أماني فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 4422 - 2014 / 4 / 12 - 04:51
المحور:
المجتمع المدني
قراءة معاصرة "للحرب في بر مصر"
يوسف القعيد
د. أماني فؤاد
إلي متى نحن سائرون إلي الوراء ؟ نتقدم بمنطق الزمن خطيا إلي المستقبل ، لكننا نعود إلي الخلف !؟ إلي متي يبقى أخلص ما نجيده ، أو يفرض علينا ، النكوص إلي القديم والكائن المستقر ، حتى وإن تراكمت عليه طحالب القرون والعقود ؟
هناك من يثورون ويستشهدون وآخرون يتلقفون ثمار موتهم وتضحياتهم ، يقتنصون الغنائم ، ويخرجون من جحورهم ليكرسون للرجعية أو الأصولية ، أو للحكم الشمولي القمعي المستغل ، الديكتاتوري أو العسكري .
هناك من يحاربون ويستشهدون ، يقتلون من أجل تراب أوطانهم ، وآخرون ينالون شرف الشهادة ويأخذون المستحقات والتعويضات ويحتفظون بحياتهم ، لا يدفعون الموت ثمنا للحياة . تبقي العطايا والاستحقاقات في مجتمعاتنا لمن لم يقدم في سبيلها تضحية ، للطبقة التي اعتادت أن تحصد كل شيء ، ويبقى المجتمع طبقي بامتياز .
كأننا بصدد مواجهة سارقي البطولات ، فئة تمتص دماء الآخرين وبطولاتهم مرة بعد أخري ، ونحن لا نتعلم أو نتعظ من التاريخ .
تساءلت وأنا أعاود قراءة "الحرب في بر مصر" للروائي الكبير: "يوسف القعيد" ماهي المشاعر التي انتابت شخصية النص الرئيسية " مصري " وقت أن تلقى جسده رصاصات استشهاده في حرب السادس من أكتوبر 1973 م ؟ هل ساورته لحظة شعور طفيفة أنه في هذا المقام بديلا لآخر ، ابن العمده المدلل ، أنه يقوم بدور في إطار صفقة ، مقابل قطعة أرض يتعيشون منها ، أم أنه شعر أنه يزود عن وطنه ؟
لا ينتابني شك أن طيف كونه بديلا لم يراود ذهنه ، أتصوره حارب من أجل وطن وأرض هما عماد كيانه الذي لا يتجزأ ، لكن يبقى المجتمع الظالم هو الآلة حادة المقاطع التي تبتر كل ماهو نقي وحالم في هذا الوطن ، كل ما هو ضعيف لا تسانده قوة . تراه وهو مجرد جثة يسترجع وقت تشييع جثمانه كيف ظلم حيا ، وزيفت هويته ميتا .
استحضرت واقعية "القعيد" المأساوية من خلال شخصية "مصري" ومفارقة المجتمع معه آلافا من الشهداء الذين ماتوا من شباب هذا الوطن في ثورة 25 يناير 2011 م وما تلاها من موجات إلي ذهني ، مشهرين كأسنة حادة تصرخ ، تساءل واقعا لا يعرف معنى لقيمة العدل .
نشرت رواية الحرب في بر مصر لأول مرة عام 1978 م ، وأعادت دار الهلال نشرها هذه الأيام بمناسبة الاحتفال بعيد ميلاد "القعيد" السبعيني ، يبقي بهذا النص وهج الإبداع الحقيقي رغم مرور تلك السنوات ، لمعالجته للقيم الإنسانية في مطلق وجودها مع التاريخ البشري ، لتجسيده لوطأة الظلم والمفارقات العنيفة التي تحدث للمستضعفين علي هذه الأرض، حكاية مصري بسيط من طبقة الفلاحين المعدمين في المجتمع المصري ، ذهب وهو الولد الوحيد في أسرته إلي التجنيد وخوض حرب بديلا عن ابن العمدة المدلل ، نتيجة لصفقة تمت بواسطة المتعهد والعمدة ووالد مصري ، المال والنفوذ والقوة حين يستبد بالفقر والضعف والهوان ، قضاء فترة التجنيد بدلا من ابن العمدة في مقابل قطعة من الأرض ، تساعد مصري ووالده وأسرته علي استمرار الحياة ، ومواجهة شظفها الشديد .
تندلع الحرب و يستشهد "مصري" ابن الفلاح البسيط ، ويذهب التكريم والاستحقاقات إلي العمدة وولده الذي لم يخض حربا ولا مواجهة ، غاية الظلم ومنتهاه .
اقترن موت مصري في النص بقرار وقف إطلاق النار في 22 أكتوبر 1973 م ، وهو ما يشير علي موقف الروائي الضمني من ملابسات الحرب ، وطريقة إدارتها ، وتوقيت انتهاءها ، ومن هم فئات هذا الشعب الذي دفع ثمنا ؟ كأن التضحيات كانت صفقة مع سارقي الأحلام ، أحلام بسطاء هذا الشعب التي كانت بلا ثمن مجزي حتي لحظتنا هذه ، التي تتكرر تجليات الظلم فيها بصور مختلفة .
ــ يقدم الروائي نموذجا للفلاح المصري المقهور تحت فقره وعوزه ، وتحكم مجتمع طبقي ممثل في شخصية العمدة مالك الأرض ومن عليها ، رغم قيام ثورة 1952 م وما تبنته من حلم العدالة الاجتماعية ، وساسة أوطان لا يعنيهم سوي أمجادهم الشخصية ، ولينقل الكاتب هذا العالم وظف تقنياته السردية المتنوعة لتصوير وتجسيد هذه الدراما السوداء ، استنطق الموت من خلال مشاهد تقطر مرارة وسخرية من مفارقات واقع ظالم ، ذلك حين حرك تابوت "مصري" وجعل كفنه يتململ وهو فوق رؤوس مشييعيه ، يقول علي لسان الصديق بعد أن أذاع الراديو موافقة مصر علي قرار وقف إطلاق النار " إن ما قيل ليس صعبا علي الفهم ، ولكن من حق الكل ــ خاصة نحن ــ أن نفهمه ونتمثله كل بطريقته الخاصة ، أهتز الصندوق من جديد ، بدا لي أن مصري فهم اللغز وبدأ في حل طلاسمه ، حركة الصندوق هذه المرة بدت أقرب إلي التململ أو محاولة التعبير عن عدم الرضا ــ لا أدري ــ أو محاولة قول إيضاحات اللحظة ما بعد الأخيرة ، حيث يكون الأوان قد فات " ص86 .
رسم مشهد دفن مصري علي أنه آخر ، ابن العمده ، وحركة التابوت دلالتان علي جوهر صراع الشخوص وانطباعاتهم علي الحياة في مجتمع يوقع ظلما متوارثا علي أفراده ، مهما ظنوا أن هناك فرصا للعدل والانتصار ، استخدم الروائي تقنية المشاهد المتحرك ليستنطق الموت الساخر من الحياة ، ويحرك الجمادات والموتي ؛ ليوحي بعمق سوداوية الواقع ورفض هذه النهايات المجحفة ، ربما ينتفض المجتمع رافضا لكل أنواع الظلم الذي يحياه .
ــ ويختار الروائي لحكي مأساة نصه المزج بين تقنيات السرد المتنوعة : الموروثة والحداثية ، فنستحضر طقس سرد الحكواتي في التراث ، وهو ما يتناسب مع أجواء النص الذي مسرحه الريف المصري وتقاليده الحكائية ، هناك دائما جماعة المنشدين الذين يتبادلون القص في ساحة القرية أو المولد المقام فيها ، يبدأ أحدهم الحكي و يستكمل آخر ، ثم يسلم القصة إلي زميل له لينسج جزء من خيوطها وهكذا .
عمَّق اختيار تلك التقنية من شده سوداوية هذا الواقع الذي يشبه تيمة متكررة ، تحدث بمجتمعاتنا ونتحاكاها ونتناقلها حتي تصبح جزءا موروثا مريرا نواجهه ، لكن لا نقوي علي تغييره.
يتحدث في النص ستة أصوات : العمده ، والمتعهد ، الغفير ، الصديق ، الضابط ، والمحقق ، فنلمس تقنيات الرواية البلوفونية ، أو رواية الأصوات المتعددة ، وهو ما نسجه الروائي في نصيه " الحداد " و" قسمة الغرماء " تحديثا لتقنيات الكتابة التي مارسها جيل الستينيات بدأب مع إبداعه ، واتساقا مع تغير المجتمع ذاته وقضاياه ، وتعدد مناظير الرؤية فيه .
كما يستعير الكاتب من تقنيات المسرح البريختي كسر الحاجز الوهمي بين السارد والمتلقيين ، يقول صديق مصري " أعتقد أنني جانبت أصول الذوق واللياقة التي تفرضها أصول الحديث ؛ لي العذر ، لم أجد من يقدمني لكم ، فليس في هذه الرواية مؤلف يتولي كل هذه الأمور نيابة عنا ، لهذا علي القيام بتلك المهمة بنفسي أنا صديق مصري " ص87 ، 88 ، وفي ظني أن اختيار الروائي لتلك التقنية استكمالا للسخرية السوداء من الواقع الذي تغيب فيه الحقائق وتزيف ، كما تقوم بمقام هزة متعمدة من المبدع لإيقاظ وعي قارئه وتجسيد منظومة الظلم الذي يقع علي المهمشين فيه .
يتبدى عمق التناول في هذا النص في تسليط الضوء علي أنواع الاحتلال الواقع علي المجتمع المصري في تلك الأونة التي كتب فيها النص ، فهناك الاحتلال الخارجي من قبل العدو الإسرائيلي وسيطرته علي سيناء ، وظلم الاحتلال الداخلي قبل وبعد ثورة 52 ، و حرب 73 ، فدائما ما تحكمت طبقة الأغنياء وكبار الفلاحين في مقدرات الطبقات الأدني ظلما وجورا ، من خلال أساليب الترغيب والترهيب ، وممارسة استغلال الأضعف ، يحاصرون رغباتهم المشروعة وحرياتهم ، وينتزعون حقوقهم .
في "الحرب في بر مصر" يستمر "يوسف القعيد" ينسق مشروعه الروائي السردي عن المجتمع الريفي ، وتجريد محاور القوي التي تحكمه ، حين يبرز النص قضية التفاوت الطبقي فيه ، هو ذات الوتر المشدود للريف الذي يعالجه الكاتب في آخر نصوصه "مجهول" ، مضيفا إلي واقعيته عالما من الرموز العالقة بالأساطير والموروثات، الخارج من جوف ثقافة ريفية شديدة القِدم، كما أنها شديدة الاستسلام لكل ما هو غير عقلاني ، في طقس عرفاني ينحو إلي عوالم التصوف والتساؤلات .
لم تزل الحرب في بر مصر قائمة ومستعرة ، فكما كانت مع عدو خارجي وداخلي وقت كتابة النص ، فهي إلي الأن مع أعداء الخارج والداخل وإن تعقدت معطيات الداخل والعلاقات الدولية بدرجة مركبة ، وتفرعت أهدافه وأطماعه ، كأننا لن ننفض عن نفوسنا ملابس الحروب أبدا ، أو كأن مجهول القعيد أخر إبداعاته هو الأفق الذي يفرض ذاته ، واقع بلا ملامح ، عالم لم يزل في طور التشكُّل ، فهو بر مصر الذي لا يعرف استقرارا .
#أماني_فؤاد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟