لآلئ حنون مجيد تتناثر في -الخيانة العظمى-

يوسف علوان

الحوار المتمدن-العدد: 4396 - 2014 / 3 / 17 - 18:50
المحور: الادب والفن
    

عن دار الجواهري صدرت للقاص حنون مجيد "الخيانة العظمى / قصص قصيرة جدا" ضمت المجموعة (66) قصة قصيرة جدا. والقاص غني عن التعريف كتب الرواية والقصة القصيرة، والقصيرة جدا، وقصة الطفل والمسرحية. في حوار له يصف هذا اللون من القص: "انه يعبر عن أخص الحالات الداخليةً للإنسان وأشدها حميميةً، فالقصة فيه أشبه بنفثة غضب أو لهجة سعادة لا تحتاج الى تفاصيل، وهي أقرب الاجناس الادبية إنتماءً الى مزية الرسالة القصيرة الحادة واللاذعة، فضلاً عن ارتباطها المباشر بحراك العصر وقد تكون الصورة البكر والاقرب الى النفس للتعبير الاجناسي"، صدرت له العديد من المجاميع القصصية القصيرة والقصيرة جدا وروايات عديدة آخرها "المنعطف" كتب عن ادبه ابرز النقاد والمثقفين في العراق مثل الدكتور عبد الواحد محمد، عبد الجبار عباس، الدكتور حسين سرمك، فاضل ثامر، ياسين النصير، شكيب كاظم، الدكتور قيس الجنابي، صادق الصكر الدكتور عقيل مهدي وعشرات غيرهم. ترجمت بعض قصصه الى اللغات الاجنبية كالانكليزية والفرنسية والالمانية والروسية والفارسية والتركية والكردية واليونانية وغيرها.
القصة القصيرة جدا نوع ادبي حديث، يعتبر أول من كتبها عربيا هو الأديب العراقي "يوئيل رسام" سنة (1932) في قصة أسماها (قصة قصيرة جدا.( كما ذكر ذلك العديد من النقاد والأدباء منهم باسم عبد الحميد حمودي وعمر الطالب وهيثم بهنام بُردى… غير ان البعض يحدد كتاب (انفعالات) لناتالي ساروت عام 1932 البداية لهذا الفن الجديد، وكانت ترجمة هذا الكتاب الى العربية في السبعينيات قد نبه القصاصين الى هذا النوع من القص، فبدأت تظهر
مثل هذه القصص وقد ضمت مجموعة قصصية لبثينة الناصري "حدوة حصان" الصادرة عام 1974 قصة اسمتها (قصة قصيرة جدا)، ونشر القاص خالد حبيب الراوي خمس قصص قصيرة جدا ضمن مجموعته "القطار الليلي" الصادرة عام 1975، ونشر عبد الرحمن مجيد الربيعي في نفس الفترة وكذلك جمعة اللامي وآخرون مثل هذه القصص. "ان لجوء كتاب القصة الى هذا الفن ليس لسبب حجم هذه القصص القصيرة جدا، بل لقيمتها الفنية أولا، ومهارة كاتبها ثانيا، ذلك ان القاص لابد ان يتعامل بمهارة عالية في طريقة البناء واختزال الحدث والاشتغال على مساحة اقل لا تحتمل المناورة بالمفردات التي تؤدي الى المعاني الكبيرة التي تختصر السرد، والقدرة على صنع الضربة النهائية بنجاح". (ابراهيم سبتي... محنة القصة القصيرة جدا).
مازال النقاد يختلفون في تعريفهم للقصة القصيرة جدا حتى الان، لأنها في طور التكوُّن والتشكل، لهذا يختلف على تعريفها الجميع، فمثلا يعدها جاسم خلف الياس في كتابه: "شعرية القصة القصيرة جدا"، "نوعاً فرعياً له أصول يتكئ عليها ويستمد وجوده منها وليس جنساً أدبياً قائما بذاته".
وكذلك يؤكد هذا الرأي باسم عبد الحميد حمودي، فيعده جسداً غير منفصل عن فنّ القصة القصيرة، ولكنه يراعي التكثيف والجوّ الخاص وضرْبة النهاية، ويراعي التركيز والاقتصاد في الكلمات كذلك.
أما جاسم عاصي فقد لمح الى انه :" قيل الكثير عن هذا الضرب من فن الكتابة اعتبارا من صدور قصص ناتالي ساروت (انفعالات)، باعتبارها، افتراضا، نقطة البدء والظهور لفن السرد هذا، ولكن بتقديري أن ما يجب تعريفه على وجه الدقة، بعيدا عن التكرار هو الفن الصعب".
بينما يحسبه البعض الآخر من النقاد جنساً ادبيا كما يصفه د. جميل حمدون "القصة القصيرة جدا جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ماهو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي".
ويصفها الباحث عبدالعاطي الزياني: "القصة القصيرة جدا- على مايبدو- عموما، إبداع فني يخلو من الحواشي والاستطرادات والتراخي والتكرار الزائد عن الحاجة، دأبها الاكتشاف المدهش، وكدها رصدها مفارقة، ودفعها إلى اللحظة الحرجة، تستقي من الإثارات والإيماءات إمكانياتها في نصب شراك جمالية أمام القارئ".

ثلاثة نماذج من قصص المجموعة
1- صورته الآن (1)
يستلزم هذا الجنس من الأدب قراءة متأنية، عالمة، ومتمكنة من شروطه، والتوقف برهة لتكتمل في ذهن القارئ الصورة التي أرادها "القاص" ان تصل اليه، فالحدث الذي تشير له القصة، في سياقها الصغير الحجم - في بعض الأحيان لا يستغرق أكثر من كلمات لا تتجاوز أصابع اليد او اقل- مثل بداية غليان البركان الذي يتطلب الوقت فقط لتكتمل صورته: "نظر الرجل المسن الى صورته في المرآة فاستغرق في الضحك" سنوات العمر مجسدة في الصورة التي في المرآة، لكنه يغفل او يستغفل ذلك، غير ان صورته في الماضي، صورة شبابه تعيد له الصدمة من صورة الحاضر التي اضاعت عليه المقاييس، فضحك مما وصل اليه من اضمحلال.
"عاد ونظر الى صورته القديمة، المعلقة على الجدار، كاد يجن" (ص6)، فكم يستلزم الخيال لدى القارئ ليتصور الزمن الذي يقتضيه العبور من مرحلة الشباب "صورته القديمة المعلقة على الجدار" الى "صورته في الحاضر"؟
ان فن السرد في القصة القصيرة الذي يشترك فيه المؤلف والقارئ على حد سواء؛ فالكاتب هو الذي يستثير ما لدى القارئ من قدرات على التخيل استحضار ما يريده المؤلف من صور، لاكمال رسم الحدث الذي لايستلزم المؤلف سوى جملة او جملتين بينما يستغرق ذلك لدى القارئ استحضار مكمون سنوات عدة – مثلما في هذه القصة القصيرة جدا- عمر شخص وصل الى الشيخوخة للحصول على الصورة التي ارادها المؤلف. وهذا يتطلب، بالذات، قدرة عالية من القاص في أختيار الكلام المناسب لأستثارة القارئ على ذلك الفعل.
2- إسقاط حيلة(2)
القصة الثانية التي اخترناها من المجموعة التي بيلغ عدد قصصها 66 قصة قصيرة جدا، يغلب عليها طابع المزحة كتبت بشكل شيق وجميل، تتكون من 41 كلمة و10 افعال و7 جمل، تصف حالة يمر بها الجميع: "يلهو الأحفاد الضيوف في بهو البيت، ويخرجون قطارا، إن خرجوا.." وهذا ما يتمناه الجد الذي يكون مشغولاً بالقراءة؛ "ثم بعد تخريب يعودون" هنا يتذكر القارئ مأخوذا بلغة القصة المحبكة؛ ما يفعله الاحفاد الضيوف من ضوضاء وعبث بمحتويات الحديقة الصغيرة، وباقي البيت، "ينظر الجد الحائر" هنا يوفق الكاتب في لغته وتنقلات جمله في الحيرة التي يمر بها الجد فقد؛ "أسقط بيده" لذلك يترك كتابه جانباً؛ "يتقدم قطارهم الزاحف" فأنه يساير احفاده، رغم رغبته في القراءة. أنها تصوير رائع لحب هذا الجد لاحفاده الذين يضيعون عليه فرصة قراءة كتابه المفضل الذي كان يقرأه، فيشاركهم اللعب ليمنحهم الحب والمتعة، وهو يمتلئ زهوا بفرحهم. صورة رائعة لفرح الجد بأحفاده المشاغبين!
3- المرة الوحيدة(3)
أما هذه القصة فأنها تتكون من 7 جمل تصف علاقة رجل بزوجته دائمة الملامة له على كل شيء في افعاله اليومية الاعتيادية حتى البسيطة منها: "هي كثيرا تلومه ابدا، لا يوم إلا ولامته إن أكل كثيرا وإن أكل قليلا، وإن تقدم وإن تأخر، إن قال هذا جميل وإن قال ذاك قبيح" فهذه الملامة ليست نتيجة لسبب وإنما عادة تمارسها الزوجة بحق زوجها، لكن الغريب: "المرة الوحيدة التي لم تلمه فيها؛ "يوم لام جارتها التي لا تلوم احد". الجملة الاخيرة اكملت الصورة التي اراد بها القاص ان يرينا الصورة التي كان يعيش وسطها الزوج المسكين!
في القصص الثلاث أستطاع القاص من خلال الكثافة اللغوية وعمق المعنى التي يمتاز بها الأستاذ حنون مجيد ان يضع صوراً باهرة الوضوح لهذه القصص، وهذه اللغة والحبكة الرائعتان سوف يلاحظهما القارئ في جميع قصص المجموعة.

أهمية العنوان في هذا النوع من القص:
تكمـن أهمية (العنوان) في القصة القصيرة جدا، كونه أول المؤشرات التي تدخل في حوار مع المتلقي ، فتثير فيه نوعا من الإغراء، و الفضول المعرفـي و إليهما توكل مهمة نجاح العمل الفني في إثارة استجابة القارئ بالإقبال عليه ، أو النفور منه واستهجانه، فهو الذي يساعد القارئ على الوصول الى الصورة التي اراد القاص ان يرسمها للموضوع الذي تدور حوله القصة. وفي القصص (النماذج) التي تناولتها، برأيي، كان للعنوان اهمية كبيرة في فك طلاسم القصص الثلاث، وقد ساعد العنوان فيها على اكتشاف وضوح صورة الموضوع رغم كثافة السرد واختصاره، فكان معيناً على الكشف عن خلفيات الحدث من خلال ما اشره العنوان في صلب الموضوع. ومع كل احترامي لاختيار الاستاذ حنون مجيد لعنوان المجموعة " الخيانة العظمى" لعظم خسارته لفقده " معلمي الدكتور عبدالواحد محمد" لكن عنوان المجموعة كان بعيدا عن الصور الجميلة التي رسمتها القصص القصيرة جدا التي ضمها الكتاب بين دفتيه.. مع الاعتذار.
فهنيئاً للكاتب بما أبدع، وهنيئاً لنا بما استمتعنا به.


ــــــــــــــــ
1- ص 6.
2- ص40.
3- ص 59.

#يوسف_علوان (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات