أماني فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 4307 - 2013 / 12 / 16 - 16:55
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اتساقا مع مواد الدستور الخاصة بالحريات : حرية الاعتقاد ، وحرية التفكير والتعبير ، وحرية البحث العلمي ، وحرية الإبداع الفني والأدبي .
والتزاما بنص المادة في الوثيقة المبرمة مابين المواطن والسلطة القائمة علي الدولة ، فيما يختص بحرية الإبداع الوارد فيها : "وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والأداب ، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوي لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية ، أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة ، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري " . وتفعيلا للدستور المصري ، ولدولة القانون ، لا ينبغي أن يتعرض المبدع لقضايا وأحكام علي هذا النحو الجائر علي حقوق الإنسان وإبداعاته ، واجتهاداته في رؤية هذا العالم فكرا و خيالا ، كما حدث مع الروائي "كرم صابر" بعد صدور مجموعته القصصية " أين الله" وتعرضه لمحنة حكم قضائي بالسجن لمدة خمس سنوات.
ــ في المجموعة القصصية " أين الله " الصادرة عن دار نفرو للنشر والتوزيع ، عام 2010 م ، يعالج القصاص مطلق معنى الله فنيا ، مطلق الإيمان بمفهومه المتسع السمح ، الذي يتجاوز الشكل السطحي للعادات والممارسات الشعائرية ، والتي تعد عند البعض من فئات المجتمع عوضا وبديلا عن الدين الحقيقي ، الذي هو في جوهره اتصال خاص ، وعلاقة حقيقية بين العبد وربه منزهه عن المنفعة ، أو مفهوم العبادة في مقابل العفو والغفران والعطاء .
فهو علي لسان شخوصه لا يرفض تلك الطقوس أو يقوضها ، لكن يشير إلي إعتيادها وآليتها ، وتفريغها من مضمونها وجوهر فعلها ، مثلما تحولت مع الباحثين عن مظاهر الدين لا الإيمان الخالص .
ينتقد القاص الأشكال الجامدة للعبادات ، ويعيد تفكيكها والنظر إليها ، خاصة فيما تروج له بعض التيارات الأن من دعوات تقصد المغالاة في جلد الذات ، والحديث عن العقاب في الآخرة ، و أهوال النار وعذاب القبر ، والحساب الذي لن ينجو منه أحد ؛ ينتقد القصاص كل هذه الدعوات الظلامية ؛ رغبة في القبض علي جوهر الدين الحقيقي .
ــ ومن خلال مجتمع ريفي بسيط ، يركز القصاص علي تجليات الدين الشعبي ، ويلتقط منها ما يدلل علي جوهر الإيمان لا قشوره السطحية ، وهو إذ يتخير هذا الوسط الثقافي الفطري يريد أن يدلل علي الطبيعة الخام للإنسان ، الأسئلة البديهية التي تدور بالعقول قبل أن تمارس أي أيديولوجيات ضغوطها الفكرية ، الموجهه لرفض توجه ما أو تسويغ آخر ، هذه العقول التي تشبه الأرض البكر التي تعيش فوقها وتزرعها ، لكنها تلاحظ الحياة وأقدارها فتتساءل بعفوية أسئلة الطفولة ، تنكر أشياء وتدعو إلي إعادة النظر في أخري بقصد تطويرها .
ــ ويرصد الكاتب لمفارقات الحياة وعبثية الأقدار ، ليس بغرض هدم فكرة الإله أو إنكار وجوده ، أو التجديف في قضايا الإيمان ، ووصف طغيان الظلم في الحياة ، ذلك حين يضيق بعض شخوص القصص بأقدارهم ، ويرون أن الإله لا يتسم بالعدل ، لكن لبيان أن العلاقة بين الإنسان والرب ليست علاقة نفعية قائمة علي تبادل المصالح ، إذا أعطى الله الإنسان فله العبادة والشكر ، وإذا منعه يكفر بالحياة وما فيها ، مابين الرب والإنسان علاقة تتعدي هذه الحدود الضيقة ، الله محبة وعطاءات لا حدود لها ، لا ينفصل عنه البشر، حينها يشعر الإنسان بوحدة هذا الخلق داخل ذاته ، وفي علاقته مع الموجودات من حوله.
أتذكر أني قرأت أن أبا حيان التوحيدي " فيلسوف الأدباء وأديب الفلسفة " حين كان في لحظات احتضاره الأخيرة كان أصدقاءه من حوله يقولون له استغفر الله ، أعلن التوبة ، ادعوه أن يغفر لك ذنوبك ، فإذا به يقول لهم: " أأنا مقبل علي شرطي ؟ إن الله غفور رحيم "
كيف تتحول كل طاقة الحب بهذا الوجود إلي هذه الأفكار الانتقامية التي يلحقها البعض بالإله ؟ وهو منزه عن كل هذا العوار والرغبة في إلحاق ضرر بالإنسان ، هذه التصورات التي أصابت الفكر الإنساني الذي تتحكم فيه انغلاق الأفق ومحدوديته .
فمن خلال وحدة الوجود في كافة موجودات الحياة البشرية ، تنطلق القصص لتؤكد علي هذا المفهوم ، في لغة مسترسلة تميل إلي التقريرية ، وفي مستوى رؤيوي لا يتغيا تقعرا ، بل يثير سؤال الفلسفة البسيط والأول ، ويتحقق ذلك من خلال عدة أسئلة يطرحها الكاتب علي ألسنة شخوص القصص .
ــ ربما شاب المجموعة اتجاه نحو المباشرة والخطابية في بعض المشاهد ، وتلك مسألة فنية لا تناقش في هذا المقام ، لكنني أتصور أننا تحت وطأة سياق مجتمعي يعاني من أمية أربعين في المائة من تعداده ، كما أن لدى بعض المتعلمين فيه الكثير من المفاهيم المغلوطة ، التي تتضمن كثير من التأويلات التي تجافي المنطق ، والخاصة ببعض متشددي الديانات ، التي لو أُعمل العقل فيها بقدر يسير لأعاد تقييمها مرة أخري لصالح سعادة البشر لا تعاستهم ، ولذا أتصور أنه لا مانع من أن تكون الرسائل الفنية والفكرية واضحة ، وقد تشبه الصدمات أحيانا ؛ لتخلخل عقول متلقيها التي ربما تكلست تجاه ما يطلقون عليه الثوابت .
نعم للفن مقاييس أكثر رهافة ورقي من الغلو تجاه المباشرة ، لكن في بعض السياقات والضرورات المجتمعية لا غضاضة من ذلك ، كما أن ذلك يخضع لتوجهات ومدارس في رؤية الفن والاتجاهات الأدبية .
ــ يقدم الكاتب من خلال القصص صور عدة من البؤس الإنساني ، من خلال شخصيات بشرية مختلفة التوجهات والأفكار ، وفيها يخلخل الثقافة الذكورية ، وبعض من الموروثات الدينية ، التي ينبغي إعادة النظر فيها وفقا لضرورة تجدد الخطاب الديني بما يتسق مع تطور العصر وتغير معطياته .
كيف يمكن أن ندين ما نكتبه بمقالاتنا ودراساتنا ونكرره مرارا حين يتبدى في شكل قصصي ، ومشاهد من الحياة اليومية للبسطاء؟ قد تتسم المعالجات الفنية للقضايا ببعض المغالاة ؛ لأنها غير خاضعة للمنهج البحثي الحيادي ، وذلك لطبيعة الفن الذاتية ، واسترساله الذي يجب أن يوهم بالتلقائية وبعده عن الجمود .
ــ أردت أيضا أن أوكد أنه وفقا لنظريات التلقي تختلف درجة فهم وطبيعة توجهات القراء لهذه النصوص التي تتضمنها المجموعة ، كل حسب ثقافته وطبيعتها ، ودرجة توجسه من إثارة تلك الموضوعات التي تمثل في ثقافتنا تابوه يحوُّطه اللامساس بل والتقديس من الكثيرين ، فلقد قرأت بعض العبارات والجمل التي وردت علي لسان شخوص القصص علي أنها دعوة لتذوق وفهم رحيق الحياة ، معني العبادة الحقيقية ونبذ لزيف وآلية النمطي والسطحي ، دعوة للحب والتسامح والتوحد مع الكون من خلال فهم روح الوجود ووحدته ، دعوة إلي تذوق الحياة والإعلاء من قيمة العمل ، وعده الرسالة الحقيقية المنوطة بالإنسان ، لا كما ذكر من أقام الدعوى على المبدع أن المجموعة تدعو إلي إنكار الألوهية ، أو الحض علي الرذائل .
ــ أين الله ؟ ليس تساؤلا يطرح لإنكار الله ووجوده ، بل يطرح من أجل أن نري الله في كل الوجود من حولنا ، وهي رسالة تحريضية من الكاتب للبحث عن السعادة في كل ما يحيط بنا ، بالأرض والسماء والزروع والأطيار والحيوان ، البحث عن السعادة بداخل ذواتنا ونفوس الآخرين ..
وحتي لو رأي البعض أن هناك بعض التجاوز في الحديث الموجه إلي الله ، فلقد رأيته خطابا موجها ليس للإله ، لكنه موجه للجانب الشرير المظلم بالإنسان ، الشيطان الذي يكمن داخل كل إنسان بقدر ما .
ــ تقدّم القصص مستعينة بتقنيات الفن السردي ، ومن خلال شخوصها دور الفن في كشف الأوهام ، دوره في تحريض العقل علي العمل والتفكير ، فلقد غادرنا زمن المعجزات وأوهام البشر عن الدين ، لا الدين ذاته .
فحين يستنطق الكاتب شخوص نصوصه فهو ينطق ألسنة وعقول مختلفة التوجهات والمشارب ، وهو مايهبه فرصة لعرض ما يُطرح في الحياة من تساؤلات وأفكار ، وتقاس جوده السرد حين يختفي الكاتب الفعلي ولا يظهر من خلال شخوص نصوصه ، الذين لا يحملون ذات توجهاته بالضرورة .
ــ كما أن للإبداع طبيعته وحساسيته الخاصة التي لا ينبغي فيها اقتطاع جمل أوفقرات من النصوص لنتخذها ذريعة لإدانة القصاص ، فذلك ينافي الفن وطبيعته الكلية ، المرتبطة بالسياق التي توجد فيه الجملة التي قد يتصيدها القمعي المنتمي لمحاكم التفتيش ، ليأخذها ذريعة لإدانة الفنان ، كما أن حكمنا علي النصوص ليس بقانون البتر والاقتطاع لجمل أو عبارات ، بل ننظر لجوهر العمل والرسالة المقدمة ضمنا فيه ككل ، ومفاهيمه الكلية .
هل من حق أي شخص أن يقيم دعوى على الكاتب يتهمه فيها بإزدراء الأديان لمجرد أنه يستخدم خياله وعقله ليستنطق أصوات موجودة بالفعل في الحياة من حولنا ، و هو لا يتعرض لإزدراء الأديان ، بل علي العكس يقدم رؤية لفلسفة الدين وحرصه علي تقدم البشر ، وعيش حيوات لا زيف فيها .
بعضنا يدعو لتعديل نظام المواريث في الإسلام اتساقا مع مستجدات العصر التي طرأت علي المرأة والمجتمع ، لماذا نقف دائما في طريق العقلانية ونخشي من إعمال المنطق ، ودور الفن في إثارة تلك القضايا مواكبة مع ما يشغل الإنسان وقضاياه الحقيقية التي ينبغي مواجهتها لا الهروب من إثارتها خوفا من هجمات برابرة المتسلحين بكل ما سلفي وقديم ومعلب ، ليس كل قديم صحيح أو مواكب لظروف حياة تتغير وتتطور علي الدوام .
ــ أخيرا قضايا الرأي تواجه بالرأي والمناقشة وعرض الاختلافات في حالة من الجدل الإيجابي ، ليس مكانها ساحات القضاء ، وأحكام متعسفة بالسجن دون الرجوع للمختصين بالشأن الإبداعي الأدبي ، لقد تجاوزت الإنسانية هذه البربرية التي لم نزل نري صورا منها في مجتمعاتنا ، حين نتصيد للآخرين تفسيراتنا الذاتية لنصوصهم التي ليست هي بالضرورة التفسيرات الأحادية والوحيدة .
كفانا إرهابا للفن والعقل والخيال البشري ، كفانا إرهابا لإنسانية الإنسان .
#أماني_فؤاد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟