أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - -المفتون- لفؤاد قنديل بين السيرة الذاتية والرواية















المزيد.....



-المفتون- لفؤاد قنديل بين السيرة الذاتية والرواية


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4310 - 2013 / 12 / 19 - 02:14
المحور: الادب والفن
    


" المفتون " لفؤاد قنديل
بين الرواية والسيرة الذاتية

دراسة مقدمة من
د. أمانى فؤاد

يثير العمل الأدبى " المفتون " لفؤاد قنديل سؤالاً رئيسياً ، كيف تتشكل السيرة الذاتية لتصبح سيرة روائية تحمل الكثير من تقنيات وآليات الرواية .
أتصور أن العمل وضع فى منطقة بينية ، تجاذبتة ، التقنيات الفنية للنوعين دون منازعة ، أو صرخات اعتراك حادة ، لقد استطاع الكاتب الروائى أن يوفر لعمله ديالكتيك الواقع وأحداثه التى حدثت بالفعل ، مع تقنيات السردية الروائية من رؤية وأحداث متتعددة ، من معالم حبكة وأطراف صراع، من رسم شخوص وإشارة إلى ملامح المكان والزمان .
ولقد اعتمد هذا العمل البينى على ركيز تين : (1) الرؤية العامة للحياة والقضايا الفكرية – السياسية والاجتماعية والفلسفية – محكومة بمرحلة عمرية لا تتجاوز الثلاثة عقود من عمر شخصية البوح ، بما تتسم به هذه المرحلة من إتقاد ، ونزوع الى جيشان العواطف والانفعالات، والتحمس إلى ما بدا مثالى وأفلاطون من الأفكار والآمال ، وبما تتسم به أيضا من توهم استقرار اليقينات وأن هناك حقائق لا اختلاف حولها ، وبما يصاحب هذا من تصورات تبدو غير قابلة للنقد وإعادة النظر بها .
(2) - الركيزة الثانية أن بداية كتابة فؤاد قنديل لسيرته الذاتية بدأت حين استوى ونضج هذا الكيان الفنى الإنسانى فإذا كانت المرحلة العمرية المحكى عنها مرحلة الصبا والشباب بطبيعتها الخاصة إلا أن الصياغة والتشكيل والحنكة الفنية خرجت فى مرحلة النضج والاستواء والقبض على الادوات الفنية فى أحكم صورها
ولذا بدت التقنيات الروائية التى اعتمد عليها الكاتب موظفة من أجل تصوير ونقل هذه المراحل العمرية والتاريخية لبطل السيرة فى تقاطعات شديدة الإيحاء مع المراحل السياسية والتاريخية للأمة المصرية بأحداثها المتوهجة فى هذه الفترة ، ولقد تعددت تلك الأليات التىاصطنعها وروضها الروائى ليصنع هذا المزج بين النوعين الأدبيين السيرة والرواية وستجتهد الدراسة فى تبيان ذلك:

السيرة والحبكة الروائية
تتميز هذه السيرة الروائية بأن صاحبها يبدو واحد منا من جموع هذه الأمة فى عاديته وصدقه واتساقه ، فالسيرة ليست لبطل من نوع استئثنائى سياسى أو دينى أوعلمى ، ميز صاحبها فقط ابداعه الفنى وصدقه مع نفسه ، ومن هنا تأتى تلقائيتها وتسللها الهادئ الى قارئها ، فهى تجربة إنسانية فى مستواها المتزن الذى يحدث بالحياة دون ذبذبات عالية أو مغالاة .
صبى صغير فى عائلة مصرية تبنأ تصرفاته بتحلية بالاعتداد بالنفس " موقف الجلابية "
والحرص على كرامته صــ21،22، بعض من دهاء موظف السلام مع الجميع "موقف الهدهد"
مع أصدقائه صـ56، زَوْدَه عن ما يخصه وغيرته فى نقاء إنسانى "موقف الكشف على كريمة"
صـ65، الكثير من خفة الظل صـ63 ، الارادة والاصرار على الفعل للارتقاء بذاته فى منظومة
اجتماعية كانت تعتمد فى أساسها على التعليم والثقافة ، قدرته على البوح والاعتراف دون ادعاء تعالٍ على الضعف البشرى والغرائز الفطرية صـ 139
ويتميز إبداع الروائى فى هذا العمل فى أنه استطاع أن يكسب السرد أو القص الذى يبدو عاديا مثل هذه الحيوية ، فلقد أضاء جوانب شخصية السيرة بمراحلها العمرية المتتابعة حين كشف بؤر الضوء بمثل هذا السطوع على مناطق الدلالة والتوتر على العادى من الحياة والاحداث فأبرزها وحين صنع هذا الضفر والجدل بين مراحله العمرية وأحداث الوطن السياسية والاجتماعية فى الفترة ما بين 1944م : 1972م
تميزت هذه السيرة أيضا بقدرتها على البوح وإزالتها الحاجز الذى يصطنعه كتاب السيرة الذاتية عادة بين السرد والقارىء ، كلنا يتذكر "الفتى" فى أيام "طه حسين "، " ومحسن " فى مؤلفات "توفيق الحكيم " " وكمال عبد الجواد " فى ثلاثية " نجيب محفوظ"
لقد اصطنع الروائى تقنية سرد مراوغة ، تتسم بمزجها بين الحرفية الفنية الوعى بعلم النفس البشرى وتغلغل مقولات الموروث الدينى بثقافته ليدخلنا عالم القص الروائى بدراميته . السيرة الروائية تقوم فى مجملها على ضمير أنا السارد ، فالقص على لسان صاحب السيرة ذاتها ومن شأن هذه التقنية أن تزيل المسافات بين السرد والقارىء وتشعره بالحميمية والصدق والواقعية،
وهنا يتدخل الروائى "فؤاد قنديل " ليشتق من نفسه آخر ويسأله أن يذكره ببعض مانسيه ، أو يعاملها كأنها النفس الكاشفة للمخبوء أو الأمارة بالسوء رجوعاً الى الموروث الدينى .
وهو بهذه الآلية يتيح مساحة أومسافة يرى من خلالها ذاته بعيدة الى حد ما عن ذاته ، بما يفتح القص على التناقضات والجوانب المتنوعة فى الذات البشرية .
ويبدو هذا الآخر بداخله أوهذه النفس اللعينة ، كأنها تقف فى مواجهة معه، لتكشف المناطق الضبابية الملتبسة بداخله ، التى تناوىء هذا المثالى الرومانسى الذى يطل برأسه من معظم صفحات الرواية ، تخرج إلينا لتشير الى بعض من مغامرة ، وبعض من غرائز بشرية يضعف فى مواجهتها هذا المثالى ، تقول له هذه النفس "... لاحظ أنك تتنكر من جديد لجينات عائلتك العجيبة وتحسب أنك مختلف .. لقد أوشكت أن أرتاب فى نسيانك فقد يكون محض ادعاء وصورة الإنسان عن نفسه غالبا غير دقيقة ، والمرايا التى يحدق فيها بحثا ً عن ذاته غير صافية ، وشهادتها. مجروحة ....." ص 30
فهى تسأل ، وتشير الى مناطق ضعفه وخوفه التى يعتمد نسيانها أوعدم الإشارة إليها ، يقول لها "توقفى يا لعينة ... فليس كل شىء يقال ، وما هى إلا ظنون أربأ بك أن تسمحى لها أن تخطر على بالك أو تتغذى على أهوائك ... فكونى كما عهدتك غير أمارة إلا بالخير .صـ120
أتصور أن الكاتب باصطناعه تلك التقنيه ذهب بالسيرة الى حد ما إلى منطقة الرواية حين وفر نوعاً من الصراع ، الصراع الداخلى بين نفسه وأقنعته أو قرائنه مما أوجد بعض الحيوية والتشويق فى العمل الفنى .
ويطرح الروائى فى العمل الكثير من القضايا الإنسانية والإجتماعية والسياسية ، كما يتطرق فى جزء منه لبعض الرؤى الفلسفية دون افتعال أو تزيّد أو اقحامها عنوة على العمل ، فهى بالفعل قضايا من الحتمى أن تمر بحياة فرد داخل نسيج أمة فى فترة تاريخية اتسمت بالتوهج والاحتقان ، كما انه يحمل طبيعة الفنان ، فهو شخص يعترك بالحياة العامة ويهتم بالثقافة والفن والسياسة ، ودارس للفلسفة ومتخصص بها .
ومن الجلى أن هناك ولعاً بل فتنة بشخصية عبد الناصر النموذج الذى شكل الحلم والكرامة والعدل والتقدم عند شخصية الكاتب صاحب السيرة يقول ".. استيقظ الشعب مثلى على نداءات عبد الناصر الذى كان عملاقا يمشى بين السحاب ، المصريون منتشون بالرأس المرفوعة ، والشمم الذى لم يعرفوه لقرون طويله ، فقد كانت كل الرؤؤس فى التراب وتحت الاقدام" صـ39
وسجل الكاتب فى العمل الكثير من التحولات التى طرأت على الحلم والواقع ، لكنه لم يكن محايداً و بالرغم من عرضه للسلبيات والسقطات التى وقعت فيها الثورة أو الحركة من خلال حواره مع "أحمد المصرى" صـ 133إلا أنه عن طريق أسلوب العرض حاول دائما أن يجد له المبرر وأن وقع هذا المبرر فى منطقة رومانسية لايستطيع أن يقبلها المنطق ، وخاصة منطق الحكم .
طريقة العرض كأنها تبرأ عبد الناصر من كل مسئولية بل تلصق التبعات والسلبيات بالآخرين ممن كانوا حوله . حتى المواقف المختارة لنستدل منها على المرحلة ليست حيادية بل تنم عن وله حقيقى يرى المزايا وإن فاضت السقطات ، مثل موقف عبد الناصر من العلاقات المتعددة للمشير عبد الحكيم عامر صـ 102 ، أو موقف الزعيم من البرتقال الباريسى عند زيارته لحسين الشافعى صـ110:112 .
لم يشر الكاتب على الأطلاق الى الأعطاب التى أصابت الشخصية المصرية حين عطلت ، فلقد كان هناك جمال عبد الناصر الأب الذى يفعل ويفكر للجميع ، لم يشر الى زوار الليل ومراكز القوى والاعتقالات وتكميم الأفواه والحريات .
ولم يكن من المتاح للروائى فؤاد قنديل وهوالذى رسخ مكانه فنيه متميزة أن يمر عمله دون أن يشير الى كثير من سلبيات الحركة وقرارات عبد الناصر وإلا فقد عمله المصداقيه وفقد أيضا الصراع الأساسى بهذه السيرة الروائية .
لذا جاءت الحوارات مع "أحمد المصرى الذى يمثًّل الجانب الآخر للرؤية ، حين رصدت عيناه وعقله السلبيات التى وقع بها عبد الناصر ، وبرغم ذلك وضع الروائى أراءه فى موضع المنطق الموضوعى الجاف الذى لايثير تعاطفاً من القارىء ، يقول "أحمد المصرى" نحن نتحدث يافؤاد عن أخطاء تاريخية ثقيلة مثل اليمن وإغلاق مضيق تيران ، مثل الوحدة مع سوريا ، مثل الصراع مع أمريكا ، وقبل هذا جميعه عدم السعى على أى مستوى وبأى وسيلة لتنفيذ المبدأ المهم من مبادىء الثورة وهو تكوين حياة ديمقراطية " سليمة صـ132، 133
فيكون رد "فؤاد قنديل" رومانسية يلعب على العواطف الجياشة والأحلام الواسعة دون تفسير منطقى وموضوعى ، يقول " هذه أخطاء طبيعية لأول حاكم مصرى بعد ألاف السنين وخاصة أنه كان محتشداً لوضع مصر على خريطة العالم المعاصر وتعويضها ما فاتها .. صـ 133
يستكمل الروائى الحوار على هذا النسق العاطفى التى تبدو فيه أفكاره المثالية والاحلام الواسعة هى المسيطرة على منطق الشخصية الساردة ، ولكن لنا أن نلاحظ المرحلة العمرية للشخصية فى هذا التاريخ والتى تراوحت بين العشرينيات ولم تتعداها بما لهذه المرحلة من فوران المشاعر وتأججها وميلها الى حس البطولات الصارخة
لذا مثلت شخصية "أحمد المصرى" الجانب الآخر من الصراع وهى مع واقعيتها ودورها فى حياة صاحب السيرة قامت بدور رئيسى فى بنيان هذا الكيان الروائى فى صورته العميقة ، أذكر هذا مشيرة الى جانب صورة الكاتب فى شخصية أحمد المصرى عند وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يقول " إتصلت بأحمد المصرى ... لم يستطع أن يرد ، قالت زوجته : إنه لايكلم أحدا ..أتصلت بعدد كبير من الذين كانوا يعارضون عبد الناصر فى كل شىء ... كان أكثر الجميع غضبا منه وكراهية له يبكى ويقول بإستمرار : لايارب .. لايارب .. مصر يارب مصر .. " صـ 147
صور الروائى الصراع البشرى فى حقيقيته وواقعيته حين لا يكون خالصاً أو نقياً تجاه طرف من الأطراف ، بل حين يكون حائراً وقلقاً تتنازعه وتجذبه الترجيحات لزوايا من الحقيقة الواحدة ، وهنا يبرز ثقل الواقع الحياتى وزخمه بالتناقضات ، وفى هذه المناطق التى تتنازعها الحيرة تبرز وتتمايز قدرات المبدعين فى اللالتقاطات وكيفية المعالجات الفنية .
تضافر مع عنصرى صنع الصراع والحبكة الروائية السابقين أنقسام أنا السارد ، والتركيز على شخصية أحمد المصرى طريقة قص الروائى للأحداث ، حرية تشكيله للزمن وترتيب الأحداث به فى موازة مع أحداث الوطن .
اتسم التسلسل السردى فى العمل بالانتقالات المباغته فى تاريخ الشخصية والتعامل مع الزمن من منطق الانتقاءات ، دون التقيد بترتيب الأحداث الواقعى شأن كتابة تيار الوعى ينتهى الفصل المعنون" بفوزى" بقوله " لاتحزن يافؤاد .. أنت رسبت " لم تستطع قدماى أن تحملانى ... جلست وقد أصابتنى شبه غيبوبة" صـ54 ليبدأ الفصل التالى له مباشرة وهو بعنوان " بهجة الخمسينات" بحديث الكاتب عن مرحلة الطفولة وألعابها وأصدقائه فى هذه السن صـ59:55
أتصور أن الكاتب يترك بعض القضايا الهامة والمصيرية – الخاصة به - مفتوحة فى بعض المناطق ؛ لينتقل إلى موضوعات أخرى ؛ بغية دفع التشويق لدى القارىء ودفعه إلى المتابعة من ناحية ، ومن ناحية أخرى يفتح لعمله نوافذ ودهاليز أخرى يعمق فيها رسم الشخوص وتاريخهم النفسى والاجتماعى ، مما يعطى أبعاداً متنوعة للشخوص والأحداث ، وتتضمن مراحل من الطفولة أو الاعداد الثقافى أو الإشارة إلى بكارة التجارب الأولى فى الحياة .
فى موضع آخر من الرواية والروائى بصدد حديثه عن أزمة الكلب "ركس" الذى كان يحتاجه للتصوير ، وحين كان سابحا ً فى الماء يقول " عدت أسبح كأنى أهرب .. لم أستطع أن أكلم هذا طوال الأسبوع الماضى ، سوف أكلمها إذا انحلت مشكلة الكلب .. لكم طرأت تلك المشكلات دونما سابق استعداد .. يظهر أمامى فجأة محصل القطار ،الذى لا أدرى كيف فتح دورة المياة مع أنى أغلقت بابها بالترباس من الداخل كنت قد اشتريت بمصروفى كله كتباً..." صـ 142
يستخدم الروائى أثناء استرسال القص الانتقالات المباغتة ، لنواجه بموقف تذكرى استرجاعى ، وقوعه فى موقف صعب استدعى موقفاً صعباً آخر مر فى حياته السابقة مع محصل تذاكر القطار بعد أن أطلق سراحه حينما عرف شغفه بالكتب . من شأن هذا التكنيك أن يصنع بلبلة مؤقته فى ذهن المتلقى ، فيعود إلى السرد منتبهاً يعُمل ذهنه ليشارك المؤلف فى ضم المتباعدات ظاهرياً .
وتتضاعف النتيجة عندما يسهم هذا المشهد الاسترجاعى فى بيان ملمح أوسمة من سمات شخصية السيرة الروائية فى الحياة .
هذا الاندياح الزمنى بين المشاهد المتنوعة فى السيرة الروائية ينضم إليه اندماج بين الواقع والحلم ، يستخدم الروائى تقنية الحلم بما يوفره من علاقات سريالية ورموز متعددة التأويل ليوفر لسرديته عوالم أكثر تنوعاً ودلالة يتحدث الكاتب عن الرئيس جمال عبد الناصر يقول" تمنيت أن ألقاه ولومرة... هيمنت هذه الأمنية على تفكيرى حتى إنها راودتنى فى الأحلام فرأيته يسلم على ومرة راكباً فرساً أشهب صاعداً فوق جبل غير منظور ...، وفى مرة سمعت طرقاً على الباب ، ولما فتحته طالعنى فى الظلمة رجل فارع الطول ضخم البنيان .. حدقت فيه ، أدركت أنه الرجل ، لكنه مغبر الوجه ، ممزق الملابس , دعوته للدخول .. حكى عن هنود حمر على رؤوسهم ريش اختطفوه من مخبأه السرى ....صـ71
وهكذا يستمر القص من خلال مادة حلمية سريالية لكنها مكـتنزة بالرموز والدلالات التى توحى بعالم من التخبط والوقوع فى متاهة ما وترسم من خلال مشهد حركى يوحى بالتدخل بين الواقع والحلم .
ويوظف الروائى الحلم واللاوعى ليدلل على استحواذ وطغيان تأثره بشخصية عبد الناصر الذى سيطر عليه فى هذه المرحلة العمرية ، الاهتمام الذى تغلب بداخله على اهتمامه بالجنس الآخر حتى أنه عندما قرر المبيت فى غرفة الممثلة الجميلة المشهورة ونام فوق سريرها يقول " تصورت بعد أن ارتميت على السرير وأنا مغموز فيها وممتلىء بحضورها البهيج أنى سأحلم بها ، لكنى حلمت بعبد الناصر ....كنت مع والدى نجلس فى صالون بيته فى منشية البكرى ، وأبى يطلب يد ابنته لى "صـ79هذه المادة الحلمية توفر للعمل التقنيات الفنية التى تقترب به من العمل الابداعى الروائى ، حتى وإن كانت حدثت بالفعل فى الواقع ، فهى تضفى على الواقع هذه الرتوش التى تنتقل من السيرة الوقائعية إلى طريقة تعنى بوضع المفردات الصغيرة فى حياة الأشخاص لرسم منظومة متبلورة وشديد الجذب إحداهما للأخرى ، بهذا التوليف بين الأجزاء ، سواء حدث هذا فى الواقع أو عن طريق تدخل الروائى فى سد وتهيئة ثغرات الواقع المسترسل دون توشية فنية . لمقتضيات طبيعة العمل وكونه سيرة روائية قد حدثت بالفعـل كان هناك تعامل واقعى مع تقنية الزمان والمكان وحدد الزمن بالفترة ما بين 1944م-1971م . تعاملت الممارسات الفنيه مع هذا التحديد ووهبته مستويات وانتقالات عـضدت من فنية العمل كما ذكرت ، وخاصة لثراء هذه الفترة الزمنية نسبة الى الشخصية والوطن ذاته ، كما تنوعت الأماكن ما بين القاهرة وبنها والريف المصرى المتمثل فى قرية "كفر سندنهور" وبين الأسكندرية ومرسى مطروح وما عادها
لقد كانت حركة الروائى فى الزمان والمكان متحررة فنيا ، واتسم العمل بالإيقاع الزمنى السريع الذى عمد من خلاله الروائى إلى تلخيص كثير من الأحداث والسنين عن طريق أساليب القص المتنوعة

شخصيات السيرة الروائية
يرسم الروائى شخصيات سيرته بحنكه من يدع الواقع يتحدث عن نفسه ، فالشخوص فى هذا العمل من لحم ودم بالفعل ، ليست شخوص ورقية صاغها المبدع من خياله وأفكارة الخاصة ، ولذا تنوعت النماذج البشرية ، وبدت كما هى فى الواقع تحتمل التناقضات وعدم الاتساق ، ونماذج أخرى دائرية وتعرف أهدافها وتنبأ بمسار الأحداث ، عكس شخوص أخرى مقدماتها لا توحى بما أتت به من أحداث .
شخصية السيرة الرئيسية وهو الكاتب ذاته شخصية متسقة مع نفسها تشبه شخصيات المرحلة الكلاسيكية فى الرواية ، وهنا سأتوقف لفترة لأعامل العمل باعتباره سيرة ذاتية فى لباس روائى أقول.. وفر الكاتب لرسم شخصيتة التاريخ العائلى ، والتعريف بمرحله الطفوله وأبرز الصفات التى أتسم بها بطريقة فنية ذكية ، ذلك حين لم يذكرها هكذا مجانياً بل وضعها فى مشاهد ومواقف ، وبقرأتها يستنتج القارىء تلك الصفات فتبدو ضمن النسيج ومكونه له ، وليست مجموعة من التعريفات التى تفقد تأثيرها عندما تلقى هكذا فى مباشرة خطابية غنائية ، وتجلت براعة الكاتب فى رسم الشخصية الرئيسية حين بدأ من اللكزة الشهيرة بالرواية التى وجهها أخوه له عند تعرض جمال عبد الناصر لمحاوله الاغتيال ثم انطلق صعوداً وهـبوطاً بالشخصية متحرراً فى الزمن ، مصوراً مراحلها المختلفة طفوله وشباباً وبدايه ظهور الرجوله . وتتراوح درجة عمق أفكار الكاتب وقضاياه وطبيعه مشاعرة صعوداً مع الشخصية فى مراحلها المتوالية ففى مرحلة الطفولة يقول " ما كل هذا الانتصار اللذيذ الذى لا يجعلنا ننام إلا مع الفجر إذا استمرت نحلتى تدور بعد أن توقفت نحله غيرى !! ما السرفى البهجة التى تشملنا ونحن نجرى ونتسابق فى وحل الترع .." ص 19 .
لنصل إلى مناقشه قضية " الجبر والاختيار " ورؤيته الخاصه فيها فى أخر الجزء الأول من السيره حين كانت المرحله العمرية فى أخر العقد العشرين يقول " أدركت أو أوشكت على الإدراك أنه لا أحد مخير إلا فى أقل القليل وأننى حر فعلاً لكن فى إطار العنايه الإلهية وبالصدام مع الأخرين .. صدام التوقيت والمصالح والأفكار والأهـواء بل الأحلام والأمال ، وفى ضوء المشاعر والأحاسيس المركبه و الموروث والظروف ، الاّخرون هم قيودى وليس الله " ص 129 .
وتبدو شخصية السارد ذات طبيعة مغامرة ، تريد أن تعترك أفكارها ، أن تراها وتتلمسها رؤيه عين ، أن تمتد أصابعها لتنفذ فى العالم المتهيأ بذهنها ، تستطيع أن نلمس ذلك فى عدة مواقف منها على سبيل المثال تقمصه لدور عامل إضاءة فى المجموعة التى كُـِلفت بتصوير حفل زفاف بنت الرئيس، وذلك تحقيقاً لهاجس يشغل حياته وهو الاقتراب من عالم الزعيم جمال عبد الناصر " يقول الكاتب معلقاً على الموقف برمته :
" أيقنت إنها فى حدها الأدنى حماقه لها سوابق فى حياتى ولن أعدم مثيلها فى المستقبل ، لسبب بسيط هو أنى غير مستعد لمقاومتها لأن هدفى كان عملاقاً وتاريخياً لا تمنعنى عن بلوغه أعتى العقبات".ص84
وتبدو شخصية السرد – شأن مرحلتها – ليست من شخصيات ما بعد الحداثة فهى ترسم طريقاً، وتتجاوب مع الأفكار التى تحقق لها ذلك ، يقول الكاتب فى حديثه عن نيتشه :" لقد أعاد تشكيل شخصيتى حين قال " من يود أن يكون ذا قيمه فليتجنب الفارغين التافهين ، وعليه أن يرتفع دائماً إلى أخلاق الساده والنبلاء لا أخلاق العبيد والمستضعفين الأذلاء .. الكرامة .. الكرامة هى الحياة. " ص95 ، وتتبدى الشخصية ذات ثقه فى إمكاناتها فى العمل ، غير حيادية تنزع نحو تحمل ثقل ما تقتنع به من أفكار وما يوكل لها من مهام ، كما أنها تمتلك موقفاً من كل ما يدور من حولها من من قضايا عامة أو شخصية .
يحكى كاتب السيرة عن شخصية "هند" زميلته بالعمل وحبيبته ، فيرصد لطبيعتها المحافظة وشغفها بالقراءة وتنوع مادتها ، ثم يشير إلى ثقافتها من خلال الحوارات التى اقتنصها منها ص 86:89 حتى أنه يقول ".. واصلت القراءة ليكون بيننا دائماً موضوع للمناقشة والتحليل والتأمل .. كلما تحاورنا زاد تقديرى لها .. ما أروع عقل المرأة إذا احتشد بالثقافة ثم تألق بالأحساس وسما بالطموح والأمل وحب الحياة ! " ص 91
تتقدم بنا الصفحات فى السيرة ليخبرنا السارد بموقف هند من رغبته فى التقدم لعائلتها لطلب يدها للزواج ، ورغبتها فى تأجيل هذه الخطوة ليحصل على شهادته الجامعية ، خوفاً من رفض أهلها وهى ذاتها له ، يتوقع القارىء فى هذه الفقرات أن أسرتها ذات مكانة إجتماعية أو علمية متميزة، ليفاجأ القارىء شأن مفارقات الواقع الساخرة ، وبعد أن اجتاز الكاتب دراساته بنجاح بهذا التدنى الطبقى الذى تحياه اسرة هند ، وهذه السيطرة الجامحة التى تمارسها أمها – هذه المرأة القوية الجميلة - تجاه أولادها ، بما فيهم هذه الهند التى كان من المفترض أن تجعلها ثقافتها على نحو اّخر ، شخصية فاعلة ، قادرة على المواجهة ، غير خاضعة لهذه الممارسات العنيفة والمراوغة من أمها ، لكنها نموذج من النماذج التى تحيا بيننا ، شأنها شأن ما يزدحم به الواقع ، شخوص عجيبة تكتظ بالتوازيات والتناقضات المتجاورة على مستويات متباينة ، تنتهى معاناة الكاتب مع هند وأسرتها برفضه هذه الزيجة التى خرجت فيها شخصية حبيبته عن توقعاته وأماله ، تضافر هذا مع موقف أبيه وأمه من هذه الاسرة والمستوى العام لها ، ورفضهما لهذا الارتباط .
يقول الروائى " عندما بلغت الشقة كنت قد عزمت الا أتزوج مهما حدث .. قرار من الاقرارت المفاجئة القوية والعجيبة .. هنأت نفسى عليه طويلاً ، وإن كنت قد علمت أن العناية الإلهية تدخلت تلبية لشكوى مقدمة ضدى من رجل مهم .. فى شكل أدعية متصلة ، تعقبها صلوات .. وما علاقة السماء بالأرض ؟ هل هى إلى هذه الدرجة حميمة .. )) ص 162 .
ولكون العمل سيرة نقل الكاتب لنا الشخوص من خلال عينيه وتفسيره وتحليله لهم ، فهو لم يستنطقهم لنعرف أبعاد الصراع مكتملاً بداخل هند ، كما أنها لم تأخذ مساحة فى القص إلا من خلال السارد ورؤيته الخاصة .
تبدو شخصيته "كريمه" فى السرد فتاة مصرية من طبقة وسطى لا تعرف من الحياة سوى انطلاقها وتحققها المباشر ، لا تتوقف كثيراً أمام تحديد مشاعرها وبيان الفروق فيها ، تحب فؤاد وترتاح إليه ، لكنها يمكن أن تتزوج غيره ، أعود لأذكر أن السرد على لسان صاحب السيرة ومن خلال عيونه هو ورؤيته الخاصة للأخرين ، لذا جاءت حجم الصراعات فى حدود ما ينطبع بوجدان وعقل السارد الرئيسى بالعمل .
أتصور أن الكاتب يضع المرأة بالمجتمع فى مكانه لائقة ، بل يعوًّل عليها أيضاً فى تعديل المسار والمشاركة الإيجابية بالحياة ، يتضح ذلك من خلال قصه عن أمه وكيف كان دورها فى انتقال الأسرة من الريف إلى المدينه ، تحملها للصعاب ومساعدة أبيه فى بدء حياة جديدة ص 26،27 ، ودورها أيضاً فى تربية أبناءها وتهذيبهم ودفعهم للترقى فى الحياة على كل المراحل ص58 ، كما أن نماذج المرأة المقدمة بالرواية مثل جدته وأم هند وهند ذاتها فى دفعها له للدراسة ، كلهم نماذج إيجابية يتمتعن بالقدرة على الدفع و الفعل والهيمنة .
وللكاتب طريقته الخاصة فى رسم شخوصه فهو عادة لا يسهب فى حشد الأوصاف الخارجية أو الداخلية ، لكنه يقع على صفة رئيسية تلفت انتباهه ويعدها مدخلاً مناسباً لدخول عالم هذه الشخصية ، وغالباً ما تكون هذه السمة المميزة علامة جوهرية فى الشخصية ، وتؤثر على مسارها وتوجهها الفكرى ، فهو حين يصف "فكرى" موظف الاستقبال بالمستشفى يقول ".. أصابعه لا تتوقف عن برم شاربه البنى الطويل المنتصب .. وهو مشغول طيلة الوقت بالاطمئنان على استقامته وسلامة السن المدبب كى تقف عليه عدة صقور ، أدركت أنه يود استعراض رجولته" ص 41 .
والشخوص فى عالم السيرة الروائية "المفتون" تقوم بأدوراها فى موازاة دقيقة مع الشخصية الرئيسية بالسيرة وتأتى أدوراها تباعاً ، لتحدث نقاط تقاطع جوهرية وحيوية فى حياة الشخصية الرئيسية لتصنع إضافة وتساعد فى تشكيل هذا الكيان الذى يتهيكل وتصاغ وعالمه .
مثًّل "فكرى" بالسيرة مدخلاً لعالم النساء والبنات ، عالم سحرى يعرفه فؤاد من خلال هذا النموذج ، يستقى منه معلوماته عن مناطق الأثارة فى تضاريس جسد المرأة ، وعالم المشاعر والأحاسيس الذى مهده له فكرى بأحاديثه ، يقول عن عالم فكرى بعد أول قبله له مع قريبته " هو دون شك ودون حلفان أهم أساتذتى وأصحاب الفضل علىّ . الله يسامحه." ص47 لقد شكًّل فكرى فتحاً لعالم النساء بحياة شخصية السيرة .
فى قصه عن أبيه يمكن أن تجتمع بعض الإشارات التى ترسم أهم الملامح فى شخصية أبيه يقول: "نازك رجل أقسم أبى قبل مولده أن يسمى القادم مهما كان نوعه باسم جارتنا التى رعت أمى طويلاً وأخلصت فى صداقتها بشكل نادر " ص61 .
يقول ".. كان أبى يختنق بسرعة كلما داهمه ظرف طارىء " ص26 ويقول "ضيق الصدر لا يملك القدرة على حوار طويل " ص 28
يبدو الأب سريع الانفعال ، صاحب قرارات مفاجئة دون دراسة ، لا يقوى كثيراً على الصمود أو التفكير فى بدائل أمام التغيرات ، وبدت شخصية أمه مستوعبه ودافعه لحركه الأسرة كلها، لها قدرة التفكير والتصرف ومواجهة التغيرات ومحاوله تكيفها، كما أنها أكثر حنواً وإستيعاباً وتأثيراً فى حياة أبناءها ، وملاذاً يمثل الدفء والحنان .
أتصور أن شخصية السارد صنعت توازياً مستمراً بين شخصية الأب ومنحاها فى الحياة وتعمدت ذلك.
تأتى شخصية "فوزى" أخيه الأكبر وصاحب اللكزة الأولى التى على إثرها تفتح وعى الكاتب "فؤاد قنديل" للحياة من حوله شخصية يتلاءم تطورها مع متغيرات المرحلة ، ومن أقوال أخيه بعد رسوبه فى الامتحان" من ملك الإرادة لاتقف فى طريقة عقبة ، ولاتهزه الأحداث ، والنبتة - لابد أن ترى النور حتى لو كانت فى صخرة " إنها إرادة الطبيعة" ص53 مثل فوزى الإرادة الحقيقية بهذه السيرة فبعد أن كان يعمل ترزياً قرر أن يتعلم ليعرف أكثر رغم اهتمامه وعرفته بقضاياً الشأن العام والسياسة ، ومحاولة تثقيفة لنفسه من خلال الراديو، أراد فتعلم القرأة والكتابة فى يوم واحد ، واجتاز مراحل دراسته كلها فى فترة وجيزة حتى وصل إلى بداية دراسته الماجستير ، لكن مشاركته فى تأسيس بنك فيصل أعاق ذلك . يعد "فوزى" نموذجاً للشخصية المصرية فى هذه الفترة 1940م وتطلعاتها إلى تجاوز طبقتها من خلال التعليم والترقى بنفسها ثقافياً ومادياً .
مثل عمه"على" النموذج الرومانسى الذى لمس شغاف جانب من جوانب شخصية السارد ، جانب حجمه فؤاد قنديل فى ذاته ، ولم يجعله يسيطر على حياته ص29، كما مثل عمه "حسن" القلب الطيب المعطاء الحانى الذى يستوعب الجميع ص22 .
ومثل"جابر" نموذج المصرى البسيط الشهم الخدوم الذى ينفذ ما يوكل إليه من مهام دون أن يعمل عقله كثيراً ، لكنه دوماً حسن النية ويمكن الاعتماد عليه
وينحو الروائى نحو المثالية والترقى إلى مصاف التقديس والملائكية عند تعرضه لوصف بعض الشخصيات العامة المؤثرة فى وجدان الشعب المصرى ، مثل وصفه "لأم كلثوم" وأثر صوتها وأغنياتها على الوجدان المصرى فى تلك الفترات ، وأعزو ذلك لطبيعة الحياة والشخصيات فى تلك المرحلة من تاريخ مصر .
يقول " كنت أتمثلها وأنا استمع إليها كأنها واقفة أمامى فوق قمة عالية أو كأنها نخلة سامقة ، وأحياناً استشعر أنها تهبط من السماء إلى المسرح ثم تعود إليها محاطة بالملائكة .." ص 61
المفتون والمجاز
وللكاتب قدرة مبدعة على تجسيد الأفكار والمعانى المجردة من خلال المجاز ، وهو من خلال هذه التقنية يحول هذا المعنى المجرد إلى كيان يمكن أن يحاورَ ، وأن يُسأل مما يهبه ثقلاً ، ويعطيه أبعاداً تؤكد من ثقل وجودة بهذه الحياة ووقعه على البشر .
يقول الكاتب : "بينما أمى تجلس ساكنه تحدق فى وجه الظروف المتجهمة و أنيابها الحادة . تسألها : ماذا تريدين؟ .. لماذا تتربصين.. ابحثى لك عن أناس غيرنا يحتملون حصارك .." ص 26
لا يكتفى الكاتب بالتجسيد للمجرد بل يعود ليحدد لها معالم وأوصاف تكسبها مزيد من الوقع المؤلم والشرير فالظروف ليس لها وجه فقط بل من ملامحها " أنيابها الشريرة" ، وفى مرحلة أعمق من التجسيد تقيم الشخصية حواراً مع هذا المجرد وتسأله وتدفعه عنها دفعاً لمن يحتملونها ، هذه الأساليب والتقنيات التجسيدية البلاغية ترسخ وتدعم من وقع هذه المعانى وتصنع لها ثقلاً مما يوحى بشدة وقعها فى الحياة ، يتنوع التجسيد أيضاً ليشمل الطيور والحيوانات يقول الروائى "لكن هذا الكتكوت بالذات كان قد استحوذ على حبى ، لأنه سريع الحركة منحول الرقبة ويتمتع بشخصية واضحة يبدو أنه سيصبح ديكا فى المستقبل ويمارس دورة كأحد القيادات البارزه فى عالم الدواجن.." ص 57 .
أود أن أشير هنا إلى انبهار شخصية الكاتب فى ذلك الوقت بفكرة القيادة، ورغبة الروائى الأن فى لحظة الكتابة الأنية باللعب بأسلوبة ، وتدرجه تبعاً للمراحل العمرية التى مرت بها الشخصية.
ويتمتع الكاتب بقدرته على تلوين أسلوبه التصويرى بما يتناسب مع الأحداث ، يقول واصفاً عودة عمه المحب تحدوه الأمال بالزواج ممن أحبها ".. عاد محمولاً على محفة الأمال متأملاً القمر الذى كان يصاحبه فى رحلته حتى أثناء النهار وفى الصحو والنوم وداخل القطار الذى احترق عند بنى سويف" ص29،30 إن أختياره لهذا التعبير "محمولاً على محفة الأمال" تعطى انطباعاً استشرافيا عما ستاتى به السطور التالية، ولذا يتمتع الكاتب بموهبة حسن اختيار مفرداته وتراكيبه اللغوية، وكأنه من خلالها يصنع موسيقى تصويرية مصاحبه للكلمات تقدم لما ستنبأ به الأحداث القادمة، فبمجرد قرأتى لهذا التعبير شعرت بشىء ينقبض بداخلى ، هنا سيحدث فقد مؤلم ، كما أن للكاتب قدرة أخرى فى طريقة القص ذاتها تتخلص فى أنه من أعلى قمة الحدث السعيد ، يستنبت نهاياته التعيسة كما حدث فى الموقف السابق ، وكما حدث فى موقف زواجة الذى باء بالفشل بعد تمام كافة التجهيزات فى ص160،161 ، تخلق هذه المفارقات نوعاً من المأساوية العنيفة وكأن الأقدار تخرج ألسنتها للإنسان حين يتصور أنه نال ما يصبو إليه ، وتعطى العمل الأدبى قدراً من العمق بما يشاكل الحياة فى تعصيها على الفهم والاستيعاب .
يتأزر مع قدرة الكاتب على التجسيد قدرته على صياغة أساليب التشبية يقول فى معرض وصفه لجمال عبد الناصر" بدالى كعمود ضخم من أعمدة معبد فرعونى فسيح . هل تمضى الحياة دون هذه الأعمدة ؟ " ص72
يتلأم التشبيه هنا مع التناول النفسى القابع بذات الروائى تجاه شخص عبد الناصر ودوره فى حياة الأمة الصاعدة والشباب الذى تبحر به الطموحات والأمال فتصوغ الابعاد النفسيه التركيب التشبيهى هنا – كما فى مواطن متعددة من العمل – ، متضافرة مع معطيات الحواس ومفردات الواقع ، من هنا قد نفسر بعض المبالغات التى أحاطت بقصه عن شخصية عبد الناصر وفتنته به فى هذه المرحلة الفكرية والعمرية
أعود ثانية للتشبيه السابق وأسجل ملاحظة وجدتها متواترة فى أسلوب الروائى وهى أنه عادة لا يترك أحد تكويناته الأسلوبية الجمالية منفردة ، دون أن يعضدها ويعمق تأثيرها بأساليب جمالية وبلاغية تعطيها أبعاداً أعمق ، كما تخلق نوعاً من المشاركة بين القص والقارىء ، فبعد أن يعرض الروائى تشبيه نجده يقول فى أسلوب بلاغى أستفهامى " هل تمض الحياة دون هذه الأعمدة؟"
نحن بإزاء دفع الكاتب لمستويات تتراوح من الإحساس الجمالى وإثارة العقل المستمرة فى فقرات قصه وتكويناته ، مما يوفر أبعاداً متفاوته فى التلقى ويرتكز الروائى على المجازفى مواقف القص التى أراد فيها أن يصف التحولات التى طرأت على أماله فى الثورة وزعيمها ، وما اّل إليه حال مصر قبل النكسة وبعدها وأتصوره نوعاً من التحايل والهروب لجأت إليه ذاته لإرادتها عدم الاعتراف بخيبة أملها فيما انتظرته من طموحات يقول ليصف تلك الفترة "تعقدت فى الحياة أمور كثيرة واختلطت الأغصان .. وطالت الأشواك أعناق الورود.. نبت الصبار فى حلوق الياسمين ، وإلى جانب ذلك نضج الفتى وابتلته الأقدار" ص91 .
يتمتع الروائى بميزة دهاء التعامل مع اللغة ، خفة الظل والطرفة الممتعة فى الوقت ذاته يقول:" ... وأهديتها وردة بعد أن قبلتها قبلة طويلة .. الوردة ، سرنا مسافات طويلة .." ص 65
طريقة الصياغة قد توحى بأن القبلة لحبيبته ، ويتوافق هذا مع ماكان يرجو ويتمنى ، فيتأخر التعريف بصاحبة القبلة لنعرف أنها الوردة ، ويوظف الكاتب التقديم والتأخير بحس ذكى مرح، ليوهم بما كان يتمنى .
يقول الروائى وهو يتحدث عن هدايا حبيبته له " مدت يدها بلفة ورقية صغيرة وجدت بها ساندوتش كفته بعد أن أكلته كتبت قصيرة جديدة لاعلاقة لها بالكفتة "ص63 تبدو هذه التعقيبات التى يصوغها الروائى تقطر بخفة الظل المصرية والتقاط الطرفة والقبض عليها ووضعها فى مكانها المناسب، بحيث لا تبدو مفتعلة على الأطلاق .
فى التقاطة خفيفة الظل يستخدم المؤلف اللغة وهى محرفة على لسانه وهو طفل ، وواقعة حرقه لجلابيته بعد سخرية عمته منه حين قال عندما سألته" أمك اشترتها بكام فقلت على الفورى بسرسين صاغ فؤجئت بها تضحك ضحكاً هستيرياً حتى وقعت على ظهرها " ص21 تطل فى الجزء الأول من العمل روح الطفل وتلقائيته وشفافيته ، لذا تتلون اللغة بهذه الشفافية التى تتضح فى فقرات وصفه للحياة فى الريف ص18، 19 وتبدو لغة الكاتب فصحى محكمه ذات اتساق وسلاسة ، وكأنها استقت عذوبتها من شخصية صاحب السردية واتساقه مع ذاته ، وتتلون تلك اللغه لتحكى الحياة فى تنويعاتها ، حياة فرد من أفراد هذا الشعب فى طبقته الوسطى ، بما يمر بها من مواقف وأحداث ، ولذا نجد فى بعض الفقرات بعض التعبيرات الشعبية المصوغة بلغة فصحى ميسرة مثل قوله " النافذه الإلهية حين تفتح تجرفى إثرها عشرات النوافذ والبوابات ، وإذا واتى الحظ باض الحمام على الوتد . " ص 28
كما تتنوع لغة الحوار فى العمل تبعاً لثقافة المتحاورين ومراحلهم السنيه فالحوار ما بين "فؤاد قنديل وعمته بلغة عاميه يقول فيه " قلت فى شبه انتصار تتنأورى علىّ واسكت . صرخت :- ألحقى يا أصلانه الحق يا حسن" تختلف تلك اللغة الحوارية عن حوارات الكاتب مع أحمد المصرى أو مع هند ويتوافق هذا مع متغيرات القص المتعددة .



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -خضروات نصف مطهوة- قصيدة نثرية
- حرية الإبداع في -أين الله-
- بين شيوخ الإبداع الروائي وشبابه
- -سلمان والببغاء - قصيدة نثر
- حكومة بلا خيال
- مقعد لا يمتلئ .. -قصيدة نثر-
- يبقي لنا من -ابن خلدون- فعل المجاوزة ..
- الغربة والنفط وتقنية المتوازيات في نص -العُرس- للروائي -فتحي ...
- قراءة لكتاب - الرؤية والعبارة مدخل لفهم الشعر - للشاعر عبد ا ...
- المريد المتصوف ينشد قصصه .. دراسة لمجموعة -عبد الحكيم قاسم- ...
- منطق التاريخ وسردية - تلك الأيام - للروائي فتحي غانم
- سرد دائري وصرخة ضد القهر وغياب العدالة في رواية -وحيد الطويل ...
- -في العائدون إلي الأرض -الموت حياة قراءة نقدية لخواطر د. سام ...
- قراءة لكتاب - النقد الأدبي بين القديم والحديث -
- في أقل من دقيقة.. -قصة قصيرة -
- بنية الانفصالات في سردية -قسمة الغرماء -للروائي يوسف القعيد
- تداخل النصوص في القصيدة المعاصرة ..ديوان -الشاعر والشيخ - لل ...
- شعرية الأشياء في ديوان -الفجوة في شكلها الأخير- للشاعر عاطف ...
- ثورة مصر .. رؤية يسارية لثورة 25 يناير يقدمها - سمير أمين -
- -المنطقة العمياء- سرد نسوي متحرر -مجموعة قصصية- للقصاصة أسما ...


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - -المفتون- لفؤاد قنديل بين السيرة الذاتية والرواية