أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة - أماني فؤاد - تداخلات السرد وفوضي العلاقات في رواية -هكذا يعبثون -















المزيد.....



تداخلات السرد وفوضي العلاقات في رواية -هكذا يعبثون -


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4382 - 2014 / 3 / 3 - 04:08
المحور: ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة
    


تداخلات السرد وفوضى العلاقات في " هكذا يعبثون"
*******
تقبض الروائية" أمينة زيدان" على أحجارها، محدثة احتكاكاً تصادمياً تداخلياً ليتخلق لهباً إبداعياً على شاكلة متجددة ، تتغيا فيه التعبير عن منظومة من العلاقات المنفرطة الفوضوية، التي لا ينسقها وازع اجتماعي أو ثقافي أوديني ، أوجد هذه العلاقات هروب الإنسان إلى عوالم الجسد والجنس بكونها المتعين المادي الذي يمكنه أن يتحقق فيه ، والملجأ، بعد أن سقطت المقولات الكبرى في العالم، وضاعت الحقائق، وتحكمت القوى الرأسمالية الغاشمة بمصائر شعوب العالم الثالث .
تتحدث المؤلفة عن مجتمع مصري مصغر في مدينة صغيرة بالسويس، في الفترة الممتدة من سنة 1956م حتى سنة 1981م، مدينة" غبة البوص" المنسية بين البحر والجبل والرمال الصفراء. وتحكي عن الإنسان المصري رجلاً وامرأةً في أتون ثلاثة حروب مدمرة خلخلت الذات المصرية وجعلتها غير قادرة على الفعل.
تتحدث عن شريحة من البشر مثلت مجتمعاً بكامله ، ركدت فيهم تفاعلاتهم مع قضايا مجتمعهم الكبرى وسياساته، فُرغوا قهراً من إسهامات الإنسان في قضايا عيشه ، وعاشوا فترات سياسية تعاقبت على مصر اتسمت بالتخبط والفوضى في ظل طموحات قومية وعربية وأحلام كبرى قوضت مع النكسة سنة 1967م، ثم توالى نصر سنة 1973م، الذي فُرِغَ من محتواه ، وما تلاه من فترات الانفتاح والتطبيع مع العدو، وما طرأ على المجتمع المصري من متغيرات اجتماعية و ثقافية وسياسية واقتصادية .
في ظل هذه المتغيرات الضاغطة على الشخصية المصرية ، تشكل " أمينة زيدان" عملاً روائياً إبداعياً يتلبس تلك الفوضى والمتغيرات التي تداخلت بعضها في الآخر، ويعبر عن الإنسان في مكان وزمان محتقن بكل العوامل التي من شأنها خلخلة الذات الإنسانية ، وخلق حالة بشعة من الضياع واللاجدوى.


** الحكاية والتقنية
عندما نقرأ رواية " هكذا يعبثون " نشعر أن هناك أنفراطاً ، فوضى علاقات شديدة ، تمثل شيئاً قاسياً ومربكاً وغير إنساني، شيء غير ما عهدنا ، يشوه العالم الذي نخطو عليه بأقدامنا، ونعيش بداخل مشاهده ولحظاته المتتابعة .
ولا تبدو الرواية واقعية استقرائية بقدر ما تبدو مؤلفتها مدركة للواقع ، معيدة لتشكيله على النحو الذي يتوافق مع اندياحه وتداخل العلاقات به.
تبدأ الرواية بمشهد رتيب ، لا يلبث إيقاعه أن ينمحي ، تحت وقع مفاجأة نارية "كريمة" صارخة تحترق ، شأن ارتفاعة موسيقية مدوية ، لسيمفونية صاخبة ، تتجه "كريمة" محترقة إلى البحر ، لترتمي بين أمواجه جثة متفحمة ، ولتبدأ متتاليات هذه الرواية في القص ،" كريمة " التي كانت ، هي النقطة المركزية التي يتفرع منها السرد الروائي ، الذي يعتمد على تقنية تعدد الأصوات ، لكن على نحو خاص فالشخصية التي تبدأ في القص لا تتحدث بضمير أنا المتكلم ، لكنها تشتق من نفسها آخر وتقص عليه ما حدث ، تخاطبه ، وتصنع معه حواراً وبوحاً.
يبدأ القص " بعبد الناصر الذي كان مراهقاً وقت أن ماتت " كريمة" أحبها وصارت حلماً تتحقق من خلاله رجولته ، يصدم بموتها وينفصل عن العالم إلا من أوهامه وأحلامه عنها، تتعدد علاقاته بوفاء وعزيزة وغيرهن ، يعمل ولا يجد نفسه في شيء ويعاني من قسوة أبيه وضربه له وتاريخه النفسي.
يتوالي القص مع "سيدة" صديقة" كريمة" وسرها الوحيد،كائن ليلي ، لا تجد في حياتها بعد موت "كريمة" سوى تخطباً علاقة مع " غريب" تسفر عن جنين تتخلص منه هي و"غريب" بمساعدة" إسماعيل" الذي لا تلبث أن تتزوجه وهو على عشقه لكريمة حتى بعد موتها ، وعلى علمه بما كان بين " سيدة" زوجته وغريب ، ثم موت جنينها من إسماعيل بعد أن غرق في البحر ، وبعد أن أندفعت في علاقة مع المهندس " فريد " الغريب عن المنطقة ، ينتقل القص إلى إسماعيل هذا الشاب الذي عشق " كريمة" وثار لعشقه عندما رآها مع أحد عساكر الأمريكان في عربته، واستمر في حبه لها برغم موتها وعلمه بعشق " عبد الناصر " لها يتزوج بسيدة، ويعشق البحر والتجارة ويمارس قشور الثقافة ويدعيها، ويتاجر بالشعارات كما يتاجر بكافة السلع مع صديقه "حسين" ، يعاني إسماعيل من أب فاسد يعاشر أخت زوجته. يتعرض للإغواء من عزيزة ويبحث عن "هدى" التي راق لها فلا يجدها ، ويضيع مخموراً في البحر لتجده أمه جثة تطفو فوق موجات الضياع وليل اليأس والأوهام.
تحكينا "صفية" مدرسة الموسيقى وأم " إسماعيل" وزوج " شعبان" حياة أنثى تنفرط حياتها في علاقات لا تتحقق بها اكتمال أو سعادة، يفرض عليها ابن عمها شعبان الذي اغتصبها فتضطر للزواج منه وتتعدد علاقاته النسائية حتى أنه يقيم علاقة مع أختها " لولية" أم غريب وعزيزة ، تعشق "سلمان" وتقيم معه علاقة حب كاملة لا تلبث أن تؤد عندما يكتشف عدم عذريتها ، تعيش الحرب والدمار والضياع، وتأخذها علاقة شائنة بحميده لتنجب منه ابن غير شرعي " أدهم" ما يلبث أن يقتله أخوه " إسماعيل" دون أن يدري وتبتلع سرها، وتستمر حياتها ضائعة بين أوهام الاتحاد الإشتراكي وتحولاته والتخبطات السياسية وعلاقتها بعبيد الثورية التي تتطور إلى علاقة جنسية، ثم موت أبنها " إسماعيل" وموت جنينه في أحشاء " سيدة" وفقدان الأمل في الحياة.
ويختتم القص حين يخاطب "عبيد" نفسه وهو مصر على احتفاظه بشيء لا يباع ولا يمكن أن يشتريه منه أحد حتى لوكان "حميده" الذي أخذ كل شيء بداية من " صفية" حتى المال والجاه والأولاد وتقلب على كافة التيارات السياسية ، كما تعاقبت عليه هو الأخر تحولات سياسية ودينية تركته وحيداً ، يتاجر بالمخدرات والسجائر مصاحباً " لخضر" عم " كريمة" الذي هام بها عشقاً بعد أن كان سيتزوج أمها لكن لعجزه الجنسي لم يستطع أن يعيش أو يحقق أي شيء.
الجنس هذا الانتصار المشوه الوحيد الذي عاثت فيه الشخصيات تخبطاً وآلية وتوهماً بالعشق لكنه عشق لا يجد اكتمالاً أو متنفساً ، تعيشه الشخصيات انتهاكاً وعذاباً ، و عقاباً للذات نتيجة لخوائها وتعويضاً عن انكسارات سياسية واجتماعية وثقافية متعددة.
ويبدو الشكل الفني في " هكذا يعبثون" صيغة تناسب هذا المحتوى،وهذه التجربة الحياتية لشريحة من البشر ، وقد اتسمت كل تقنية من تقنيات بناء الرواية بسمات خاصة أبرزها هذه التداخلات والاشتباكات التي تشكل مستويات مختلفة في استخدام التقنية ذاتها ، واللعب بها في تركيبات جديدة.
1- التداخل في مستويات اللغة:
تستخدم الكاتبة مستويات متداخلة ومتفاوتة في لغة " هكذا يعبثون" وتتميز الرواية بلغة ذات توليف مجازي متقن السبك والإبداع ، معبراً عن عوالم واقعية و فنية مكتنزة بلمسات شاعرية شديدة الغوص في الإنسان والحياة ، في المفردات الصغيرة وإيجاد علاقاتها بالمجردات الميتافيزيقية. ومن شأن هذه اللغة التي تتسم بالرقي أن تدلل على ذوات تبحث عن وجود إنساني لائق ، في حالة من صراع دائم مع متجاورات لا ترتقي إلى هذا المستوى، التشكيلات المجازية على هذا النحو توقاً من الكاتبة للارتفاع فوق هذه الفوضى.
ويتناسب استخدام الكاتبة للمجاز مع مفردات البيئة التي تدور بها أحداث الرواية ، وأتصور أن الروائية تخيرت ذلك لتضفر نصها مع هذا المكان وطبيعته الخاصة فيصبحا كياناً واحداً .
يصف عبد الناصر مشاعره لكريمة مسترجعاً وقعها على نفسه يقول:" لم تعد ضحكات كريمة تساقط إلى سمعك كلسعات قنديل لقدمي مصطاف ريفي يطأ البحر بشوق الخائف" (ص19).
فالكاتبة تصور علاقة وجلة بين أنثى شهية ومراهق لا يزال يتعرف على رجولتة ويعيش في طبيعة بحرية خاصة . أو قوله هو ويسترجع أفعالها :" صرير زحزحتها للأثاثات الثقيلة ، صرير كان يشبه صوت باخرة بعيدة تنادي الشاطئ الذي انمحى رصيفه" فالتشبيه على قدر ما يحمل من ملامح المكان على كتفه بقدر ما يشي بانتقال صوت الأشياء وما يعتريه بالشخصية الفاعلة فيه ، بكريمة ذاتها التي لم تجد شاطئاً ترسو فوقه.
وعلى قدر ما تستقي" أمينة زيدان" مفردات مجازاتها من البيئة المحيطة بشخوصها على قدر ما تأتي تشبيهاتها محملة بالعمق والتراكبية في توليد معاني تحمل عمقاً وجودياً مسائلاً للحياة، ومكتشفاً لأغوارها، المتعددة تقول:" تنسلت السرطانات الصغيرة من جوف الرمل المغسول ، تزحف في ذعر تجاه البحر إلى عالم البلل والصدمة الدائمين في فرار مستحيل من حيز اليبس المتغضن مثل كهل تجف من وجهه الحياة " (ص57).
كأنها دورات حياة حتمية ، عوالم نحياها ارتضينا عيشها أم كرهنا ، أقدار تكتب وليس لنا سوى الانصياع.
وتأتي تشبيهاتها أيضاً محملة ودالة على التكوين النفسي لأبطال روايتها فتحكي عن لا مبالاة "عبد الناصر" "بوفاء" أو تقبيله لها حين تخيلها "كريمة" ثم اكتشافه لذلك يقول: "واستمعت إلى تفاصيل الحريق دونما انفعال وغادرت ، كما تغادر سيارة أجرة ، أو حائط قديم بلت فوقه" (ص30).
وتستخدم الروائية أسلوب الصدمات في بعض مشاهدها وطبيعة المفردات بها ، ليبدو القص طبيعياً كما الحياة تقول على لسان إسماعيل :" تستمع إلى ارتطام بولك برخام المرحاض مراقباً البخار المتصاعد من سخونته " (ص96) أو قوله :" لأن أم كريمة كانت تجلس فوق المرحاض .. تدخن .. سروالها الداخلي الأحمر مشدود بين فخذيها" (ص101).
كما أن اللغة في الرواية تتداخل فيها اللغة الشاعرية شديدة التكثيف والعمق مع اللهجات العامية التي انحصرت في الحوار ، وبعض المنولوجات الداخلية ، تقول الكاتبة :" ...تأكدت صفية أن روح ولدها سكنت في ظل الأشياء ، فكانت تطالع صورته المؤطرة على الحائط المعتم ، تتبع تحولات ظل الإطار وحركته البطيئة التي لا يراها أحد غيرها" (ص120).
هذه اللغة القادرة على صنع هذا المشهد المتخيل لمعنى ميتافيزيقي شديد الحساسية والعمق، قادرة أيضاً على نقل حوار ذي لهجة عامية تتسم بالإبتذال والسوقية ، فهي تنقل حواراً بين أبي "عبد الناصر" و"الروبي بيه" يقول الروبي فيه :" – ياشرموط ...بقى أنت صياد أنت؟ ماطولش عليك ، فضلت ماشي ورا الصوت في قلب الجبل .. والله وتصدق يابه؟ قول لا إله إلا الله يابن الكلب ياللي مالكش ملة ولا دين غير النداهة لابساك وشدة لجامك حالفة ما تسيبك .." ( ص32).
شأن تداخل وفوضى العلاقات كان تداخل مستويات اللغة في الرواية ، لكنها أحياناً وظفت جيداً وكانت مناسبة للشخصيات شأن الحوار السابق ، وأحياناً أخرى كانت اللغة شديدة التركيب والتعقيد على أن تنطق به بعض الشخوص بالرواية، ووقتها تطل ثقافة الروائية ولغتها متداخلة مع شخوصها.
وتبرع الروائية في بعض الفقرات في اختيار مفردات تتناسب مع الحالة الوجدانية للشخصية محور البوح، وتعبر عن محور الاهتمام في اللحظات المنوط بها القص، فهي على لسان عبد الناصر المراهق تقول:" انزلقت منك روحك سائلة لزجة ، بللت سروالك وارتدت إليك متعبة هادئة مستكينة " (ص23). ولنا أن نأخذ في الحسبان المدخلة السنية لهذا المراهق.
وتنقل الكاتبة ممارسة " صفية " مدرسة الموسيقى الجنس مع سلمان تقول " معزوفتكما الخاصة تدور مع الأسطوانة الراقدة تحت سن الإبرة الحادة للجرامافون القديم ، وأنتِ مع سلمان تتحولين إلى ربة تتلقى صلوات صوفية" (ص123)؟
وتتحدث "سيدة" عن تأثير " غريب " عليها تقول :" علمك كيف تخترقين حدودك وتمرحين خارجها بلا خوف ، ولما فشلت محاولاته لبلوغ الثراء ... غادر حدودك فوق سفينة كبيرة غريبة" (66)، عالم كل شخصية يتوسل بمفرداته للتعبير عن ذاته.
ويتميز المجاز اللغوي في رواية "هكذا يعبثون" بِأنْسَنِتَهِ المجردات، وتراسل الصفات مما يصنع صهراً و امتزاجاً وتداخلاً بين الأشياء والإنسان ومشاعره، وبين الطبيعة والموجودات بها، بين المكان والزمان والإنسان ، تقول الكاتبة على لسان كريمة :" أسلم حواس اليقظة لرنين الساعة المشبع برائحة الموج وإيقاعه ، تك...تك....تك منتظمة ، أسقط مع الدقات عمراً محسوباً ينبغي علىَّ عيشه بشكل آخر ، أحدق في الظلمة . أود لو أخترق اسفنجيتها التي تتشرب دغدغات المرئيات وأراقص الليل الساكن حتى لا يعود صلباً مكبلاً محاصراً لي في هذا العالم المغلق بين بحر وجبل لا انتمي إليهما " (ص55.54).
وتبدو بعض الفقرات الحوارية بالرواية كأنها قصائد نثرية ما بعد حداثية ، قدر ما تترابط خيوط النسج بها ، قدر ما يعزف كل خيط عزفاً منفرداً ينبئ عن حالة الانفصال القائمة بين الأشخاص برغم أنهما في حالة التقاء جسدي أو نفسي خاص ، لكن تظل هناك مسافات بين الأشخاص لا يمكن قطعها يقول الحوار الدائر بين فريد وسيدة
- لماذا تصمتين حين ينبغي أن تتكلمي.
- الكلمات تخذلني ولا تحتمل معانيَّ.
- لن تفهمي أو تعرفي إلا بقدر ضئيل.
- أنا قادرة على تحمل الظلم دون صراخ.
- عيناك تتوهجان ، كنجمين يتساقطان.
- وراء الحقائق حقيقة مختلفة.
- جسدك غريب ... مدهش ... جذاب .. فكر متمرد هو.
- الموج الراكض جهة الانتهاء رباني وشكلني." (ص60،61).
**تداخلات المكان :
في تعامل الروائية مع المكان في " هكذا يعبثون " تداخلت المواقع الحقيقية المتعينة كالبحر والجبل والرمال في منطقة السويس بما لها من تاريخ سياسي اجتماعي خاص ، مع المناظر الذهنية المعبرة عن مكنون بداخل كل شخصية ، ولقد عمدت أمينة إلى هذا المزج المتداخل لأنها معنية بوصف تلك الأماكن التي لم نعاينها جميعاً ولم نكتوي بما مر بها من حروب وحصار ودمار ، كما أنها تضفر هذا بالبعد النفسي للشخوص بالرواية للتفاعل الذي ترسخ بين المكان وأحداثه وشخوصه ، و في كل فصل من الفصول الخمسة التي شكلت الرواية، ترسم الكاتبة لوحة ناضرة حية، تتداخل فيها شعرية الأشياء وما تضفيه الشخصية من مشاعر على الموجودات من حولها، فتنتقل إلى إدراك جديد يقول عبد الناصر في لحظات تأمله لحياته منذ صغره :" مسحت الزجاج الأملس بزفيرك حتى تضبب سطحه وغام ما خلفه تحت طبقة الندى ، النهار الأفل سحب بقع الضوء المتناثر عبر النوافذ الخشبية والأبواب المواربة ، متمماً رتق وشاح الزرقة الداكن بهياكل السفن البعيدة التي تعكس بقعاً فسفورية فوق انحناءات الموج المتدفق بهدوء موكب جنائزي" (ص32).
كأننا بصدد لوحة تشكيلية، توجه ضربة إلى الاستجابات المخزونة المبتذلة القياسية، وتسحبنا من الخارج ذي الكثافة الشعرية - التي أضفتها المبدعة على وصف المكان- إلى داخل أكثر كثافة شعورية ، كأن هذا الوصف المكاني خلفية تنبئ بالموت لذاتٍ تنسحب منها الحياة الحقيقية بعد أن ماتت أميرة أحلامه " كريمة".
وتتفاعل الطبيعة ووصف الكاتبة لها ليس مع شخوص الرواية فقط بل مع أحداثها التي تحمل معاني مكتنزة بهذا العمل ، فقبل أن ينفجر الصاروخ ببيت "أم حميد" تقول المؤلفة في مشهد وصفي أنسنت المؤلفة فيه عناصر الطبيعة المتعددة ..." ويبو أن الشمس تواضعت وسألت الطيور عن الخبر فطمأنتها ، حتى أن الشمس هوت خلف الجبل بأسرع مما أعتادت عليه ،مخلية الفضاء للطيور التي انطلقت تتقاذف حدثاً مهولاً ومضحكاً ..تركته خلفها تحت الجبل وخلف البحر .." (ص79).
هذا التداخل والانصهار بين المكان والطبيعة حول الشخوص، توظفه الروائية بأسلوب شاعري يعمق نسيج رسم الشخوص بالرواية فتقول على لسان " سيدة " :" اليوم تملأ كونك شمس قاسية ، تزفر غضبها في كيانك الهزيل الذي يتقيأ كل ما تقوتك به أم غريب ، وأنت مسكونة بروح الجبال التي تتسامق قممها انعزالاً واختراقاً لرحابة السر... ذائبة في الظل الإلهي ، تحملين في أحشائك الضامرة بذرة إسماعيل" (ص72). تبدو سيدة هنا مسكونة بروح الجبل ، هذا الانصهار الذي تزكيه المؤلفة بين البشر والطبيعة من حولهم يجعلها تنحت شخوصها على نحو متداخل ومعبر ويجعل لها بصمة خاصة في رسم شخوصها، ويجعلهم أكثر نبضاً وتجسيداً .
- عندما تكنى الرواية عن أحد صفات الشخصية تستخدم مفردات المكان وطبيعة تكويناته لتنسج بكارة أداء تستطيع جذب قارئها إلى معاني عميقة من جراء إلتفاتات مبدعة ، تقول على لسان سيدة وهي تتذكر غدر وتخلي "غريب" عنها :" كان "غريب" يطمس السطر المتعرج لحروف أقدامكما الحافية المخطوطة على الرمل كدليل خائن لرحلاتكما الأولى الغازية بكارة شفتيك وجسدك ، تتساءلين بينك والغيم الأرجواني الذي كسى الشاطئ وبعض وجه غريب دون أن تردى على كلمات غريب وتبريره لفعل طمس أثركما.." (ص73).
ويمثل الجبل والبحر محورين أساسيين في احتضان هذه الرواية ، يمثلان ضدين محوريين في التكوين السيكولوجي لشخوص الرواية، يقول عم عبيد مخاطباً ذاته :" ولم لا.. ألست الآن فوق الجبل ومن تحتك يتضرع البحر منسحباً أنت الأقوي لأنك ثابت رغم وقوفك خلف تحضر البحر وقدرته على التكيف" (ص151). هذان الضدان المتداخلان في المستوى المادي يخلقان تنوعاً في رسم عوالم الشخصيات وتكوينهم الخارجي والداخلي.
تترك أحداث المكان وما ينطبع فوقه أثرها على مسار حياة أشخاصه، فالحروب التي خاضتها السويس أثرت في حياة صفية، جعلتها أكثر وحدة وانتهاكاً ، جعلتها أكثر بعداً عن زوجها " شعبان"، ودفعتها لعلاقة غير شرعية مع حميده بعد أن فقدت بيتها وهُجِرَت أسرتها تقول :" الحصار الذي لف المدينة لشهور فرض عليكما أنت وزوجك حالة من الضجر ببعضكما البعض ، يتعرف زوجك بأم حميد وتتعرفين ..، أنت بحميدة.."(ص133).
لم نقف في " هكذا يعبثون " على فقرات وصفية للمكان منفصلة عن الشخصيات أو فقرات استقرائية ماسحة لتفاصيل " ما حول " الشخصية ، لكننا وقفنا على التداخلات، على الأذرع الممتدة ، والتي تذوب أناملها ، بين الحدث ومكانه ، لوحات تشكيلية لم يخْلُ منها فصل من فصول الرواية ، وتكاملت الأوصاف لديها لتشمل تغطية لحواس الإنسان وجوانبه الميتافيزيقية ،فهي في مستهل الرواية، وبداية الفصل الأول تحيك مشهداً يقصه عبد الناصر حين كانت كريمة على قيد الحياة، يلعبون فيه الورق ثم ينطفئ النور فيشعلون عود ثقاب ويمررونه على وجوههم " كريمة لم تستطع الاحتفاظ به مشتعلاً ، حتى إن إسماعيل كان يشعل عوداً بعد الآخر دون جدوى لأنه ينطفئ بمجرد أن ترفع إلى وجهها يدها الوجلة، فتقول :" الجني الذي يسكنني يطفئ عود الثقاب قبل أن تستطيعوا رؤيته على وجهي " (ص17،16).
وبذلك توفر الروائية لعملها طقساً سحرياً يشير إلى هذا الجانب الروحاني بحياتنا.
** تداخلات القص
تميز السرد بهذه الرواية بخطاب يعتمد على إشاعة حالة من الحيرة ، عدم اليقينية المتعمد، فأسلوب القص بالرواية يعتمد على الأصوات المتعددة التي تعبر عن مجتمع مفكك، التي تحكي كل منها الحكاية من منظورها،وبالرغم من هذا لا نجد ضمير المتكلم حاضراً ، نحن مع الخمس شخصيات التي قامت بالحكي نجد تقنية مبدعة معبرة عن ذوات منقسمة ومتعددة بالذات الواحدة.
كأن شخصية الحكي تفصل من نفسها شخصاً آخر وتحدثه ، تحدثه عن شخص أو ذات بداخله بعيداً عنها لا يعرفها، ولذا تسيطر على الفقرات ضمائر الغائب والمخاطب يقول عبد الناصر:" على امتداد كونك المعتم ، جلستَ فوق كنبتك التي أزت أزيزاً حاداً تحت ضغط جسدك" (ص33).
ولا تخرج شخصية من الشخصيات الخمسة عن هذه التقنية.
والشخصيات ذاتها تعرف أنها متعددة فهي تدرك مأساتها وتعددها في كيان واحد تقول صفية:" موت سلمان سلخك من نفسك الأولى ، ثبت قدميك على شرفة نفس أخرى معذبة، صلبة، منفصلة عن الأحداث ، تسكن خارجها.." (127). أشرت إلى أن القص خاضع لخمسة أصوات لكن الملاحظ على الحكي أنه لا شيء فيه مكرراً وليست هناك أية تزايدات بل أن بوح الشخصية ذاتها لا يستكمل أطرافه إلا في بوح الأصوات الأخرى ، والفراغات التي يستشعرها القارئ في القص من منظور أحدهم تستكمل في منظور آخر، وتتعمق بحذق مبدعة تتحكم بأدواتها ولا تتزيد إلا لضرورة ، نحن لا نستكمل قصة صفية في علاقتها بعم عبيد إلا في قص عبيد ذاته (ص151) ، لا نستكمل علاقة وفاء بعبد الناصر بعد حكي عبد الناصر عنها في أول فصل، إلا عندما يتحدث إسماعيل عن ذهابه لوفاء ليساعد عبد الناصر(107).
حكاية " كريمة" مركز الرواية ذاتها لا تستكمل ، ولا نعرف الدافع إلى قتلها الذي أستهلت به الرواية إلا في آخر صفحات الرواية عندما نعرف مأساة "خضر" عمها معها وهكذا.
تستهل الرواية بالحدث المحرك الأساسي حروق " كريمة" وموتها ونترك ليعاود الخطاب التطور، قافزاً بنا من خلال شخصية "ناصر" إلى مشاهد تعتمد على ذاكرته أيام عيش "كريمة" ،في مشهد يشيع جواً طقوسياً خاصاً (ص86)، ويستمر الحكي على لسان عبد الناصر يسرد لنا فيها مواقف حياتيه متعددة جمعته مع " كريمة" وأخته " سيدة" و "إسماعيل" ومشاعره التي تفتحت وشعر بها مع حبه لكريمة، لنفاجأ بانتقالة زمانية مباغتة ندرك منها أن عبد الناصر أصبح مدرساً ، وأن "وفاء عيرة" زوجة عبد الوهاب مدرس زميل له ، تسلمه خطاباً تبثه فيه حبها له، لنعرف أن ما سبق كان قصاً إستراجاعياً يحاول فيه استعادة ذات ضائعة، فزمان القص زماناً داخلياً وهناك تداخل مستمر بين الماضي والحاضر والمستقبل ، تصنع الروائية ذلك لأن الزمان الموضوعي الخارجي للأشخاص لا يوفر تقدماً أو تطلعاً، ولذا تكون اللحظات أو المشاهد الخاصة هي ما تجتذب غيرها من لحظات مشحونة ومتوترة أخرى، سواء كانت تلك اللحظات في الما قبل أو الما بعد . فسير عبد الناصر إلى" بور توفيق" حتى اللسان بعد حادثة الحريق تستدعي حكي أبوه عن النداهة وتكون مناسبة لنعرف طبيعة أبيه.
كما أن هناك تداخل زمني في العرض الذي تقدمه صفية فهي تعتمد على قص استرجاعي لبؤر محتقنة بحياتها المعذبة استدعتها وفاة ابنها وجنينه الذي كانت تحمله سيدة ، وتبدو من تلك الاستدعاءت صفية المعذبة التي تنصهر في عذابات ممتدة دون تحديد زمني، من خلال علاقات متخبطة طوال فترات حياتها، ومن خلال أحلام سياسية ووطنية تحطمت تحت وقع متغيرات وحروب متعددة، موت عبد الناصر الزعيم الذي عشقته، وحرب أكتوبر الذي لم ترض عن نهايتها ، واستمرت تطلب الثأر من الأعداء من ابنها إسماعيل تقــــــــــــول:" أنت مش ابن أبوك وأمك يا إسماعيل أنت ابن التار والدم اللي راح هدر، أوعى تنسى يا ابني" (ص143).
- ودون مقدمات هناك انتقالات مباغتة من حكي إلى آخر، ففي معرض تذكر سيدة لمواقف لها مع كريمة، يطالعنا خطاب موجه من رجل إلى أمه يقول فيه:" مسلسل جوا سجن أكل العيش ومطاطي ، أعمل إيه يا أمه الدنيا الضيقة طارداني ومغرباني .."(ص63). ليستمر الحكي ونعرف أنه غريب ابن خالة إسماعيل ورجل سيدة الأول ،وحبيبها الذي تركها ورحل يبحث عن عمل.تاركاً إياها تواجه مصيراً لا تعرف له ملامح ، هذه التداخلات توفر من القص صفحات طويلة ، تختصر بدايات ، وتكنى عن طبيعة الشخوص ، وتشير إلى نهايات يفرضها سير الأحداث، تصور علاقات لا تستمر، وتشي بأوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية تعاقبت على مصر ومدنها ، ومتغيرات مضطربة أشاعت الفوضى ،وأحدثت علاقات مبتورة وغير مكتملة، تصنع تقنيات القص تلك علاقات متموجه متكسلة ، تشبه صنيع الرياح على رمال الحياة، صنيع الزمان في حياة الإنسان ، وتترك النص مفتوحاً، وممتدة تشكيلاته ومتموجة ومتوازية مع باقي أطراف القص ، أنها تقنية قص تشبه هذه الحياة الراهنة التي تتداخل فيها الاحداث والأشخاص وتنفرط العلاقات.
في معرض حديث عم عبيد عن حاجة حميده للعملة النادرة التي بحوزته نجده يحكي عن خضر عم " كريمة"مختصراً مأساته معها بقول :" ولأن جسد الفتاة لم يعد يكتفي بالمحاورات، جسدها أصبح راغباً أن يرقص ...يلتحم ...يكتمل شعر المسكين العاشق أن جسده يحاور جماداً أصم أبكم ، فأبى ألا أن ينطقه ولو بالحريق" (ص156). في الحياة الواقعية وخارج نطاق الإبداع تظل بالحياة علامات استفهام لا نستطيع أن نحصل لها على إجابات ، وتبقى الافتراضات والتأويلات هي ما نسكن به فضولنا تجاه الأحداث أو الأشخاص ، شأن هذا التوقع الذي يصنعه عم عبيد تجاه قصة خضر.
ويبدو الحوار نسيجاً متداخلاً في هذا القص المتنوع ، وله القدرة على اختصار علاقات ملتبسة وحائرة ففي الحوار الذي يسترجعه إسماعيل مع نفسه والذي دار بينه وبين هدى التي تعرف عليها بالقاهرة وفيه تقول :" أريدك بأي صيغة ترضاها ، فقط أن تجعلني آمن وأستريح ، أو لو تتداولني بين جسدك وعينيك وعقلك وقلبك ...هل تستطيع حمايتي من وساوسي ومخاوف روحي؟ - كيف أفرض عليك حمايتي وأنا لا أعرف كيف يمكننا الاستمتاع ببعضنا البعض ؟" (ص94).
تستخدم كل التقنيات بالرواية لتخدم وتعبر عن علاقات ملتبسة غير متحققة ولا يجد فيها أصحابها اكتمال أو شعور بالأمان، ولذا تأتي التقنية مشتته لا يجمعها سوى نسق فوضوي ، لكن ما أريد أن أشيرأنه بالرغم من هذه التداخلات وهذه الفوضى ، تظل هناك مؤشرات زمانية تنظم الانتقالات وتعتمد على علاقات عميقة بين المتلقي والعمل، وتحتاج بعض المشاركة اليقظة من التلقي.
- يختلط في القص الحلم مع الاستدعاء الاسترجاعي مع الحورات مع شخصية " كريمة" التي ماتت ، فتتداخل الحدود وتصبح عوالم الشخصيات ضبابية غير واضحة المعالم، كمستقبلهم أو لحظاتهم الراهنة التي لا يعرفون فيها هدف.(ص88)، وتبدو المشاهد التي تتداخل فيها هذه التقنيات القصصية كتقنيات الفيلم السينمائي وما يستخدم فيه من وسائل المونتاج ، فهناك عودة إلى الماضي الزمني " الفلاش باك" تظهر تقنية الأحلام لتدلل على التاريخ النفسي للشخصية أو ما سيطرأ عليها من أحداث مستقبلية، هناك أيضاً زوايا مختلفة لطريقة العرض كشأن الكاميرا هناك لقطات مقربة، تظهر فيها الأحداث مضخمة لتبيان خطورتها، أو لقطات بعيدة لتشي بها مشيتها.
تبدو المشاهد التي تشكل السرد في رواية " هكذا يعبثون" على تلك الشاكلة السينمائية وهو ما يتطلب نوعاً من التلقي المدرك لتلك النوعية من الاتجاهات الجديدة في الإبداع.
وتتداخل الرموز بالسرد الروائي وتتعامل الروائية معها بحذق فني ، ملوحة بها تاركه للقارئ فك هذه الشفرات الدالة ، تقول على لسان عبد الناصر:" أمام عينيك انتصب إطار صورة جمال عبد الناصر مائــــــــــلاً، مزركشاً بفضلات الذباب والدخان والتراب والأيـــام ". (ص33).
كما أنها تصنع رمزاً اكثر تركيباً وتعقيداً حين تجعلنا نتساءل ماذا يمثل الصاروخ القابع ببيت أم حميد ؟ هل تشير إلى أن هذا الواقع الراكد بمجتمعنا ستأتيه لحظة انفجار حتمية، أم تشير إلى نتوء كامن لكنه يمكن أن يتفجر بذات كل شخصية من الشخصيات المنهزمة بهذه الرواية.
تحترق " كريمة" الشخصية المركزية بالرواية لأنها الوحيدة القادرة على الفعل ، في لحظة رفضت الواقع الذي لا يمت لها بصلة وقررت حزم حقيبتها والمغادرة ولذا قتلت .
تبد " كريمة" رمزاً لصحوة ، تحترق حين تتحكم بها قوى طاغية.
**الشخصية في "هكذا يعبثون"
تقدم أمينة زيدان في رواية " هكذا يعبثون" مجموعة من الشخوص التي تنكفأ على ذوات هشة ومعذبة ، مستسلمة لأقدار ومتغيرات لا تملك تجاها دفعاً ، وليست لديها إرادة أو قدرة على تغيير أو اعتراض ، ذوات يصطرع بداخلهاتضاربات وتناقضات شديدة ، بين جوانبها الروحية والوجدانية والعقلية وبين جوانبها الحسية والمادية ، بين فعلها وما تعتقده هوة شاسعة ، تقول صفية لذاتها:" تتساءلين عمن يحمل عنك روحك المعذبة بأخطاء جسدك... فالروح لا تخطىء وإنما الخطيئة مصدرها الجسد ومبلغها عذاب الروح ...كل من حولك معذبون بذواتهم.." (ص140).
وتعتمد الرواية على الأصوات المتعددة التي تحكي فيها كل شخصية عن نفسها، لكننا في كل وحدة أو فصل لا نستطيع أن نستكمل صورة واضحة عن الشخصية من الجزء الخاص بها ، ولا تكتمل صورة الشخصية سوى بانتهاء قص الأصوات جميعاً ، هناك تداخل قائم بينهم . وكأن كل واحد فيهم ملمح منفرد في إنسان شامل يجمعهم يُستكمل حين تنتهي الرواية ويتشكل كيان واحد ، ضائع معذب ، لا يدرك له هوية أو هدف أو إرادة في الحياة. مهما أختلفت عذاباتهم ونوعية قضاياهم. هذه البنية تتماشى مع الواقع العاطفي الاجتماعي المشوش.
يقول إسماعيل وهو يتحدث عن ناصر :" كان هو معذباً بشعوره بالنقص... وكنت أنت معذباً بشعورك الكاذب بالاكتمال.." .(ص105). أو قوله محدثاً ذاته :" كم أنت مدع يا إسماعيل ، أزمتك أنك لا تصدق ادعاءتك ، ليس لك هدف أو قيمة... تتاجرون في كل شيء حتى الأفكار" . (ص98).
تبدو الشخصيات تعرف مأساتها وما أصابها لكنها لاتملك قدرة على تغيير ما بها فعبد الناصر يحدث نفسه قائلاً :" تخلص أولاً من الفراغ الذي يشحن يومك ، أسكن اللحظات وارتق أحداثها ، بادر بحل سوء الفهم الذي انتاب وفاء...واضعة إياك على باب ذاكرتك الموصدة أبداً دون قلب الفعل ، أنت قادر على تذكر البدايات والنهايات غافلاً ما بينها" (ص36).
وتنتهي الرواية ولا يمتلك عبد الناصر قدرة على تغيير الأوهام التي يعيش فيها، كلهم يصنعون أحلاماً يستعيضون بها عن واقع يرفضونه، ويخلقون فيها عوالم تمنوا العيش فيها، وكعادة الأحلام تأتي تداعيات سريالية تتداخل فيها الأزمنة والأحداث ، الأموات مع الأحياء.
لم يكن إسماعيل يرى غير فتاة اعتادها كفكرة الموت ، حقيقة غائبة ،ولذا لا يعرف القارئ معه هل الحوار الدائر بينه وبين كريمة تذكر استرجاعي أم أنها حورات وأحلام يصنعها . وأتصور أن الروائية قد تعمدت هذه المنطقة الضبابية للحورات التي وردت بين " إسماعيل" و" كريمة" .(87.86). يقول إسماعيل :" علت الأمواج حتى امتدت منها مئات الألسنةمحيطة المنازل التي بدت كالقوارب المقلوبة ، وأنت كنت ممتلئاً بشعور يقيني بأن الحسى عُزل تماماً عن العالم وأصبح الدخول والخروج منه مستحيلاً، لكنك في الخارج ، فقط تغوص قدميك في الماء المالح حتى ركبتيك ، جسدك في وضع زاوية قائمة ... ويداك تحت الماء ،... كنت كلما مددت يداً محاولاً رفع بيت من البيوت تصطدم في العمـــــــق بكتل صخـــــرية جامدة...." (105.104).
تصبح الشخصية عاجزة عن الفعل حتى في الحلم ، بفعل مجتمع فرغها من قدرتها على التفكير أو الفعل أو محاولة التغيير ، العجز صار مسيطراً على الحقيقة والحلم.
في حلم سيدة يبزغ لها " كائن هلامي يستدرجك إلى الشاليه الساكن بين الكازينو المغلق ونقطة الحدود " (ص61).
لم تعرف سيدة بحياتها رجلاً حقيقياً ، كلهم كانت نماذج منتقصة ، كلهم أستباحوها أو تعاملوا معها بصفتها بديلةً وليس باعتبرها كيان بحاجة إلى فهم وحب ، لذا يأتيها الحلم وبه نموذج من كائن هلامي ليست له ملامح أو حدود.
وتمثل سيدة في ضياعها نموذج المرأة في هذا المجتمع الفوضوي ، تريد أن تهب ولا تستطيع، تفارقها طبيعتها ولا تجد سوى جدار ، حائط يستقبل أمومتها وأنوثتها وعطاءاتها تقول :" لماذا تبكين في مرة ينسكب فيها البن ولماذا يتحول المشهد إلى امرأة تشبهك اعتادت أن تفقد مواليدها قبل أن يلقموا ثدييها، المرأة التي تشبهينها تلتصق بحائط أبيض ، هي أم مكللة بالحسرة والانكسار، تحمل ثدييها المنتفخين اللذين يسقيان الجدار بسراسيب لبنها الدافئ". (ص53).
لم تستطع سيدة أن تحتفظ بأي من رجالها، أو أن تساعد أخيها، أو أن تحتفظ بجنينها وانزوت تعيش بأحلامها وليلها الذي لا يخرج منه صباح.
وبالرغم من اختلاف ملامح سيدة عن كريمة وعن صفية وعزيزة ولوليه ووفاء وهالة وهدى وكل نساء الرواية إلا أن كلهن أنثى واحدة مغتصبة وفاقدة للأمان والحب غير قادرات على العطاء أو تغيير حياتهن ، نماذج ما بعد حداثية غير قادرة على التطور.
تقول صفية في لحظات كشف مع ذاتها " كلهن بذرتك الأولى ...وأنت لوثتهن، أنت دفعت أختك إلى فراش زوجك وهشمت براءة عزيزة ببسط قسوة الحقائق أمام عينيها ، قتلت كريمة حين وقفت بينها وبين إسماعيل ...لأنك شعرت بأنها أقوى مما ينبغي ... أقوى منك ، كذلك سجنت سيدة في بيتك وسلبتها بهجة العمر حين قدمتها على طبق المصاهرة قرباناً لجرح ولدك القاسي" .(141.140). والعذاب والخطايا مصير الإحياء كلهم ،سواء اختاروا أولم يفعلوا، نماذج فصامية مهزومة وهزيلة.
وتبدو شخصية حميده في " هكذا يعبثون" وحدها القادرة على التحول والفعل :" جدير أنت يا حميد بما أصبحته .. عضو مجلس الشعب .... مليونير ... وأب لنصف دستة من الرجال يدهسون المدينة بعرباتهم وشهواتهم ومشاريعهم".(ص136).
بعد موت جمال انضم للحزب الحاكم ، وصعد فوق مدرج السياسة وأحزابها ، حميد الذي بحر من الصعيد على ظهر بلاص، أصبحت المدينة كلها بلاصاً كبيراً لشهواته وصار أباً غير شرعي لأدهم ابن صفية ، يتاجر حميده بالمخدرات ويبني مصنعاً للأسمنت باسرائيل ، له قدرة أن يبيع وأن يشتري كل شيء ، شخصية لا يعنيها معتقد أو قيمة، قادرة على التلون كالحرباء، ولا تعنيه سوى مكاسبه المادية ، شأنه شأن إفرازات مجتمع الانفتاح.
بدرجة أقل سطوة خضع عم عبيد للتحولات فكان متديناً ثم أصبح موزعاً للبانجو ومشاركاً في حياة تافهة سطحية . (ص35).
وتتراوح نماذج الشباب المقدم بالرواية مابين مريض نفسي يعيش أوهامه وخيالاته الخاصة "عبد الناصر" أو إسماعيل الذي يتسلط عليه حبه لكريمة بحيث يفقده حياته الواقعية، يدرس التجارة ويميل إلى اليسار ، ويؤمن بالأفكار ويأتي سلوكه على نقيضها ، يتاجر مع حسين صديقه في السلع المستوردة وغيرها، يذهب عقله في معاقرة الخمر والأحلام. و"غريب" الذي يسافر إلى بلد عربي لتنحصر أحلامه في تأمين المستقبل مادياً ويعود بعد أن غدر بسيدة ليتزوج من منقبة ويفتح سوبر ماركت، إلى " إبراهيم" الذي يبدو لا مبالياً بالحياة ولا يعنيه سوى علاقاته النسائية.
وتقدم أمينة زيدان تداخلاَ وأنصهاراً آخر بين الملامح الخارجية والداخلية للشخصية ، فهي إذ ترسم صورة لسيدة تقول :" من الجبل الذي تجاورين صبغ وجهك وصيغت ملامحك ، امتد شعرك وتجوفت عيناك، تكهفت روحك ،من نتوءات وأخاديد تكونت... هكذا كنت ، مغلقة أنوثتك... إلا قليلاً" (ص53).
رسم الملامح على هذه الشاكلة تحمل مخاطرة من قبل الروائية ، لكنها تخوضها وهي تعلم أن هذا الواقع الفوضوي ، سيتيح لها قدرة على الهروب ، قد تكون سيدة لها ملامح تشبه الجبل ، لكن قدرتها على المواجهة تشكَّل تناقضاً يحدث بالحياة ، وهذا ما تريد أن تشير إليه المبدعة في عملها.
شخصيات المؤلفة كثيراً ما تثير تساؤلات وجودية تقول صفية :" عليك أن تتمرني على لقاء من سبقوك إلى ذلك العالم المبهم الذي تطرق على أبوابه الصلده أعضاء روحك الضامرة ، كيف تواجهين كريمة وإسماعيل وسلمان وأدهم ، هل يساعدونك على إنزال مقطفك الملآن بالذنوب ، أم أنهم سيتركونك مثقلة بها في رحابة العدم أيضاً ، يالها من قسوة بصقها في وجهك فم كبير بصق قبلها العالم كله". (ص121).
ويتراكم السأم بشخصيات الرواية ويتنامى الإحساس باللاجدوى يقول عم عبيد :" العالم الذي تحول من تحتك إلى قطع صغيرة من أوراق الدومينو المتباينة ، أوراق موضوعة هكذا بسأم لأن وقت اللعب انتهى ولم يتبقى للطبيعة غير الأحلام المزعجة تسلطها على أخيلة اللاعبين الخائرين " (ص149).هكذا هم يعبثون مع مجتمع عابث.
قد نتسائل بعد هذا العرض لتداخلات تقنيات السرد بالرواية هل يتخير المبدع تقنيته ، هل يكون واعياً بصنيعه؟
أتصور أن الرؤية التي يقدمها المؤلف بعمله يكون لها قدرة جذب تقنياتها ، فالعلاقات والأحداث التي تقدمها الكاتبة بهذا العمل تستدعي تقنياتها ، خاصة إذا تجاور هذا وانصهر مع ثقافة المبدع الفنية وإلمامه بأحدث أدوات وتقنيات مجاله الفني.
كيف للمبدع أن يقدم عالم معقد ومتداخل في وسائل سرد تقليدية ؟
إن حدث هذا – وهو يحدث لأن الواقع الروائي يحتمل كل المذاهب – اتصوره نوعاً من التبسيط والتسطيح لعالم لا يبدو هكذا.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إله حداثي يقوض الغيبي ..ويعلي العقل في - كتاب النحات -
- بحجم اللحظة .. بل أكثر .. - قصة قصيرة -
- الإنسان ..ونخبوية الفن
- أحلام - فرح - .. -قصة قصيرة-
- غطرسة البُندقية .. ورحابة المسرحية
- - هذا أنتَ .. - قصيدة نثر
- المقيم والعابر ..في حياة المرأة والرجل
- النَزَعات الانتقامية .. والعدالة الناجزة
- - حلم بلاستيك - مقاربة نقدية لعرض مسرحي
- اللغغة العربية .. وبعض الأنين
- تشظي الحبكة في الرواية المعاصرة - سيرتها الأولي - نموذجا للر ...
- اللغة العربية .. وبعض الأنين
- الذوات الافتراضية والبنية في رواية ما بعد الحداثة للروائي -م ...
- كأنها الحياة .. أو هو الموت ..؟ قصة قصيرة
- الفن مهر الحياة الحقيقية
- المشهد الشعري في ديوان - كأنني أريد - لغادة نبيل
- خضروات نصف مطهية قصيدة نثر
- خضروات نصف مطهوة قصيدة نثرية
- -المفتون- لفؤاد قنديل بين السيرة الذاتية والرواية
- -خضروات نصف مطهوة- قصيدة نثرية


المزيد.....




- “بدون تشويش أو انقطاع” تردد قنوات الاطفال الجديدة 2024 القمر ...
- ناشطة إيرانية تدعو النساء إلى استخدام -سلاح الإنستغرام-
- شوفوا الفيديو على قناتنا وقولولنا رأيكم/ن
- دراسة تكتشف سببا غير متوقع وراء الرغبة الشديدة في تناول السك ...
- تجدد حملة القمع ضد النساء في إيران من قبل شرطة الأخلاق بسبب ...
- سوريا.. انتهاكات وقتل جماعي في مراكز احتجاز
- جانيت.. طفلة سودانية رضيعة تعرضت للاغتصاب والقتل في مصر
- بعد وفاة امرأة بالسرطان.. شاهد مفاجأة صادمة لعائلتها عند الق ...
- دخل شهري.. رابط التسجيل في دعم الريف للنساء 1446 والشروط الم ...
- “احصلي على 15 ألف دينار”.. خطوات التسجيل في منحة المرأة الما ...


المزيد.....

- جدلية الحياة والشهادة في شعر سعيدة المنبهي / الصديق كبوري
- إشكاليّة -الضّرب- بين العقل والنّقل / إيمان كاسي موسى
- العبودية الجديدة للنساء الايزيديات / خالد الخالدي
- العبودية الجديدة للنساء الايزيديات / خالد الخالدي
- الناجيات باجنحة منكسرة / خالد تعلو القائدي
- بارين أيقونة الزيتونBarîn gerdena zeytûnê / ريبر هبون، ومجموعة شاعرات وشعراء
- كلام الناس، وكلام الواقع... أية علاقة؟.. بقلم محمد الحنفي / محمد الحنفي
- ظاهرة التحرش..انتكاك لجسد مصر / فتحى سيد فرج
- المرأة والمتغيرات العصرية الجديدة في منطقتنا العربية ؟ / مريم نجمه
- مناظرة أبي سعد السيرافي النحوي ومتّى بن يونس المنطقي ببغداد ... / محمد الإحسايني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة - أماني فؤاد - تداخلات السرد وفوضي العلاقات في رواية -هكذا يعبثون -