أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - المشهد الشعري في ديوان - كأنني أريد - لغادة نبيل















المزيد.....



المشهد الشعري في ديوان - كأنني أريد - لغادة نبيل


أماني فؤاد

الحوار المتمدن-العدد: 4311 - 2013 / 12 / 20 - 19:58
المحور: الادب والفن
    


بسم الله الرحمن الرحيم
********
المشهد الشعري في ديوان " كأنني أريد " (1)
د. أماني فؤاد
***************
تتشكل القصيدة عند " غادة نبيل " في ديوان "كأنني أريد " دون بؤرة تقليدية أو مركز واضح ، يبدو الأثر الذي تحمله القصيدة مستقراً أو مشتتاً عبر أبعاد النص الشعري ، ولكي نتعامل مع هذا النص " الديوان " علينا أن نتخلى عن الخبرة النقدية التقليدية وأن ندخل إليه من منطقة جمالية جديدة ، تعتمد تدريب الحواس وتثقيف الفهم على استيعاب التشتت والتداخل والتشظي والتناقض ، استيعاب الفوضى الفلسفية بتقنياتها المتعددة وأشكالها المختلفة، استيعاب القطع والانتقالات المباغتة.
فعند تلقي قصيدة من ديوان " كأنني أريد " تظل عيناك تقرأ سطراً وراء الآخر ، جملة تلو الأخرى ، تراكيب فنية لغوية تشكِّل مع الصور المجازية والمشاهد المتنوعة وحدات جمالية مبدعة ، بكر ، غير نسقية ، دون أن تتضح طبيعة العلاقات بين هذه التكوينات ، فتعاود القراءة لمرات وتظل تبحث عَلَّكَ تعثر على جزئية صغيرة تلتقط منها مفتاحاً أو شفرة أو معنى تتعامل من خلاله مع هذا النص ، الذي هو بطبيعة الحال أُبدع من أجل أن يقول شيئاً أو أن يترك أثراً.
يظل العقل بحاجة أن يفهم ، والمتلقي بحاجة أن تترك له القصيدة أثراً ما ، لكن الشاعرة لن تهبَ لقارئها ذلك مجانياً ، بل بعد معاناة ومشاركة في فعل الإبداع ذاته ، فهي منذ البداية ومع هذا العنوان الذي يضعنا في منطقة غائمة " كأنني أريد " تدخلنا عالماً تعرف أنها تصنعه ، كأنها تريده أو كأنه يُفترض أنه تريده ، أو هي لاتعلم أهي تريد أو لاتريد ؟ وبافتراض أنها تريد فماهو قولها ؟ وعلى أي شاكلة سيكون فعل إبداعها؟
أتصور أن الديوان بمجمل قصائده يعبر عن هذه المنطقة الضبابية الملتبسة التي تنتاب الأشخاص فلا يعرفون إرادتهم ، وتصبح كل إرادتهم كأنهم يريدون ، أو بافتراض أنهم يريدون ، فأصحاب الإرادات الحرة الواثقة لا يهومون ولا يفترضون ولا يضعون عوالم بديلة في كل آن ، حتى وإن اختلف الناس حول إرادتهم.

(1) طبعة دار شرقيات للنشر والتوزيع ، القاهرة الأولى ،2005م.
إن الإنسان المقذوف به في هذا العالم المعاصر – وخاصة الأنثى في هذا المجتمع الذكوري – لا يتبين إرادته، فلا حقيقة ولا يقين ولا ثبات لذا تقع مكونات إبداعه ( لغته ، تراكيبه ،خياله ، صوره، التشكيلات البنائية ،.....إلخ) تقع في هذه المناطق البينية الملتبسة ، في هذا الغموض الوجودي.
فحين تتعقد الرؤية والرؤيا معاً في وجدان الشاعرة ، ويتشتت الواقع وتتداخل الموجودات في ذهنها تخرج التشكيلات الفنية متوافقة مع هذا التشتت والتعقد والتداخل وتبدو في حالة من الفوضى التي تعبر عن عالم فوضوي ويحتاج النص معها إلى إعادة ترتيب ومشاركة في الإبداع من التلقي.
ويبدو المبدع في موقع الذي يمتلك مساحة ليلهو ويجرب في النص ، ليرى من بعيد ، فهو كأنه يريد ، ولذا تظهر سمات من قبيل التحدث عن فعل الإبداع في الإبداع ذاته ، أو علاقة اللغة بالعالم أو الفجوات التي تترك في النص لتستكمل في التلقي.
إن افتراض الإرادة في هذا الديوان يشي بإشكال هذا النص ، فكل ما في النص كأن مبدعته أرادت أن تشكل نصاً ملتبساً، حتى أنني بعد القراءات الأولى وجدتني أدون في ملاحظاتي " هذا النص يبوح بنصفه أو أقل "، أو" هذا النص النصف مبهم" ولذا استطيع أن أزعم أن بنية النص في ديوان " كأنني أريد " لغادة نبيل متسقة مع طبيعة تجربة الشاعرة وما تريد أن تعبر عنه ، فالإنسان في المحصلة كيان لغوي ينتاب إبداعه ما ينتاب وجوده والوجود من حوله من تمزق أو غموض أو شتات ، فثمة علاقة حميمة بين تكوين الفنان الوجداني وبنيته الفكرية والتخيلية وبين شكل إبداعه وبنيته المتكاملة من عناصرها المختلفة.
قد يتصور القارئ أن عدم تيقن الإرادة قد يصيب النص بالفقر والجفاف بل على العكس ، يفتحه على عالم واسع من الاحتمالات والبدائل والتأويلات النقدية اللانهائية ، لكنه يتركنا ونحن نعاني من حالة من التشظي ، عالم من التصورات والتعقيدات وهذا ما يدعو القارئ إلى عدم استخدام وعيه فقط في استقبال النص ، بل عليه أن يستخدم خياله وقدرته على إعادة بناء النص أو ترتيبه وتركيب عناصره على نحو خاص ، مما يدفع بالناقد والمتلقي إلى مغادرة كهوف الاستقبال المريحة في تلقي العمل الشعري.
وتتصادم عنوانات القصائد مع عنوان الديوان في صنع هذه الحالة المتأرجحة ، والعنوانات في معظم القصائد ليست جزءاً مستقطعاً منها ،لكنها تمثل معنىً شاملاً معبراً عن مجمل التجربة في الفقصيدة ، وهذا ليس تقليداً جديداً اختصت به الشاعرة ، بأنه يترك التباساً ويدعو إلى التساؤل ويفتح باب الافتراضات في كل قصيدة ولا يأتي ترفاً، أو شغل حيزٍ يجب أن يشغل بقدر ما يوظف بنائياًلصنع غموض شفيف أو تفصيل إيضاح ما ، مثل قصيدة " قلبك بلون العنب" (ص67)، " مكافأة الميدان" (ص77) ، " تمثيلية السهرة" (ص23) ، وغيرها .
وتنطلق غادة نبيل في نص " كأنني أريد " من معيار التجريب وليس تجريب المعيار ، فهي تناوش اللانسق على مستويات متعددة فالقصيدة عندها تتكون من مشاهد متتالية ، والمشهد الشعري في قصيدة ما بعد الحداثة هو التحول الذي طرأ على الشعرية التقليدية ، وهو نتاج المخيلة والحسّ عن الشاعر الرائي الذي يعتمد على الحدس الحسى والبصري المتأسس على الانطباع المباشرة تجاه الأشياء ، ولذا سادت الصورةُ الكلية ، وتراجعت الصور الجزئية ، لما ساد السرد الذي تمثله اللغة ومستوياتها المتعددة . والمشهد الشعري يتسم بالاضطراد والاكتمال وهو مالا يتحقق إلاَّ عند الوصول إلى الكلمة الأخيرة من المقطع في القصيدة أو القصيدة كلها ، وهي عادة ما تعبر عن مفارقة ساخرة والعلاقات الفنية في مشهد ما بعد الحداثة تنزع إلى الصدام ، والاختلاف والتداخل ، بين التقليد الحي والرؤية البصرية للعلاقات التي بين الأشياء ، وسنرى مصداقاً لذلك قصيدة " حُدوة على القلب " فهي تصنع مشاهد شعرية مؤلفة من مزيج من الحقيقة والمجاز ، لا تتعامل مع الشعرية كشأن معظم شعراء ما بعد الحداثة الذين يتعمدون تعطيل المجاز ويتصورون أن لغة الحقيقة باتت هي الأقدر على الشعرية ، الشاعرة تعتمد في إبداعها على تقنية المشهد الذي يضفر في تشكيله بين الحقيقة والمجاز ، لكنها في استخدامها للمجاز تتخير المبتكر ، الخارج على قواعد التعليب والحفظ والتداول ، تقول مثلاً:-
" مع كل صباح / اخطف كلمتك المفضلة / " القدَرَ" / وأطعمها النمل " (ص27) " تصنع الشاعرة مشهداً يتوافر فيه عنصرا المكان والزمان ، ومع الكيان البشري، والحدث ، ويبدو المشهد واقعياً حقيقياً إلى أن تمزجه بشخصنة المجردات" القدَرَ" لتجعله كلمة تمسك ثم يطعم بها النمل ، هذا المزج بين المشهد الحقيقي وضفره بالمجازي وتجسيد التجريدي يمنح النص أبعاداً عميقة ويترك انطباعاً بنكهة فنية جديدة لدى المتلقي. وتؤلف الشاعرة بين كثير من المتباعدات وهي تخلق عالمها المجازي ، كما أنها تصَّنع علاقات بين الأشياء لا توجد سوى في خيالها لتعبر عن تجربتها الخاصة ، عبر تكوين ذهني مصمم بعناية لكي يخلق هذه الحالة البينية الضبابية لذاتٍ تبوح.وليست قضيتها الرئيسية أنها مرت بعلاقة حب مضطربة ، أجهضت مع الأيام ، بقدر ما تمثلت القضية في البحث عن تواصل وتلاق متكافئ ، عن بكارة مشاعر وأحاسيس حلمت أن تعيش فيها فتكشفت لها الأيام عن صعوبة تحقيق ذلك.
وتضفي " غادة نبيل" على اللغة حيوات جديدة يختلط فيها العيانى بالمجرد ، مستخدمة لحركية إبداعية تمتزج فيها الثقافة الغربية بالعربية ، فلدراستها للأدب الإنجليزي الحديث ولثقافتها العربية بحكم النشأة والتكوين أثر في مزج مفهومين للخيال : الخيال الفطري بمكوناته البدائية ، ذلك الذي لا يشوبه شيء من الموضوعية أو العلمية لكنه يكوِّن واقعاً فنيا سحرياً ، وذاك غير المنضبط وهو الخيال المنطلق الجامح . نفس هذا الانطلاق والجموح نستطيع أن نلمسه في الحضارة والثقافة الغربية لكن بمعايير أخرى فهو خيال فكري متراكب ، مرتبط بالعلم والحضارة والفلسفات المختلفة ، ثراؤه في العلاقات المتداخلة والمتغايرة المتلاحقة ، هذا الجمع الثقافي الفني يجعل إبداعها يتميز بالعمق والتوغل في الأحاسيس ، وربط المتباعدات في حيوات مبتكرة فهي تقول في قصيدة " بالصَّفار وحدَه ": " أنا التي ستزور قبرك / وتكسر الشاهد / سألبسك غياراً جديداً / أسرح دود القز بعيداً/ لتخرج نظيفاً من الأسماء كلِّها" (84.83) .
إن طبيعة العلاقات في هذا المشهد الشعري – بين الصور المجازية لاتتضح بصورة محددة ، فقد يتساءل القارئ كيف ستلبسه غياراً جديداً ، ولِمَ أماتته ودفنته؟ ثم لِمَ ستخرجه وتلبسه لباساً جديداً ؟ وكيف ستسرح دود القزَّ بعيداً ، أهي تعيد خلقه دون شوائبه التي كان عليها ، ولمّ دود القز؟ وهو ما يصنع خيوط الحرير ، وما الأسماء كلها التي سيخرج منها نظيفاً أهي خطاياه من وجهة نظرها ، كلها أسئلة مربكة لا تحتمل سوى التأويل وهي في ذات الوقت معبرة عن علاقات مربكة ، لا يعرف المبدع حقيقة موقفه منها بصورة محددة .
لقد أضحى المشهد الشعري بديلاً عن الصورة الشعرية في شكلها التقليدي ، بل هو الحاوي لمجموعة من صور شعرية متناثرة إحداها مع الأخرى في ديوان " غادة نبيل" ، المَشَاهِد في هذه القصائد تشكل بطريقة المزج بين الحقيقي والمتخيل مبرهنة على قدرة الشاعرة على تحمل الغموض واحتواء التناقض واستيعاب المتجاوزات في اللقطات أو اللفتات المختلفة ، تلك اللقطات التي تشكل بدائل معقدة للصورة الشعرية المعروف أطرافها سلفاً حتى المتراكب منها ، والتعبر عن عالم انهارت فيه كل الحكايات الكبرى " كما يقول " ليوتار" وتعقدت فيه العلاقات بين البشر ، وانبهمت إرادة الإنسان نفسها أو تعددت ، تقول الشاعرة في قصيدة " بالصفار وحده" :" معي سلة يمكن أن تأكلها / وأن تضع فيها البيض / أدخر واحدة لك / بالصفار وحده / لأنها الفاتحة / لفم تمساح مخبوز/ الملح سأوفره أنا / الملح التفاتة المرأة / تسقط أوراق الشجر / لتمتحن واحدة قدراتها على الانزلاق / وتمتحن أخرى / قدراتها على تحمل أقــدام العابرين " ( ص83.82) . هل السلة يمكن أن تؤكل؟ وتقدم الشاعرة للسلة خياراً آخر فيمكنه أن يصنع بها بعض البيض ، وهناك بيض في عالم " غادة نبيل " بالصفار وحده ، هنيئاً لها على قدرتها في الخلق الخيالي ، هذه البيضة المميزة هي المغرية لأن يفتح التمساح المخبوز فاه " ولنا أن نلاحظ إضافة صفة المخبوز هذه . هذا المشهد يحمل بتكوينه الغرائبي مجموعة – على ما أتصور – من الرموز فالذات الساردة هي السلة أو هي هذه البيضة بالصفار وحده وهذه كناية على غناها الإنساني من الجوانب كافة ، والتمساح المخبوز هو هذا الرجل الذي تصلبت صورته وتكوينه على فعل الالتهام والأخذ للمميز من الأشياء، وتستكمل الشاعرة مواصفات الوجبة الشهية ، فتقدم له الملح الذي هو دلال المرأة وألتفاتتها.
فمفردات المشهد هنا رمزية ويكنى بمجمله عن معنى تريده الشاعرة أن يصل إلى قارئها ، الذي عليه أن يبذل جهداً لضم هذه المتباعدات وتفسيرها . ثم تنتقل الشاعرة انتقالة تبدو غريبة للقارئ المتسرع فتتحدث عن أنواع أوراق الشجر التي هي في ظني أنواع من النساء أو من الإنسان فتقول أن هناك نوعا يمتحن قدرته على الانزلاق فتعيش التجارب من خارجها وتتفادى ما يسىء لها وتواجهه بالابتعاد وأخرى تتحمل أقدام العابرين فتنتهك .
وأتصور أن هذه الانتقالة تعضيدية وتوضيحية للفقرة السابقة لها.
وتمزج الشاعرة في مشاهدها بين الرومانسية والواقع الغليظ جنباً إلى جنب ، فالذات التي تبوح ، تحمل حساً رومانسياً مرهفاً والواقع الحياتي يفرض مرارات متعددة تقع على الإنسان .
تقول في قصيدة "قلبك بلون العنب":
" السلالم / لو نصعدها / تبدأ الورود المطبوعة في الفساتين / رحلة الطيران / و يصعد قلب فارغ / على قلب آخر فارغ / مطابق له في المقاس / ونحن نراقب العالم في الصعود / من رمز الحب / من نعل الصندل / النهار الرائب / هل تأخذه أيضاً؟" ( ص69).
لقد عبرت الشاعرة عن الأيام وصعودها في الحياة بالسلالم ، وفي رحلة الصعود تبدأ الأحلام وأمنيات الحب والتواصل " الورود " في الفساتين في رحلة من الطيران فتذهب الواحدة تلو الأخرى.
وفي علاقة ديالكتيكية ساخرة جامعة بين رمز الحب الذي يمثل السمو والتعالي ونعل الصندل الذي يدلل على الدنو والضعة ، تراقب الشاعرة هذا العالم ، ثم تعقب على هذا بتساؤل توجهه لهذا المخاطب : "النهار الرائب / هل تأخذه أيضاً؟" فهي تشير إلى أنانية الرجل واستحواذه حتى على ما فقد الصلاحية وتخثر.
وتتحطم في نص " غادة نبيل" صنمية اللغة وأشكال التصوير المعهودة للمواقف المختلفة ، وهي شأن مبدعي ما بعد الحداثة – يحلو لها القضاء على ثبات الدلالات المعتادة وتنطلق لتجريب وصياغة تراكيب على غير مثال ، وبغرائبية ، حتى وإن اتهمت بالغموض ، فالنص لم يعد يتبنى دلالة مسبقة ، بل أصبح علاقة أو أثراً يوحي ويومئ بحالة من الحالات التي تعتري الذات أو إحدى الذوات المشكلة لإنسان الواحد، ولهذا تتعدد حالات الكتابة وأشكالها ومشاهدها بتكويناتها المتغايرة لتكشف عن التوتر والتأرجح، كما الوجود ذاته.
تقول " غادة نبيل " في قصيدة " ابتذال":
" أتخيل عصارتي الشمس تجففها / أجن ببطء / بوبر الذكريات / بألياف الخشب التي نعمها البحر / ومنحها ليديك / تشدها وتحملني / طافية على جذعك/ طائران مرفوعان في الهواء / صليب " (ص65.64) تبدو العلاقات وأشكال التصوير هذا المقطع مبتكرة وموحية وطازجة النكهة في الشكل والمدلول.
- وتنطلق الشاعرة عن الاختلاف في الرؤى في طبيعة الشعرية الخاصة بنصوصها فهي تقول في قصيدة "السلة ": " كل واحدة / تحدق في عين عزرائيل/ العملاقة الجميلة المخيفة / طوال الليل / تحدق / ماذا نري في عينيه / غير الكائن الأكثر وحدة منا والذي تزداد وحدته / مع كل روح يأخذها" (ص75).
فالأنثى في النص لاتجد في عين عزرائيل هذا الملاك المخيف سوى الوحدة التي يعاني منها ، فهن يرونه كائناً أكثر وحدة تزداد وحدته مع كل روح يأخذها فهي جدلية الحياة والموت ، والرؤى من منطلقات أخرى غير المعتادة عليها، هذا المعنى الفلسفي العميق تنقله غادة في مشهد شعري تصويري متخيل ، وهي لم تستخدم استعارات وتشبيهات منفصلة ، بل هو مشهد محكى عن طريق التكوينات الخيالية التي تجسد المجردات الفلسفية الوجودية.
فالشاعرة في قصيدة " حُدوة على القلب " تقول عن الصمت :" لماذا لست بلورة / أنا أسمع الصمت / الصمت له صوت / أثناء صمتك / عاد الثوار إلى منازلهم / تناولوا عشاء ثقيلاً مع زوجاتهم /...إلى أن تهجرنا الرسومات / إلى أن يَدر العصفور لبناً / إلى أن أضع العالم فوق صينية / وأضربها بأقصى قوتي / إلى أعلى / أنت صامت إلى أن أحب مرة ثانية / أنت صامت "(ص29).
فحين تقول الشخصية التي تبوح بالنص أن للصمت صوتاً فتلك مشاعرها ، فهي تسمع صمت رجلها أصواتاً ، وللمتلقي أن يسمع معها تلك الذبذبات الصوتية القاتلة لهذا الحب ، عليه أن يذهب معها لتلك المقارنات بين الثوار وحياتهم وسط زوجاتهم وأولادهم ، وذلك الرجل الذي يبدو نطقه أبعد من المستحيلات ذاتها ، فلن تهجرنا الرسومات ، ولن يدر العصفور لبناً ، ولن يستطيع إنسان أن يضع العالم فوق صينية وأن يضربها بأقصى قوته فلن يستطيع أحد ولا شيء قادر على أن يخرجه عن صمته ، حتى تدفع هي إلى أن تحب مرة أخرى.
وتتعامل الشاعرة في هذا النص كما في نصوص أخرى مع خريطة واسعة من التقنيات الفنية المختلفة لتيار ما بعد الحداثة ، ويأتي تعاملها واعياُ متمكناً من الأدوات الشعرية التي تثرى العمل ، فهي توظف التعبيرات والأمثال الشعبية المتداولة مثل " يدر العصفور لبناً " " أضع العالم فوق صينية وأضربها بأقصى قوتي "، من منطلق أن الزج بهذه التعبيرات يمنح حيوية اليومى والمعيش للنص ، كما يقوم رؤية مختلفة للواقع والإنسان والعالم ، ويؤمن مبدعو تيار ما بعد الحداثة بالقوة التعبيرية الكامنة في اليومى والعادي ، فتقول في قصيدة " بالصفار وحده " :" أخاف الآن / من كل الأماكن ، الأطعمة ، لافتات الأسماء/ من الشرر الطائر/ حول حبوب الذرة / ومن الظلال / تكبر على الحيطان " (ص79). ذلك لإظهار بعد جديد من أبعاد الواقع ، فهي بجانب الحس المتأنق في التناول الشعري ، لا تأنف من هذه الاستعمالات اللغوية المتداولة.
- وبرغم أن التجربة في النص تجربة ذاتية إلا أنها تمتاز بالمرونة الجاذبة للتنوع ، فالقصيدة دينامية ، متعددة الوسائط والحواس فهي تقول في قصيدة "تمثيلية السهرة ": " يلزمني فلكي مخدوع / يعرف خطايا اللون ، فلكي أخرس / لا تلوث قمصانه السود / أقلام بيضاء / لتَعْلُ المقارنات / كلما غفت / تفيق بين صبار/ وكلما يدميها تغفو/ كل أول ليس لها / لا السهرة ولا الفيلم ولا الرحلة /...فلتعل المقارنات / ربما يهبط جسدى على روحه / ويقتنع بعدم جدوى الفرار / من خنازير الحقل ".(ص24.23).
فالشاعرة تعلن عن رغبتها في فلكي مخدوع ، لتفتح عالم النص على عالم الفلك والتنجيم والسحر ثم تقرن ذلك بالعالم الألوان ، وتنسب للون خطايا ، وقد يتساءل القارئ لمَ تريد الفلكي أخرس ، ولمَ لا ترغب في أن تلون قمصانه السود أقلام بيضاء؟ أباستطاعة الناقد المتصدي لتوصيف هذه القصيدة أن يعطي المتلقي شرحاً أو تحليلاً نهائياً غير مغلق؟ الإجابة حتماً : لا، فليس هذا هدف الناقد لتيار الحداثة وما بعدها فهو يدرك أن معاني النص تومئ وتشير إلى معنى ، لكنها لا تهدف إلى معنى معين ، فالنص يبقى مفتوحاً، وفي حالة التشكل الدائم عند كل قراءة جديدة ، ويعد النص نصاً افتراضياً ليس له وجود مادي محدد ومنتهى،بل هو متعدد من خلال تعدد التأويلات.
ولما كانت تجربة الشاعرة الفكرية والوجدانية والوجودية على هذا النحو من التشظي والتخبط والضبابية ، امتلكت حق ضبابية التعبير ، بالطرق المتشابكة والمتداخلة ، بمهارة التجريب الذي لا يعد ترفاً قدر ماهو اختبار وتجاوز للسائد والمتداول ، وانطلاقاً من تطابق الموقف والتشكيل ، واحتفاءً بأن الشكل هو الحامل للطُّقُسِ الفكرية والوجدانية في النص ، تستخدم الشاعرة السرد المقطوع أو المبتور لتصنع مشاهدها ،ويتضح ذلك في معظم مشاهد الديوان . تقول في قصيدة " طبيعة صامتة" : " الغداء الأخير/ وأنا أحقن وجهي بما يرضيك / وأنتفخ / إلى حد عدم الإبصار/ أنت/ بهذا العطف الذي نلبس له الجلاليب / بخيوط تخلو من المعرفة / أثناء قراءة شخص / كتاباً ما / لو كنت آسيوية/ كنت سأمنح حبة بطاطا/ لآخر طائر من يدي/ وأنا واقفة مفتوحة العينين/ أنظر للأسئلة التي تعوم / في الكف/ ملء كف الوحدة / تعطيني كيس الجميز الذي لا أعرف شكله / أغمض عيني ، أتحسس / وأهتف تين".(ص10).
فحين تشى تجربة الذات الساردة بتلك التصدعات ، يكون لزاماً أن ينبنى النص متصدعاً ، فهي تتحدث عن توقعات وأحلام تنتهي بخيبة الأمل ، تتحدث عن بذل عطاء من جهة الأنثى لا يقابل بمثيله من جهة الذكر ، أوبالأحرى عن رجل يمنح ما يستطيع لكنه لا يرتفع إلى ما تريده هي، فيتركها وحيدة تبحث عن الرقة في الوجوه.
ويبدو الشكل البنائي للقصيدة مفتقداً للترابط المباشر أو الواضح ، فهو لايخضع لنظام الجملة العادية ، بل لمقتضيات "الجملة الشعرية" ، التي يجوز لها أن يتأخر خبرها لاثنى عشر سطراً شعرياً، ففي قولها وأنا أحقن وجهي بما يرضيك حتى تصل إلىَّ أنظر للأسئلة التي تعوم في الكف ، اثنا عشر سطراً تسرد فيها الشاعرة السياقات التفصيلية لفعل حركة ذاتية تخص شخصية النص ، ثم تدخل كياناً آخر ذلك الذي يمثل طرف الصراع ويخلق درامية النص ، ولتصنع الشاعرة ذلك أحدثت قطعاً بهذه الاثنى عشر سطراً لتقول :" أنت / بهذا العطف ..." ليمر اثنا عشر سطراً شعرياً ونحن نبحث عن خبر " أنت" حتى نجده في قولها :" تعطيني كيس الجميز الذي....."
هذه التفاصيل التي تفصل بين المبتدأ والخبر من شأنها أن تصنع صنيعين فهي أولاً توجد مسافة بنائية متسعة تتسق مع المسافة الحادثة بين بطلي النص ، كما توظفها الشاعرة لسرد التفصيلات الحكائية ، معتمدة على فعل حركة ذاتية وفعل حركة طرف الصراع " الرجل" .
لايخلو المشهد بطبيعة الحال من عناصر الشعرية الحداثية وما بعدها المختلفة مثل التناص في الغداء الأخير" ، ( العشاء الأخير ) ، المجاز التصويري أو الكنائي ، الرمز وغيرها .
وتقول الشاعرة في قصيدة " كروكي بالطبشور" :" عندما ينفذ سن الفيل من قلبك / ستقول لنفسك : إنه العاج/ سوف تذكر الصيادين/ وهم يوجهون سناراتهم / إلى الكرة الحمراء في الماء/ بدلاً من الشمس/....قول أمي :/ " من يصدق أن القلاع بنيت/ ليتسلقها العشاق/ على ضفائر محبوباتهم /أن التنهُّد ليس زفرة مواشٍ، وتنسى البطاطين الجديدة / التي حملتها لي / بعيداً عن الأهل والبواب / أهش الفرصة الوحيدة / لطلبك أن تراني / نائمة / كنت معهم / رواة الأحاديث ، مبيض النحاس من القسوة / كنت معهم / الذين ليسو مثلي والذين يخلطون / بين حبة العنب / والحلمة / الثنائي/ يشكل دائرة موهومة / مركزها ثقب / يكفي لتمرير عود ثقاب / قد نتخيل أنه شجــــــــــــرة / أو بركان" (ص47-49) .
تدعو قصيدة النثر ما بعد الحداثية المتلقي إلى كشف الأعماق ، عبر اختبار حالات من الملاحظة والتأمل ، عبر تكثيف من المفردات المتنوعة ، الذي يختلط فيها العياني الحقيقي بالمجرد المجازي ، فتقوم صياغة الشاعرة الإبداعية بترتيبها بالقدر الممكن لروايتها ، لكنَّ الملاحظ أن هناك علاقة متبادلة بين أشكال الأدب والسمات الثقافية والروحية السائدة ،فالشعر أصبح كالموسيقى التي لا ترتكز إلى معان جاهزة بقدر ماتثير في المتلقي خبرة خاصة خاضعة لمنطق داخلي في العمل الفني ذاته.
إن تقنية السرد في هذه القصيدة غير خاضعة سوى لمنطق الموسيقى القابلة للقطع المتوالي المعبر عن منطق شامل للعمل الفني ، فهي تفكك بنيتها بين الحين والآخر من أجل الانتقال من محور أو شخصية إلى أخرى ، أو من أجل التعميق النفسي لبعض المحاور ، والسرد ههنا عامر بالحكي عنه ،عن أمها ، عنها، عن رواة الأحاديث مبيض النحاس ، عن رؤى فلسفية.... وهكذا.
وتبدو العلاقات في النص بعيدة ،ويجهد المتلقي ليبحث عن معان تسد هذه الفجوات ليصل إلى عقله أو مشاعره معنى متسق أو انطباع موفور ومن النص نستشعر أن هناك مرواغة أو مسافة أو تغطية على الحقيقة أو الهدف الأصيل والجوهري " سن الفيل إنه العاج "و يوجهون سناراتهم إلى الكرة الحمراء في الماء بدلاً من الشمس "، في النص تبدو المفارقة بين ذات الشاعرة ومن حولها وأفكارهم أن تظللها القسوة وعدم التلاقي ، بل الانفصال وشعور كل طرف بالوحدة والغربة عمن حوله.
تبدو الشاعرة في بعض قصائد هذا الديوان كالساحرة أو العرافة ، فهناك شبه طُقُسٍ سحرية يظلل بعض القصائد مثل نص" كُرويةُ الأرض".
فالشاعرة فيه تحشد لنصها طقوسية السحر فتقول :" ذابت الشهوة في عين الكلب فصارت حمراء ،ذاب الأزرقان : البحر والسماء . صارا سوادا ، ولما صحا الناس من أحلامهم بدأ صانعو الزجاج المخضوضر الردىء يكفون عن النفخ وبقى كتابان لم ينهما المقرئ. صار فظاً بعد القناطر وسرق مسماراً من مسامير قلعة البحر ظل يحفر به طبقات من عصور جيولوجية حتى رآها ، هيكل المرأة التي كانت تستكمل صناعة تابوتها الفضى وخفُ أمها في الرمل . على جفنها وقف طائر عاتبته عندما رفت ثم بيد واحدة بدأت تعيد تركيب الأزميل الذي أفرغه الجدار من رغبة الضرب " (ص19).
توفر الشاعرة لنصها تعاويذ السحرة ، وأحجبتهم وتراتيلهم حتى موسيقاهم فهي تربط بين متباعدات ، في مشهد مفرداته لا تحتمل سوى سحرية التكوين وتذوب الشهوة بعين الكلب وتخلق لوناً أحمر ويذوب الأزرقان البحر والسماء ليصيرا سواداً ، ثم يصحو الناس ، فيكف صانعو الزجاج الأخضر عن النفخ ويبقى للمقرئ كتابان لم يتمهما ، وتستمر الشاعرة في توليف مشعوذ لتصف المقرئ أو شخصاً آخر بسرقته لمسمار من قلعة البحر ليحفر به طبقات العصور حتى يرى هيكل امرأة تصنع تابوتاً وعلى جفنها يقف طائر وهكذا.
هذه العلاقات التي لا تنطلق من منطق يقبله العقل ، لاتخضع سوى لطقوسية السحر وهي تستخدم نفس مفرداته وعوالمه ، عين الكلب ، الكتب المقدسة، اللعب مع الأزمنة ، هيكل المرأة ، التابوت الفضي ، خف الأم على الرمل الطائر الذي يقف على الجفن ، الأزميل ...إلخ، اللعب بالألوان في مزيج متداخل ، الموسيقى الخاصة تصنع الشاعرة هذا الجو السحري لأن القصيدة ذاتها- فيما أرى- تحكي عن علاقة حسية غير مكتملة بين رجل وامرأة ، لا تحقق بالفعل فهي تقول بعد أن تصف مفردات محاولة أن تتم علاقة حب " عندما يكتمل التحميض لا يظهر لهما أثر" (ص20).
وتتعامل المبدعة مع الشعر بصفته روحاً ، وما اللغة والتراكيب لديها إلاَّ وسيلة لإيصال هذه الروح ، فالشعر في هذا النص ليس قواعد لغوية أو منطقية وليس مفردات خارجة من المعاجم ، بل مفردات تتخلق في طقس سحرية خاصة ، إتكاءً على أن الواقع الإنساني به جوانب لا تخلو من السحر وتعني بتقديم الموروثات الشعبية المختلفة التي تفسر بها الحياة ، هذا الموروث المستمد من أساطيرالواقع وآلياته السحرية، وفيها تركز الشاعرة على إبراز اللامرئي الذي يؤثر في سلوك الفرد والجماعة ، ويحدد طبيعة العلاقة التي تشبه الحبل السري الذي يربط الفرد بجماعته البشرية وهي تحلل المخزون النفسي للإنسان وحالاته المختلفة حتى لو كان التناثر أو الجنون ذاته هي الحالات الخاصة التي يتعايش فيها مع هذا العالم المجنون .
وتقول الشاعرة في قصيدة " كروكي بالطبشور" :" ولا أصدق / أن هناك ساحرة/ يمكن أن تمنحني مقشتها / لأطير / وأصدق أمن طواويس الوقت / خنثى / تهز خدماتها على مراوح الذيول / أما الأن / فلي رغبة / أن تخصب بآخر نقطة منيّ/ لآخر الذكور على الكوكب / مساحة فسيلة / لي رغبة /أن ترقد كل الكتب / في قاع البحار / ويأكل السمك الصامت / الحروف كلها" (ص55.54).
إن هذه الطقس والمفردات السحرية تعد من أشكال اللعب والتجريب التي قد تحرر الروح الإنساني من جوهر وأشكال الحالة المتناهية ، أو أنها تعبر عن هذا العالم الفوضوي في علاقاته التي تصاب بالتكلس والنكوص لانغلاق كل شخص على عوالمه الخاصة ورؤاه وتوقعاته من الآخرين ، كما تستخدم الشاعرة مفردات وكائنات الحكي الخرافية في سردها و تكوينها للمشاهد وهذا ما يكثف هذا الطقس الذي أتحدث عنه ، لك في قولها في قصيدة "أسمنت أبيض " :" مثل عصفور/ يطير بساق واحدة/ قانعاً بتأمين الأجنحة / أتألم كغولة / موهوبة في الألم " (ص3) وتوظف الشاعرة الموروث االحكائي الخرافي ، ولا تتواني تضفر في نصها حتى الطقوس الوثنية الموروثة مثل أن تقول " أصلي/ لكل مالم تفعله معي لفكرة أني استطيع أن أظل أمشي / في البحر / ولا أتوقف عندما لا أشعر بالأرض / تحت قدمي / لحبنا صافياً صافياً / وكان يشتهي كأيقونة / أمامها قرابين زبيب / ومذبح / وأمامها وقت "(ص45.44).
إن معيار التجريب الذي تنتهجه ، الشاعرة يأخذ أشكالاً متعددة ففي قصيدة " الدَّنَس " لاتتعامل مع الفصل والوصل ، وعلامات الترقيم ، لكن الملاحظ اندياحات إنسانية كثيرة ، عن علاقات لا تحظى بأي نوع من الثبات أو التحدد، عن نوع من الرجال المرضى فهي تقول :" لكن الأمان محزن طالما لم يعلمنا أحد كيف نقود طوافة حتى لو كنتم لا تشبهون الرجل الذي يقضي نصف اليوم ناظراً إلى نفسه في المرأة والرجل الذي كان يعذب القطط وهو صغير والرجل الذي أعجبته مقولتي " كل أرض لها سماء وليس كل سماء تحتها أرض " (ص58).
أنها تتحدث عن نماذج بشرية لا موقف لها تتغير وتتبدل دون إيمان بقيمة أو وعي بكنة الإنسانية أو الإنسان ولذا فهي كما تلغي علامات الترقيم ، تلغي منطقية العلاقات بين تكويناتها اللغوية ، وصورها المجازية ، ولا نعرف العلاقة بين السابق واللاحق فهي تقول :" من السلم إلي الباب إلى النافذة ينشق الهواء كجلد حصان يريد أن يجري إلى بجع جديد تستهويه النسور والدببة التي تهتك عفونات الأزمان تتمدد الأكاذيب تتمدد في دكات تغير آلياته" (ص57).
من معيار التجريب ذاته في قصيدة " بالصفار وحده " ترسم الشاعرة بوصفها قيمة تشكيلية وبصرية وهذا المأخذ تردد في الآونة الأخيرة عند الحديث عن الشعرية البصرية التي يتغير فيها شكل الكلمات والطباعة وترتيب الكلمات في السطر والصفحة. وكأنها تضيف للغة هنا مستوى تشكيليا بصريا إلى مستوياتها المختلفة فيصنع المبدع الديوان اللوحة إلى جانب الديوان المألوف ، والشاعرة هنا تصنع في مقطع من القصيدة شكل كأس مقلوب وهو عادة ما يرمز إلى الأنثى حين تقول :
من قال للكلام كن
فكان
هذا هو أنت
ياجامع قُفف المحار المكسور
خذ محارة أخرى ياخزاف
اكســـــــــرنا
خذ دورك
كالغراب الأول
أو ارى سوءة أخي
من حب هو بهجة نفسه
لوكان من نحب ليس مبهجاً
هذا هو أنت
مازالت تعشق البلح
الذي أطال اغتصابك (ص81).
لقد أضحى النص الشعري عملاً معقداً يحمل مستويات استاتيكية متراكبة فالشاعرة لا تصنع هذا الرسم الرمزي عبثاً على ما أعتقد إنما يرجع إلى إشارة تريد أن تلفت إليها في سياق النص الشعري وتضيف بعداً جديداً إلى أبعاد النص فالقصيدة تتحدث عن هشاشة الوجود الأنثوي في هذا العالم مكونة مجالات تساؤل وريبة مستمرة ، تتحدث عن الكيان الأنثوي الخائف دائماً والمنتهك في ذاته أو فيما يحيط به .
ويأتي المقطع الذي ترسمه الشاعرة على شكل كأس مقلوب لتتحدث فيه عن جامع محار مكسور " رجل " تدعوه أن يأخذ محارة أخرى " هي" ثم يكسرهم ثم تتحدث عن حب كالسوءة وفيها ترمز لوضع المرأة في هذا المجتمع في نظر الرجل".
- ويشي المحتوى الدلالي لمجموع نصوص " كأنني أريد " بألم وكبرياء الذات الأنثوية المجهضة تحت ثقل تجربة حياة لم تتحقق ، بل أصيبت فيها الذات بجروح الخيانة ، وتهادي ما تصورته أحلاماً كبيرة وتكشفها عن خواء أو مغايرة بين طرفي الصراع ، فالذات الساردة تقول :" خرجت من البرتقالة ياحبيبي / دموية وشعري مغسول / لا يحزنني غير ما تؤمن به " ( ص64).
إن الاستغناء عن الرجل طرف الصراع في النص والذي تبدلت الأحلام فيه بأوهام استغناءً حتمياً ، فبالرغم من أن هناك آثار عاطفة دفينة تطل برأسها في لحظات حنين في ثنايا النص بمجمله ، إلا أن الألم هو الأثر الأقوي رسوخاً وفاعلية في النص ، حتى الذات وصلت إلى مرحلة التعايش معه واستعذابه ، فتقول في قصيدة " ثعالب محبوسة " :" يحين موعد أذاي / لا يجب أن أتأخر "(ص37) فهي قد دربت وتعايشت مع هذا العذاب وتقول الشاعرة في نص "كروية الأرض " :" أنا المتنطفة ذات النقص ، المتمايلة ذات البكارة، المتدانية ذات النأى، المتحامعة ذات الانطفاء،هي الليليون يعرفونها باسم والنهاريون يعرفونها باسم والسواحل أغرقت الاسم . اختاروا أسماءكم " (ص21).
إن القصيدة مابعد الحداثية ترصد لتحول الذات المبدعة من كيان واحد متسق إلى كيانات حوارية ، يمكن أن تتعايش في الإنسان الواحد ، فعل الكتابة هنا يجسد هذه الحالات المتاقضة ويكشف عن توتر هذه الذوات المعاصرة ، كما تشي هذه التناقضات بعدم الوضوح ويغلفها لالتباس فهي متنطفة ، أي أنها نطفة كائن حي صغير وهش ، مثلها مثل أي خلق يحمل نقصاًُ وعدم اكتمال ، هي أيضاً متمايلة تحمل معنى الأنوثة و إرادة الحياة والخصوبة لكنها ذات بكارة ، وهي قريبة لكنها بعيدة ، وهي من تجامع لكنها تنطفئ سريعاً.
وفي انتقالة فنية موظفة من الشاعرة تبدل ضمير" أنا" المتحدثة إلى" هي" داخل المشهد الشعري ، لتتحدث عن أخرى غائبة بداخل ذاتها الأخرى ، وتلوح بهذه الانقسامات والتعددات في الذات الواحدة فتقول :" هي الليليون يعرفونها باسم والنهاريون يعرفونها باسم " وعبر الذات المنقسمة إلى ضميرين تتخلق المساحة التى تتحرك فيها تنويعات البوح ، وفي كل السواحل وعندما تظهر أرض ما ، لا اسم لها ، فهي تحدثنا عن حالة من التشتت والضياع لها وللناس من حولها.
إن اللعب بالضمائر و فوضاها ، لعبة أو تقنية من الشاعرة لتنقلنا لهذا المناخ القابل للتناقضات على مستوى الذات وعلى مستوى الوجود وعلى قدر ما يتناسب هذا النص من رومانسية حالمة تريد أن تتخفى في شخصية الساردة على مستوى النص مكتملاً ينتابه أيضاً شعور الأنثى بالظلم بفقدان الثقة بالرجل ، فليس هناك رجل تثق به أو يستحقها أو تتـــــــلاقى معه في هذه الحياة فتقول لـــــه " لا يحزنني غـــــــير ما تؤمن به" (ص64)، وقولها أيضاً " فلتفعل المقارنات / ربما يهبط جسدي على روحه / ويقتنع بعدم جدوى الفرار / من خنازير الحقل "( ص24). لنا أن نلاحظ هنا اختيارها لدال " الهبوط" ثم صياغة تلك الصورة " عدم جدوى الفرار من خنازير الحقل " فكأن خطاياه وسقطاته هي الخنازير القذرة ، لكن يظل لديها هو الحقل .
وتقول الشاعرة في قصيدة " رأس جنكيز خان ":" هذه المرة / أنا وأنت / نعرف أني تركتك لها مع الحطب "(ص62).
وفي ذات القصيدة تقول :" مثل شمس / تكره أنها عرفت ما يستحق الكراهية / والزمن الذي يقولون / إنه على صواب / والذكريات / والإخلاص المتشنج / مثل شمس ترعى النعوش والرمل " (ص61).
والتجربة في هذا الديوان تجربة ذاتية تتوزع على القصائد مجتمعة حب وانفصال ، فروق جوهرية في فهم طبيعة الأشياء والقضايا ، اعتزاز الأنثى وتقديرها لذاتها ، كبرياء وكرامة قد جرحت أستتبعه وجوب انفصال ونأى برغم بقايا العواطف الضامرة ، ويتضح ذلك من قولها :" تعطيني كيس الجميز الذي لا أعرف شكله / أغمض عيني / أتحسس / وأهتف " تين / من أجل هذا يطفر وجهانا / بمغفرة الحرمان / بحرمان المغفرة " ( ص 10).
فالرجل عند " غادة نبيل " هو المعدن في قصيدة "السلة " حين تقول :
كلما أقتربن من المعدن
النصفن
بفعل أحشائهن الممغنطة ( ص73).
الرجل في " مكافأة الميدان " هو ناسى الوردة ، الوردة التي هي حب المرأة أو روحها مكنونها
فهي تقول :
ياداهن الورد
لا تنس الوردة
التي أعطتها فتاة لرجلٍ
فتركها عند شيخه
الذي وضعها في كتاب
فتحه ليقرأ منه
فضاعت منه الوردة (ص77).
كأنه الزمن أو القدر أو الداقع له أن يلون الورد بالأسود فهي دائماً مهملة أو مضيعة بفعل لرجل.
لقد حَسبته الشاعرة ميتاً في تجربتها حين تقول :
بحركة أكمام
يسمح الأحياء والموتى
عن ذاكرتهم
ويدخلون الحمام
هكذا برَدَت عظامي (ص67).
أو حين تسخر الشاعرة من محاولات العودة قائلة :
تجلس على السلم لكى تصالحني
تطلع من ساندوتش الدجاج.
أو تصف غرور الرجل واعتداده بذاته واهتمامه بعالمه الذكوري فقط
تستقر على أول الصناديق
الممتلئ بنفسه ، الذي تكاد كماته تفتحه
كأنك قميص مهدي إليك
كأنكم قمصان
فهي تصف جميع الرجال كأنهم قمصان تمتلئ بذواتها فهو حين يريد أن يرضيها بالغزل يتغزل في نفسه وفي اكتظاظه بأنانياته فقط.
الشاعرة تستغرق في ديوان " كأنني أريد " في تجربة ذاتية لم تخرج عنها إلا في قصيدة قصيرة للغاية بعنوان " وهم يصلحون الأحذية " تقول فيها :" سأموت / وهم يصلحون الأحذية / ويلقون الخطب في التليفزيون "( ص25).
وكما تهترئ العلاقات البشرية ، تهترئ العلاقات والأوضاع في هذا الوطن ، فهي تتحدث عمن بيديهم مقاليد الأمور بهذا البلد فتصفهم بأنهم يصلحون الأحذية ، فهي تختار وضاعة المهنة والتصوير وكأن شئوننا وقضايانا أحذية وهم ليسو أكثر من صانعي أحذية ومروجي دعايات وأفكار جوفاء ، وكأنها تتساءل ليس من حقنا أن ننعم حتى بحذاء جديد ، ولا تشعر المبدعة بأمل مرتقب فهي تستهلك قصيدتها بـ" سأموت وهم ..." إن الركود والتعفن بأوضاع وشئون هذا الوطن باعدت بين مبدعية وبينه وخلقت حالة من اليأس.
لكن صغر هذه القصيدة ووحدانيتها في هذا الديوان قد تجعل القارئ يتساءل هل البحث في تلافيف الذات العنكبوتية الحداثية وما بعدها، أصبحت هي شاغل المبدعين وصار التنحي والانتحاء بعيداً عن الهم العام هي المجاوزة التي تحقق الشعر الخالص ، وكأن هموم هذا الوطن وهموم بسطائه لم يعد لهما صوت مبدع يعبر عنها.
ولنا أن نتساءل ما الذي باعد بين الشاعر وهموم وطنه إلى هذا الحد ، أهو مناخ الحرية المفتقد أم أن ذلك تعبر عن رؤية ترى الشعرية في البحث عن اضطراب رؤي النفس في الغموض والظلمة؟ أهي عزلة الشعراء والمثقفين عن المتلقين نتيجة الاختلافات الثقافية البينة بين هذه الجموع أم هي عزلة هذه الأشكال الجديدة،وتحطيمها لوهم الدلالات ، وصنمية اللغة أو تقاعس النقد الذي لا يقوم بدور الوسيط لتعريف شفرات النص ، هل باتت التجربة الذاتية بديلاً عن الشاعر الكوني والقومي ؟!.



#أماني_فؤاد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خضروات نصف مطهية قصيدة نثر
- خضروات نصف مطهوة قصيدة نثرية
- -المفتون- لفؤاد قنديل بين السيرة الذاتية والرواية
- -خضروات نصف مطهوة- قصيدة نثرية
- حرية الإبداع في -أين الله-
- بين شيوخ الإبداع الروائي وشبابه
- -سلمان والببغاء - قصيدة نثر
- حكومة بلا خيال
- مقعد لا يمتلئ .. -قصيدة نثر-
- يبقي لنا من -ابن خلدون- فعل المجاوزة ..
- الغربة والنفط وتقنية المتوازيات في نص -العُرس- للروائي -فتحي ...
- قراءة لكتاب - الرؤية والعبارة مدخل لفهم الشعر - للشاعر عبد ا ...
- المريد المتصوف ينشد قصصه .. دراسة لمجموعة -عبد الحكيم قاسم- ...
- منطق التاريخ وسردية - تلك الأيام - للروائي فتحي غانم
- سرد دائري وصرخة ضد القهر وغياب العدالة في رواية -وحيد الطويل ...
- -في العائدون إلي الأرض -الموت حياة قراءة نقدية لخواطر د. سام ...
- قراءة لكتاب - النقد الأدبي بين القديم والحديث -
- في أقل من دقيقة.. -قصة قصيرة -
- بنية الانفصالات في سردية -قسمة الغرماء -للروائي يوسف القعيد
- تداخل النصوص في القصيدة المعاصرة ..ديوان -الشاعر والشيخ - لل ...


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني فؤاد - المشهد الشعري في ديوان - كأنني أريد - لغادة نبيل