أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة غانم - هوية الجسد خارج حكاية زهرة / الانثى















المزيد.....


هوية الجسد خارج حكاية زهرة / الانثى


أسامة غانم
ناقد

(Osama Ghanim)


الحوار المتمدن-العدد: 4408 - 2014 / 3 / 29 - 18:34
المحور: الادب والفن
    


تعمل رواية (( حكاية زهرة )) لحنان الشيخ على تفجير قوة داخلية هائلة، داخل الجسد/ المرأة ، ناشئة من اصطدامها بالوعي / الأنثى ، الوعي الذي يكتسب من الجسد/ المرأة ، وجوداً مغايراً ،يمتلك حريته خارجه، ليشكل ملامحه ورؤيته تجاه الآخرين والعالم ، بعين طفلة – امرأة، مع تحويل الجسد إلى شفرات مؤسطرة، دون الوقوع في دائرته، ولكن باتحادهما تكتمل الصورة لـ الجسد – الأنثى، ويتسم الجسد عند حنان الشيخ بالقمع، والكبت، والاضطهاد، والتدنيس بشكل بارز وحاد، لان النص عند الروائية جسد امرأة متشظ، بل نص منسوج من رؤية ثنائية للبطلة والكاتبة ، نص يتألف من جسد زهرة ووعي حنان، وهذا الجسد لا تتحقق هويته إلا بالتحامه وتداخله مع الجسد/ الآخر، فعندئذ تتحقق هوية جسد/ الذكر ايضا، وعند غياب أحدهما تغيب الهوية، لان أحد الجسدين لا يشكل (كينونة مكتفية بذاتها، انه يحتاج الآخر وتمييزه وتعرفه وفاعليته القادرة على التشكيل)(1) (باختين)، فهما يخضعان لمبدأ العثور على الذات في الآخر ، مع بقاء خصوصية كل منهما مستقلة، متفردة، متميزة، ولكنهما يعيشان نمطين من الحياة (واحدة كانت رسمية وجدية، وأخرى : سوقية بطريقة كرنفالية، حرة ومليئة بالضحك المكافئ بين الأضداد وبالتجديف، وبتدنيس كل ما هو مقدس)(2)، والنص الروائي هو موضوع مفتوح على تذوق جمالي لا نهائي، ولحظة جمالية مفتوحة، تتصف (بانثنة) الوعي وتوعية الجسد.
تقسم الرواية إلى قسمين، الأول يحتوي على خمسة فصول، ثلاثة بصوت زهرة، والرابع بصوت هاشم (خالها) والخامس بصوت ماجد (زوجها)، وتقع أحداث الفصول في بيروت باستثناء الأول في أفريقيا، المنفى الذي تُهرّب اليه جسدها خوفاً من الفضيحة، وليكون حربها الداخلية(ان الحرب قد اندلعت في داخلي) ص36، ولتكون فيها سجينة جسدها،المتقززة منه، ولا تستطيع السيطرة عليه(آه اني لا أقوى على جسمي) ص122 في آن واحد.
والقسم الثاني، يحتوي على فصلين، بصوت زهرة، يكونان حربها الخارجية، (أريد ان أكون لنفسي، ان يكون جسدي لي) ص99، حربها مع العالم لرسم خرائط جسدها فوق قارة نون النسوة، وتكون فيها متحررة من جسدها، مسيطرة عليه، ولتكتشف أسراره وخباياه.
يمثل القسم الأول: الأنثى خارج الجسد، ويمثل القسم الثاني: الأنثى داخل الجسد، تحكمها علاقة جدلية – حوارية، لان الرواية(ذلك النوع الملحمي الكبير، ذلك التصوير الحكائي للكلية الاجتماعية)(3)، الكلية التي تكون الحكاية فيها استرجاعا لواقع المرأة العربية وكشف الرؤية الذكورية لها في المجتمع العربي.
ورغم تعددية الأصوات في الرواية، وعدم اندماج أشكال الوعي ببعضها، ورغم حواريتها القوية، الا ان صوت زهرة يطغي على الآخرين، ولكنه صوت يمتلك تأثيرا متبادلا تأما معهم ضمن المستويين الدلالي والتكويني، وفي تناصية الأشخاص، وعليه يتأسس متن جديد يقع وراء المتن المقروء، يعمل على سحب كبسولات المتن الملغوم- المقروء.
بالإضافة إلى ذلك توجد قراءة بصرية لسرديات الصور الفوتوغرافية الموجودة على الغلاف الأمامي للرواية، وهذه الصور تعطي إيحاءات متنوعة للقارئ في إيجاد المعاني، وإيجاد القيمة الدلالية للشخصيات التي تقص، وتُخبر في النص- الروائي، وهذه القراءة المزدوجة، تشكل المدخل للتغلغل إلى الآخر، لا بوصفه موضوعا بل بوصفه ذاتا فاعلة، وميزة القراءة البصرية اذ تعطي معاني مشتركة فورية بين الروائية والقارئ، بعكس القراءة – النصية التي تمنح القارئ حرية في تعددية التأويل في القراءة.
ويكون الخوف المحور الأساسي في الرواية، ويتمركز فيها بكثافة، ويسود في النص ويظهر ذلك جلياً على زهرة ( فمنذ وعيت وأنا في حالة اضطراب دائمة حالة خوف)ص125، بحيث يصبح الخوف ظلها الذي لا يفارقها حتى النهاية( أنا وحدي فقط مع الخوف)ص159، ففي البداية يستعبدها بالخضوع للحياة، وفي النهاية تتحرر منه بالانتماء للموت/ الظلام، بمعنى ان موت الجسد(هو وحده القادر على تحريره: ((بعد موتك، تصير الهاً)). ادونيس – الصوفية والسوريالية) ، (العتمة قد تحولت إلى خوف وجسمي قد تحول إلى خوف)ص227، وما بينهما يتناسل الخوف بشتى الأشكال، مخترقاً لغة النص، ويأتي الخوف في القسم الثاني بشكل مضاعف، لتداخل خوف الحرب الأهلية مع خوف زهرة الدائم، ولان الحرب لا تجري في الواقع فقط، بل تجري وتنتشر في الذاكرة ايضا، لذا ففي هذا القسم يمتزج التاريخ الفردي مع التاريخ الجماعي، وتعبر لفظة الخوف هنا برمزها عن ابعاد عديدة تكاد تكون مفتاح الرؤية النقدية للرواية، فيصبح الخوف/ رمز – دلالة- وعي- أسطورة، وأحيانا يتخذ صيغة مواجهة في النص، فعند زهرة يكون مواجهة مع الذات المستلبة، المقهورة، ومع الجسد/ المرأة، وعند هاشم علوش مواجهة مع السلطة القمعية، وعند ماجد مواجهة مع المجتمع الذي نبذه، احتقره، أدانه لانحداره الطبقي العمالي، ولقد وضعتهم الشيخ في مواجهة اخرى، مواجهة الكبت والعنف، والعمل على إنضاج العلاقة غير المتكافئة بينهم لكي تعري(النفوس البشرية المرعبة، وكأنها في الجحيم)(4).
وتتلبس بالخوف منذ البداية وهي طفلة، (وقفنا خلف الباب نرتجف) ص9، وتتصاعد استراتيجية الخوف كلما توغلنا في الرواية، وكلما توغلنا في الحلول في جسد زهرة، إلى حين تساقط قطرات المطر في النهاية (إني خائفة) ص125، ليغرقه المطر في الموت، موت زهرة، عند ذلك يغادرها وهي غارقة ما بين الماء والدم، ما بين الحياة والموت، ما بين العبودية والتحرر، ما بين الانطفاء والانبعاث، وعودتها إلى حالة التوازن بعدما كانت قد فقدته، في حروبها المتعبة، وعودة الخارج / الوعي إلى الداخل/ الجسد، (انها تمطر، وقلبي يمطر، وعقلي يمطر) ص113.
ونقطة الانطلاق في الرواية، هي الكراهية، والاشمئزاز من الواقع الذي ترصده في عناية فائقة بكافة أشكاله الإنسانية والسايكلوجية، وبالأخص رصد المشكلة الخطيرة للمجتمع الا وهي تهميش وتغييب المرأة، ورصد الرؤية الذكورية التسلطية في العلاقة معها، ورصد النظرة المتخلفة عنها، وتناولت ذلك عن طريق توظيف البنية الجنسية المقترنة بالأبعاد الاجتماعية – الاقتصادية- النفسية- الثقافية، ومن خلال هذه البنية نتطلع إلى الأبعاد لاكتشافها، ومعرفة مدى ارتباطها بالحركة التاريخية- السوسيولوجية، وتثمين قيمة المرأة/ الأنثى في كلية المجتمع الشمولية، وفي اللحظة ذاتها تبين حنان الشيخ حدة التناقض بين المرأة والرجل، وبين المرأة والمجتمع، وعملت بإعطاء زهرة خصوصية إنسانية/ جسدية – أنثوية، غير اعتيادية، غير طبيعية، مع تعميدها من قبل أمها منذ الصغر بالخوف والخيانة(أدخلتني مغطس الحيرة والتساؤلات والسحر وأنا ما زلت صغيرة) ص12، فالأم خانت زوجها لتوكيد ذاتها، أما زهرة فخانت جسدها لانفصاله عنها، مما أنشأ تقاطعا بين الجسد والأنوثة، واختلال توازنهما، ليؤدي بها إلى حالة فقدان التوازن مع العالم، وليتحد الخوف مع الجسد في سلبية مخيفة، اذ تفقد هويته حتى مع الآخر، وتكون واقعة ضمن مغامرة التابع والمتبوع، فلا الجسد تابع للأنثى، ولا أنثى مالكة لجسدها، لذا قام الخوف بقذف زهرة خارجه كشاهدة تجاه الجسد(كنت شاهدة منذ البداية حتى النهاية، حتى الآن انا متفرجة، ثم شاهدة على خرق عذريتي فوق السرير القذر، وعندما حملت كنت شاهدة على هذا جسمي وعلى طاولة الدكتور العجوز، وممرضته) ص118.
وتتحدد علاقة زهرة الجسدية في ثلاثة محاور/ رجال، ومن خلالهم تتشكل صورة زهرة السايكلوجية وتكون العلاقة بينهم علاقة حوار لغة الجسد، لا صوت ينبعث منهم، كل واحد يخاطب ذاته، والتحاور يكون معها بلغة الجسد فقط، لأنها هي أصلاً لا تجادل الآخر ولا تتفق معه ( ربما ظن أني لا اقرأ ولا اكتب، وإلا ما كنت هنا اتعاطى لغة الجسد) ص178، حتى وجهة نظر الشخصيات الرجالية الثلاث لا يتم الكشف عنها من قبل المؤلفة ولا من قبلهم، فقط عرفتنا بهم من خلال علاقتهم الجسدية مع زهرة، فمالك استغل طيبتها ليغرر بها ويفض عذريتها، أما ماجد فأراد إخفاء نقصه الداخلي ، وعقده بها، فتزوج منها، واخيراً القناص الذي تمتع بجسدها، وعندما اخصّب قتله( هل قتلني لأني حبلى ام لأني سألته اذا كان قناصاً) ص226. فالاقتناص هنا دلالة رمزية لمسخ إنسانية الإنسان، وإدخاله دائرة الحيوان.
ومما يزيد تعقيد إضاءة هذه العلاقة او الولوج فيها لاكتشافها، ان زهرة لا تقوم ببيع جسدها مقابل المال، ولا تعرضه لشبقية به، ( ومرة سحب من جيبه مئة ليرة وحاول ان يضعها داخل حمالتي، ارتجفت ذقني وأجهشت بالبكاء، وددت يدي ابحث عنها حتى أعيدها) ص162، حتى لا تربطها بهم علاقة حب او عشق (لا. لم أحبه. لم أطقه)ص118، ولو تعمقنا أكثر في دراسة مثل هذه الفقرات، ستجعلنا نكون في الموضع الصحيح والقراءة الصحيحة وستضيء مفاصل النص الرئيسية التي بدورها ستضيء المساحات المظلمة للنص لاستبطان أسراره الدفينة.
والقارئ الذي لا يرى في لقاء زهرة بالآخر/ الرجل، الا بنية سردية جنسية مفضوحة لا يمكن ان يدرك القيمة الدلالية- الجمالية في النص، ويخلق إشكالاً تفسيرياً، ولا يمكن ان يستخرج المضامين الإنسانية والتناقضات الذاتية والطبقية والطائفية( فأحمد ورفاقه يقولون انهم يحاربون الاستغلالية، ويريدون لفت النظر إلى مطالب الشيعة المغبونة)ص153، ولا يمكن ان يحيط باستراتيجية النص الشاملة، فالجنس لم يتخذ بعداً شهوانياً عند حنان الشيخ، إنما وظف كبعد إنساني، لأجل الإدانة والتغيير، فالحس الجنسي- الإنساني( يندمج بالمحتوى اندماجاً عضوياً حياً، وبالطريقة التي يتخذ بواسطتها هذا المحتوى شكله، وهو يحمل إلى الأثر الفني الحياة التي ما كان يبلغها ابداً إلا إذا خاطب الكائن البشري بكامله)(5)، بمعنى عدم تجريد الجنس او الفعل الجسدي من محتواه الإنساني، وجعله مجرد متعة رخيصة ورغبة محمومة، لان هذه النظرة تنجح في تشويه العمل بكامله وتكريس الاستلاب للمرأة.
وتوجد في الرواية أربع وظائف مختلفة ترتبط بأربعة مستويات، وتكون مهمة الربط المتواجدة في النص، تثبيت الوظائف الملتحمة بالمستويات التي تكون متوازية ومتداخلة ببعضها، وتؤدي ذلك إلى انفتاح المعاني المغلقة، والعمل سوية في اتجاهين متعاكسين مع النص وما وراء النص وهي :
1- وظيفة كرنفالية على المستوى الواقعي.
2- وظيفة تدميرية على المستوى السايكولوجي.
3- وظيفة خيانة على المستوى الأخلاقي.
4- وظيفة مغامرة على المستوى الشخصي.
والمعنى العام يظهر في الرواية، من الفعل الجسدي المتعدي على الفعل الرمزي، الاجتماعي، النفسي، فهكذا يلتقي الفعل الجسدي مع الفعل التدميري لمدينة بيروت، ومع الفعل الكرنفالي بالالتقاء بالآخر، ومع الفعل الخياني في تدنيس الجسد، والفعل المغامري في تفجير
الجسد، وهنا يتميز الفعل الجسدي بكونه بنائياً من الداخل، ومتشظياً من الخارج، مع بقاء العلاقة الجدلية بينهما، لان بدون هذه العلاقة تتيه المعاني، ولا نمسك بأسباب التمزق الداخلي لزهرة، وغرائبية الحرب الأهلية اللبنانية.
ان جوهر الرواية يكمن في تجربة زهرة في الطفولة، تجربة اغترابية تفتتح بها الرواية، تجربة مزدوجة ما بين الأم والبنت ومختلفة، فبالنسبة للأم احتفالية، أما لزهرة فتكون متسمة بالغرابة والخوف، في غرفة مزيفة ودكتور مزيف.
يقول هيدجر: البداية هي الأكثر غرابة والأشد قوة، فعندما تشاهد الطفلة- زهرة أمها تقفز عارية من بين شراشف الرجل الغريب، فما هو رد الفعل الذي سيتركه هذا المشهد؟! وما هو الانطباع الذي سينحفر في الذاكرة ويوشمها به ؟ وما هي الآثار السايكلوجية التي ستخلفها هذه التجربة وراءها مستقبلاً ؟
ومن ثم تنقلنا حنان الشيخ من عالم الطفولة- زهرة إلى عالم المرأة – زهرة فوراً بلا أي تمهيد وبأسلوب التداعي في بداية الفصل الثاني، من خلال جملة اخبارية تخبرنا فيها زهرة بانها فقدت عذريتها، ، واجهضت مرتين، وما بين المشهد الاول والجملة الاخبارية تقع مئات الصور الغائبة او المفقودة عن ذهن القارئ، بحيث تجعله في حالة ارتباك للوهلة الاولى، ولكن بعدئذ تستقر الصورة وتتوضح، ولكي يعيد بناء المشاهد في مخيلته، وليسد الفراغ الموجود بينهما، نلاحظ مع اوبير بانه (اذا ما أريد لقراءتنا ان تكون قراءة متماسكة وشمولية فلا بد لها من العمل في اتجاهين اثنين، متحركة مع تيار الكلمات وعكسها، وتكون النتيجة واضحة)(6)، عليه تتشكل الصور الممتلئة بالمعاني.
وابتداءاً من شخصية زهرة وبقية الشخصيات الروائية: الأم – الأب – احمد – مالك – الخال – الزوج – القناص، كل واحدة من هذه الشخصيات انما هي مركز رؤيتها لان كل منها يطل على عالم غير عالم الاخرين، ونحن على اطلاع تام على هذا العالم، انها مراكز مستقلة متفاعلة في اللحظة ذاتها ، وهذا ما حصل لزهرة بطلة رواية " ميرأمار" لنجيب محفوظ، فهي المركز الرئيسي للمراكز الأخرى، وهذا جعل بعض النقاد يسبغون عليها رمز مصر، ولكن وجهة نظر زهرة "ميرأمار" لا توجد، لان نجيب محفوظ لم يفرد لها فصلاً خاصاً بها، بينما " حكاية زهرة " كانت الراوية في جميع الرواية باستثناء فصلين.
وتعبر حنان الشيخ عن تجربة شخصياتها، وتكشف عن صعوبتها وثقلها على حياة الإنسان، وتعمل على ان تشاركهم خصوصيتهم بعين مراقب، وبالذات زهرة( حين كان بلزاك يتكلم عن قصته سارازين عن مخصيّ بزي امرأة كتب هذه الجملة " كان المرأة بكل مخاوفها المفاجئة، كل نزواتها الطائشة، واضطراباتها الغريزية، واجتراحاتها من غير سبب، وتبجحاتها، ورقة مشاعرها" )(7)، ولكن حنان الشيخ عملت على إضفاء بعد دلالي – رمزي لبطلتها، في تأويل البنية الواقعية لجسد زهرة، وهذا يدفعنا إلى الغوص عميقاً على لا نهائية المعنى الرمزي، لان العمق هو الجوهري، ولأن التأويل يعطي المتلقي حرية المشاركة بفعالية في البحث والتنقيب في النص، لاستخراج المعنى الرمزي/ الاشاري من الواقعي الأيديولوجي، مما جعل الجسد يأتي منحرفاً في النص، وهو ما سعت اليه الروائية، ومن خلاله إحالتنا إلى الرمز الاجتماعي- السياسي، وإلى الحرب الأهلية اللبنانية، رغم ان سلطة الجسد مفقودة، ولكن رمزيته موجودة بكثافة، وهذه الإحالة تضعنا أمام رواية مخيفة تحكي عن تمزق الجسد: الإنسان والمدينة، وتمزق ألحكي، وكأنها بذلك (تلملم أجزاء الجسد الاجتماعي- النفسي: جسد البشر والمكان، جسد الروح والعيش)(8)، وهنا يشكل التمزق والخوف عنصرا توحيدياً بين الجسد/ زهرة وبين المدينة/ بيروت للشروع في عملية للعثور على الذات خارج نفسها( فكما يتكون الجسد ابتداءً في رحم الأم ( جسدها) كذلك يتفتح الوعي الإنساني ويستيقظ محاطاً بوعي الآخرين) باختين.
وقد كتب الباحث احمد الصمد عن الرواية اللبنانية المتأثرة بالتقنية الفرنسية الحديثة، وكيفية الاستفادة منها في تصوير الحرب الأهلية وانعكاساتها على تفكك البيئة الاجتماعية- الاجتماعية- الفكرية، وتفكك بنية النص الروائي وانعكاس ذلك على الشخصيات الروائية، بما فيها الشخصية الرئيسية التي جاء فعلها غرائبياً وموتها طبيعياً في " حكاية زهرة " :
موجة تفتت فيها الشخصيات والنصوص وانتقل السرد من التردد والقلق إلى التداعي والإبهام والتهافت، لكأنما تقنيات الرواية الفرنسية الجديدة، قد وجدت في رعب الحرب اللبنانية وتخبط المثقفين في دوامته وضياعهم في متاهاتها واحتراقهم في اتونها، الأرض الخصبة التي نبتت وتنضج، حنان الشيخ في " حكاية زهرة "(9).
ولكن حنان الشيخ تميزت عن بقية الكتاب اللبنانيين بان أضافت عنصراً مهما إلى هذه الموجة، بتناولها مشكلة المرأة المحاصرة بالشوفينية الذكورية، والرؤية الاجتماعية المتخلفة باعتبار ان جسدها لعنة عليها، وعورة لها، ومدنسة به، من خلال مزاوجتها بهذه التقنية والحرب الأهلية الوحشية، التي عملت على إعطائنا معطيات خطيرة لوقوع المرأة في دائرة الاستلاب والقمع والخوف، لذلك جاءت الرؤية عميقة مكثفة لسيادة الأيديولوجية الرجالية في الأوضاع العائلية، والبنية السياسية، والتركيبية الطبقية- الطائفية.
والإيقاع الجمالي للجيد يشبه إلى حد كبير إيقاع الرقص بالجسد، فكلاهما لديه طريقة لاختراق دائرة الفهم، للوصول إلى تفهم الآخر والعالم موضوعيا بمعنى اكتشافه ومن ثم اعادة بنائه بطريقة إنسانية جمالية فنية، حيث يتحول الفعل/ حركة الجسد إلى لغة عالمية تفعل فعلها، كالموسيقى، والرقص، هنا الجسد ليس محتاجا إلى كلام، لان كل الكلمات تتساقط، تتعرى، تضمحل، يبقى فعله، فالجسد يفصح عن نفسه، عن نزعته، عن ثورته، عن انبعاثه المطلق، مع كونه وسيلة للإبحار إلى دواخل الآخر والعالم والذات، وهذا ما أدركه اغلب الروائيين العرب، فهذا الروائي الياس فركوح في رواية " قأمات الزبد " يبين مدى فاعلية الجسد في الوجود الإنساني، ومدى حضوره في تلك اللحظة(10):
جاء صوت خطواته اولاً . فتح الباب فدخلت. تلاشى الانتظار وحضر الجسد.
سألته، وما كان جسداهما قد تعارفا بعد: ومن أنت؟
وأحيانا يتوازى الجسد مع الفكر، او يلتقي في علاقة جدلي الفعل- الوعي، ويكون في مستوى واحد في تحمل المسؤولية السوسيولوجية، وهذا ما نشاهده عند الروائية المغربية خناثة بنونة في رواية " الغد والغضب "(11).
- من المسؤولة الآن، رأسي أو نفسي؟
- وأجبت :
- لعله الآن جسدي
ووظف جسد المرأة في الأساطير القديمة لأهميته الكبيرة فيها، ولكونه يمتلك قوة عظيمة في تغيير الإنسان وجذبه إلى المدينة، وتركه الصحراء، كما فعلت البغي- الجسد السومرية في انكيدو، البطل- المتوحش:
هذا هو أنها البغي " شمخة " فاكشفي عن نهديك.
اكشفي عن عورتك لينال من مفاتن جسمك.
لا تحجمي ، بل راوديه وابعثي فيه الهيام.
فانه متى ما رآك انجذب إليك.
انضي عنك ثيابك ليقع عليك
علمي الوحش الغرّ فنّ (وظيفة) المرأة (12).
يبين لنا هذا النص السومري، عمق سحر الجسد وسلطته على الآخر وقوته الأسطورية عليه، والكشف عنه بكونه مساوياً للمعرفة، بحيث تتحقق فيه معادلة غائبة هي ان الكشف= المعرفة، انه تجربة السفر في الحلم والخيال، واكتشاف عشبة الخلود التي فقدها كلكامش، لبناء رؤية شمولية للعالم، ضمن حوارية الجسد، التي اعتمدت الروائية عليها في بناء الرواية، وعلى سردية اللقطة السينمائية المتداخلة مع بعضها، بالاشتغال على تقنية السرد المتوازي / المتزامن لتصوير عدة حالات في آن واحد، وهذا مما شحذ النص الروائي بحوارية جدلية متكاملة في مقطع واحد، يقع تحت تسمية ذاكرة وذكريات:
ماجد الزوج الغريب عني، ماذا يفعل إلى جانبي في السرير؟ ماذا أفعل أنا إلى جانبه؟ ماذا يفعل فوق جسمي؟ يا أبن خالتي قاسم . ابعد يديك عن أسفل بطني، لا أريد ان أعكر نوم جدي، يا خالي كيف تنبض عند فخذي. هربت من لبنان إليك. لماذا أعدتني إلى تلك الغرفة الحقيرة حيث كنت أرتجف كلما سمعت عجلة سيارة فوق الأرض، في الغرفة التي رأتني عارية؟ ووالدي وخياله فوقي، وأمي في فراش واحد مع الرجل الذي كان يعطني الدمى، وفخذ الدجاج، يا مالك هل لا زالت تحاضر، هل لا زالت تأخذ الفتيات إلى المقهى، مقهى الهاربين ؟ ص103.
وفي حكايات " ألف ليلة وليلة " ، كلما تتوغل شهرزاد في القص، كلما تبتعد عن الموت وتقترب من الحياة، فعند انتهاء القص تبدأ حكاية شهرزاد خارج القص لتصبح حكاية غير مقروءة، أما في " حكاية زهرة " كلما تتوغل زهرة في ألحكي، كلما تقترب من الموت وتبتعد عن الحياة، لذا فعندما يبقى ألحكي مفتوحاً، تكون حكاية زهرة منتهية ولتصبح حكاية مقروءة ذات دلالات رمزية.
في نهاية الرواية يتساقط المطر على زهرة / الراوي ( نقاط مطر خفيفة أخذت تتساقط وكلما لامست وجهي وقدمي. ازداد الألم) ص255.
مما يدفعنا للتساؤل ما الدلالة – الرمزية للمطر الذي يغسل زهرة كما غسل الدكتور خليل في رواية " باب الشمس " للروائي الياس خوري. عندما وقف مخاطباً يونس ألأسدي الذي مات في نهاية الرواية:
أقف هنا والليل يغطني، ومطر آذار يغسلني، وأقول لك لا يا سيدي، الحكايات لا تنتهي هكذا، لا (13).
المطر يعمل على التطهير، مع العمل على تعميدها بالماء والضوء والدم للوصول إلى بوابات الشمس، بوابات جسد بيروت المشرع على قارات الانسان السبع، بكل لغاتها وأجناسها وأشكالها وألوانها.
كونت الروائية حنان الشيخ تشكيلة نهلستية، باتحاد جسد / المرأة مع جسد / اللغة الذي أعطى نتائجه في جمالية النص- الروائي " حكاية زهرة " والذي جعلنا نلاحظ (ثمة انتصار كبيرة لهوية المرأة بإعطائها الهوية الصوتية – الفكرية، بدلا من الهوية الجسدية)(14).




الهوامش والاحالات:
1- تزفيتان تودوروف – المبدأ الحواري : دراسة في فكر ميخائيل باختين- ت فخري صالح ص124، دار الشؤون الثقافية ، بغداد 1992.
2- م باختين- قضايا الفن الإبداعي عند دستويفسكي – ت د . جميل نصيف، ص189 دار الشؤون الثقافية، ط1 ، بغداد 1986.
3- جورج لوكاش- الرواية كملحمة برجوازية- ت جورج طرابيشي، ص9، دار الطليعة، بيروت 1979.
4- م باختين ، المصدر نفسه ، ص213.
5- هنري لوفيفر – علم الجمال – ت محمد عيتاني، ص74 ، دار الحداثة ، بيروت.
6- ال. ال. جيمز – النص وما وراء النص- ت- د. محمد درويش ص85، مجلة الأقلام العدد الرابع/ تموز – آب/ 2001.
7- رولان بارت- نقد وحقيقة- ت- د. منذر عياشي ص15، مركز الإنماء الحضاري، دمشق.
8- يمنى العيد – تحول في التحول: مقاربة للكتابة الأدبية في زمن الحرب اللبنانية، ص29، دار الآداب بيروت 1993.
9- مصباح احمد الصمد- الرواية الفرنسية الجديدة وتقنيات التجديد- ص214- 215، مجلة عالم الفكر، العدد الرابع 1990.
10- الياس فركوح- قأمات الزبد (رواية) ص69، مؤسسة الابحاث العربية، بيروت 1987.
11- خناثة بنونة- الغد والغضب (رواية) ص77، دار الشؤون الثقافية، بغداد / دار النشر المغربية.
12- ثلماستيان عقراوي – المرأة : دورها ومكانتها في وادي الرافدين ، ص191- 192 منشورات وزارة الثقافة والفنون ، بغداد 198.
13- الياس خوري- باب الشمس (رواية) ص537، دار الآداب، بيروت 1998.
14- حسن ألنصار- اكتمال هوية الأنثى، مجلة تايكي ، العدد السادس ، صيف 2001.
(*) حنان الشيخ – حكاية زهرة (رواية)، بيروت 1980.
* نشرت في جريدة الاديب الثقافية العدد 53 في 29 / 12 / 2004 .



#أسامة_غانم (هاشتاغ)       Osama_Ghanim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية الرمز المحتجب والواقع المكشوف
- جدلية الذاكرة والوعي في مجموعة - اقاليم قصية - ل غازي العباد ...
- المثقف بين الانتماء والاغتراب
- القصةوالرواية : ايديولوجيا وجمالية
- جدلية الذاكرة في سرد السيرة
- حوار - في الملحق الثقافي لطريق الشعب
- النصْ المتشظي في السرد المتجانس
- سلطة الواقع في تحولات الانا / الضوء
- سردية الرمز الغرائبي في جدلية الأنثى والذكر
- رمزية الصورة الشعرية في تجربة معد الجبوري
- قراءة سوسيوثقافية للحلاج
- استراتيجية لعبة الاسطورة المعولمة
- بنية الوعي الطبقي في الصورتين الواقعية والحلمية
- ازمنة السيرة المتداخلة في ذاكرة النص والجسد
- التجربة الجمالية والمكان في الرواية العربية
- التجربة الجمالية والزمن في الرواية العربية
- ازدواجية الجسد وشفراته السرية
- شعرية التجريب في رؤية الانثى لجسدها
- سلطة الجنس
- الرؤية الغرائبية في سوسيولوجية الجسد


المزيد.....




- الأردن يطلق الدورة 23 لمعرض عمّان الدولي للكتاب
- الكورية الجنوبية هان كانغ تفوز بجائزة نوبل للآداب لعام 2024 ...
- كوميدي أوروبي يشرح أسباب خوفه من رفع العلم الفلسطيني فوق منز ...
- رحيل شوقي أبي شقرا.. أحد الرواد المؤسسين لقصيدة النثر العربي ...
- الرئيس بزشكيان: الصلات الثقافية عريقة جدا بين ايران وتركمنست ...
- من بوريس جونسون إلى كيت موس .. أهلا بالتنوع الأدبي!
- مديرة -برليناله- تريد جذب جمهور أصغر سنا لمهرجان السينما
- من حياة البذخ إلى السجن.. مصدر يكشف لـCNN كيف يمضي الموسيقي ...
- رأي.. سلمان الأنصاري يكتب لـCNN: لبنان أمام مفترق طرق تاريخي ...
- الهند تحيي الذكرى الـ150 لميلاد المفكر والفنان التشكيلي الرو ...


المزيد.....

- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري
- هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ / آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسامة غانم - هوية الجسد خارج حكاية زهرة / الانثى