه، وقال لها:أنا ذاهب للانتقام.....
كان انتقام خليل متينا صلبا، ماتت فيه كل المشاعر الإنسانية أمام دافع الانتقام، فذهب واقتحم منزل شخص ما يدعى جابر، وأبرحه ضربا حتى كاد يقتله، وعندما لاحظ أن هذا المدعو جابر لم يعد قادرا على تحمل ضرباته له، عرى زوجته وقام باغتصابها أمامه، ثم سرق كل المبلغ الذي كان متنازعا على تقسيمه في تلك الليلة التي ضرب بها خليل....وبعد أن فرغ خليل من عمله، نظر إلى جابر وهو سابح في دمائه وقال له:
إن رأيتك مرة أخرى في المدينة القديمة سأقتلك...
عاد خليل إلى أحلام، وأمسك بها من يدها، وقال لها:
لا داعي للمكوث مدة أطول في هذا المكان الحقير...!
قالت أحلام:إلى أين تريد الذهاب؟
قال:سأجعلك تقيمين في أفخم مكان في هذه المدينة، حتى أنفذ مشروعي الذي سأجعلك في القريب العاجل مديرة له...بل سأجعله ملكا لك، استسلمت أحلام له، ولشدة اندفاعه وثقته من نفسه فيما يقوم به، وهمّت تريد ترتيب حاجياتها وجمع أشيائها، ولكنه أمسكها مرة أخرى قائلا لها:
دعك من ثيابك الرثة، قلت لك بأني سأجعلك مديرة لمشروعي القادم، وأصحاب الأملاك لا يليق بهم إلا الملابس الفخمة.....
هلمي بنا الآن، سأشترى لك كل ما تحتاجينه في الطريق
وحقق خليل أحلامه، وبني أكبر مبنى في المدينة القديمة، وجعله مرتعا لبيع الملذات بكافة أنواعها مهما كانت شاذة أو غريبة، كأن هذا المبنى هو المحارة التي يبحث عنها الظامئ للمتعة والرغبة ويتمنى أن يجد داخلها اللؤلؤة التي سترضي رغباته، فسمي خليل مشروعه الضخم (بحانة اللؤلؤة)، التي جلبت رفاها اقتصاديا كبيرا للمدينة القديمة لأن اللؤلؤة كان يأتيها الزوار من شتى بقاع الأرض.....
* * *
في ذلك اليوم الذي دخل فيه خليل إلى حانته غاضبا متعبا مرهقا، قام بإدخال جابر إلى صالة الحانة وهو مكبل بالسلاسل تغطيه الدماء من كل ناحية، وعدد كبير لا يحصى من الكدمات والضربات التي تلقاها من خليل....
ألقى خليل بجسده بإستحقار، وظل يدفعه بقدمه حتى أوصله إلى أمام أحلام، ثم قال:
إنه لك....تصرفي، المهم أن تعرفي أين وضع هذا الحقير ابنتي
قالت أحلام:إن لك أولاد كثر، من عاهرات كثر، ولكنك لم تعترف بأي واحد منهم وانتهى مصيرهم إلى الشارع، وهم لازالوا في المهد، فلماذا رانيا بالذات التي أراك قلقا عليها إلى هذه الدرجة؟
قال خليل:لا داعي إلى كثرة الأسئلة....أنت تعرفين مقدار حبي لرانيا
أحلام:ولكن لماذا؟
خليل:لا أعلم....لست شاعرا لأصف لك مقدار حبي لها بالذات....دعك مني ومن قلقي وتصرفي مع هذا الشخص كما وعدت......
قالت أحلام:حسنا....ولكني أراك قد أبرحته ضربا
قال خليل باستهزاء:تعتقدين!.....لقد كدت أقتله من كثرة ما ضربته، ولكن هذا الحقير لم يرض أن ينطق بأي كلمة....
قالت أحلام وهي تتحرك نحو البار:هناك مثل يقول:ابحث عن المرأة، وتابعت أحلام:
هل تعرف لماذا ضرب هذا المثل.....؟
قال خليل بغضب واضح:لا
أحلام:هدئ من روعك يا حبيبي، لقد ضرب هذا المثل لأن المرأة تستخدم عقلها يا شاطر....
كانت أحلام تبحث عن شيء ما يختبئ خلف زجاجات الخمر، وسرعان ما أخرجت زجاجة صغيرة، وأمسكت منفضة سجائر حديدية وتقدمت بهدوء مخيف نحو جابر الذي كان ينظر إليها بخوف شديد....
اقتربت أحلام من جابر وقالت:ألا تريد الحديث بعد يا جابر؟
أنّ جابر أنات من خلف الرباط الملصق على فمه, إشارة بالاستهزاء وعدم الاهتمام
قالت أحلام:أنت حر....
وضعت أحلام المنفضة الحديدية أمام وجه جابر الملقي على الأرض، وفتحت الزجاجة وألقت منها بعض القطرات لتصطدم بالمنفضة الحديدية وتحولها إلى مادة منصهرة.
نظرت إليه أحلام بابتسام واضح وقالت له:والآن، ما رأيك أن نعيد الكرة على جسدك
ولم تعط الفرصة لجابر ليبدي رأيه وقالت لخليل آمرة:اخلع حذاءه
بدأ جابر يصرخ في مكانه، ويتحرك حركات يائسة، مبديا أقوى نوع من المقاومة يستطيع إظهارها في مثل هذا الموقف.....
ولكن أحلام كانت أقوى منه، وفرضت إرادتها عليه، وألقت بقطرة واحدة على إصبع قدمه الكبير، فبدأ جابر يصرخ صرخات متألمة مجنونة، ولكن أحلام قالت بكل برود:
دعه يتألم يا خليل....دعه يذق الألم وحدته وقسوته حتى يفكر مليا قبل أن أفرغ ما في هذه الزجاجة على وجهه....
نظر إليها خليل بعين مبتسمة راضية، كأن أحلام أشفت غليله وجعلته يشعر أن ابنته في طريقها إليه.....
قالت أحلام:انزع الرباط عن فمه يا خليل
والآن يا جابر، هل تريد الحديث أم......وقاطعها جابر قائلا:
إن ابنتك يا خليل في الحفظ والصون، خذني في سيارتك وسأدلك عليها وأعطيك إياها على شرط واحد....فنظر خليل إلى أحلام بعد أن سمع جملته الأخيرة!
قالت أحلام:دعه يتحدث بما يريد يا خليل
قال جابر بسرعة:لا أريد شيئا، أريد الأمان، وأعدك إني لن أتعدى عليك أو حتى أفكر في الاقتراب منك طوال حياتي، إن كان لي عمر باقي.
أراد خليل الكلام، ولكن أحلام سبقته وقالت:أنا أضمن لك الأمان
واستلم خليل ابنته رانيا ذات الثلاثة سنوات، وترك جابر في حال سبيله شاكا في الوقت نفسه، إن كان هذا الرجل لازال قادرا على الحياة.....
* * *
هكذا كان حال المدينة القديمة، لا تعرف الهدوء أو الاستقرار، مغمسة بالإجرام والمجرمين ممن يعتبرون تلامذة لخليل ومن أمثاله، حتى جاء عادل وضرب بها بيد من حديد.....
اكتشف عادل أن سلسلة الجرائم التي بعث من أجل حلها، لم يقم بها مجرم واحد، ولكنه اكتفى بحل الجريمة الأخيرة ملصقا بالمجرم الذي قام بها تبعات الجرائم السابقة، واصفا له في تقريره إنه مجرم متسلسل....
وأعاد عادل تنظيم المدينة، وتقسيمها إلى قطاعات ودوائر أمنية، وكانت الخطوة التالية له هي إقفال حانة اللؤلؤة سيئة السمعة.
رفض خليل الرضوخ لقراره، واستهزأ به، وقام بالاعتداء على جميع رجال الشرطة الذين بعثهم عادل من أجل إقفال الحانة، وكل ما علق به عادل عندما سمع عن أمر هذا الرجل:لقد رفض هذا الرجل الرضوخ لأمر القانون.....
في اليوم التالي كان عادل يتمشى في مكان قريب من حانة اللؤلؤة، يتبعه بعض الأشخاص، ومن الواضح أنه كان متربصا بشخص ما.....حتى ظهر خليل بهيئته الوحشية الأسطورية....
صرخ عادل به من بعيد:أنت المدعو خليل؟
أدار خليل وجهه ونظر إلى عادل بإستحقار واستهزاء وقال:لابد أنك عادل!
عند ذلك قام عادل بحك إصبعيه ببعضهما البعض، محدثا صوت قرقعة خرج على إثرها أكثر من خمسة عشر رجلا، أوسعوا خليل ضربا.
حاول الخليل العودة إلى أجواء المعركة والمقاومة، ولكن عندما أحس عادل بقوة خليل وجبروته، قام بالهجوم هو أيضا، وبذلك أطفأ آمال خليل وأخمدها لأنه خرج من تلك المعركة مكبلا بالسلاسل.
نظر عادل إليه وقال:أنت من يدعونك أقوى مجرم على سطح هذه الأرض؟
قال خليل:أنا أقوى رجل على سطح هذه الأرض يا وقح، ولك أن تفكني وتجرب...
ضحك عادل بشدة ثم قال:
كيف تكون أقوى رجل عل سطح الأرض، وتطلب من رجل آخر أن يفكك؟!!
عليك أن تشغل عقلك حتى تعرف من هو الأقوى.....
وقام عادل بلطم خليل لطمة قوية على وجهه، جعلته يشعر بالخذلان وبسقوط الكرامة....جعلته يشعر بمقدار ضعفه وبمقدار تفاهته...
صرخ عادل به قائلا:جروه أمام كل المدينة....أهينوه واضربوه بشدة، واجعلوه عبرة لمن تسول له نفسه الوقوف أمامي أو مجابهة أقوى رجل في هذه المدينة....
قام أعوان عادل بجر خليل إلى وسط المدينة، وأشبعوه ضربا وإهانة، وطلبوا من أي شخص تعرض لظلم منه في يوم من الأيام أن يقوم بضربه والتشفي به بالطريقة التي يراها مناسبة....
وظهر جميع الأشخاص الذين طغى عليهم خليل في حياته ونهب أموالهم.....منهم من قام بضربه, ومنهم من خلع نعله وضربه به ،ومنهم من اكتفى برميه بالحجارة من بعيد خائفا الاقتراب منه....ظهر جميع من ظلمهم خليل في حياته إلا شخصا واحدا
لم يظهر جابر....وربما كان موجودا لكنه رفض الظهور
صرخ خليل:يا أولاد القحبة....أيها القردة...كنتم تنحنون أمامي في الأمس فقط
كنت قادرا على قطع رأس أي واحد منكم يجرؤ على تقليل احترامه لي....
أما جابر فقد كان موجودا ينظر إليه بعينين لا تشعر بالشفقة، ولم يظهر نفسه بل ظل مختفيا بزي يغطي رأسه ويخفيه، مقررا أن هذا العقاب هين لشخص فعل به ما فعل.
قرر جابر أن عقابه سيكون أشد من هذا الذي يحدث به الآن....ظل لائذا بالصمت جارا قدمه العرجاء خلفه بصمت وسكون واختفاء شديد حتى وصل خليل إلى مركز المدينة القديمة....إلى باحة السوق الكبيرة.
ظهر عادل فجأة، وأمر بتعليقه على ذراع خشبي ضخم، كان مصمما خصيصا له، ينتظر قدومه بفارغ الصبر....
قام عادل بربط خليل بالمقلوب بسلاسل قوية، تقع في نهايتها كلابات حديدية قوية، تضغط على أقدام خليل بشدة...وأمر عادل بالكشف عن بطنه وظهره، وجلده على بطنه أكثر من ثلاثين جلدة، حتى تكونت تحت رأسه بركة من الدماء، فنظر إليه عادل بغل وقال له:
لا أعتقد أن هذا يكفيك، لكني سأرحمك.....
أمر عادل بإنزاله، وقام شخص بقطع السلاسل المربوطة بها قدمي خليل، فسقط سقطة قوية أثارت ضجة مرعبة وخر مغميا عليه....
نظر عادل إليه، وأشر عليه بالصوت الذي كان يحمله بيده، ثم حول اتجاه صوته نحو الجمهور المحتشد، كأنه يوجه رسالة صامتة لهم بالعبرة والإقتداء بالخلق الحسن بدلا من مواجهة عقابه.....
وركب عادل سيارة الشرطة وتوجه إلى المركز، بعد أن نفذ من الخطوة التي جعلته حاكما فعليا للمدينة القديمة.....
وسرعان ما تفرق الحشد المتجمع حول خليل، بعد أن جفت ألسنتهم من كثرة البصاق عليه، وظل خليل في مكانه يعاني من الظلام والوحدة وقسوة هذا الموقف، ولكنه لاحظ شخصا، بقي وحيدا ينظر إليه، فأشار إليه خليل بيده بحركة بذيئة، فنظر الرجل إليه، وحرك وجهه علامة الأسف، ثم أدار وجهه وبدأ يجر قدمه العرجاء من خلفه...
استطاع خليل النهوض، وبدأ يجر خطواته هو الآخر نحو حانة الؤلؤة، واستطاع بعد أن بذل مجهودا جبارا، في الوصول إلى الحانة بعد منتصف الليل، في الوقت الذي كان ملقيا قي وسط المدينة أثناء عقابه، وشمس الظهيرة العمودية تضرب في رأسه....
عندما وصل خليل، ارتمى على مدخل الباحة، لكن وكان هناك شخص ما بانتظار قدومه.
نظر الشخص المتشح بالسواد إلى خليل، وقال بيأس واضح:
وكأن التاريخ يعيد نفسه يا خليل....
اكتشف خليل أن صاحب هذا الصوت شخص مقرب إليه، بل هو شخص يعرفه عن ظهر قلب....قالت أحلام:
كنت أعرف إنك ستحضر إلى هنا، رغم أنهم قد أغلقوا الحانة...
قامت أحلام من مكانها، وساعدت خليل على النهوض ووضعته في السيارة التي أحضر بها ذات يوم جابر وقالت:
كأن مصيبة الماضي تتكرر في الحاضر....تتكرر في عام 1976....ولكني أعتقد أن مصيبة الماضي أهون بكثير من مصيبة الحاضر....
ها نحن نعود إلى نفس المكان الذي انتشلتني منه ذات يوم وقلت إنه لا يصلح لذوي الأملاك....ها أنا سأطبب جراحك من جديد، ولكن بثمن هذه المرة وليس مثل الماضي من دون أي ثمن....

بعد أيام قليلة بدأت ملامح التحسن والشفاء تظهر على خليل، وبدأ جسده الديناصوري الضخم يعود إلى تألقه، ولكن من دون أي أفكار بالثورة أو الانتقام....
هذا الجسد الذي بات الآن مليئا بالندبات والتشوهات الجسدية غير القابلة للزوال، تنقصه الهمة والإرادة والأفكار الإجرامية البناءه....
كيف سيقابل خليل البشر بعد أن بصقوا عليه، وضربوه بنعالهم....وسرعان ما اكتسب الجسد صفات العقل الخامد، غير القادر على التفكير من شدة إهانته، فتحول خليل من شخص مفتول العضلات، إلى مجرد شخص يتكور كرشه أمامه، وتبعت هذه التحولات آلام الشيخوخة، فتحول خليل إلى شخص أقرب إلى الميت في منتصف عام 1976.
قالت أحلام:ما رأيك أن تبيعيني الحانة؟
قال خليل:هي لك من دون أي مقابل....
قالت أحلام:وأين صكوك الملكية؟
قال خليل:موجودة....لكن ماذا ستفعلين بها الآن؟
أحلام:سأغير ديكوراتها، وأزيح جميع ملامحها السابقة، وأحولها إلى فندق أعتاش منه أنا وأنت....
نظر إليها خليل بعدم اكتراث أو اهتمام، وأزاح جسده وارتمى على السرير محاولا النوم
وسرعان ما حصلت أحلام على الحانة، بعد أن قامت بمقابلة عادل بنفسها الذي أعطاها الموافقة على مشروعها بعد أن تأكد من حسن نيتها....
وتحولت حانة اللؤلؤة إلى فندق الأعمدة البيضاء....
بعد أيام قليلة من هذه التحولات، دخل رجال غريبي المظهر، واقتحموا المكان الذي يقضي فيه خليل عزلته....اقتحموا الظلمة التي كان يحيط بها نفسه، وأعلموه أن عليه مغادرة المكان بعد أيام قليلة لأن هذا المكان الحقير أصبح ملكا لهم....
فعرف خليل أن أحلام تنكرت له هي الأخرى، ولكنه لم يعاتبها داخل نفسه، واعتقد بأنها على حق عندما تقطع علاقتها بشخص مجرم مشبوه....
خرج خليل من الخربة التي كان يعيش في داخلها، مضطرا بعد أن قرر الاعتزال فيها إلى الأبد منذ اليوم الذي صلب فيه قبل شهر....
لم يعرف إلى أين يذهب، توجه إلى أحلام، فقالت له بمجرد أن شاهدته:
لقد فعلت هذا لكي تنهض من سباتك...في الداخل لك ملابس جديدة ابتعتها لك منذ زمن، اذهب وارتديها ثم ابحث لك عن عمل تقتات منه....
نظر إليها خليل مستغربا من كلامها، مشيرا بنظراته إلى المكان الذي ترممه على مخلفات ممتلكات سابقة كان يملكها....قالت أحلام مسرعة متغاضية عن نظراته:
لا تخف, سأجهز لك مكانا في فندقي الجديد لتنام فيه، وسأقول للناس عنك إنك كنت زوجي في السابق، وأنا أعطف عليك، ثم أخرجت حفنة أوراق من حقيبة كانت تمسك بها، ورمتها عليه بإستحقار وقالت:
خذ هذا المبلغ الآن، وأبدأ به حياتك من جديد...
حاولت أحلام أن تصبره، وتشعل الأمل فيه من جديد؛ فقالت:
على الأقل مؤقتا....ربما تتحسن الظروف في المستقبل....
نظر إليها خليل بحزن شديد، وكأن كل الأحزان التي سببها للآخرين في السابق قد تراكمت عليه ليشعر بها في لحظة واحدة.تراكمت لتسقط الأحزان التي سببها للأشخاص الذي ظن أنهم قد منحهم المتعة بتسهيل الرضوخ للماديات إليهم....تراكمت لتسقط عليه دفعة واحدة،ومن دون أي مقدمات....مثلما يهطل المطر فجأة بعد يوم مشمس...
بعد ذلك تحول خليل إلى شخص بسيط، بائعا متجولا للقبعات، يجلس في أكثر الأحيان في زاوية قريبة من فندق الأعمدة البيضاء....لا يحتك مع أي شخص، ولا يأبه بنظرات الآخرين إليه، التي كان يعتقد أنها تنطوي على شماتة بالعظمة عندما تتحول هذه العظمة إلى ضحالة أو ضآلة....
وكانت أحلام كريمة معه جدا، فادعت إنه زوجها وأمنت له غرفة تحت الأرض بالقرب من مراجل التدفئة....وكان هو سعيدا بذلك، غير آبه بضجيج المراجل طوال الليل، أو صوت عويل الفئران لأنه أصبح أطرشا وفقد ذاكرته إلا من شيء واحد....إلا من صوت واحد لفتاة صغيرة أرسلها إلى مكان ما لا يذكره، لكي تبتعد عن أجواء أبيها الصاخبة وقذارته، ولحظات إجرامه الكثيرة الصعب التنبؤ بها أو بوقت حدوثها...
لم يكن يعرف أن هذه الفتاة التي فضلها على بنات وأولاد من صلبه، واعتبرها هي الوحيدة ابنته، هي قريبة جدا منه الآن.....
لم يكن يعرف أنها تخضع لشخص ، يملك حانة أسمها حانة اللؤلؤة، مستبشرا متفائلا بالاسم القديم لحانة كانت ملكا له....
إلا أن هذه الحانة التي يملكها هذا الشخص والتي اسمها اللؤلؤة، لم تكن كلؤلؤة خليل، كبيرة لامعة ومشهورة......
لقد أجبرها هذا الشخص على العمل بالعهر....جاعلا من الذكرى الوحيدة التي تداهم دماغ خليل المتوقف عن العمل.....ذكرى لفتاة صغيرة، أصبحت تعمل الآن عاهرة بالقرب من والدها الملقي كأي صفيحة مهملات في أحد زوايا المدينة.
وماتت ذكريات خليل بسرعة، فلم يعد أحدا يذكره، أو حتى يتذكر منظره، بينما عانى هو من فقدان للذاكرة بشكل تدريجي، فلم يعد يتذكر أحدا....
* * *
بعد ثلاث سنوات من إرسال خليل لابنته رانيا ذات الثلاثة سنوات، إلى مدرسة داخلية خارج المدينة، قاصدا إبعادها عن الجو الذي تعيش به، وفي نفس الوقت عدم معرفتها عن أي حقيقة لوالدها مكتفيا بإرسال مبلغ ضخم بين كل فترة وأخرى، متأكدا أن الحقائق ستكشف عن نفسها في يوم من الأيام، ولا بد لمن فضلها واعتبرها ابنته أن تعرف من هو والدها....

في أوائل عام 1959، عندما كانت رانيا لا زالت تبلغ من العمر ستة سنوات، دخل رجل إلى نفس تلك المدرسة الداخلية التي أرسل خليل ابنته إليها...
كان هادئا جدا، إلا أنه يمشي بتثاقل ومن الواضح إنه كان يعاني من علة ما في أحد أقدامه....عندما هم بالدخول سأله موظف الاستعلامات عن هويته....
قال الرجل:اسمي خليل، ثم أخرج من جيبه بعض الأوراق المزورة، التي أثبتت صحة ادعاؤه....
قال موظف الاستعلامات بعد أن دقق في الأوراق:أهلا يا سيد خليل
قال الرجل:أريد استرجاع ابنتي....رانيا خليل، عمرها الآن ست سنوات، ورغم أني لم أرها منذ ثلاث سنوات ولكني قادر على تمييزها....


























{الفصل السادس}
كانت سعاد سعيدة جدا في الحياة مع عادل، وتشعر كلما اقتربت منه بالطمأنينة والاستقرار والأمان....
اتصفت حياتها بالرتابة والموضوعية، فبعد أن أنهت دراسة مهنة التمريض، تفرغت للعمل كربة منزل في عش الزوجية، ودفعها هذا الروتين إلى الابتعاد عن البشر أكثر وأكثر، فأصبحت حبيسة منزلها لا تخرج منه، ولا تحب الخروج منه حتى لأبسط الأمور، وكثيرا ما كانت تطلب من عادل التسوق وشراء حاجيات المنزل....
ومع الزمن تحولت سعاد إلى سيدة صامتة بالكاد تنطق بالكلمة، وتحاول قدر المستطاع استخدام الإشارات والحركات للتعبير عن ما يجول في خاطرها، فقد كانت تبتسم إذا كانت راضية عن شيء ما، وتطلق كشرة هادئة للتعبير عن امتعاضها أو عن عدم رضاها عن شيء ما....
أما عادل، فكان سعيدا جدا بحياته معها، معتقدا أن الله راض عنه بأن وهبه مثل هذه الزوجة المطيعة, وفوق ذلك لا تخلوا من خفة الظل.....
اعتاد عادل على تصرفاتها بعد فترة قصيرة، فصار يرد عليها بنفس الحركات، يبتسم إذا كان راضيا عن شيء ما، ويطلق كشرة إذا كان ممتعضا....
إلا إن ما كان يغيظه هو مقدار الرتابة التي كانت تتحلى بها سعاد، فهي كانت بعكسه، تكره الفوضى وتحب أن ترى كل شيء في مكانه، وأن تلتزم بمواعيد محددة للقيام بعمل ما، فكان عادل يغادر عمله في حوالي الساعة الثالثة، لذلك كان لابد له من تناول وجبة الغداء في حوالي الساعة الثالثة والنصف، لأنه لو تأخر سيسبب الامتعاض لسعاد، وربما تثور عليه هذه النمرة المطيعة وتكشر عن أنيابها...
أما الأكل فكان محددا وفق جدول زمني معين، فكانوا يتناولون لحم الدجاج يوم الاثنين فقط، أما اللحم الأحمر فموعده يوم الجمعة، وينطبق هذا الجدول على وجبتي الإفطار والعشاء، لذلك فعادل كان يتناول طعامه ليس وفقا لرغباته أو خضوعا لمنطق شهواته، بل وفقا لجدول سعاد الذي يعتبره مملا ومقرفا، بالإضافة إلى أنه معقد.
وكانت سعاد تفرض أوقاتا أخرى للخروج والتنزه، فكان الأحد هو يوم التمتع بالطبيعة، والسفر إلى الريف في أنحاء المدينة، أما الخميس فهو يوم العشاء في مطعم الشجرات الخمس....
ولكن كانت هذه اللقاءات لقاءات خافتة، أشبه ما تكون بلقاءات عابرة، يتعرف فيها أي شخصان على بعضهما البعض ويتحدثان، حتى يسود الصمت ويتسيد الموقف.
ثم تقضي سعاد بقية يومها في الريف متأملة في شيء ما، بينما يقضي عادل على ملله بالتدخين، وأحيانا كان يستلقي على العشب غاطا في نوم عميق، تاركا سعاد وحيدة في مرمى التأمل.....
لم تكن سعاد تكره في داخلها عادل، بل كانت على العكس تحبه حبا جما، يفوق حبها له في السابق...لكن لابد أن يكتشف الإنسان ذاته وتتفتح في داخله الرغبات الدفينة، فاكتشفت سعاد بعد أن تزوجت عادل مقدار رتابتها وحبها للهدوء....كانت تنتابها رغبات خفية للرحيل ولكنها لم تعرف إلى أين....
لقد تكسرت العوالم الوردية التي كانت تحلم بها، بعد أن اصطدمت بمنبهات الحياة....تلك الأمنيات في الحياة مع الراقص في وضح النهار على جزيرة تشبه عالم اليوتويبا....تشبه الجنة.....
تكسرت بعد أن عرفت أن عادل يحوي في داخله قسوة لا تطيق تحملها، إذا أرادت مواجهتها، فآثرت الصمت على المواجهة، والانقياد لها لأنها الوسيلة الوحيدة التي ستهبها حياة دافئة آمنة، في ظل المتوحشين من حولها، مع رجل يحبها في أعماق داخله...إلا انه لم يكن فارس أحلامها بالصورة التي كانت تريدها، بالصورة الموصومة في ذهنها منذ أن كانت طفلة....
كم كانت تتمنى أن يطلب منها مرة أخرى الرومانسية التي طلبها منها منذ سنوات... ليتها تعود تلك الأيام حتى تقنعه بالعدول عن مهنته....مهنة ستكسبه لاحقا قسوة جامحة، وستقتل كل المشاعر التي كانت رقيقة في داخله.
ليتها تعود تلك الأيام، حتى تقنعه بإنشاء بيت متجول لهما لا يستقرون فيه في أي مكان، ويهربون فيه من أي مكان لا يعجبهما....
كل تلك الأفكار المثالية، التي كانت سعاد مؤمنة بها، طارت وتبخرت بعد أن استقرت مع عادل في المدينة القديمة، وظنت أن مهنته هي التي نمّت فيه عدم الاهتمام بها....نمّت فيه النسيان لكل أيام خطوبتهما وما قبل خطوبتهما.
لكنها لم تدرك أبدا أنها كانت السبب الأول في تحوله....منذ تلك اللحظة التي تأخرت فيها عن موعده وعاملت شخصا كان في تلك اللحظة يهيم بها بعدم اهتمام وصل في ذهن عادل إلى حد الاحتقار....
ربما تغاضى عادل بعد أن مرت الأيام عن فعلتها، وربما صدّق أعذارها، ولكنه لم يستطع منع أسباب كرهه من التدفق من داخل أعماقه.
لقد بدأ عادل بالتحول منذ ذلك اليوم الذي تأخرت فيه سعاد....كانت اللحظة التي دفعت عادل إلى الرجوع إلى ذهنه...كأنها اللحظة التي انكشفت فيها الأسرار الدفينة، لأن لحظات عدم اهتمامه مصدرها أفكار سوداوية نمت وظهرت في ذهنه في تلك اللحظة التي شعر فيها بقرف وغثيان ورغبة بالانتحار...
لن تكن سعاد هي المستهدفة من لحظات عدم الاهتمام هذه....بل كانت شيئا واحدا ضمن منظومة كبيرة لم يعد عادل يعطيها أي اهتمام منذ تلك اللحظة....
بل ربما كانت سعاد محظوظة لأن عادل رغم عدم اهتمامه بها، يكن لها حبا جما في داخله لم تستطع أن تقتلعه أقصى الأفكار السوداوية، والتأملات الذهنية المتسائلة عن المصير وعن الهدف....
رغم كل ذلك كانت سعاد تبادله نفس المقدار من الحب....لا زالت صورته راسخة في ذهنها على انه ذلك الغريب الراقص في وضح النهار....
* * *
في ذلك اليوم الذي عاد منه عادل بعد أن قام بتأديب خليل، والتمثيل به في وسط المدينة....جلس على مكتبه هادئا متزنا محاولا التغلب على مقدار العصبية التي تنبع في داخله...كأنه يريد تكسير كل شيء أمامه ولكنه كتم عصبيته والتزم بهدوئه....
دخل على عادل في هذه اللحظات شخص ما بعد أن طرق الباب:
قال عادل:تفضل....ما عندك
قال الرجل:اللأنباء تصل بسرعة....لقد وصل إلى الرائد حسام ما فعلته بخليل، ويبعث لك بتهنأته....
قال عادل:إذا قل له لا شكر على واجب....
دخل أعوان عادل وهم لازالوا يلهثون، ونظروا إلى عادل نظرات متعبة ولكنها في نفس الوقت فرحة جدا....بادلهم عادل تلك النظرات، وسرعان ما تحولت نظراته إلى ابتسامات ثم ضحكات دفعت الجميع إلى الضحك معه....
قال عادل:لقد ربينا هذا الوغد الذي يظن نفسه قويا
قال أحدهم:لقد كان يرعب المدينة جميعها يا سيدي...
قال عادل:والآن....
قال الشخص:الآن هو قادر على إرعاب دجاجة....لو كنت مكانه لهاجرت، أو اعتزلت عشر سنوات في بيتي، حتى لا يراني احد...
قال عادل:سيخيب ظنك، لأن هذه الأشكال وقحة، ولا تهتم كثيرا لما أنت تقوله
ثم ضحك عادل مرة أخرى....ضحك بجنون حتى دمعت عيناه وكاد يقع من مكانه من شدة الضحك ثم قال:أريد أن أتوج انتصاري؟!!
قال الآخرون:لك ما ترغب يا سيدي
قال عادل:إذا أقفل المركز،بعد أن تشتري لي وجبة طعام دسمة فيها أشهى ما يخطر على بالك،واشتري أيضا عشر زجاجات من الخمر،ثم صمت عادل لوهلة....
وقال بعد ذلك:لا، بل اجعلها عشرين، وقل لكل أهل المدينة أن المركز اليوم في إجازة حتى الغد...
وتحرك الرجل الذي أمره عادل بدون أن يهمس بأي كلمة، وعاد بعد ساعة مسرعا محملا سيارته بحمولة كبيرة، لم يسعها الصندوق الخلفي لسيارته، فوضع بقيتها على الكراسي الخلفية.....
وصل إلى المركز، وقام بالصراخ بأعلى صوته، موجها بصره نحو نافذة مكتب عادل:
هيا انزلوا....لا أستطيع حمل كل ذلك وحدي

أكل عادل حتى شبع وأصابته التخمة....لأول مرة في حياته يأكل إلى هذه الدرجة... لأول مرة في حياته يأكل فرحا منتصرا غير آبه بمواعيد زوجته، غير متقيد بجدولها اليومي الممل، ولا بروتينها القاسي....
لم يعرف عادل ما الذي أصابه....لم يعرف لماذا هو سعيد إلى هذه الدرجة....سعادة دفعته إلى أن يشرب عشر زجاجات خمر من أصل العشرين التي أحضرها...
لم يكن يعرف أنه لأول مرة في حياته أرضى دوافعه السادية، التي تطلب منه بشدة تعذيب الآخرين والشماتة بهم....
أحس براحة وتخلص من ثقل نفسي لأنه حقق بعض مطالب نفسه الظمأى للجنون.
كل ضحكاته تعبر على أنه يريد المزيد....المزيد من الضرب والقتل والتحكم بالآخرين....المزيد من الرضوخ لأوامره....المزيد من خوف الآخرين منه....
واكتشف انه عندما يصبح وحشا سيشفى، ويقتل كل أفكاره السوداوية....
سيقتل تحولاته، لأن وحشيته هي أساس خلقته وطبيعته، ولن يكون هناك مجال للتحول بعد الوصول إليها.....
أراد عادل النهوض ولكنه لم يستطع، فأراد شخص من الحاضرين الذي لم يثقل بشرب الخمر القيام بمساعدته....ولكن عادل نظر إليه نظرات وحشية، ودفعه بعيدا عنه بقوة وقال:
من يجرأ على مساعدتي، لم يحن يومي بعد أيها المعتوه، هذا اليوم يوم خليل وليس يومي.....ولكن عادل كان يخدع نفسه لأنه لم يصل إلى الباب، حتى تعثر ووقع على وجهه، واضطر أصدقاؤه أن يوصلوه إلى السيارة جرا، وأصر عادل على موقفه ورفض إلا أن يقود سيارته بنفسه، ورضخ أصدقاؤه له، لأنهم كانوا يعرفون مقدار عناده....ومقدار صلابة دماغه الذي يشبه الصخر.
قاد عادل سيارته بترنح واضح، وبعد أن وصل إلى منزله. إ كانت سيارته قد ارتطمت بالرصيف اثنتا عشرة مرة ...كما انه ارتطم بعمود إضاءة، وحطم ثلاثة مقاعد خشبية من التي تنتشر على الطرقات.
وعندما وصل إلى منزله،كان أول ما رآه وجه زوجته،تجلس بهدوء خلف طاولة الطعام،ينما كانت أطباق الطعام كما هي،يعبق منها البخار....
قالت سعاد بعد أن رأته، لقد قدّرت أن حضرة الضابط قد تأخر لشدة انشغاله، فآثرت انتظارك.....تفضل الطعام جاهز
نظر عادل إليها مبتسما،وأقفل الباب ونظر فرأى وجهه منعكسا على المرآة التي تختفي خلف الباب...
نظر عادل إلى وجهه ولاحظ مقدار غور عينيه، وتأمل مقدار هيئته التعبة، واستمر في النظر ولاحظ مقدار بشاعة منظره....ومقدار وحشيته....
وبحركة بطيئة، أخرج عادل مسدسه وقام بإطلاق رصاصة على المرآة التي أمامه،فتكسرت وتحولت إلى أشلاء متناثرة....
نظرت سعاد، وعرفت أن عادل ليس في وعيه أو حتى في حالته الطبيعية، فظلت صامتة متأملة به رافضة التعليق على أي أمر يقوم به....
نظر عادل إليها وتحرك نحوها بتثاقل،حتى توسط قاعة الطعام ثم قال بلهجة ضاحكة:
لقد انتصرت اليوم.....
نظرت سعاد إليه باستغراب متسائل عن الذي يتفوه به هذا الشخص...
فتابع عادل كلامه الملغز:لقد حطمت أسطورة الأقوياء...
لقد أثبت للناس من أنا...من أكون...أثبت للآخرين مقدار عظمتي....
ظلت سعاد متمسكة بالصمت ،وأصرت على البقاء في حيز الاستماع
صرخ عادل بها:ما بك لا تتكلمين....هل أكل القط لسانك؟
وظن عادل أن سعاد سترتمي أرضا من شدة الضحك، على نكتته الأخيرة، ولكن سعاد ظلت صامتة ولم تلقي بأي ردة فعل....
قال عادل وهو يصرخ:ما بك....ألا تريدين معرفة من هو زوجك؟!!!
ولكن سعاد ظلت صامتة
ازداد غضب عادل وقال:ألا تعرفين أن الناس سيخافون منك لمدة ألف عام!!!
ولكن سعاد ظلت صامتة
غضب عادل،وأطلق رصاصة في الهواء من مسدسه الذي لازال يحمله بين يديه،وصرخ:تحدثي......
ولكن سعاد ظلت كما هي...صامتة
فأطلق عادل رصاصة أخرى، أصابت الدولاب الذي تحتفظ فيه سعاد بالصحون، فكسرت زجاجه ، ومقدارا كبيرا من الصحون محدثة ضجة عالية....
ولكن سعاد ظلت صامتة،بعد أن انزاح رأسها إلى الخلف وأصبح يرتكي على ظهر الكرسي الذي تجلس عليه...
صرخ عادل مرة أخرى:لن تسعدي أبدا بما فعلت....لن تقدري أبدا ما فعلت
ستظلين طوال عمرك كما أنت الآن....صامتة
وأطلق عادل طلقة أخيرة كأنه يعلن نهاية الحفلة.....
وتابع مسيره حتى وصل إلى أحد الكراسي، التي تقع خلف طاولة الطعام، وعندما أنهى جلوسه البطيء قال عادل:أنا آسف
ولكن سعاد لم تلتفت إليه....كانت صامتة، تجلس في مكانها كالصنم،وينزاح وجهها كاشفا عن رقبتها الطويلة إلى الخلف بشكل غريب...
أكمل عادل كلامه، أنا آسف...آسف جدا صدقيني،ولكن سعاد لم ترد
قال عادل:لن أتأخر مرة أخرى صدقيني، وسأشتري لك طقما جديدا من الصحو ن أفخم من الذي تكسر، بعد أن يكون هناك دولاب جديد بانتظاره.....ولكن سعاد لم ترد
وتابع عادل كلامه:سأشتري مرآة أطول،وأضعها خلف الباب وسيكون كل شيء عند ذلك مرتبا كما عهدته...
ولم ترد سعاد، فقال عادل بيأس:كم أحبك يا سعاد....ولكن أنت تكرهيني
لم ترد سعاد، فرفع عادل رأسه عن التأمل ونظر إلى سعاد مليا، وقام مسرعا ليتأكد من حسن بصره ودقة نظره....
كانت الجهة اليمنى من جسد سعاد ، اغرورقت بالدماء بعد أن اخترقت الرصاصة الثانية رقبتها وأردتها قتيلة....
وعندما لمس عادل سعاد بأطراف أصابعه،انحنت قامتها وارتمت على الطاولة وأصبح وجهها ملتصق بها (أي بالطاولة).....
نظر عادل إليها وبكى....بكى وانتحب مثل الأطفال وبدأ يصرخ في داخله:
لقد قتلتك....قتلتك يا سعاد....قتلتك يا حبيبتي
أمسك عادل بجثتها، وحملها من موضعها ومدها برفق على الأرضية....
أمسك وجهها بكلتا يديه وصرخ:
استيقظي فأنت لم تموتي....لن تموتي....لن تموتي يا سعاد
وضع عادل رأسه على صدرها، بعد أن تحولت دموعه إلى دماء، وسرعان ما غط بنوم عميق وهو على هذه الهيئة....
في الصباح الباكر، قام عادل بحمل جثة ملفوفة بعناية بسجادة فاخرة، ووضعها داخل سيارته، وأخفى عادل بمهارة الشرطي، وحرفية المحقق جثة سعاد بعناية بحيث لم يكتشف مكانها أحد حتى الآن....
ثم عاد إلى منزله، ونظف ساحة الجريمة بعناية أيضا، بحيث لم يشك أحد أن هذا المكان قد حدثت به جريمة....
جمع الرصاصات الفارغة وكانت ثلاثة....مسح جميع أنحاء الغرفة،وفي طريق عودته من إخفاء جثة سعاد،ابتاع سجادة أخرى وفردها على أرضية الغرفة.
تأكد أن الغرفة خالية من أي قطرة دماء....ثم خرج إلى مكتبه
دخل عادل إلى المكتب ،وجلس على كرسيه،وأشعل سيجارة،فدخل عليه أصدقاؤه وكانوا لازالوا ثملين،فرحين بما حققوه في البارحة...
صرخ عادل بهم:ما فعلناه بخليل كان عادلا....لقد أخذ جزاءه
وقال في نفسه بعد جملته الأخيرة:وأنا أيضا أخذت جزائي...
وتابع عادل كلامه:لا تفتحوا قصة خليل أمامي مرة أخرى...
ظن عادل أن خليل هو السبب بموت سعاد،ولكن إن كان عادل قد انتقم من شخص واحد لصالح مهنته،فأن خليل كان انتقامه أصعب،لأن خليل انتقم من اثنان بضربة حجر واحدة...
انتقم من عادل....وانتقم من زوجته
* * *















{الفصل السابع}
في ذلك اليوم الذي أتى فيه سعيد باحثا عن يحيى، سائلا عن شخص يدعى(قدر)، أعاد يحيى نفس السؤال على سعيد:أنت تريد معرفة مكان قدر، أليس كذلك؟
أشار سعيد بوجهه بالإيجاب...
أمسك يحيى سعيد من يديه،وبدأ بجره حتى أصبحا خارج الحانة،وهناك صرخ يحيى بأعلى صوته:....تكسي.....
سأل سعيد:إلى أين نحن ذاهبون...إلى أين تأخذني؟!
قال يحيى:سآخذك إلى مكان ابنتك
وصل سعيد ويحيى إلى أحد أطراف المدينة القديمة، إلى مكان شاهق الارتفاع، وهناك نزل سعيد مع يحيى مقابل بيت مشوه قبيح المظهر من الخارج....حوافه ملطخة بالأصباغ، وجدرانه متآكلة حتى ظهر الحديد منها، أما السقف فكان واضحا أنه مخروم في أكثر من موضع، ولم يخرج سعيد من حالة تأملاته في منظر هذا البيت، إلا صوت يحيى قائلا له:أهلا بك في منزل جدتي...
دخل سعيد ويحيى إلى هذا البيت،الذي لم يختلف خارجه عن داخله،فكان مظلما موحشا،تتناثر فيه أصوات الذباب وتلتصق على جدرانه خيوط العنكبوت...
قال يحيى محاولا إنقاذ الموقف:إن جدتي تؤمن بالأساطير....أي بمعنى آخر بالخزعبلات والخرافات....وتابع يحيى بعد أن شاهد وجها متسائلا متأملا به:
ولكن لا تخف،فهي عاقلة،بل سيدة العاقلين،ثم صرخ يحيى بأعلى صوته:
جدتي هناك ضيوف....
وأكمل يحيى طريقه جارا سعيد من خلفه نحو باب خشبي بالكاد كان قادرا على الصمود والقيام بوظيفته...
بعد أن فتح يحيى الباب، ظهر وجه عجوز عبدة سوداء، تضع على رأسها غطاء رأس أسود اللون تظهر من خلاله كتل شعر مشتعلة بالبياض....
لم يهتم سعيد لها أو لمنظرها، بل كان محدقا بما كانت تحمله بين يديها،فسألها سعيد:
هل هذه قدر....
قالت العجوز متسائلة:إنها ابنتك....أليس كذلك؟
قال يحيى، نعم يا جدتي، فهذا سعيد والدها
ولكن العجوز تابعت:أنت أحمق، تستحق جعلك طعاما للكلاب....
صرخ يحيى محاولا مع جدته أن تخفف من كلامها،ولكن الجدة أكملت كلامها غير آبهة به:أنت وقح،خال من الإحساس....كيف تفعل بابنتك مثل هذا؟
قال سعيد:لست أنا من فعل هذا
قالت الجدة:حتى لو لم تكن أنت،فأنت والدها ومسؤول عنها....يبدو لي أنك عاهر ابنا لعاهر مثلك.
صمت سعيد متأملا وجه قدر ابنته،التي لم تبلغ بعد شهرها الأول،ولكن الجدة قاطعت نظراته وقالت:لا تتأمل بها...ولا تطيل النظر إليها، ستموت ابنتك بعد ساعات أو بعد يوم واحد على الأكثر.....
قال سعيد:لنأخذها إلى المستشفى بسرعة....هيا يا يحيى
ولكن يحيى أمسك به، ونظر إليه بأسف ثم أطلق نظراته نحو جدته لكي تكمل كلامها:
لا تكمل أيها الأبله، فإذا خرجت هذه الطفلة من هنا ستموت فورا
قال يحيى:كن واثقا يا سعيد من كلام جدتي، قدر سوف تموت وليس لك إلا أن تلقي نحوها نظراتك الأخيرة وتودعها قبل أن تذهب إلى أعماق الأرض....
صمت يحيى بعد ذلك بعد أن لاحظ، مقدار حزن سعيد بعد أن أوشكت الدموع على التساقط من عينيه مما دفع الجدة إلى الصمت أيضا، فارتمى سعيد على كنبة من خلفه وبدأ ينظر إلى قدر....طفلته ذات العشرين يوما وهي تتنفس بصعوبة....وضع يديه بين رأسه وكتم دموعه،وغاب في صمت عميق.
* * *
عندما كان سعيد يجلس مع رانيا، لاحظ وداد تنظر إليه بحقد واضح....حقد كشفه على حقيقته،وهدم آمالها بأن تجد الرجل الذي يحبها من أجل روحها وطيبة قلبها...هدم آمالها بالاستقرار مع رجل لا ينظر إليها من خلف نافذة الجسد، ولا من خلف رغبات الرذيلة...كان حقدها قد تدفق إلى رأسها فلمع من شدة احمراره،ولكن سعيد تجاهل نظراتها إليه وأشّر إليها من موضعه إشارة قصد بها الوداع الأخير....
ثم نظر إلى رانيا بكل ثقة وقال لها:
سأحضر لإكمالي الحديث معك الليلة....في مطعم الشجرات الخمس...اعتبري نفسك زبونة لي،والغي كل مواعيدك وأحضري هذه الليلة...ثقي تماما أني سأكافئ حضورك بسخاء....
قالت رانيا:ولكن
قاطعها سعيد قائلا:من دون أي لكن، وتابع سعيد:
لنكن واقعيين، أنا أعرف انك تكرهين كل في هذا المكان وأولهم وداد....لقد قطعت علاقتي بوداد،ولن أعود إليها سواء حضرت أو لم تحضري....
ابتسمت رانيا وقالت:ولماذا الكذب؛ فأنا اكره وداد، ولكن هذا لا يعني الشماتة بها....
سعيد:أعرف ذلك....وأعرف أيضا إنك تعرفين متأكدة أن ما حصل بيني وبين وداد أمر عادي قد يتكرر كل يوم...
أشارت رانيا وهزت رأسها بالإيجاب، فتابع سعيد كلامه:إذا أحضري هذه الليلة لتتأكدي من صدق كلامي وحسن نيتي...وتأكدي إني لم أعد وداد طوال حياتي بأي وعد مثل الذي وعدته لك....
قالت رانيا:يبدو أن الأمر قد تعقد كثيرا....حسنا ربما، سأحضر
ابتسم سعيد،وامسك بيدها وهو ينظر بطرف عينيه إلى وداد،وأعاد تقبيلها ،وقال:أكيد
ولم تستطع رانيا أن تخفي ابتسامتها، واندهاشها من هذا الاحترام الزائد وقالت:
حسنا سوف أحضر.....
حدث كل هذا أمام ومرأى وناظر كلا من يحيى ووداد، وظلت وداد متأملة بهذا المنظر بصمت، كاتمة غضبها الذي بدا واضحا مضفيا حمرة مخيفة على وجهها، ومقدار حقدها الذي يزأر متدفقا من عينيها كأنه حيوان مفترس على وشك اقتناص فريسة.
أدار سعيد وجه، ولم، يلتفت لوداد وهم بالخروج، وظلت وداد تتبعه بعينيها، حتى غاب سعيد عن ناظرها، فقالت ليحيى بكل هدوء:
أنا صاعدة إلى غرفتي،لأرتدي ملابس العمل من جديد....لقد انتهت القصة
وتابعت وداد كلامها:أبلغ أول زبون أنني جاهزة...قل له إنه سيقضي معي ليلة،لن يقضي مثلها في حياته....
يحيى:ولكن.....ولكن يا وداد
وداد:من غير لكن،افعل كما قلت لك
يحيى:لكن عليك أن تبلغي سعيد بأنك حامل
وداد بغضب:يحيى، لا تتدخل في أموري الخاصة، وتابعت وداد كلامها:
أنا صاعدة إلى غرفتي ولن أنزل منها حتى أتخلص من عذريتي...اليوم هو اليوم الأول لي في العهر يا يحيى....اليوم هو اليوم الأول
وارتمت وداد على صدر يحيى وبدأت بالبكاء غير قادرة على إخفاء دموعها ولا على كتمها....ثم صعدت إلى غرفتها منتظرة زبونها الأول..
* * *
في مطعم الشجرات الخمس،كان سعيد يجلس مع أجمل فتاة رآها في حياته.....ترتدي فستانا أخضر يكشف جزئها العلوي حتى مقدمة نهديها، تفرد شعرها الأسود على كتفيها، ولم تكن نظاراتها على وجهها، ليرى سعيد بوضوح أوسع عيون رآها في حياته...
سألها سعيد بعد أن استيقظ من ذهوله:
لماذا كانت تظهر عيناك صغيرة عندما كنت ترتدين العدسات؟
قالت رانيا:اسأل من صمم العدسات....على العموم هل أعجبتك عيوني؟
قال سعيد:أعجبتني فقط!!!، إنها مرسومة بإتقان...أنهما أجمل عينين رأيتهما في حياتي....
قالت رانيا مقاطعة له:ما بك....يكفي
قال سعيد:دعيني أكمل وصفي...صمت سعيد وبدأ بالتأتأة ثم استدرك كلامه:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
وأراد سعيد أن يكمل،ولكن رانيا قاطعته بدلال وقالت:
يكفي....يكفي أيها الشاعر...على العموم مرة أخرى فأنا أصدق بأنك من ألّف هذا الشعر...ابتسم سعيد وقال لها:أنت حرة
أكمل سعيد ليلته وهو لا يفكر بالرغبات....ولم يفكر بالماديات، فقد طغى جمال رانيا على كل تفكيره، وعطّل رغباته عن العمل....اكتشف سعيد الحب....اكتشف سر البقاء مع شخص سيظل ملتصقا بك طوال العمر،وأراد سعيد الالتصاق بها...والارتباط معها طول العمر...
بعد أن خرجا من المطعم،جلسا في مكان هادئ بعيد عن الضجة....بدأ سعيد يسرد النكات لرانيا، ورانيا لم تخيب ظنه ولو لمرة واحدة، وكانت تضحك على كل نكتة يطلقها سعيد، مما أعطى الحافز لسعيد لإكمال نكاته رغم أنه كان يعرف أنها نكات سمجة، وبعد أن مل من السرد وكثرة الكلام، صمت للحظات ناظرا فيها إلى رانيا.
قالت رانيا:بماذا تفكر يا سعيد؟
قال سعيد كأنه منتظر أن تسأله هذا السؤال:فتاة جميلة مثلك،تتمتع بخفة ظل أجمل منها،لها صوت رقيق عذب،ما الذي يدفعها إلى العهر؟
نظرت إليه بعد أن تفهمت فحوى سؤاله وبدأت بالوثوق به، وقالت:
أنا مظلومة يا سعيد....مظلومة جدا
فنظر إليها، سعيد وقال:احكي لي عن كل شيء....احكي لي عن طفولتك حتى نصل إلى هذه اللحظة،فأنا مهتم بك وأريد أن أعرف كل شيء عنك...وفي نفس الوقت أنا مستمع جيد...
رانيا:ليس لي قصة، كل ما أعرفه عن نفسي إني ابنة مجرم مشهور، أرعب المدينة القديمة لسنوات طويلة حتى عام 1976 عندما أنهى أسطورته شرطي جديد جريء، وقام بالتمثيل به في جميع أنحاء المدينة، وبعد هذه الحادثة اختفى أبي عن الوجود، ولا أعرف عن مكانه أي شيء، وتابعت رانيا حديثها وقالت:
اسم أبي هو خليل....خليل المجرم المشهور، هل سمعت به من قبل؟
قال سعيد بعد أن خيل إليه إنه سمع هذا الاسم من قبل:لا، فأنا من المدينة المجاورة كما قلت لك
قالت رانيا:لم أرى أبي ولو مرة واحدة في حياتي، وكل ما أعرفه عنه هو الحكايات والقصص، كما إني لا أعرف إن كانت هذه الحكايات صحيحة أم خاطئة؟
لقد رباني شخص يدعى جابر،منذ كان عمري ست سنوات...عطف علي، وعلمني في أفضل المدارس، لكنه لم يخفي عني الحقيقة أبدا، فكان دائما يقول لي ويذكرني ويخبرني بأني لست ابنته، بل ابنة صديق مقرب عزيز إليه، أسدى له خدمة لم ينساها له طوال حياته، ولكنه كان مسالما فلم يستطع معاشرة أبي وأراد البقاء بعيدا عنه بعد أن ساءت أخلاقه جدا، فقرر أن يتبناني بعد أن قرر أبي هجري معتبرا أن هذه أفضل طريقة لرد الجميل له...
قال سعيد:أخبريني عن جابر أكثر...؟
كان خير أب لي ،وبعد أن جئت إلى هنا، وعرفت أشياء أخرى عن والدي الحقيقي، وعرفت أن له أولادا كثر، غير شرعيين، فتأكدت أن أبي جابر كان صادقا فيما قاله لي....
قال سعيد:ويبدو لي أنه صادق أيضا، أرجوك تابعي
علمني أبي جابر في أحسن المدارس،وكنت أحصل على أعلى العلامات و على وشك الالتحاق بالجامعة،وفي ذلك اليوم تستطيع القول أن مأساتي قد بدأت....
دخل أبي جابر في تلك الليلة وعلامات الحسرة والأسى على وجهه....كان متضايقا جدا ، وعلى وشك الاختناق...ارتمى على الكنبة وصرخ يطلب مني جرعة ماء.....
بدأت ارتجف في مكاني،وعرفت في ذلك اليوم مقدار الحب والاحترام الذي أكنهما لأبي جابر...وشرب أبي الماء مسرعا وبدأت علامات وجهه بالتغير والانقلاب، ودموعه على وشك الخروج من عينيه، فسألته بخوف شديد:
ما بك يا أبي؟
رفض أن يرد علي أو ينطق بأي كلمة في البداية، ولكن بعد أن أصررت عليه بالحديث، قال:لقد خسرت كل ما أملك....كل ما أملك
سألته:كيف حدث ذلك....كيف حدث؟
قال أبي جابر:لحظة شيطان....سكرت وخمرت....لعبت القمار....خسرت كل ما أملك
كل مزارعي،حتى هذا المنزل الذي نعيش فيه،وسيكون مصيرنا أنا وأنت الشارع،لقد حاولت أن أحميك طوال عمري من التشرد ....ولكن
قلت له:لا يمكن أن تخسر كل أملاكك بهذه السهولة...، أليس هناك من حل؟
أراد أبي جابر النطق بشيء ما، ولكنه آثر الصمت حتى ألححت عليه بالحديث...
قال:هناك حل..ولكن...لا،أنا لا أريد ذلك
وما هو الحل, ولماذا لا تريده؟
قال أبي جابر:لا أريده لأنه وقح....ولكن ماذا أفعل؟؟؟
قلت:قل فقط....دعني أسمع
قال أبي جابر:لقد طلب مني هذا الشخص الذي خسرت معه كل أموالي أن ينام معك ليلة حتى يعيد لي أموالي....ولكني لن أقبل بذلك
اكتشفت بعد أن سمعت كلمته الأخيرة أن آمالي تحطمت،وإن دماء أبي التي تسري في عروقي رفضت الخروج مني...رفضت الابتعاد عني.......اكتشفت بأني سأكون كبش فداء لما فعله والدي........
صرخت بأبي جابر....كنت أريد التخفيف عنه بأي وسيلة كانت،قلت له:
كيف تقول ذلك....كيف تجرؤ على عدم، منحي اللحظة التي سأرد بها, على جزء من معروفك، لقد انتشلتني من الضياع، ومن الشوارع المجهولة، ولولاك لربما كنت قد مت منذ مدة، أو ربما عملت في سلك الدعارة لو قام أبي الحقيقي بتربيتي...أنا مدينة لك وسأقوم بذلك
ولكن أنت ابنتي،كيف سأسمح لنفسي بالموافقة...
عانقته في تلك اللحظة وكنت أبكي:لأنك اعتبرتني ابنتك...لأنك لم تحرمني من حنان الأبوة سأقوم بذلك
وإذ بشخص يطرق الباب...قال أبي جابر عندما سمع طرق الباب:
لابد أنه هو...لقد أتى لكي يطردني من منزلي...
عندها فككت يدي من حوله،وأبطلت عناقي له وقلت له:أنا جاهزة يا والدي....ولم أمهله ليكمل بل، تحركت صوب الباب، وفتحته بكل شجاعة، وإذ برجل جهم لا يقل عمره عن الخمسين
نظرت إلى والدي وسألته:هل هذا هو يا والدي
فأشار أبي بأسف بالموافقة
فخاطبت الرجل بكل حدة:إن فعلت ما تريد بي،هل تعيد لأبي أمواله؟
قال الرجل بعد أن نظر نظرة فاحصة لي:أنت تستحقين مال الدنيا....موافق
أمسكته بيدي، ، وجررته إلى غرفتي وأقفلت باب الغرفة من خلفي...
في اللحظة التي دخلت فيها رانيا إلى غرفتها،أطلق جابر ضحكة عالية قال:
لن تكون آخر مرة يا رانيا....لن تكون صدقيني
وبعد ماذا حدث.....سأل سعيد؟
قالت رانيا:كرر أبي نفس الفعلة،وضعف أمام القمار؛ فخسر كل أملاكه....
ولكن سعيد قاطعها قائلا:وضعفت أمام ضعفه وكررت فعلتك السابقة
.قالت رانيا بأسف:نعم لقد فعلت الحالي.
وبعد، كيف تطور الأمر إلى وضعك الحالي ...؟!
دخل أبي إلى المنزل وقال لي:إنهم يطلبونك في حانة اللؤلؤة وإلا سيقتلونني
ثم خلع أبي حذاءه وأراني منظرا، قبيحا لن أنساه طوال حياتي....؟
نظر إليها سعيد مستغربا يريد منها أن تتابع....قالت رانيا:
لقد حرقوا إصبعه بماء النار،فكان إصبعه غير موجود في مكانه،بل حل محله قطعة جلد متفحمة
ولم يجبرني والدي جابر على فعل أي شيء، بل قال لي:
سأهم بالهرب ولكن حتى لو هربت، سيجدونني ويقتلوني لا محالة
قلت له باستسلام:، ماذا تريد مني أن أفعل هذه المرة؟
قال والدي:الأمر مختلف الآن لأني وقعت على عشر سندات
قلت له:إذا تريد مني النوم مع عشرة رجال!
كان أبي خائفا جدا في تلك الليلة لأنه قال لي:نعم عليك النوم مع عشرة رجال
ولم يهن علي خوفه،فوافقت بعد أن وعدني أن تكون المرة الأخيرة،ثم أوصلني أبي قبل عام واحد إلى حانة في المدينة القديمة تعرفها أنت جيدا...
وبدأت عملي في نفس الليلة التي وصلت بها، وكنت في كل ليلة أنام مع شخص آخر مختلف، حتى انتهى دين والدي....
قال سعيد:وماذا حدث بعد ذلك....؟
قالت رانيا:اكتشفت أن أبي شخص وهمي...
قال سعيد:ماذا تعنين بذلك؟
لم يظهر أبي بعد هذه الحادثة، وعدت بعد عشرة أيام إلى منزلنا، ولم أجده واكتشفت أنه باع وصفى كل ممتلكاته....لم أعرف لماذا فعل ذلك؟، ظننت، أنه قد خسر أمواله مرة أخرى...أو ربما سافر بعيدا شاعرا بالذنب....ودارت أسئلة كثيرة في ذهني،ولكنها اختفت فجأة ،وبقي سؤال واحد:ماذا أفعل الآن....؟
لم تكن المدينة التي عشت فيها أنا وأبي جابر لتسعني بعد الآن، بعد أن تشوهت سمعتي فعدت أدراجي إلى المدينة القديمة، وحاولت البحث عن مهنة شريفة متمسكة ببقايا الشرف والعفة التي بقيت لي، ولكن كنت في كل مرة أفشل....وأحيانا كنت أفشل لسبب ما أجهله...كأن يدا خفية تتحرك وتعمل على طردي من كل مهنة كنت أعمل فيها....
عملت كمعلمة أطفال،ولكني طردت بعد يومان من دون أي سبب واضح،وكل ما اعتقدته أن رياحا من سمعتي وصلت إلى المدرسة فقامت الإدارة بطردي
بعد ذلك عملت خادمة في البيوت، لكن هذا العمل لم يكن مجديا ولم يكن يسد الرمق، وظللت متمسكة بهذا العمل كشعلة أمل أخيرة، ولكن في المرة الأخيرة حاول رب المنزل اغتصابي، واكتشفت سيدة المنزل ذلك، فقامت بإنقاذي وفي نفس الوقت قامت بضربي وطردي من المنزل في منتصف الليل، دون أن تدفع لي قرشا واحدا من أجرة شهر كامل....
خرجت في تلك الليلة هائمة على نفسي،ونظرات الأشرار تحيط بي...شعرت أن والدي يتربص، وينتقم مني في نفس الوقت....كنت طوال تلك الفترة أشعر نفسي بأني المسيح الذي صلب من أجل التكفير عن خطايا والده.ووجدت أقدامي تأخذني إلى حانة اللؤلؤة، وهناك استقبلني يحيى وأمّن لي غرفة أنام فيها ليليتي، وعرض علي العمل بالعهر...
سعيد:وأنت قبلت،أليس كذلك؟
رانيا:لا لم أقبل.....بل على العكس رفضت، وقلت له إني سأدفع أجرة منامي هذه الليلة في القريب العاجل، ثم حدث ما لم يكن متوقعا!
جلست على إحدى الطاولات لأشرب كوبا من الشاي الساخن،قبل أن أبدأ رحلة البحث عن عمل جديد،فدخل شخص كبير الجسم وجلس على طاولتي،وبمجرد أن نظر إلي عرض علي مبلغا كبيرا جدا....مبلغا فوق ما تتخيله أو تتوقعه يا سعيد للنوم معه...
سعيد:إذا في هذه المرة وافقت!
رانيا:نعم وافقت،لأن المبلغ الذي سوف يدفعه لي هذا الشخص كان قادرا على إعالتي ثلاثة أشهر مكتملة وهي فترة أستطيع أن أجد فيها عملا جيدا
قال سعيد:وبعد ما الذي حدث؟
رانيا:أعجبت هذا الرجل كثيرا،وكان من الواضح أنه غني جدا،فعرض علي أن أكون من الصفوة....
قال سعيد مستغربا:وكيف ذلك...؟
رانيا:وعدني،وكان صادقا بوعده،بأنه سيوصي علي أصدقاؤه ويبلغهم عني وعن جمالي،وهكذا استقريت في حانة الؤلؤة أنتظر زبائني المميزين....بعد أن وافقت طبعا
قال سعيد:وبعد....
رانيا:وبعد ماذا؟
سعيد:هل ظهر المدعو جابر....ألم يحاول الاتصال بك...ألم تحاولي أنت البحث عنه مرة أخرى
قالت رانيا:لا، لم أحاول، ولم أقرر المحاولة....وتابعت رانيا كلامها:
إن دم والدي ووالدتي الحقيقيين، يسري في عروقي، لذلك قبلت العمل بالعهر بهذه البساطة، ولكني على الأقل عاهرة مميزة، لم أمارسه حبا فيه بل نتيجة لظروفي القاهرة....
* * *
لم تختلف بداية سعيد مع رانيا، عن بدايته مع وداد كثيرا، فقد مارس العهر معها حتى شبع، إلا أن تلك المشاعر المتوسوسة الشاكة بأمر ما لم تساوره.....فقرر الزواج برانيا غير متردد ولو للحظة،من حبه لها...
كانت وداد في ذلك الوقت، قد مارست الفحش مع أكثر من مئة رجل، كأنها تريد تعويض الأيام التي فاتتها وهي حالمة مع سعيد....تمارس جنسا قاسيا بجميع أنواعه تريد من خلاله الشعور بالألم...لقد تحولت وداد منذ ذلك اليوم إلى فحل...إلى ثور لا يستطيع إخماده،أو إخماد ثورته سوى أعتى الرجال وأقواهم.....
كانت ترفض الخروج من غرفتها، خوفا من أن ترى سعيد أو رانيا...كانت تخاف منهما ، وتمنت من الله أن لا تصادفهما في طريقها لأي سبب...
وظلت حال وداد كذلك،حتى سمعت بنبأ رغبة سعيد بالزواج من رانيا...
نزلت وداد من غرفتها لأول مرة منذ دخلت إلى الحانة ورأت سعيد يجلس مع رانيا...
قال يحيى:ألم يسقط الجنين الذي في بطنك بعد...؟
وداد:رغم كل الرجال الذين نمت معهم ولكنه لم يسقط بعد...يبدو أن له رغبة شديدة في الحياة....
قال يحيى:وما الذي تنوين فعله؟
نظرت وداد إليه،وصمتت صمتا طويلا كان ذهنها مشغول بالتفكير في شيء ما...ثم قالت بعد أن همت بالصعود إلى غرفتها:سأخبره في الوقت المناسب
صرخ يحيى بها:متى هذا الوقت المناسب....إن سعيد سيتزوج من رانيا بعد أيام
ضحكت وداد وقالت:في الوقت المناسب....في الوقت المناسب يا يحيى
صمت يحيى وعاد إلى عمله،وقال في نفسه:لله في خلقه شؤون...!

في ذلك الوقت كان سعيد يتمدد بجانب رانيا على السرير:
سأسافر إلى قريتي،وأبيع كل أملاكي،وارجع هنا للزواج بك
قالت رانيا:هل أصدقك؟
قال سعيد :صدقي...سأعود وسأتزوج، وسترينين بأم عينيك يوم عودتي، وما الذي سأجلبه لك معي
فقالت رانيا:أنا في انتظارك...لا تتأخر
سعيد:وأنت أيضا، ابق على العهد الذي بيننا
قالت رانيا:لا تخف، لن أنام مع أي شخص طول فترة غيابك، وسأظل هنا حبيسة هذه الغرفة حتى تعود....
قال سعيد لها مبتسما:ولن تضطري للنوم مع أحد غيري بعد عودتي....
قرر سعيد أن يصفي أملاكه،وان يبيع أرضه في مدينة القصر التي لم يعد يربطه أي رابطة من أي نوع....قرر الاستقرار في المدينة القديمة بعد أن يقيم مشروعا صغيرا بالأموال التي سيحصل عليها من بيع الأرض...
في الطريق إلى مدينته، خطرت على باله العقبة الوحيدة التي ستقف في طريقه، وتعطل قراراته التي اتخذها....والده....كيف سيبيع الأرض وهو لازال، على قيد الحياة.....قرر سعيد واكتشف انه لا يستطيع بيع الأرض كاملة،خاصة أن لأخوته الأربعة حصة بها،فقرر حل المشكلة وبيع حصته فقط،رغم أن الأرض لم تكن تبلغ ربع القيمة التي تقدر بها الآن قبل أن يمسك إدارتها سعيد.....
وصل سعيد إلى قريته القديمة،لكن عبق الماضي لم يؤثر به،بل زاد كرهه لكل الأيام الماضية،فتسّمر في الأرض وبدا يعد خطواته كأنه يريد الوصول بأسرع وقت إلى مزرعته.....

وصل سعيد .....وصل لكي ترى عيناه أفظع مشهد رآه في حياته..فرك عينيه غير مصدق ما رآه،ولكن بعد طول تأمل أثبتت له عيونه صدق نظراتها،وإن الذي يراه حدث في هذا العالم ،وليس في أي عالم آخر....
لقد صبغت مزرعته باللون الأسود، وأصبحت كتلة من رماد، حتى جذوع الأشجار وصلها الحريق و بالكاد كانت قادرة على الصمود و أي هبة ريح مهما كانت ضحلة ستسقطها من عليائها لترتطم بشدة في الأرض، وتتحول بعد ذلك إلى رماد...
بعد أن استيقظ سعيد من سباته، وشفي قليلا من حمى المفاجأة، شاهد رجلا ينفث الدخان من فمه بكل هدوء، ويجلس كعادته على كرسيه الهزاز....
تحرك سعيد نحو هذا الرجل، ونية الشر واضحة جدا في عيونه:
ماذا حصل يا أبي....من الذي حرق المزرعة؟
ولكن والده سحب نفسا طويلا من سيجارته، ولم يكترث لأي كلمة تخرج من فم سعيد.
أعاد سعيد السؤال:ما الذي حصل أيها العجوز؟
ولكن والده رفض الرد أو التحدث بأي كلمة....
وإذ بسعيد تصيبه نوبة غضب، وبدأ يكسر كل شيء أمامه...أخرج كرسيه الهزاز الذي اشتراه ذات يوم ليتمتع بالراحة وهشمه إلى قطع صغيرة....
وجد فأسا ملقية أمامه، فأمسكها وبدأ بتكسير كل شيء....جدران المنزل...نوافذه،
وهو يصرخ:من أحرق مزرعتي....من أحرق تعبي طوال تلك السنين....من أحرق فرحتي، ولكن والده تحدث في هذه اللحظة وقال:هل تسمي أربع سنوات بالتعب؟
قال سعيد:ماذا تقول أيها العجوز المجنون؟
بركات:لقد رحل عمران بعد أن قُتل علي في عام 1976، ونحن الآن في منتصف عام 1980 فهل تسمى هذا بالتعب....وتابع بركات كلامه:
أنا من تعبت بهذه المزرعة...أنا من أنشأها،أنا من أمتزج عرقه بها طوال خمسين عاما....أنا من تعبت بها وليس أنت
قال سعيد:من أحرق المزرعة...
قال بكل هدوء:أنا من أحرقها، لأنكم لم تحافظوا عليها، بل حاولتم بيعها، وقتلتكم بعضكم البعض من أجلها، وفي النهاية مارستم العهر من نقود طاهرة أنتجتها...
قال سعيد:إذا أنت من أحرقها
قال العجوز:نعم.....وأكمل:لأنك لا تستحقها يا عاهر، كما أن المزرعة ملكي وليست ملكك، وأنا حر في أملاكي....
نظر إليه سعيد،ولم يتفوه بأي كلمة،بل دخل إلى المنزل وبدأ يرش شيئا ما في أنحاء المنزل،ثم خرج وبدأ يرش هذا الشيء على جدران المنزل الخارجية،وبعد أن فرغ من عمله وقف في مواجهة أبيه وقال:أنت تستحق الحرق أيضا....
أشعل سعيد عود ثقاب وهم بالخروج ولم يلتفت خلفه...
لم يلتفت ليرى بيته القديم وهو يحترق قطعة قطعة...

لم يلتفت خلفه ليرى وينظر إلى والده المحترق وهو يقع في مكانه بعد أن وصلت النار إلى أجزائه وهو غير قادر على الحركة...
لم يلتفت،وصم أذنيه عن أصوات لشخص يصرخ يطلب النجدة....وحتى لو قرر سعيد العودة وإنقاذ والده لن يستطع ذلك لأن جثة والده تكون عند ذلك قد تفحمت.
* * *
عاد سعيد في نفس الليلة إلى المدينة القديمة،ولم يجد مكانا يذهب إليه سوى حانة الؤلؤة،لقد أصبحت قدره الذي لا يستطيع الفرار منه....
جلس على طاولة بعيدا عن يحيى وأشعل سيجارة واستغرق في صمت عميق...
في هذه اللحظة نزلت وداد من غرفتها ورأت سعيد يجلس صامتا فتوجهت إليه، وصرخت به صرخة أثارت الرعب في قلبه، وأعادت روحه إلى جسده، وقالت:
لقد بعت مزرعتك، أليس كذلك!....صفيت أملاكك لكي تتزوج من رانيا
نظر سعيد إليها،وقال لها بصوت أقرب إلى الصمت:هذا ليس وقته يا وداد...
ولكن وداد عادت إلى الصراخ مرة أخرى:
تريد الزواج وتتركني...، بل هناك شيء يجب أن أخبرك به قبل أن تقوم بذلك...شيء ربما سينغص عليك كل ما تريد فعله...
صمت سعيد ولم يرد عليها،بل أبعد نظراته عنها.....
وتابعت وداد كلامها:لا تريد الرد علي....تظنني سكرانة أو أهذي، لكن اسمع ما سأقوله لك بإمعان....
ولكن سعيد ظل لائذا بالصمت....
وداد:أنا حامل يا سعيد...حامل منك
نظر إليها سعيد نظرات أخرى تختلط فيها مشاعر السعادة مع الاستغراب والدهشة، فتابعت وداد كلامها:
لقد ضاجعت، أكثر من مئة رجل هذا الأسبوع فقط، ولكن أبى طفلك أن ينزل من بطني..حاولت أن أجهضه بكافة الوسائل لكنه أبى ذلك...كأنه يريد الخروج إلى هذه الدنيا للتعرف على حقيقته الدنيئة....
صمت سعيد،وأراد أن يقول شيئا ولكنه آثر الصمت....
تابعت وداد كلامها:ماذا تريد أن تقول...هل تشك بنسب الطفل؟ هل تعتقد أنه من شخص غيرك؟؟!!
إذا كنت تعتقد ذلك،فولدك عمره ثلاثة أشهر ونصف،وتذكر... أنت الشخص الوحيد الذي كان يشاركني الفراش قبل ثلاثة أشهر ونصف من الآن إلا إذا كنت لا تريد الاعتراف أو ترفض نسبه...
عند ذلك،حضر يحيى ليوضح الأمور أكثر:أنه ولدك يا سعيد....كنت أعرف ذلك منذ أن حملت به يا سعيد....
نظر سعيد إليها نظرات عدم اهتمام، وتطورت نظراته إلى نظرات استحقار، ثم قال:
يحيى...خذني إلى غرفة رانيا، فأنا غير قادر على الحركة...
أخذ يحيى بيده، وأمسك به ملاحظا مقدار تعبه، وبعد أن أوصله إلى غرفة رانيا، كانت وداد لازالت متسمرة في مكانها...فقال يحيى:
من الواضح أن سعيد مصمم على رانيا يا وداد......
قالت وداد:وطفله الذي ينمو في أحشائي...!
قال يحيى :حكاية تقليدية....حكاية تقليدية يا وداد
كانت رانيا تجلس في غرفتها، وشعرت باستغراب وصل حد الانهيار، عندما رأت سعيد يهم بالدخول مبكرا، فداهمته بالحديث غير ملاحظة حاله المزري:
لقد عدت مسرعا !....ما الذي حدث؟
قال سعيد، لم يحدث شيء مما توقعينه...بل حدث ما هو أسوأ!!!
قالت رانيا:وما الذي حدث
قال سعيد جملة واحدة:إن وداد حامل مني....
غط سعيد في سبات عميق لم تؤرقه أية كوابيس،أو تكدر صفوه أي أحلام شاعرة بالذنب...لم يتذكر سعيد ولو لمرة بأنه قتل والده حرقا، وظل آمنا مستقر النفس طوال السنين، أو الأيام الباقية له من عمره.....

























{الفصل الثامن}
بعد أن خطف جابر رانيا، سافر بها إلى قرية بعيدة جدا، والذي ساعده على الاختفاء أن خليل بعد أعوام قليلة نسي أن له ابنة أصلا....ولم يفكر بالسؤال أو الاستفسار عنها
ظلت مشاعر الذنب والشفقة تأكل صدر جابر......كان يسأل نفسه:
ما ذنب هذه الطفلة الصغيرة؟...ما ذنبها لكي أعاقبها بذنب اقترفه والدها المجرم...
وأجّل جابر انتقامه من خليل غير قادر على فعل أي شيء بهذه الطفلة، وفضّل إعطاء نفسه مهلة للتفكير...
في لحظة ما، غلب جانب الخير عند جابر، فقرر إلحاق رانيا بأي مدرسة حتى يحين وقت اتخاذ القرار....
ظل جابر متشتتا، محتارا متقلبا بين الشر والخير...بين قتل هذه الفتاة و إرسالها جثة هامدة إلى والدها، أو الإبقاء عليها حية، وسلوك درب غير هذا الدرب، للانتقام من أبيها، خاصة أنه قد بدأ يحبها.....
ولكن في النهاية، بعد أن طالت فترة التفكير إلى فترة كبيرة...قرر الانتقام
كان دافع الانتقام أقوى من الحب الذي تكنه له رانيا، كما أنه كان يذكرها دائما بأنها ليست ابنته....بل ابنة مجرم آخر....ابنة رجل آخر...أي أنه كان يذكرها بأن موعد الانتقام قادم لا محالة....
لم يجد جابر زمنا أفضل من الزمن الذي أصبحت فيه شابة يرغب فيها الآخرين،فقرر أن ينزع منها جميع الصفات الشريفة التي كان في السابق قد ألصقها بها ،ورباها عليها،مقررا أن يدفعها إلى العهر بأية طريقة...
سأل نفسه عندما قرر هذا القرار:لماذا لم أدفعها إلى ذلك منذ البداية...كنت قادرا على إذلالها وإرغامها على العهر منذ كانت طفلة، فلماذا الآن استيقظت؟
لماذا ادعيت الآن فقط أنها لا تستحق كل ما فعلته من أجلها....
قرر جابر تعويض تلك السنين التي ربى رانيا فيها وأنشأها، فزاد غله غلا، وحقده حقدا، ووجد أن أفضل وسيلة لإشفاء غليله، هو أن يرى خليل ابنته تمارس العهر أمام عينيه، مثلما أغتصب خليل زوجته في السابق أمام عينيه...
لقد غلبت ريح الانتقام القادمة من الماضي،كل نوازع الخير التي كانت تحاول الطفو في نفس جابر....في النهاية غرقت كل تلك النوازع وأكلتها أسماك القرش، وتحولت إلى شيء غير موجود......وحلت مكانها نوازع أقوى منها، كانت موجودة في السابق منتصرة انتصارات مؤقتة في كل معاركها، منتظرة المعركة الكبرى الحاسمة التي سوف تودي بأعدائها إلى الموت....إلى النسيان النهائي....
وحانت اللحظة، وبدأت المعركة عندما شبت رانيا وأصبح جابر ينظر إليها بعين الشهوة...وتحقق النصر في عام 1976
عندما أصبحت رانيا تعمل كعاهرة خاصة بالفئات العليا في المجتمع،الذين لم يكونوا أرستقراطيين ولا حتى من الطبقة المتوسطة،بل كانوا من الشوارعيين الحقراء الذين يتمنون أن يصبحوا في يوم من الأيام مثل خليل،ولكن جابر هو الذي ألبسهم هذا اللباس،ولقنهم الخدعة التي سوف يخدعون بها رانيا بقية سنواتها القليلة قبل أن تقتل.
كما إن جابر هو المالك الخفي لحانة اللؤلؤة الذي لم يظهر ولو لمرة واحدة بها، والتي سماها تيمنا بحانة خليل.....
وبذلك أصبحت رانيا تمارس العهر تحت إمرته ولكن بصورة غير مكشوفة...

في ذلك اليوم من أيام عام 1980،وقبل أن يموت سعيد بأيام،وقف رجل يجر قدمه من خلفه بصعوبة،لأن الجرح الذي أحدثته أحلام بها قد تطور كثيرا وأصبحت قدمه بحاجة إلى القطع...يلبس معطفا طويلا وقبعة تحيط بوجهه كله....
وقف هذا الرجل أمام خليل وهو ينظر نظرات عابثة هادئة مستقرة
كشف هذا الرجل عن وجهه وقال:أنا جابر....هل تذكرني يا خليل؟
نظر إليه خليل بإستحقار يزيد عن احتقار جابر له وقال:نعم أذكرك أيها السافل
ضحك خليل...ضحك بشدة،ثم قال:أنتظر حتى تعرف مقدار سفالتي أيها القذر....
قال له خليل:ماذا تريد أيها السافل...اغرب عن وجهي وأشكر الله أنني لم أقتلك في ذلك اليوم....أيها السافل
ضحك جابر وقال:لكنك لا تقوى على الحركة الآن....؟!
قال خليل:حتى لو كنت كذلك،فأنت لا تخوف بعوضة....
قال جابر:انتظر حتى تسمع ما سأقوله لك....وتابع جابر كلامه:هل تذكر رانيا
نظر إليه خليل بعد أن سمع كلمته الأخيرة، وبدت معالم التذكر في وجهه....ثم دلت نظراته على تنبؤات بما كان يريد جابر أن يقوله...
قال جابر:تبدو الحسرة واضحة في عينيك يا خليل وهذا ما تستحقه، ثم أحنى جابر قامته وتفوه ببعض الكلمات في أذن خليل...واستمر يهمس ويهمس ويهمس، حتى رفع خليل يده وأمسك بها عنق جابر ضاغطا عليها بشدة....
ولكن جابر أزاح يده بكل بساطة وهدوء وقال له:
عليك أن تبكي قوتك الطاغية التي ولّت يا خليل.....
لقد تغيرت الحقائق بالنسبة لك، ولكن ليس بالنسبة لي...فأنا طوال عمري لا أقوى على قتل بعوضة،أما أنت فالبعوضة هي التي ستشرب من دمك من دون أن تكون قادرا على فعل شيء لها....لقد أصبحت البعوضة أقوى منك يا خليل....
وكرر جابر كلمته الأخيرة:لقد أصبحت البعوضة أقوى منك يا خليل...
وعاد جابر إلى هيئته السابقة،مُرجعا غطاء رأسه إلى موضعه،وبصق على خليل قبل أن يكمل طريقه....
حاول خليل بكل ما يملك من قوة النهوض، ولكنه لم يستطع ذلك، وبدلا من ذلك عاد إلى مكانه شاعرا بمقدار ضعفه وتعبه، وجلس يتأمل بما قاله جابر، وسرعان ما تدفقت الدماء من رأسه، وسقطت الدموع من عينيه قبل أن يشهق شهقة أخيرة معلنة وداعه الأخير.....


{الفصل التاسع}
استيقظ سعيد في ذلك اليوم الذي استلقى فيه بغرفة رانيا، و كان دماغه في حالة جيدة وأستطاع وضع النقاط على حروفها....وأن يتقبل الحقائق كما هي...
الحقيقة الأولى:إنه قد قتل والده حرقا، قال في نفسه:شيء غير مهم...لنتغاضى عنه وننتقل إلى الحقيقة الثانية...
الحقيقة الثانية:أن وداد حامل...هنا يكمن السؤال:ماذا أفعل...
قص سعيد على رانيا كل ما حدث من الألف إلى الياء، وعندما انتهى سعيد من سرد الحقائق، قالت رانيا في نفسها:
الحقيقة الأولى:غير مهمة....إنه والده وهذا شأنه
ثم سألت رانيا:ما الذي تريد فعله؟
حك سعيد رأسه بعلامة استفهام وقال: بالنسبة إلى ماذا؟
بالنسبة إلى مزرعتي المحترقة؟ أم بالنسبة لوالدي الميت؟ أو بالنسبة للإفلاس؟
قالت رانيا:لاشيء مما قلته يهمني....بالنسبة إلى ولدك الذي ينمو في أحشاء وداد؟
قال سعيد:لا أعرف....ولكني أفكر في أمر ما..؟؟؟
قالت رانيا: ما هو...؟!
سعيد:سأنتظر حتى تلد، وعند، وعند ذلك أرى ما علي فعله.....
قاطعته رانيا بتعجب:ما تريد فعله!...ألم تقرر بعد ما تريد فعله؟
سعيد:دعيني أكمل كلامي....مهما فعلت فلن يكون من ضمن فعلي الاستغناء عنك، إلا إذا كنت تريدين أنت ذلك؟
قالت رانيا:لا أريد ذلك...

انتظر سعيد ورانيا قدوم المولود، واستقرا في غرفة رانيا في الحانة حتى لا يجعلها تغيب عن ناظريه، وأعطى يحيى مبلغا محترما، مما تبقى له من ثروته، للتغاضي عن كل هذا، في الوقت الذي كانت فيه وداد تعبث به...
نزلت ذات يوم إلى الباحة وهي ثملة من شدة السكر، وبدأت تصرخ:
لقد رفضني.....رفضني حتى بعد أن عرف أني حامل منه..
لقد فضل رانيا علي، وكأنها سحرته وعبثت بدماغه، أو أخرجت جزءا منه؟
كان سعيد يستمع إلى كل ذلك مع رانيا، متغاضيا عن الذي يسمعه حتى أمسكت وداد زجاجة خمر مكسورة، ووضعتها على بطنها المتضخم وقالت:
إذا لم تنزل يا سعيد، فسأشق بطني فورا
أحس سعيد بالقشعريرة، وبدأت رجفة تسري داخل عروقه وكان على وشك ارتداء ملابسه والنزول، لكن صوت ما أعاد إلى نفسه الطمأنينة...إنه صوت يحيى عندما هرع إليها وأسقط الزجاجة من يدها، قائلا لها:
يكفيك أيها المجنونة ما تفعلينه بنفسك....يكفيك يا مجنونة
حاولت وداد أن تفعل أي شيء لاسترجاع سعيد،ولكنه كان باردا كالصخر،فلجأت إلى إغاظته غير فاقدة الأمل....
استقرت في الغرفة التي بجانبه، وكانت تتعمد أن ترفع صوتها أثناء الممارسة حتى يسمعها سعيد، ولكن أصواتها كانت تدخل من الأذن اليسرى لسعيد وسرعان ما تخرج من الأذن اليمنى.....كل ما كان يخيف سعيد هو ابنه،ومقدار الخطورة التي تسببها له وداد بمعاشرتها رجالا وهو ينمو في أحشائها.
يأست وداد من سعيد، فقد كان كما وصفته، باردا كالصخر، وعندما أنجبت رمت بمولودها الذي كان بنتا وقالت له:خذها....إنها لك
قال سعيد لها:شكرا...شكرا جزيلا لك...كنت أعتقد أنك ستفعلين هذا
قالت وداد:خذها، وإن رأيتك بعد هذه المرة سأقتلها....صدقني سأقتل هذه الطفلة....
قال سعيد:لا تخافي...
أمسك سعيد طفلته،وصعد إلى غرفة رانيا وقال مخاطبا ابنته:
من أذن لك بالحضور...ومن كان يتوقع قدومك أصلا...لقد حضرت ووجدت رغما عن أنفنا جميعا بأمر القدر....أتيت من رحم الصدفة والقدر،لذلك سأسميك قدر
ووضع سعيد طفلته بين يدي رانيا قال لها:ما أجمل قدر يا رانيا...أليس كذلك؟
قالت رانيا بامتعاض واضح:أنها جميلة، ثم نظرت إليها نظرة سريعة وأعادت القول:
نعم هي جميلة...
وأعادت الطفلة إلى أحضان والدها، وقالت رانيا وقد بانت عليها علامات الغضب:
ماذا تريد مني؟
قال سعيد:أريد الزواج بك كما وعدتك.....
قالت رانيا:أتزوجك وأنت مفلس ممكن...أما ومعك هذه المدعوة قدر، فهذا غير ممكن، بل مستحيل.....
قال سعيد:ماذا تقصدين!...أوضحي كلامك يا رانيا؟
رانيا:الأمر لا يحتاج إلى توضيح...لن أتزوج، ولك ابنة ستنغص علي حياتي
ماذا تعتقد...لقد جربت الأبوة غير الحقيقية...لو كنت ابنة جابر فعلا لما دفعني إلى العهر...لآثر الموت على أن يفعل هذا بي....
الأبوة غير الحقيقية شيء مزور يا سعيد ولا أستطيع أن أكون أما لفتاة ليست ابنتي
اندهش سعيد،ولكن لم تعطله الدهشة عن إلقاء بعض الأسئلة:
ولكن لماذا انتظرت حتى تقولي هذا الآن...لماذا لم تتفوهي بكل هذا منذ البداية؟
قالت رانيا:لأني كنت متوقعة أشياء كثيرة...
قال سعيد:مثل ماذا؟
قالت رانيا:كأن تتخلى أنت عنها...أو تتمسك وداد بها...أو حتى تعود إلى وداد بعد أن ترى طفلا من صلبك، يخرج من أحشائها..
قال سعيد: أنا احبك يا رانيا
رانيا:دعك من الحب يا سعيد، لقد كنت غبية في كل توقعاتي، لذلك سأتخلى أنا عنك...سأتخلى عن حبي لك، وعندما تفكر بذلك مستقبلا، ستعرف مقدار حبي الحقيقي، ومقدار تضحيتي...هل تعرف ...وهمّت بالصمت!
قال سعيد:ماذا...ما الذي كنت تريدين قوله؟!
قالت رانيا:كنت أفكر بقتل قدر حتى نتخلص من كل مشاكلنا...
قال سعيد:إياك أن تفكري بذلك...سنفترق على هذا،وهذا أفضل لي ولك
سأضع قدر عندك قليلا، حتى أكمل حساب يحيى، واحضر سيارة أجرة، وأذهب أنا وإياها إلى مكان لن تريني بعد الذهاب إليه....
قالت، بلهجة مقرفة غير مكترثة:ضعها أينما تشاء

خرج سعيد،ووصل إلى يحيى وقال له:لقد انتهت القصة يا يحيى...لقد تركت رانيا... سأرحل إلى مكان بعيد عن هذه المدينة القذرة...
قال يحيى:وداد تكاد تجن يا سعيد، بل جنت...أنها تبكي، هذا الصباح...ما رأيك على الأقل أن تودعها...؟
قال سعيد:لا..لن أفعل ذلك،هذا خير لها بدلا من أن يضيء لها وداعي الأخير آمالا جديدة...
قال يحيى:قد يكون كلامك صحيحا يا سعيد...وتابع يحيى كلامه:أن هذا الوداع!
قال سعيد:نعم، هو الوداع الأخير يا يحيى
يحيى:إذا أنا لا أدين لك بشيء...اذهب فقط واحضر سيارة أجرة
قال سعيد:شكرا...شكرا لك يا يحيى

عندما هم سعيد بالخروج،كانت وداد التي أصيبت بالجنون قد تسللت إلى غرفة رانيا،بعد أن دخلت الأخيرة إلى الحمام،وأمسكت قدر بين يديها ونظرت لها نظرات حاقدة،ثم أفرغت سائلا ما في أحشائها،وهمت بالخروج بعد أن ألقت نظرة أخيرة على قدر....
وإذ بصوت زامور سيارة الأجرة يكاد يكسر نوافذ الحانة من شدة ضجيجه....دخل سعيد وهو مبتسم ضاحك....وقال ليحيى:
ترقب الألعاب النارية بعد هذا الضجيج....
قال يحيى:إذا أنت سعيد...يا سعيد؟
قال سعيد:فوق ما تتصور...لقد فعلت لأول مرة في حياتي شيئا صحيحا
لقد تركت عاهرتان،هل تعرف ماذا يعني هذا؟....هذا يعني بأني تركت حياة العهر إلى الأبد....سأستقر بعد أن عاهدت نفسي على ترك جميع آثامي، وسأربي قدر على الفضيلة...
قال يحيى:أتمنى لك التوفيق من كل قلبي يا سعيد
صعد سعيد مسرعا إلى غرفته،كأنه يريد الهرب من هذه القذارة بأسرع وقت ممكن
اقتحم غرفة رانيا، وعندما سمعت رانيا صوت الباب وهو يُفتح صرخت:
خذ ابنتك وأغرب عني قبل أن أقتلك وأقتلها
لم يأبه سعيد لكلامها بل توجه نحو قدر...توجه نحو المستقبل القادم
نظر سعيد إلى ابنته....كانت قدر تتنفس بصعوبة، يتساقط منها العرق بشكل كثيف...
عرف سعيد أن ابنته تتنفس ببطء....ببطء شديد وهي على وشك الاختناق،ثم أغمضت قدر عينيها ،وظهر لسعيد أن ابنته قد ماتت....ومات معها كل المستقبل الذي بناه سعيد بموتها.....في هذه اللحظة خرجت رانيا من الحمام وقالت له:
ألم تخرج بعد أنت وقذارتك؟
نظر إليها سعيد آسفا معاتبا، يحرك نظراته إليها كأنه يسألها:
لماذا فعلت ذلك؟
ثم تحول مجرى نظراته، وأصبحت تضخ حقدا وغلا وانتقاما
توجه سعيد نحو طاولة الطعام، وتناول سكينا كانت ملقية في صحن مليء بالفواكه، وتوجه نحو رانيا وطرحها أرضا....
صرخت رانيا بأعلى صوتها: ماذا تفعل؟
ولكنه رد عليها بثلاثة طعنات متقنة...الأولى اخترقت الكبد...والثانية كانت قريبة جدا من القلب وربما لامست حوافه، والثالثة أحدثت فجوة في الرئتين....
ثم استغرق سعيد في صمت عميق وهو يراقب بتلذذ آلام رانيا، ويحاول رسم لوحة من الدماء المتساقطة منها بغزارة...
لم يستيقظ سعيد من هذه اللحظات إلا على صوت بكاء خافت، يصاحبه ضيق في التنفس...
نظر سعيد إلى ما حوله،محاولا البحث عن مصدر هذا الصوت،فوجد يحيى قد صعد إلى الغرفة بعد أن فزع من الصوت الذي أحدثته رانيا أثناء طعن سعيد لها...
تحرك صوب سعيد، ونظر إلى رانيا وهي تسبح في دمائها، فأكتشف على الفور أنها قد ماتت، صرخ يحيى:ما الذي فعلته أيها الغبي؟
ولكن سعيد حرك إصبعه نحو مصدر الصوت الذي تعبق أصداؤه بالغرفة...
فتحرك يحيى مسرعا صوب قدر...أمسكها بيديه بعد أن جفف عرقها بكم قميصه، وقال:يا إلهي إنها تموت....وخرج بها مسرعا
رفض سعيد الهرب من أخطائه...قرر المواجهة بعد،أن لم يتبقى له شيء يعيش من أجله، قرر أنه يجب أن يحاسب على كل أفعاله، فخاف أن يتراجع عن قراره، وقرر حمل جثة رانيا ورميها في الصباح الباكر، حتى يكشف التحقيق عن القاتل، ويكون بذلك قد حصل على الوقت اللازم لمعرفة مصير ابنته التي هي بين يدي يحيى الآن.
نام سعيد هادئا،مطمئن البال،تماما كتلك الليلة التي قام بها بقتل والده...
وفي حوالي الساعة الرابعة صباحا من يوم في منتصف شتاء عام 1980، حمل سعيد جثة رانيا بين ذراعيه، وقام برميها في وسط المدينة، وكانت تلك المرة الثانية التي يخرج فيها سعيد من حانة اللؤلؤة متوجها إلى المدينة القديمة....
المرة الأولى هي التي قضاها مع رانيا في مطعم الشجرات الخمس....
والمرة الثانية هي التي رأى فيها سعيد الوجه الحقيقي للمدينة القديمة كما رآها وهو يقف على الجسر متأملا....
* * *
استيقظ سعيد من أحلام يقظته على صوت قدر وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة....
دفأت الجدة جثة قدر بغطاء رأسها،ثم خلعته عن رأسها محدثة منه كفنا يلتف حول جثة قدر،وقالت:أنت من قتلها يا أبله....أنت يا أحمق
قال سعيد.هذا صحيح....كلامك صحيح أيتها الجدة
قال يحيى:ماذا ستفعل لآن يا سعيد؟
سعيد:ما كان علي فعله منذ زمن طويل...
خرج سعيد فصرخ عليه يحيى:هل تريدني الذهاب معك؟
قال سعيد:...لا أنا أريد الذهاب وحدي...

توجه سعيد مباشرة إلى مركز الشرطة وهناك التقى عادل، ومع أول لقاء لعينيهما...
قال عادل:هل حان الوقت الذي ستسلم به نفسك؟
قال سعيد:نعم...فأنا من قتل رانيا
ضحك عادل...ضحك بشدة،ثم قال:بالإضافة إلى انك قتلت والدك...
قال سعيد من غير أن يبدي أي استغراب:إذا كنت تعرف كل شيء!
قال عادل:وهل تظنني غبيا، وتابع عادل كلامه:
لقد ماتت قدر أليس كذلك؟
قال سعيد:نعم...لقد ماتت
كنت اعرف انك القاتل منذ الوهلة الأولى التي رأيتك بها، كنت أعرف أن شخصا ما يلقي جثة في وسط المدينة معناه أنه يريد الكشف عن نفسه...كنت تحتاج القليل من الوقت فقط لتفعل أشياء معينة.....لتودع الحياة مثلا،أو تتعرف على مصير ابنتك
قال سعيد:ولماذا لم تلقي القبض علي منذ البداية....؟!!
قال عادل:سمها ما شأت، ولكني أردت أن أخدمك فقط....أردت أن أعطيك الوقت اللازم لما تريد فعله خاصة أنك ميت لا محالة...لا تنس أنك كنت تحت رقابتي، ولم تغب عن عيني طوال تلك المدة....
أعرف مثلا إنك كنت عند الجدة العجوز التي تسكن أعلى التل في نواحي المدينة، وتابع عادل كلامه:ألم تلاحظ يا سعيد لقاءي الثاني معك....عندما حضرت أنا إلى فندق الأعمدة البيضاء...
قال سعيد:نعم لقد تذكرت....لقد كنت تنتظرني على بوابة الفندق
قال عادل: دعني أصحح كلامك....كنت بانتظارك عند البوابة الداخلية للفندق
قال سعيد:هذا يعني،إنك كنت تراقبني بنفسك...
عادل:نعم صحيح، عندما كنت متشككا بأمرك ولم أتأكد بعد أنك القاتل....راقبتك بنفسي حتى أتعرف على تصرفاتك وأعرف مكان تواجدك، وبعد أن تأكدت، كان هناك عشرة رجال يراقبونك وينقلون لي تحركاتك أولا بأول....
وتابع عادل كلامه:هل هناك شيئا تريد قوله يا سعيد؟
قال سعيد:لا....
إذا سأحول أوراقك إلى المحكمة،ثم صرخ عادل بأعلى صوته:أيها الشرطي
أجاب أحدهم:نعم يا سيدي...
عادل:خذ هذا الشخص وضعه في السيارة المتوجهة إلى المحكمة، ثم عد إلي تجدني قد أكملت أوراقه...
أمسك الشرطي سعيد بشدة من قميصه، ودفعه أمامه قائلا له:
تحرك قبل أن أركلك أيها المجرم.....
قال عادل:هكذا أريدك...لا تترفق أبدا بالمجرمين
وقف عادل بشدة في وجه سعيد بالمحكمة،مؤكدا محكما حوله الأدلة،وفي نفس الوقت محكما حبل المشنقة حول رقبته،وأثبت عليه ثلاث تهم رئيسية،منها اثنتان قتل من الدرجة الأولى،أما الثالثة الإهمال المؤدي إلى القتل وكان يقصد بذلك قدر....
ووضع عادل ملحقا لتهمة رابعة ووجهها إلى سعيد، وهي العهر
عندما صدر حكم الإعدام بحق سعيد، طلب عادل من المحكمة أن يتم إعدامه علنا في ساحة المدينة القديمة حتى يكون عبرة لغيره، فوافقت المحكمة على طلبه، وأوكلت إليه مهمة إعدامه، بالإضافة إلى كتاب شكر لأنه كشف عن مثل هذا المجرم...
* * *
الخاتمة
كان الوقت الثانية عشرة ظهرا، والشمس تُسقط أشعتها بشكل عمودي على رأس سعيد، حيث اجتمعت المدينة بأكملها لتشاهد إعدام المجرم، ومنهم وداد ويحيى وجابر
عُلق سعيد من كلتا يديه على عمود خشبي،ولُف حول رأسه حبل المشنقة بعد أن أوقفه عادل على برميل حديدي...
وقف سعيد تلك الوقفة، وكان فرحا لأن وجهه مغطى ولا يستطيع أن يرى من خلاله أي أحد وفكر سعيد بالقادم....فكر بالمجهول لأول مرة....وحاول أن ينسى خوفه، ولكن خوفه في النهاية تغلب عليه، وبدأت دموعه بالنزول من عينيه، ولكن أحدا لم يلاحظ انه يبكي...
لم يكن الماضي يعني شيئا لسعيد...لقد اعتبر نفسه ميتا قبل أن يعيش...
ورفع عادل نفس تلك العصا التي رفعها يوم أن جعل خليل عبرة للناظرين، ولكنه وجهها هذه المرة نحو سعيد، فدفع رجل ما البرميل الذي كان سعيد يقف عليه...
عانى سعيد بشدة أثناء موته، فكان الحبل غير ملفوف جيدا حول عنقه، فظل يشهق ويحاول إخراج الروح مدة خمس دقائق اعتبرها سعيد طويلة، أطول من اثنا وثلاثين عاما، حتى مات وخرجت تلك الروح من موضعها....
عند ذلك أنزل عادل عصاه، ونظر نحو جميع الحاضرين نظرة مهددة محذرة، ثم توجه بخطا بطيئة نحو مركز الشرطة....
أما وداد ،فحين رأت هذا المنظر همت بالبكاء،وحاولت إخبار الجميع أن سعيد بريء،وأنها هي القاتلة الحقيقية،ولكن أحدا لم يصدقها معتبرين إياها مجنونة...وعندما رأت منظر سعيد وهو يفارق الروح، طبقت الجنون بحذافيره...
عاشت وداد طويلا بعد موت سعيد....، ولكن بعاهة عقلية مستديمة،وظلت هائمة على نفسها في شوارع المدينة القديمة،ولم تنم تحت أي سقف منذ لحظة موت سعيد،بل ظلت تائهة مشردة رافضة تركه أو التخلي عنه،رافضة المنزل الذي عرضه عليها يحيى....ظلت تلهث في الشوارع....في شوارع المدينة القديمة مدة عشر سنوات ثم اختفت فجأة،ولم يعرف احد إلى أين ذهبت،حتى عادل يأس من إيجاد جثتها،أو أي شيء يدل على موضعها....
أما يحيى،فقد استمر في عمله كنادل في حانة الؤلؤة،وظلت أحلام تدير فندق الأعمدة البيضاء حتى تعدت المئة عام من عمرها،وعندها ماتت.
وظل جابر كما هو...شخصا خفيا لا يعرف عن وجوده أي أحد
وبقي عادل يحكم المدينة بيد من حديد،ولكنه قدم استقالته بعد فترة وجيزة من اختفاء وداد من المدينة،وبنى بيتا مقابل بحيرة مهجورة ضحلة....فنظفها عادل وزرع من حولها حتى أصبحت مثل الجنة....وهناك حاول إعادة ذكرياته...حاول تقليد نفسه يوم أن وصفته سعاد(بالراقص في وضح النهار)....
كانت تلك البحيرة التي أخفى فيها عادل جثة سعاد بعد أن قتلها...
أصيب عادل بعد فترة قصيرة بالهلوسة،ولكنه ظل صحيح العقل حتى آخر يوم من عمره....
أما سعيد، فقد أُعدم عقابا لثلاثة جرائم لم يرتكبها:
الأولى وهي الإهمال بحق ابنته، بوصف إهماله هو الذي دفع رانيا إلى قتلها كما اعتقدت المحكمة، والمسؤول عن هذه الجريمة فعليا هو وداد....أما تبعية الإهمال تقع على عاتق رانيا....
أما جريمة قتل والده،فوالده كان ميتا أصلا منذ ذلك اليوم الذي وضع فيه كرسيه الهزاز على باب مزرعته...
أما رانيا فمن قتلها ليس سعيد، بل في الحقيقة هو جابر، أو ربما خليل
وربما التهمة الصحيحة التي وجهت إلى سعيد هي:العهر

{النهاية}
بلال سمير الصدّر



#بلال_سمير_الصدّر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- طريق مولهولاند2001ديفيد لينش:ديفيد لينش مخرج أدق التفاصيل
- سرير ولوح 1970 فرانسوا تروفو:استكمال اخير لمسيرة انطوان دوني ...
- الطريق المفقود1997:فيلم من كتابة واخراج ديفيد لينش: بين حبكة ...
- -رأس ممحاة 1977(ديفيد لينش): قصة عن عوالم غير مكتملة والمكتم ...
- طفل الطبيعة(الطفل المتوحش) 1970(فرانسوا تروفو):فيلم خارج الن ...
- أبناء الجنة 1945(مارسيل كارنيه): تشكيل واقعي سينمائي لزمن ما ...
- قبلات مسروقة 1968(فرانسوا تروفو):أحداث مركبة لخدمة كوميديا م ...
- مخمل أزرق 1986(ديفيد لينش):عندما يقسم لينش الواقع الى مستويا ...
- الرجل الفيل 1981(ديفيد لينش):عن عوالم ديفيد لينش والخلط بين ...
- طعم الكرز 1997(عباس كيارومستاني):عن عباس كيارومستاني والانتح ...
- فهرنهايت451/فرانسوا تروفو1966: بل هو شيء اراد أن يقوله تروفو ...
- جولي وجيم (1962) / فرانسوا تروفو -:فيلم يقف عملاقا في الموجة ...
- ممثل أومبعوث الشيطان 1942(مارسيل كارنيه):عن مارسيل كارنيه وا ...
- اطلق النار على عازف البيانو1960(فرانسوا تروفو): درس في اخرج ...
- استراتيجية العنكبوت 1970 برناردو برتولوتشي:برتولتشي يعيد تشك ...
- عن فرانسوا تروفو والموجة الجديدة والاربعمائة ضربة (1959) وغو ...
- إشكاليات صياغة خطاب النهضة العربية الثانية
- Pieta2012(كيم كي دك):عن سينما في ظاهرها تبدو قاسية ولكن مسار ...
- Dream 2008كيم كي دك:جنوج الى الفلسفة في عالم من السريالية وا ...
- الساحرات 1967:عن حضور واداء الممثلة Silvana Mangano


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بلال سمير الصدّر - رواية الضائعون