رزكار نوري شاويس
كاتب
(Rizgar Nuri Shawais)
الحوار المتمدن-العدد: 4381 - 2014 / 3 / 2 - 01:41
المحور:
الادب والفن
إغتيال مقهى شعبي
حكايات الالف ليلة و ليلة جعلت من بغداد حكاية .. اساطير كانت من نسج الخيال ، عفاريت و جان ، سحرة و طلاسم ، اشرار و اخيار .. فيها الامال تزهر و الحق ينصر و الوصال يتحقق ، و السفن مهما تغربت لابد و ان تعود لمرافئها ، حكايات لامفر فيها لظالم من قصاص عادل و لكل شرير فيها عقاب ..
الخوف في بغداد الف ليلة و ليلة كان مسليا ..! اما حكايات هذا الزمن الجدب فهي حقيقية ، ملايين من القصص المرعبة في ليلة بلا نهاية .. عابسة ، قاتمة ، مشؤومة و كئيبة ، تذبح فيها الامال و نجهض الامال ، يولد المرء و يشب و يهرم و يموت و تطمس ذكراه و الليل لا يزال زمنا اسود من عمر المدينة . الاحاسيس في حكايات بغداد هذا الزمان حقيقية .. الكل محكوم بحزن حتى الموت ، بالشك ، بالريبة ، بالرعب حتى الموت .. والعيون البغدادية الجميلة ذبلت للقاء غائب و يحرقها العطش لوصال حبيب مفقود .
مدينة مطوقة بسلاسل و اقفال سحر اسود ملعون ، تسرح فيها و تمرح بمجون ، اشباح مسعورة مخلوقات بدائية مسخة تحمل بامر السلطان الظالم مفاتيح بيوتها في كل حي و زقاق ، الكل كانوا عرضة للمسائلة و الاستجواب في اي وقت و مكان ، الجميع كانوا مشبوهين .. لا ، بل خونة ، عملاء و متآمرين على السلطان و عهده الميمون ..
لا طلع في النخيل .. و لا شذى عطر يفوح من بساتين البرتقال ، و انفاس دجلة خامدة ، فقدت عذوبتها و عبقها و بات خريرها حشرجة جرح نازف و انين عابر سبيل تائه فقد الامان في مدينة تتسربل بالحزن و ترتعش بخوف وحشي .. مدينة كانت تسمى ( دار السلام ) !!
و كان مقهى ( الحاج عباس ) صورة لم تزل عالقة بذاكرة بغداد ، لا يزال كما كان تقريبا في سنوات الاربعينات ، و رغم شحة الايراد و العروض المغرية لشرائه ، ابى الحاج عباس الا و ان يستمر في ضيافة رواد مقهاه من ( اهل الطرف ) -1- .. التزاما بوصية والده نقلا عن جده بعدم التفريط به و التسبب في تشتت الشمل ، سكان الحي كانوا يطلقون على مقهاهم اسم ( بيت الطرف الكبير).
لم يهمل الحاج عباس مقهاه ، كان دائما نظيفا مرتبا ، يعتني باثاثه التراثي بالرغم من ان غياراتها صارت مكلفة و يصعب الحصول عليها .. الجرامفون ذو البوق يزهو بدلاله ، يلمع و ينظف كل صباح و مساء ، و جهاز الراديو الضخم فوق الرف يتباهى بعمره المديد ربما بفضل تلك الخرزة الزرقاء التي تتدلى منه ، و الدكة و الكرسي الاشبه بالعرش لم يتغيرا و كانهما في انتظار ( القصة خون ) -2- يعود ويحيي اساطير الف ليلة و ليلة و سيرة ابو زيد الهلالي و اسفار عجيب بحثا عن اخوه غريب . التلفزيون قهر الراديو و الجرامفون و ( القصة خون ) ، في البداية كان مسليا و مفيدا في بعض لاحيان و عندما تلون كان شيئا يبهر .. لكن هذا الاختراع انقلب ثقيلا مملا بارد النكات و الاحاسيس و سخيفا لحد الموت ..! و صار الناس في حضور هذا الجني الذي كشف عن وجهه الشرير ، في توجس و خوف دائم خشية الظهور المفاجيء لسحنةكالحة لمذيع كئيب من بين برامج الاطفال للاعلان عن حفلة رعب جديدة تساق فيها الجموع للموت افواجا تلو الافواج ، فتنقلب ملاعب ( توم و جيري ) الى ميادين حرب ينثر فيها الشر ، الموت و الدمار ..!
في ذلك المساء كانت ساعات البث كلها بل ومعها ساعات اضافية كمكرمة من الدكتاتور ؛ مخصصة لنقل وقائع احتفاله بعيد ميلاده .. كان يختال طربا و فخورا ببزة مدنية من حرير ابيض نادر وسط مجاميع منتقاة بدقة من شيب و شابات و اطفال بغداد امرت بالرقص و الغناء ( حتى اشعار آخر ) ..! (*)
على لوح خشبي صغير و مغبر ، ثبت على جهاز التلفزيون كتبت عبارة ( هدية من الرئيس القائد )- كان الخط رديئا لا جمالية فيه و لا روح .
المقهى لم يكن يخلو من الغرباء ، رواد مزمنون لكنهم غرباء ..! اثنان او ثلاثة و احيانا اكثر حسب متطلبات الوضع العام ..ياتون فرادى ليقبع كل واحد منهم في ركن من اركان المقهى ، كانوا اشبه بالتوائم ، نفس السحنة ، نفس الهندام ، نفس النظرات ، و نفس الاسلوب في ارتشاف الشاي و التعامل مع الناس .. هي ذات التكشيرة موشومة بها و جوههم و نفس النظرات الجائعة المشبعة فضولا ، تبحث في الوجوه و تنبش في القلوب عن سر او استنكار مكبوت ليفتتح به محضر تحقيق و حفل تعذيب .. رجال غامضون لكنهم مكشوفون ، مهامهم سرية لكنها معلنة ..!
لم يكن الحاج عباس رجلا سهلا رغم انه كان صريحا واهيا امام مشاعره يطلقها و لا يلجمها مهما كانت الاسباب .. لم يزل فيه ذاك الشيء من الماضي كان من جيل ( فرسان الحي ) قبضاي لم يتخلص من شهرة ( عباس قاهر الشلاتية ) الا بعد عودته من الديار المقدسة ، و لا يزال يحتفظ ( بمغواره)-3- الثقيل ، يتدلى من مسمار غليظ مثبت في الجدار خلف كرسيه الخشبي العتيق مزهوا بامجاده في تاديب (الشقاوات ) -4- و المفسدين..
بسيطة كانت ايام زمان ، ناعمة و لينة , ما كان الحزن هكذا يستقر و يعمر في القلوب ، صحيح ان الحزن العراقي عتيق لكنه لم يكن ابدا بكثافة حزن هذه الايام ، لم يكن جلادا ينحر و لا طاغوتا يتجبر ، كان هناك دوما من يخرق غشاء ذلك الحزن الشفاف بقفشة مرحة او نكتة ذكية او بمقطع عذب من مقام و بستة بغدادية .. لكن الشباب اهل الطرب و المرح رحلوا ، و من يرحل في الحرب لا يعود ، و قد بعود في نعش دق على عجل او يعود خاويا بلا قلب ، لا لن يعود من يرحل للحرب كاملا كما كان .. اما من لم يرحل فصار ينبش في المقابر و في اساسات بغداد القديمة عن جحر بناه المنصور يحجب عنه عيون الموت رميا بالرصاص ..
كانت لحظة خوف مركزة .. استطالت الاعناق و استدارت الرؤوس نحو الزقاق ،انتفضت القلوب ، تمردت على الشعور و الوعي ... امرأة تصرخ و تولول .. واي صراخ يطغي على صراخ ام فقدت وحيدها .. نوع غريب من انين صاخب بهد كل حواجز الاحساس بالامان و يمسخ الهواجس عقاربا تلسع الوجدان و البدن بسم جليدي و تشبع الروح بهلع ينخر العظام ..
هي ( ام احسان ) تصرخ و تستغيث بالحاج عباس :
- احسان مااااات ....
احسان ؟!! ابن الطرف ؟ هذا الذي فقد اباه و هو لم يفطم بعد فتكفله الحاج عباس و رعاه ، اعانه قدر امكاناته ليتخرج من اعدادية الصناعة .. ليساق فورا لاداء الخدمة الالزامية في الجيش .
سيق قبل عشرة ايام لواحدة من مراكز التدريب العسكرية المسماة بـ ـ مدارس القتال - .. اي تدريب هذا الذي لا يؤهل فيه الانسان الا للموت !؟
- حجي عباس .. احسان مات و شبع موت و ما يردولي جنازته !
كان النعش محجوزا في واحدة من مراكز الشرطة القريبة من الحي .. الاوامر كانت تمنع تسليم جثث قتلى الحرب لذويهم ايام المناسبات الهامة و تحضر التجمهر وتجمع اكثر من ثلاث اشخاص مهما كانت الاسباب ..
- حجي گلتلهم ما يصير تجمهر ، ما عندنا احد ، ما قبلوا .. بهذلوني و طردوني ( وانت ام احسان كالذبيحة ) .. اريد احسان , اريدن ابوسه
- لا اله الا الله ، انا لله و اليه راجعون .. استغفرك يارب ... اشلون ماعندچ احد يا بنتي ( استدار ليواجه رواد مقهاه ) .. شنهو ، ماكو غيرة .. ما كو ازلمة ؟ يا الله يا جماعة ، احسان ابننا ، لازم انردة ، انغسله و انچفنه بيدينا ..
وتدخل احد التوائم ابناء المهمات السرية محتجا :
-ممنوع .. التجمهر ممنوع .. ماتشوفون التلفزيون ؟ عندنا مناسبة قومية ، عيد ميلاد الرئيس القائد ..
و اضاف الاخر :
- عيب شنو هالتصرفات المو حلوة ، و الله عيب ( رمق ام احسان معاتبا ) هاي هي تصرفات الماجدة العراقية بنت الخنساء ..؟ ( ثم انتفخت اوداجه و قال بحماس ) اهيچي اتحافظون على روح النصر ؟
- ولك غيرة سز .. ابنها الوحيد و مستشهد ، يا ماجدة و طرگاعة النصر ( هتف في زبائنه ) يا الله بينا يا نشاما ..
و فجأة تذكر شيئا .. ( المغوار ) ، و عانقت اصابعه مقبض الهراوة ..احس بشيء من الماضي يسري في عروقه ، رمق التوائم من نسل السلطان . و استقر بصره على شاشة التلفاز .. – مجاميع من اطفال رياض الاطفال ترقص في حضور الدكتاتور القابع بكامل زينته على عرشه ، بنات بعمر البراعم يتمايلن كدمى الية مبرمجة .. حركاتها متشنجة لا تساير الايقاع النشاز الصاخب ، يرقصن و في عيونهن نعاس ساعات الليل الثقيلة و شوق طاغ حزين لفراشهن الدافيء و احضان ام يحرقها القلق .. يرقصن و يرقصن و ظل عصا مدرب قاس يرسم على ملامحهن الخوف و طاعة عمياء ..! وحده الدكتاتور كان سعيدا ، مسترخيا في نشوة غامرة .. كان يغتصب من الطفولة احاسيسها ..
رسمت الهراوة دائرة في الهواء لتنزل صاعقة غضب بغدادية تهشم وجه الدكتاتور وسط وميض ازرق و دخان ابيض كثيف ..
وشعر الحاج عباس بصخب و ضجة لطيفة .. الشباب ، كل شباب الحي .. بل شباب المدينة ، البلد كلهم كانوا هناك ، في مقهاه .. ضحك و مرح ، اغان و اهازيج و مباريات حامية الوطيس في النرد و الدومينو تثير الحماس و تزلزل المناضد ..
و رأى احسان ببشاشته المعهودة ..يتحرك بخفة و نشاط بين هذا و ذاك ، لا يهمل احدا و يلبي كل الطلبات ..
و قبل طلوع الفجر اختطفت عفاريت شريرة الحاج عباس بينما كانت الجرافات تمسح من ذاكرة المدينة مقهاه ..
#رزكار_نوري_شاويس (هاشتاغ)
Rizgar_Nuri_Shawais#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟