أماني فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 4315 - 2013 / 12 / 24 - 03:06
المحور:
الادب والفن
منذ أن تطأ قدماك معرض الفنان التشكيلي الأستاذ الدكتور:" محمد عزب" ــ المقام بقاعة (25 يناير للفنون التشكيلية) ، بأكاديمية الفنون بالهرم ــ تشعر أن هناك شيئا يخرج عن أطر اللوحات التي رسمتها فرشاته ، شيء يهرب من قيد الحدود الواقعية المرئية لمكونات اللوحة ؛ ليتجاوز الواقع إلي عالم ميتافيزيقي متعال ، يبتغي اتصالا ما مع الكون ، خطوط تخرج من موجودات اللوحات لتهفو إلي علاقات أكثر انطلاقا من حدود المجسد المرئي بالعين ، قد يكون مع الله ، أو مع الكون بوحدة موجوداته ، أو مكونات المحيط البيئي الذي توجد فيه العناصر مكتملا .
يرسم الفنان ما يشبه الخيوط أو الأشعة البيضاء التي تخرج من العناصر الرئيسية بالمشهد لتوحي باتصال ما خارج حدود العنصر ، تتبدى ذاته المشعة التي ترفض السكون الضيق ، وكأنها تقول ثمة تفاعلات بيني وبين هذا الوجود ، فالسمك والفراشات والموج يرسل لمتأمل اللوحات إشارات تقول ضمنا : أننا أكثر اتساعا وحيوية ، وأعمق من تلك الحدود التي تراها أيها المتلقي ، هناك علاقات مع عالم أكبر ، نُعد أنغاما ضمن معزوفة تشكّله ، جميعنا أسماك أو فراشات أو طيور ، أوموج وبشر ، وخط وجمادات ، نحتوي بكياناتنا على ما هو أغني مما يتراءى خارجيا ، كما أن ثمة تواصلا ما استشعره الفنان بين وجودنا والعالم .
فعلي سبيل المثال هناك لوحة الموجة التي تعلو علي مستوي مياة البحر ، خالقة لمنحني وقوس انسيابي في علاقة مع مياهه ، شكَّلها الفنان مستخدما مزيجا من التكوينات الهندسية المتنوعة والعشوائية التي تشبه القطرات أو الدفقات الممتلئة ، تشكيلات مياة تتدافع في مجموعها تمثل وحدة الموجة ، مستخدما لتعدد في الألوان المتدرجة في نطاق الأزرق والسماوي ، بجانب عدد من الألوان الأخري الوردية والصفراء ، بدرجاتهما المبهجة ؛ لبعث حياة أكثر ثراء في هذه الموجة التي قد تبدو للأخرين غارقة في زرقتها ، لحظة ثائرة في حياة هذا البحر الكلي ، يأخذها الفنان ليثبًّتها ويخلدها حال حيويتها ، حال صخب هذا العالم الجزئي واللحظي ، وفيها يستبطن كل هذا الغني الذي يتضمنه الجزء في علاقته مع الكل .
يعلو هنا صوت الفن ، وتسمو الرؤي الإنسانية ، تنطلق بصوت واثق تقول : يبقى الفن بخياله وجمالياته ، ورؤيتة العميقة للموجودات ، مهر الحياة الحقيقية التي ينبغي أن يلمسها الإنسان ، عين تقبض علي لحظة الدهشة من الجمال في هذا الوجود ، و فرشاة تغوص في غني الموجودات التي قد تفقد حيويتها وبكارتها لدى البعض ، نتيجة اعتيادها وتكرار النظر إليها .
بتنوع ملحوظ في عوالم وموضوعات المعرض ، تنسحب تلك الرؤية المميزة التي يقدمها التشكيلي الفنان "محمد عزب" من خلال موجودات مختلفة ، تشكَّل أجزاء من العالم فيما حولنا ، ما انكشف منها وما استتر.
تصور اللوحات المعروضة أربعة موضوعات رئيسية : عالم الأسماك الذي استلهمه الفنان كما يقول عبر رحلته إلي أعماق البحر الأحمر في مدينة "الغردقة ، وفيه تتنوع اللوحات التي تعبر عن هذه المنظومة المبهرة ، فهناك لوحات تصور مجموعة متكاملة من الأسماك لها نفس الألوان والتشكيل الجسدي ، وتتحرك في سرب يتدرج فيه السمك من الصغير إلي الكبير في نظام خاص ، ولوحة أخري يقسمها الفنان التشكيلي إلي مقاطع متعددة طولية وعرضية ، بأشكال هندسية مختلفة ، ولكل قطاع اتجاه حركة ، وتمايزات في اللون ، وأحجام متباينة من السمك ، كما أن كل مقطع يصور درجة ضوئية هي انعكاس لحركة الليل والنهار علي أعماق المياة ، وكأن كل هذه الحالات تصور هذا العالم السمكي في حركة تتابعاته مع حركة الزمن ، وهي من اللوحات المميزة ؛ للتراكبية وشمول الرؤية وإحاطتها بالتنوع في الوحدة .
ورغم عشق التشكيلي "محمد عزب" للألوان إلا أننا نجده يبدع لوحة يتمازج فيها الأبيض والأسود فقط ، ثم تأبى طبيعته المحبة للحياة بألوانها التي تبعث بالأمل ، فيضفي عليها لمسات لونية محدودة ، تنحصر بين الأزرق والأصفر واللون الوردي .
ثم ننتقل لعالم الفراشات وحركة انسجامها مع النباتات والمحيط الأخضر من حولها ، تتميز تلك اللوحات بتمثل تنوع حجم الفراشات ، والتكوينات المبدعة لأجسامها ، والألوان المبهرة ونوع التداخل اللوني الذي تهبه الطبيعة لتكوينها الجسدي فتبعث بالدهشة المعجبة .
عادة ما يركز د. عزب علي بؤرة اللوحة بتكوين يخطف عين المتأمل ، ثم يشرع يشكّل فراغاته بعناية فنية ، بحيث يضيف كل تفصيلة تشكيلية إلي الفراغ الأبيض معنى جديدا وحركيا علي اللوحة ، ويستمر تنوع تشكيلاته في هذا العالم لنشاهد لوحة أخري لفراشات تنشد علاقة مع معنى أعلى ، تنفذ في حركة من الخانق إلي العالم الفوقي المتسع ، في خيوط تواصلية تنشد انعتاقا وعطاء ما ، يمثله استمرار صعود اللون الأسود من لون التكوين التشكيلي لأجسادها نافذا إلي الأعلي .
وهناك عالم الخط العربي أيضا في طابع مصفى ، يحكي الفنان عنه يقول : أنه وجد في انسياباته وتجاويفه ، في انحناءاته وزواياه ، عالما من التشكيل والتجريد للكثير من المعاني والقيم التي تمنح الفنان مساحة من الحرية في التكوينات التجريدية الثرية ، ويمزج الفنان في بعض اللوح بين الخطوط العربية وفانتازيا اللون بتنويعاته .
وفي أحد اللوحات يستلهم د. عزب مقولة الفنان "فوزي فهمي" : " مهر الجنة تحقيق عدل الله " ليجعل خطوطها بؤرة اللوحة ، ويحوطها بتكوين مفعم بأوراق شجر الحياة أو شجرالجنة ، في تجريد مبدع لهذا الوجود في ألوانه الرئيسية الأزرق والأخضر والأبيض الذي يتداخل معه الأصفر والوردي ، كما تنبعث من اللوحة أيضا تلك الخيوط البيضاء المنطلقة التي ترسلنا إلي عالم أكثر تحررا من التشكّل الذي تقيده الحدود .
يتضمن المعرض الذي يحتوي أكثر من سبعين عملا تشكيليا متنوعا ، علي بعض اللوحات التي تمثل سمات التيار التكعيبي الصامت ، وفيه تبدو العلاقات بين موجودات اللوحة سريالية الرؤية ، لكنها لا تتضمن غرابة مفرطة ، يشي التشكيل بتوظيف جيد للفراغ في علاقات غير نمطية .
كما اشتمل المعرض عالما فرعيا لكن له حضور مميز ، رغم أنه لا يتجاوز أربع لوحات علي ما أتذكر ، تناول خاص للمرأة يترك انطباعا فريدا للمتلقي ، يرسم الفنان المرأة بطريقة تبرز الأنوثة الممتزجة بالوجه الطفولي الوديع ، دون عري صريح ، فجسدها تحيط به غلالة غموض ، وإن أبرز الفنان منطقة الخصر والبطن والأرداف في نوع من الثراء الأنثوي الفاتن ، يقول د. عزب أنه هكذا يري المرأة : حين يتكامل الجمال مع النقاء مع العقل ، الذي هو المحور الأشد جاذبية لديه في شخصية المرأة ، كما أن هناك لوحة موضوعة في مكان مميز بالمعرض تصور عالم من الجحيم المحيط بامرأة ، ويطغى علي اللوحة اللون الأحمر بدرجاته .
كانت جولتي بالمعرض بصحبة د. عزب ، لذا دار حوار فني كشف كثيرا عن عوالمه الخاصة التي تتضمن بجانب الفنون التشكيلية ، التصوير الفوتوغرافي للطبيعة المصرية الخاصة ، وللآثار المصرية التي يبرز في لقطاته شموخها وقدرتها علي مقاومة الفناء ، كما أن له إسهاماته في التصميم الداخلي للفيلات والشركات ، والمعارض الدولية والمحلات ، والمطاعم وقاعات العرض وغيرها ، وتتضمن اهتماماته أيضا تصميم المشاهد المسرحية لأكثر من أربعين عرض مسرحي ، وديكورات المسلسلات التليفزيونية ، وتصميم الملابس التي تزيا بها أكبر فناني مصر في عروضهم المسرحية أو السينمائية .
لدكتور "عزب" أيضا إسهامه الواضح في تأسيس "أكاديمية الفنون" وتجديدها وتجميل حرمها وتطويره ، هذا التطوير والتجديد الذي تضمن قصرسينيما جاردن سيتي وغيرها من مشروعات ثقافية تأسيسية .
جعلتني جولتي بالمعرض أستعيد لحظات دهشة جميلة ، كانت هاربة من الذاكرة منذ أن نزلت أعماق البحر الأحمر منذ سنوات ، هل بإمكان الفن أن يبعث الحياة مجددا في المكان الذي نغادره ، والزمان الذي ينقضي .
#أماني_فؤاد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟