أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جورج حداد - السقوط التاريخي لمنطق الهيمنة الدولية لاميركا















المزيد.....



السقوط التاريخي لمنطق الهيمنة الدولية لاميركا


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 4375 - 2014 / 2 / 24 - 16:20
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


السقوط التاريخي لمنطق الهيمنة الدولية لاميركا
جورج حداد*
بعد الهزيمة المدوية لاميركا في فيتنام سنة 1973، واضطرارها للانسحاب المخزي امام القوات الشعبية الباسلة لبلد صغير وفقير ومدمر، سيطرت ما تسمى "عقدة فيتنام" على السياسة الخارجية الاميركية.
ولكن بعد هزيمة التدخل السوفياتي البريجنيفي في افغانستان، وخصوصا بعد حرب الخليج الثانية في 1991، وتحطيم الاميركيين للجيش العراقي الذي سبق واحتل الكويت وأشعل فيها ابار النفط، وانهيار المنظومة السوفياتية والاتحاد السوفياتي السابقين، اعلن جورج بوش الاب، على الطريقة الهتلرية تماما، عن النزعة الاميركية لاقامة "نظام عالمي جديد"، بقيادة الولايات المتحدة الاميركية، بوصفها اصبحت "القطب العالمي الاوحد".
ولكن في 11 ايلول 2001، وهو ما اصبح يعرف بيوم "الثلاثاء الاسود"، تعرضت الولايات المتحدة الاميركية لمجزرة مروّعة، فاقت في "إرهابيتها" عملية احراق الرايخستاغ الالماني في 1933، التي قام بها الهتلريون من اجل إحكام قبضتهم على المانيا تمهيدا للحرب، كما فاقت في "غدريتها" وعدد ضحاياها البشرية الهجوم الياباني المفاجئ الذي حطم الاسطول الاميركي في بيرل هاربر سنة 1941، والذي كان المدخل او الحجة لجر الولايات المتحدة الى الحرب العالمية الثانية.
وقد شـُبهت هذه الضربة المفاجئة، التي ستؤرخ بها بداية القرن الواحد والعشرين، بـ"الزلزال". واجمع المحللون، من مختلف الاتجاهات، بأن التاريخ السياسي الاميركي خاصة، والدولي عامة، بعد هذا اليوم، لن يعود ابدا الى ما كان عليه قبله.
وتتقاطع في هذه المجزرة عدة أبعاد، مرتبطة فيما بينها بشكل لا ينفصل، الا انه يمكن، في معرض التحليل الموضوعي، تلخيصها في بعدين اساسيين هما:
ـ البعد الانساني، الاخلاقي ـ السياسي؛
ـ والبعد العملاني المركـّب، المتمثل في الاهداف والنتائج الستراتيجية والسياسية والاقتصادية.
ومن الطبيعي أن اهتمام العالم كله قد تركز منذ البدء على محاولة معرفة الطرف، او "حلف" الاطراف، الذي قام بهذه المجزرة، لأنه على هذا الجواب سيتوقف تحديد خط المسار العام للاحداث العالمية اللاحقة، المرتبطة او المتأثرة، مباشرة او غير مباشرة، بالسياسة الاميركية. وقد اصدرت الادارة الاميركية للحال بعض "اللوائح"، على رأسها الشيخ اسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان". وقامت الحملة على افغانستان تحت هذا العنوان. ثم بدأت تتوالى "لوائح" و"تلميحات" جديدة، لاطراف وبلدان جديدة. ولكنه من الواضح ان معرفة الطرف المقصود ليس بهذه البساطة، وان الادارة الاميركية إما انها لا تعرف بعد "العنوان النهائي الصحيح"، أو انها تعرف ولا تقول كل ما تعرف. وهذا ما يجعل السؤال عن "هذا العنوان" عاما. وقبل مقاربة الجواب على هذا السؤال، لا بد اولا من النظر في البعدين الانساني والعملاني، لهذه المجزرة.

المنابع "الحضارية" للارهاب
لقد وقف العالم كله مذهولا امام هول الخسائر البشرية والمادية التي نتجت عن هذه الضربة المفاجئة، التي أودت بحياة عدد كبير من الناس الابرياء، يبلغ عدة آلاف، حسبما أعلنته السلطات الاميركية المسؤولة.
ولا شك ان مهندسي هذا "الزلزال"، كي يقوموا بمثل هذا العمل بالتحديد، وضد هذه الاهداف بالتحديد، وبهذا "الدم البارد" اذا صح التعبير، وبهذا التخطيط والدقة "العلميين" والستراتيجيين، لم يكونوا يهدفون فقط الى "القتل في سبيل القتل"، بل هم قد استخدموا الصدمة الناجمة عن البعد الانساني المروّع للضربة، كوسيلة للوصول الى اهدافهم العملانية المتوخاة.
ومن جهة ثانية، فإذا كان الشعب الاميركي قد عبـّر بصدق عن فداحة المصاب الاليم الذي حل به، فإنه من الصعب "اتهام" الادارة، والطبقة السائدة عامة، في اميركا، أنه يهمها الجانب الانساني من الضربة بحد ذاته، بقدر ما يهمها مصالح الامبريالية الاميركية واستعادة هيبة زعامتها الدولية، التي ضربت في الصميم. وهي أيضا تستخدم الضحايا الاميركية البريئة، كقميص عثمان، ذريعة للتوصل الى اهدافها العملانية.
وهذا الاستخدام للكائن الانساني، وحقه في الحياة، كـ"رهينة سلبية"، يضحى بها، أو يتاجـَر بها، أو ـ في أحسن الحالات ـ لا يؤبه لها، في الصراعات، من قبل مختلف الاطراف، يجعل من الضروري التوقف عند البعد الانساني، بشكل خاص، قبل الانتقال لتحليل مختلف جوانب هذه الضربة، وتداعياتها، التي بدأت بالحرب على افغانستان، ولا ندري كيف ستتفاقم، وأين ومتى ستنتهي.
في البدء علينا ان نلاحظ ان هذا النوع من "البشارة" الذي تعمدته القوة التي تقف خلف هذه العملية، إن لـ"إثبات وجودها الفاعل"، وإن للوصول الى اهدافها، عبر الدم والنار والدمار وهلع "يوم القيامة"، ليس شيئا جديدا في تاريخ البشرية، بل هو شيء نموذجي ونمطي و"طبيعي" تماما، في ولادة وممارسة اي قوة دولية، سواء كانت دينا او مذهبا، او حزبا كبيرا او حركة جماهيرية، او دولة كبرى وحتى وسطى وصغرى، وسواء كانت "خيـّـرة" او "شريرة".
ومجزرة "الثلاثاء الاسود"، بكل ضخامتها وفظاعتها ولاانسانيتها، وإن كانت تحدث لأول مرة في اميركا، البعيدة تقليديا عن مثل هذه الاخطار، ليست هي العملية الارهابية، او المجزرة، الاولى، التي تهز الضمير الانساني، والحياة السياسية الدولية برمتها، او لهذه الدولة او الامة او تلك. فبها تتكرر سلسلة المآسي الانسانية للمجازر، المعروفة تماما، في ألمانيا وأميركا اللاتينية وافريقيا الجنوبية والجزائر وفلسطين ولبنان والعراق وفيتنام وغيرها وغيرها، التي تشهد على القسوة والوحشية من قبل الانسان ضد أخيه الانسان، من جهة، وعلى الحقد واليأس، اللذين يوصل اليهما الظلم والتمييز الاجتماعي والديني والقومي جماعات واسعة من الناس في كل مكان، من جهة اخرى. ولا تختلف هذه المجزرة عن غيرها من المجازر، سوى في أنها حدثت ضد اميركا بالذات، فقامت كل هذه الضجة ضد العنف والارهاب، نظرا للمكانة المميزة لاميركا في النظام الدولي الراهن، القائم على التمييز بين البلدان والشعوب.
وظاهرة الارهاب برمتها، هي مظهر من مظاهر العنف في المجتمع الانساني والدولي، ولا يمكن التصدي لها ومعالجتها الا في هذا السياق العام.
والعنف بوجهيه، اي العنف الذي يمارس من قبل طرف معين، او ضده، او كليهما معا، بكل ما يرافق ذلك من وجوه القسوة والوحشية، في جانب، والبطولة والتضحية، في جانب آخر، هو الى الآن "المولدة القانونية" التاريخية الرئيسية للظاهرات المجتمعية. وفي هذا برهان وجودي، على ان الانسان لم يتأنسن بعد الى درجة التسامي الروحي الكافي، على الحيوان الذي نشأ عنه.
ولا شك أن الاديان، والمدارس والتيارات الايديولوجية العامة، كانت، على الدوام، بمثابة المعبـّر عن، والموجه، للسلوك الانساني، الفردي والجماعي، وللصراعات المجتمعية. واذا تجردنا عن جانبها اللاهوتي والفكري ـ المثالي البحت، وأخذنا الانعكاسات والتأويلات والتطبيقات الواقعية والعملية، فيمكن القول إنها، بشكل عام، كانت تمثل، بصرف النظر عن اصولها، حالة ملتبسة، تدعو، من جانب، للخير والسلام بين الناس، وتبرر، من جانب آخر، "بحق" و"بغير حق"، ممارسة العنف ضد "الأغيار" و"الكفار" و"المشركين" وشتى أنواع "الاعداء"، وذلك أيضا باسم الخير والسلام، بموجب قوانين "العين بالعين والسن بالسن"، و"الشر بالشر والبادئ أظلم"، و"دفع شر أكبر بشرّ أصغر"، و"انصر اخاك ظالما او مظلوما"، و"التمدين"، و"حفظ النظام"، وغيرها من القوانين الاخلاقية والسياسية التي تستخدم بحق، او يساء استخدامها، تبعا للطرف والظرف والهدف.
وفي "العهد القديم"، الذي قدس الحياة الانسانية وأوصى "لا تقتل..."، دعوات صريحة لإبادة "الآخرين".
وكانت الفئات المعينة تنتقل، بين مرحلة تاريخية واخرى، واحيانا كثيرة خلال حياة انسانية واحدة، من النقيض الى النقيض، اي من مواجهة الظلم والعدوان، الى ممارستهما، باسم الايديولوجية الدينية والفكرية ذاتها.
فاليهود، مثلا، الذين تقول توراتهم انهم هربوا من بطش فرعون، وجاؤوا الى فلسطين بـ"وعد يهوه"، بطشوا هم أنفسهم بشعبها القديم الاصيل، وأغرقوه، باسم الرب، في بحر من الدماء والدموع، تماما كما فعل ويفعل الصهاينة اليوم، الذين جاؤوا مع الاستعمار "التمديني" الى فلسطين، حاملين "وعد بلفور".
والمسيحيون الذين كان لهم الصليب رمز فداء، جعله "الصليبيون" والمستعمرون رمزا للغزو والوحشية.
والمسلمون الذين بدأوا اصحاب رسالة مضطهدين ومجاهدين ضد ارباب الاصنام، والاكاسرة والقياصرة، اصطـُنعت لهم أصنام جديدة، على ايدي المماليك والعثمانيين والسلاطين وجميع اصحاب الطغيان والفتن والعمالة والدكتاتورية، الذين ولغوا ويـَلـِغون في دماء الشعوب العربية والاسلامية ذاتها، مثلما يفعل الاعداء وأكثر.
والشيء ذاته يقال عن الرأسمالية و"الاشتراكية" والعنصرية، وعن تاريخ فرنسا وبريطانيا وروسيا واميركا الخ. فـ"لا جديد تحت الشمس" على صعيد التاريخ "الحضاري"، الذي لا تزال تسوده قسوة ووحشية العنف، بوجهيها "المبرر" و"غير المبرر"، "الانساني" و"اللاانساني".
وليس في هذا اي تبرير للعنف والوحشية، والارهاب والحروب، بل هو مجرد اعتراف بالحقيقة، وتقرير امر واقع، علينا ان نواجهه بعين العقل، بعيدا عن الانفعالات وردود الفعل، التي تبعدنا عن فهم حقائق الواقع، ولا تقـرّبنا منه.
"التحضـّر" الامبريالي
والنظام الرأسمالي الامبريالي المعاصر، القائم على التمييز الاجتماعي والإتني والديني والقومي والعنصري، بكل ليبراليته وديمقراطيته الاستنسابية والمجتزأة، وبكل الجوانب الايجابية للعولمة، كـ"ثورة الاتصالات"، والفهم الانساني لـ"القرية الكونية"، الخ، لا يمثل انقلابا نوعيا معاكسا لهذه القاعدة التاريخية، بل هو يكرسها، بأفضح ما يكون من العري و"الشفافية". وبالرغم من البناء الشامخ لهيئة الامم المتحدة، المستظل بتمثال الحرية في نيويورك، فلا يزال العنف، والعنف المضاد، وفي سياقه الحروب والثورات والدكتاتوريات والقمع والمجازر والارهاب، هو العلامة المميزة في العلاقات الوطنية والاقليمية والدولية، المركبّة والمتناقضة، الانتاجية – الاستغلالية، التعاونية – التناحرية، وهو الذي يبرز، بوصفه الشكل الرئيسي لـ"ضبط" و"تنظيم" تلك العلاقات.
لقد حققت الانسانية انجازات كبرى على مستوى العلوم والثقافة، وفي مجرى النضال الطويل والدامي لأجل التحرر، الداخلي والخارجي، ولأجل دقرطة المجتمعات، وأنسنة العلاقات الاجتماعية والدولية، وتحقيق المساواة بين البشر، وإحقاق حقوق الانسان والامم، وعلى رأسها حق الحياة، الفردية والاجتماعية والوطنية، الحرة والكريمة. ولكن على الرغم من ذلك، ومن الدور "التقدمي"، من زاوية نظر الموضوعية التاريخية، للحركة "التوحيدية"، الوطنية والعالمية، للرأسمال، وصولا الى العولمة، فإن العنف لا يزال هو "اللغة الاولى السائدة" في العلاقات بين البشر. ذلك أن الرأسمالية، وفي عهدها الامبريالي "الأرقى" و"الاكثر تطورا"، لا تستطيع – الا بأن تلغي نفسها، ليحل محلها نظام اجتماعي انساني فعلا، شكلا ومحتوى – ان تغيّر جوهرها الاصلي، القائم على استغلال واضطهاد الانسان لأخيه الانسان.
وأبرز مثال صارخ على ذلك، هو أن "صناعة الموت"، المتمثلة في سباق التسلح، لا تزال هي الوظيفة "الاجتماعية!" و"الانتاجية!" الرئيسية للدولة المعاصرة. ويأخذ هذا المثال صورته العبثية المجنونة، في التسلح فائق التفوق، ولا سيما الفضائي الآحادي الجانب، من قبل الولايات المتحدة، أقوى دولة في العالم بلا منازع، بعد انهيار المنظومة السوفياتية ونهاية الحرب الباردة. فالدولة الاميركية تتخذ من تفوقها العسكري المتزايد، مرتكزا لفرض ارادتها على دول وشعوب العالم بأسره، ومحاولة تفصيل المجتمع الدولي، بالقوة، على قياس المصالح الضيقة للطغمة المالية الاحتكارية العليا المتحكمة في هذه الدولة.
لقد قامت القبائل "البربرية" فيما مضى: الجرمان والهون والمغول والتتار، بمهاجمة وتدمير "مراكز الحضارة" في روما وبغداد وغيرها. وكان احد الاسباب الجوهرية لذلك هو التفاوت الكبير في الثروة، وما ينتج عنه من عبثية سوريالية في العلاقات بين الجماعات البشرية، حيث كانت تلك القبائل تكابد شظف العيش، في حين ان الطبقات السائدة في "المراكز الحضارية" كانت تختنق بالتخمة والبذخ، الى درجة تحويل الانسان ـ العبد الى وسيلة تسلية، كمصارعين لا قيمة لحياتهم كبشر، يُدفعون الى قتل بعضهم بعضا أو يُـلقون للوحوش، أو تحويله الى قطعان من العبيد والحريم والخصيان، تباع وتشترى وتقتنى كالحيوان، في حدائق وقصور الملوك ـ الآلهة، وسيوف "الدين" وأمراء "المؤمنين".
واليوم، ولتأكيد سيادتها على العالم، فإن اميركا ـ روما الجديدة ـ تنفق "جزءا يسيرا" مما تنهبه من هذا العالم المسود، مقدار آلاف مليارات الدولارات (فقط!)، على التسلح المجنون، في وقت يعيش فيه مليارات المخلوقات البشرية في مستوى ادنى مما كان عليه "البرابرة" قبل مئات السنين، وفي وقت يهاجم فيه التصحر والجفاف بلدانا وشعوبا بأسرها، بسبب عدم الاستخدام العادل والرشيد للثروات الانسانية، وفي وقت يفتك فيه مرض الايدز ـ الذي يشتبه بأن الذي اطلقه هو المختبرات العسكرية الاميركية ـ بعشرات الملايين من الفقراء. وبدلا من استخلاص العبر اللازمة من هذا التبذير التسليحي المجنون، يفكر المنظـّرون الغربيون العنصريون في الطرق "العلمية" الكفيلة بإيجاد "الحلول النهائية" للسكان "الفائضين عن الحاجة" في البلدان الفقيرة.
إن الاساس الاجتماعي لهذا الانحراف الانساني، الذي تقوده اميركا في العصر الحديث، هو الافتراق التناحري المتزايد، بين دينامية "حياة" الرأسمال، الآيلة الى التمركز الرأسمالي العالمي المكثف والضيق، الذي يبدو معه الهرم الكوني واقفا على رأسه، وبين دينامية الحياة البشرية، الآيلة الى التنوع والتعدد والغنى والاتساع، ضمن وحدة انسانية مركبـّة ومتفاعلة. وهذا ما يطال جميع الشعوب والجماعات الانسانية، بما فيها الجماعات الشعبية والشرائح المثقفة والمتنورة داخل الولايات المتحدة بالذات.
ولقد وضع الكثير من القوانين والشرائع والاتفاقات، لتقنين العنف "الشرعي"، ومنع العنف "اللاشرعي"، بما فيه الارهاب، والحد منه ولجمه. ومع ذلك، فإن المجتمع الرأسمالي المعاصر قد تقدم "تقنيا"، اكثر منه انسانيا، في تقنين العنف، والحد منه، بل انه – من زاوية نظر معينة – تقدم في ذلك "تقنيا"، وتخلف انسانيا، بحيث ان الامن والاستقرار، بمعناه الواسع، الجسدي والاقتصادي والغذائي الخ، اصبح اكثر فأكثر امتيازا للأغنياء والاقوياء، فالاغنى والاقوى، على حساب الفقراء والضعفاء، فالافقر والاضعف. ونظرة الى "خريطة العنف" في المجتمع الدولي ككل، وفي داخل كل مجتمع على حدة، ترينا بوضوح، أنه بمقدار ما تزداد الجماعات والشعوب والاقاليم الافقر والاضعف، اكتواء بنار العنف وآثاره المدمرة، بالمقدار ذاته تزداد الجماعات والبلدان والاقاليم الاغنى والاقوى، تمتعا نسبيا بالامن. وبالمقارنة مع المجتمعات القديمة، القبلية مثلا، حينما كان يتم اللجوء الى العنف ضد الابرياء، كأخذ الثأر من اي فرد من افراد عشيرة الجاني، وبصرف النظر عن فظاعة هذه الجريمة التي يؤخذ فيها البريء بجريرة ذنب لم يرتكبه، فقد كان هناك نوع من التكافؤ في التسلح وفي المستوى القتالي والصراعات، بين مختلف الجماعات والاتنيات الخ. اما في المرحلة المتقدمة للرأسمالية، فقد اصبح العدوان على الشعوب الضعيفة يمثل مجازر رهيبة شبه مجانية. ووصل الامر في ايامنا الراهنة الى حد التباهي بـ"الحرب النظيفة" – على الطريقة الاميركية – التي لا يقتل فيها من المعتدين سوى قلة قليلة، بينما يقتل ويشوه ويشرد عشرات ومئات والوف الالوف من المدنيين الابرياء من "الاعداء" الاضعف والافقر، وبحيث تدمر البنى التحتية وموارد الحياة لبلدان وشعوب بأسرها، ويجري اعادتها عشرات ومئات السنين الى الوراء، دون ان يرف جفن للقادة والطبقات السائدة في البلدان المعتدية الغنية والقوية. ولعل قولة الرئيس الاميركي الاسبق ريغان "إننا سنعيد الفيتناميين الى العصر الحجري"، تمثل المـَعلـَم الاخلاقي الرئيسي للأولترا ـ امبريالية المعاصرة "المنتصرة!".
ومما يسهل هذه الجرائم الكبرى بحق الانسانية، عملية التعتيم الاعلامي الواسع، وتشويه وتنصيف وإخفاء الحقائق عن الشعوب، بما فيها شعوب البلدان المعتدية التي تكون آخر من يعلم، لأن المجرمين الكبار الاغنى والاقوى، الذين يمسكون بالعصا الغليظة للعدوان المكشوف في خارج بلدانهم، ، والقمع المستور والمكشوف داخل تلك البلدان، هم أنفسهم الذين يمسكون بالعصا السحرية للإعلام الماكر المنحاز، الموجه على الطريقة الغوبلزية المحدَّثة اميركيا.
وقد ظهر، للمثال، مدى انزعاج "الدمقراطية الاميركية" من الإعلام الموضوعي نسبيا، الخارج عن نطاق مواصفات "النظام العالمي الجديد"، في الموقف الاميركي الداعي للتشكيك بقناة "الجزيرة" القطرية، التي هي في الحساب الاخير "من اهل البيت"، لأنها تجرأت ونقلت، الى جانب جميع البيانات والتصريحات والمقابلات مع المسؤولين الاميركيين، كاملة غير منقوصة، بعض بيانات الشيخ بن لادن وتنظيم "القاعدة"، وكذلك صورا للاطفال والمدنيين والقرى والاحياء الفقيرة في افغانستان، الذين ذهبوا ضحية "الاخطاء" الاميركية التي لا صلاح لها.
المسؤولية التاريخية
والقوى المتسلطة في البلدان الغنية والقوية، ولا سيما في اميركا، هي التي تتحمل المسؤولية الاولى عن استمرار "التشريع الفعلي" و"التكريس الاخلاقي" للعنف، والارهاب، وبأبشع صوره، على النطاق الدولي برمته. وهذا ما تؤكده الوقائع على هذا الصعيد. ويكفي ان نتوقف عند بعض منها:
1 ـ من الجانب الاخلاقي والسياسي والاقتصادي والانساني، فإن الغرب الاستعماري والامبريالي، وعلى رأسه اميركا، لا يريد، حتى هذا التاريخ، ان يعتذر، وأن يعوض لشعوب الشرق المظلوم تاريخيا، عن حقبة الاستعمار والعبودية، التي قتل فيها عشرات ملايين الهنود الحمر (الذين كانوا هدفا غير مقصود لمخططات الغزو الاستعماري للشرق، التي بدأت برحلة كريستوف كولومبس و"اكتشاف" اميركا، وكانت استمرارا للحملات الصليبية، والذين هم "شرقيون" تماما بالمظلومية وبالسحنة معا)، والتي اصطيد فيها وقتل واستـُرقّ عشرات ملايين "العبيد" الافارقة، وغُزيت واستـُعبدت شعوب آسيا وافريقيا التي تعد بالمليارات.
وفي حين ان الدول الغربية نهضت وتطورت واغتنت، على حساب النهب والاستغلال الفظيع للشرق، لمئات السنين، ولا تزال الى اليوم "تنعم" بـ"الخيرات" التي أفاضها عليها الاستعمار القديم والحديث، فإن بلدان الشرق، الغارقة في ديون النصب الدولي، تقف على ابواب البنك الدولي او صندوق النقد الدولي، مستجدية بعض القروض ـ القيود التكبيلية الجديدة.
كما ان اميركا قامت، خلال الحرب العالمية الثانية، بضرب هيروشيما وناكازاكي بالقنبلة الذرية، كما قام الحلفاء الغربيون بتدمير مدينة درسدن الالمانية، حيث أبيد في هذه الجرائم ضد الانسانية مئات الآلاف من السكان المدنيين، بدم بارد، بدون أي ضرورات عسكرية حقيقية. وكانت الحجة اجبار اليابان وهتلر على الاستسلام. اي ان "الدمقراطيات" الغربية استخدمت وسيلة القتل الجماعي للمدنيين اليابانيين والالمان، من اجل اهدافها الستراتيجية، تماما كما استخدم هتلر "المحرقة" ضد اليهود العزل.
ولكن المانيا اعتذرت لليهود، ودفعت التعويضات لاسرائيل، من اجل تضليل اليهود البسطاء، وتسخيرهم مع الصهيونية لارتكاب "الهولوكوست" ضد الفلسطينيين والعرب، المتواصل منذ اكثر من ستين سنة. اما اميركا والحلفاء فلم يجدوا ما يعتذرون عنه، بخصوص هيروشيما وناكازاكي ودرسدن وابادة الهنود الحمر والزنوج، والاستعباد والاستعمار. علما ان اليهود هم حوالي عشرين مليون نسمة، في حين ان الشعوب التي وقعت ضحية للعنف الاستعماري والامبريالي تشكل اكثر من تسعة اعشار البشرية. وفي هذا تمييز عنصري لااخلاقي متماد، ضد الغالبية الساحقة من سكان المعمورة.
وحتى هذا التاريخ ترفض اميركا خاصة التحريم الكامل والشامل لاسلحة الدمار الشامل التي تريد احتكارها، وترفض توقيع اتفاقية كيوتو حول البيئة والمناخ، مما يهدد الكرة الارضية بأسرها، وتوقيع اتفاقية تحريم الالغام المضادة للافراد، ومحكمة مجرمي الحرب، وغيرها الكثير من الاتفاقات، مكرسة بذلك دوس المبادئ الاخلاقية الاولية، التي لا يمكن بدون تكريسها واحترامها مكافحة الارهاب.
وان دولة اسرائيل، الحليف الستراتيجي لاميركا و"واحة الدمقراطية" في الشرق الاوسط، قد قامت على اكتاف المنظمات الارهابية الصهيونية التي ارتكبت ابشع المجازر ضد الفلسطينيين، وشردت منهم اكثر من أربعة ملايين انسان، و"تحارب" المواطنين المدنيين العزل بأحدث وأفتك الاسلحة الاميركية، وهي تستبيح قتل الكتاب والشعراء والشخصيات الاجتماعية والسياسية، بوصفه سياسة رسمية للدولة، التي يقف على رأسها ابشع جزاري العصر، الذين يقوم الرؤساء الاميركيون باستقبالهم دوما كأقرب المقربين، الامر الذي لا تفسير لـه سوى اعطاء "كارت بلانش" اميركي للارهاب الاسرائيلي، أيا كان الهدف من هذا "التفويض بالقتل الجماعي".
2 ـ ان القوى الدولية المتسلطة، وعلى رأسها اميركا، لا تكتفي بعدم الوقوف ضد استخدام العنف بشكل عام وبدون تمييز، بما في ذلك ابشع اشكال الارهاب، بل هي عمليا "تديره شرعيا" بالطريقة التي تناسب مصالحها. فيتم اللجوء الى القوانين والاتفاقات والاعراف الدولية ضد الاطراف "المشاغبة"، حتى لو كان الامر يتعلق بالدفاع عن شخص واحد معارض او "منشق"، قتيل او سجين او ملاحق. اما في ما عدا ذلك، فإن غالبية الانقلابات العسكرية الدموية، وأنظمة الحكم الاستبدادية، والمجازر التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين، من اميركا الجنوبية، الى اوروبا الشرقية، الى افريقيا، الى الشرق الاوسط، وصولا الى آسيا الوسطى والشرق الاقصى، فهي قد تمت وتتم بتدبير الاجهزة والدوائر الخاصة الاميركية والغربية.
ويتم تنظيم حملات ابادة الجنس، التي تستخدم فيها الاسلحة المحرمة دوليا، وكافة اشكال الحصار والتجويع ومنع الادوية، تحت ستار الشرعية الدولية، كما جرى ويجري ضد قطاع غزة، وكما جرى ضد الشعب العراقي عشية العدوان الاميركي الواسع سنة 2003، لاجل السيطرة على نفط الخليج وممراته، بحجة مواجهة صدام حسين، وكما يجري الآن ضد الشعب الافغاني، الذي يراد تحويل اراضيه الى مزرعة خشخاش والى قاعدة للسيطرة على النفظ والغاز في حوض بحر قزوين، بحجة مطاردة "القاعدة" وطالبان اللذين كانا من الاساس "صناعة اميركية".
ومن اكثر الامثلة التاريخية مأساوية، واحتقارا للعقل البشري، هو الوضع "القانوني" للشعب الفلسطيني، الذي لم "تشفع له" عشرات القرارات الدولية التي صدرت لصالحه، والتي بقيت حبرا على ورق منذ اكثر من ستين سنة الى الآن، بفضل "سياسة المكيالين" التي تفرضها اميركا والغرب الامبريالي على العالم.
وإن "درس" بطرس غالي هو عبرة لمن يعتبر، على هذا الصعيد. فالامين العام السابق للامم المتحدة هو مسيحي قبطي مصري، وزوجته يهودية، وثقافته فرنسية، وكان رئيس منظمة الفرانكوفونية. وجده، وكان يدعى ايضا بطرس غالي، كان وزيرا في عهد الاحتلال البريطاني لمصر، وقد اغتاله الوطنيون المصريون، لاتهامهم اياه، بحق او بغير حق، بالعمالة للانكليز. وحينما انتخب امينا عاما للمنظمة الدولية، كان ذلك من ضمن الرضا الاميركي عنه خاصة، وعن السياسة المصرية عامة، الموالية لاميركا والغرب. وبمثل هذه السيرة، فإنه لا توجد "ثغرة" يمكن النفاذ منها "لاتهام" بطرس غالي بالتعاطف مع "التعصب الاسلامي" او "الارهاب"، بل على العكس تماما. ومع ذلك فقد جرى طرده من الامانة العامة للامم المتحدة، بشكل مشين، لاصحاب هذا الطرد وليس لـه، وذلك بإرادة اميركية آحادية. حيث ان 14 من اصل 15 عضوا في مجلس الامن الدولي كانوا يؤيدون التمديد لـه في هذا المركز. فقط السيدة اولبرايت، المندوبة الاميركية حينذاك، رفضت. وخضع مجلس الامن لارادتها. و"جريمة" بطرس غالي حينذاك، التي جلبت عليه الغضب الاميركي، انه "لم ينس" انه انسان، و"لم يخجل" انه عربي، فـ"تجرأ" على طلب اجراء تحقيق دولي في مجزرة قانا (قانا الجليل المكرسة في الانجيل)، التي ذهب ضحيتها اكثر من مائة قتيل، بينهم ثلاثون طفلا، ومئات الجرحى من المدنيين اللبنانيين، بفعل القصف المتعمد من قبل الجيش الاسرائيلي لمقر الامم المتحدة في جوار البلدة، الذي سبق لهؤلاء المدنيين المساكين ان احتموا به، خوفا من القصف الاسرائيلي لبلدتهم. وكان تعليل الجيش الاسرائيلي لهذه المجزرة أنها كانت "خطأ". ورفضت اميركا التحقيق في هذا "الخطأ". وبطردها بطرس غالي "قالت" اميركا للعالم كله كم تساوي بنظرها "شرعية" الامم المتحدة و"شرعة حقوق الانسان"، التي اسهم مندوب لبنان في صياغتها سنة 1946.
3 ـ لـ"تعزيز" سياسة القوة والبطش والارهاب، تلجأ القوى الدولية المتسلطة الى تطبيق سياسة الارهاب الاقتصادي، لاجبار الدول الاخرى عامة، والدول الضعيفة والفقيرة خاصة، على الخضوع لمشيئتها ومصالحها، عن طريق كماشة تقديم او منع المساعدات والقروض، وفرض الحصار، وشتى اساليب الترهيب والترغيب. وعن هذا الطريق تحصل على "الصمت" حيال الكثير من الجرائم التي ترتكب، وإغماض العين حيال عدم تطبيق قرارات الشرعية الدولية، غير المرغوبة، وتأمين "الاصوات" لدعم القرارات والسياسات المرغوبة والمفروضة.
4 ـ اذا ثبتت التهمة على تنظيم "القاعدة"، بأنه مشارك بالعمليات الارهابية في اميركا، وبصرف النظر عن الامكانيات والحوافز الخاصة بالقائمين بها، وهو ما يجب التوقف عنده على حدة، فإن الاجهزة الخاصة الاميركية هي التي تتحمل حرفيا ومباشرة المسؤولية الرئيسية عن ذلك، ليس فقط من حيث "التقصير" المثير للريبة، بل اولا لان هذه الاجهزة على وجه التحديد هي التي اضطلعت بدور الحاضنة لتنظيم "القاعدة"، الذي نشأ وترعرع واشتد ساعده برعايتها وحمايتها، قبل ان تختلف معه.
الامبريالية والشعب الاميركي
في هذا العرض السريع للبعد الانساني، الذي ينبغي النظر من خلاله الى مجزرة "الثلاثاء الاسود" في 11 ايلول 2001 في اميركا، يتبين:
اولا ـ أن المنبع "الاخلاقي" والسياسي الاساسي للارهاب، بوصفه احد مظاهر العنف في المجتمع المعاصر، انما يكمن في صميم نظام الرأسمالية والهيمنة الامبريالية.
ثانيا ـ ان مجزرة "الثلاثاء الاسود" انما تنبع من هذه المنبع ذاته مباشرة: إما كشكل من اشكال الصراع داخل المعسكر الامبريالي ذاته، تذهب ضحيته الجماهير البريئة. وإما كرد فعل على التسلط الامبريالي، بالطرق و"الاخلاق" ذاتها التي زرعتها الامبريالية، ولا تزال تتعهدها وترعاها، في العالم كله، ولا عجب ان تحصد اخيرا ما زرعته اولا.
ولا يبدو ابدا ان الادارة، والطبقة السائدة، الاميركيتين، تريدان فعلا "تجفيف" هذا النبع الاساسي للارهاب، بل تريدان تكريسه و"تطويره".
فللرد على ضربة "الثلاثاء الاسود"، رفعت الادارة الاميركية شعار "الحرب على الارهاب"، ودعت الى تكوين "حلف دولي" يقف الى جانبها، على قاعدة "من ليس معنا فهو مع الارهاب". وهو نسخة طبق الأصل عن الشعار الاميركي السابق للحرب الباردة "من ليس معنا فهو ضدنا". واستصدرت قرارا من مجلس الامن الدولي، تعمل لاستخدامه حسب مصالحها، كسيف مسلط فوق رؤوس جميع البلدان. وقد باشرت بترجمته على الارض في الحرب الظالمة على الشعب الافغاني الفقير، وبإصدار "لوائح الاتهام والتجريم" ضد قوى المقاومة المشروعة ضد الاحتلال الاسرائيلي، كـ"حزب الله" و"حركة حماس" و"الجهاد" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين". وهذا يعني أنها لم "تعلم" ولم "تتعلم" شيئا من يوم "الثلاثاء الاسود"، الا ما تريد هي ان "تعلمه" وتعمله.
وبالرغم من ذلك، ومع انه لم يجر حتى اليوم اي تعريف قانوني وسياسي واضح لمدلول كلمة "ارهاب"، فهناك شبه اجماع على الموقف الاخلاقي الذي يرفض التعرض للمدنيين الابرياء والمؤسسات المدنية، بالقتل والايذاء والضرر، باعتبار ذلك هو الحد الادنى الذي يتفق عليه لتعريف الارهاب، والتفريق بينه وبين حالات المقاومة ضد الاستعمار والاحتلال الاجنبي. وبناء على هذا التوافق "العرفي" والقانوني، فإن جميع المنظمات والهيئات والدول تقريبا، بمن فيها غير المؤيدة، والمعادية، للسياسة الاميركية، ابدت تعاطفها الصريح مع الشعب الاميركي حيال المأساة التي حلت به، بدون ان يعني ذلك حكما تأييد السياسة الاميركية، او الانضمام للحلف الاميركي الجديد. وأيا كانت الحوافز، الصادقة او المنافقة او النفعية، لدى كل طرف او دولة على حدة، فلا بد من الاشارة الى ثلاث قناعات، أخلاقية ـ سياسية، للتعاطف مع الشعب الاميركي، في محنته هذه:
الاولى، عدم تحميل الشعب الاميركي مسؤولية اخطاء وارتكابات الطبقة السائدة في دولته. فالتحرر من الهيمنة الامبريالية الاميركية، لا يمكن ان يتم في مواجهة مع الشعب الاميركي، بل هو سيتم، على العكس تماما، بالتعاون مع جماهير هذا الشعب، ذي التقاليد الدمقراطية والنضالية العريقة، وذي المصلحة الاساسية، في الحساب الاخير، بالتخلص من هذه الهيمنة، التي تجعل منه، رغما عنه، وبوعي او بغير وعي، من قبل مختلف طبقاته وشرائحه، موضوع استغلال واداة مسخـّرة للطغمة الاحتكارية، المتحكمة بمصائره ومصائر سائر شعوب العالم.
الثانية، القناعة بضرورة عدم تبرير "الارهاب المضاد" الذي تلجأ اليه بعض الاطراف اليائسة، على الطريقة اليهودية الشمشونية "علي وعلى اعدائي يار رب"، لان ذلك قد يعني الغرق – بقوة رد الفعل – في "المنطق الارهابي" للقوى المتسلطة ذاتها، مما يساعد على تكريس هذا المنطق، لا التحرر منه، وبالتالي إعطاء مزيد من الحجج والذرائع للقوى الاستعمارية والمستبدة في العالم، وعلى رأسها الامبريالية الاميركية والصهيونية، للحصول على التبرير المطلوب، داخليا وخارجيا، لمواصلة ومفاقمة سياسة ارهاب الدولة، الرسمي والسري، تحت ستار "الرد على الارهاب" و"مكافحته".
والثالثة، التأكيد الضمني والمباشر أنه قد آن الاوان منذ زمن طويل للشعب الاميركي "أن يعرف". فلو كان الشعب الاميركي "يعرف" حقا السياسة الخارجية، خاصة، لدولته، لكان من المرجح ألا ّ تحل به مثل هذه المأساة. وقد آن الأوان للسياسيين الاميركيين الانتهازيين، والاعلاميين المباعين، لان يخجلوا من الاستمرار في خداع شعبهم وتخديره بخرافة "الحلم الاميركي"، وتعطيل تفكيره بالإعلام المضلـِّل المعلـّب، الذي يقدم اليه على طريقة وجبات الأكل السريع. فلم يعد مسألة ترف سياسي او جمل "دمقراطية" فارغة، القول بأنه "من حق" و"من واجب" الشعب الاميركي الاطلاع على الحقائق، في كل ما يخص السياسة الخارجية الاميركية. وبقدر ما أن "الكارثة الوطنية" الاميركية المتمثلة بـ"الثلاثاء الاسود" هي كبيرة، فستكون كارثة اكبر منها امكانية طمس الاسباب الجوهرية التي قادت اليها، خصوصا عبر قرع طبول الحرب ضد الشعوب الفقيرة والمظلومة، كالشعب الافغاني، الذي سبق لـه وآمن بـ"صداقة" اميركا، وحارب السوفيات بمساعدتها، فكان لـه المصير البائس الذي أخضع له سنين طويلة، والذي لم ينج منه الى اليوم.
ولا بد هنا من التأكيد أن التحرر النهائي من الامبريالية الاميركية، انما يتوقف على تحرر الشعب الاميركي منها. وهذا ما يقتضي توضيح نقطتين هامتين، حول الموقف "العنصري المضاد" من اميركا، وما يسمى "عقدة فيتنام".
الدمقراطية والامبريالية
في مجرى النضال لأجل التحرر من الاستعمار والامبريالية، وبنتيجة الظلم والاضطهاد والمجازر، نشأت نظرة واسعة الانتشار، تقوم على العداء المسبق للبلد الاستعماري والامبريالي، ككل، اي دولة وشعبا. وقد انعكس ذلك بشكل تلقائي، غداة مجزرة 11 ايلول، في قيام بعض الاوساط الشعبية متدنية الوعي، في بعض البلدان العربية والاسلامية، التي تقع يوميا تحت ضربات الصهيونية والاسلحة الاميركية، بالتعبير عن "فرحتها" و"شماتتها" بما جرى، غير مميزة بين اميركا كشعب، واميركا كسياسة امبريالية. وقام اسامة بن لادن بـ"أدلجة" هذا الموقف "الشعبوي الفج"، بتبرير قتل كل "رجل" اميركي، لمجرد أنه "دافع ضرائب" لدولته.
ولكن في التجربة التاريخية، فإن حركات التحرير، والشعوب المناضلة، أخذت منذ زمن طويل تميز بين الشعب، وسياسة الدولة، للبلدان الاستعمارية والامبريالية، انطلاقا من الوعي بأن أمم تلك البلدان هي ظاهرة تاريخية حضارية، انسانية جوهرية، اما الاستعمار والامبريالية، فهي ظاهرة مرحلية، اقتصادية ـ سياسية ـ اجتماعية، ثانوية وعارضة، بالمعنى التاريخي، وأن جماهير الامم "الاستعمارية" و"الامبريالية" ليست، في الاساس، حليفا وحسب للشعوب المظلومة، بل ويتوقف عليها، في الحساب الاخير، القضاء النهائي على "استعماريتها" و"امبرياليتها" الخاصة.
على ان هذا الوعي التحرري اللاعنصري ظل "قاصرا" نسبيا و"أضعف"، في ما يخص النظرة الى اميركا. والسبب هو وجود فكرة مسطحة واسعة الانتشار بأن اميركا، بعكس المعادلة "العادية" لنشوء الاستعمار والامبريالية في البلدان الاخرى، انما نشأت، من الاساس، كبلد استعمار استيطاني ـ اغتصابي، على حساب السكان الاصليين، وأنها تكونت، من الاساس، كظاهرة استعمارية وامبريالية، وأن حضاريتها هي ظاهرة ثانوية، تخضع لاستعماريتها ولامبرياليتها. وينزلق حاملو هذه الفكرة الى اتخاذ موقف سلبي من الشعب الاميركي نفسه، مما يدخل تحت مفهوم "العنصرية المضادة"، حتى ولو كان ينطلق من ردود فعل ومواقف أولية معادية للعنصرية والاستعمار والامبريالية.
وهذه الفكرة لا تستند الا الى بعد واحد من تكوين الدولة الاميركية، هو البعد الاستعماري والامبريالي. ومع الاعتراف بخصوصية النشأة الاستعمارية لأميركا، من ضمن الفوارق الموضوعية بين مختلف الظاهرات الاستعمارية، فإنه لا وجود للظاهرة الاستعمارية والامبريالية "الخالصة". فالاستعمار والامبريالية هما مرحلة من مراحل المجتمع البشري، في المدى الوطني والعالمي سواء بسواء. وهذا ينطبق ايضا على المجتمع الاميركي الذي، ومنذ نشأته، كان ينقسم الى قسمين، مترابطين ـ متعارضين، كأي "مجتمع استعماري" آخر. وهذان القسمان هما:
اولا ـ القسم الاستعماري والامبريالي. وهو، وإن كان نشوء الدولة الاميركية قد ارتبط اساسا به، قسم أقلـّوي، كأي قسم مماثل في أي بلد استعماري وامبريالي آخر. الا انه ـ فوق ذلك، وبالرغم من كل وحشيته العنصرية وجرائمه التاريخية الخاصة ـ كان ولا يزال يختص بنقطة ضعف اساسية، وهي أنه "يعي" أنه قسم "مستورد"، "مهاجر"، "غير اصيل"، "مغتصب"، وليس وريثا لـ"تاريخ حضاري" و"سلطة شرعية" سياسية واجتماعية "وطنية" سابقة، كما هو الحال بالنسبة للشرائح المماثلة في الدول الاستعمارية والامبريالية الاخرى. وحتى هذا التاريخ لا تزال الشريحة الامبريالية في اميركا غير متجانسة ومفككة، "قوميا" و"عرقيا" و"دينيا" الخ، اكثر من اي شريحة مماثلة في اي بلد استعماري وامبريالي آخر. وهذا ما كان ولا يزال يجعل الشريحة الاستعمارية والامبريالية الاميركية اكثر "وقاحة عهرية"، براغماتية حسابية فاضحة، في مواجهة سائر الشعوب والطبقات، بما في ذلك "حلفائها"، الا انها في المقابل اكثر ضعفا، من اي شريحة استعمارية وامبريالية اخرى، في مواجهة "شعبها" الخاص، وأكثر اضطرارا لتقديم التنازلات لـه. وهذا ما يفسر أن يستمر الى الآن حق الامتلاك الفردي للسلاح، كمظهر من مظاهر حق المواطن في الدفاع عن حريته وكرامته، والحقوق المدنية الواسعة للمواطنين الاميركيين، التي تمثل "حجر رحى" في عنق الطبقة السائدة، تحاول على الدوام التخلص منها.
ثانيا ـ القسم الشعبي، وهو يمثل الاكثرية الساحقة من الاميركيين. والخامة البشرية لهذا القسم تتألف في الاساس من مواطنين من مختلف البلدان، كانوا ضحية للاقطاعية والانظمة الاستبدادية والرأسمالية والعبودية والاستعمار والامبريالية. وتعود جذور هذا القسم الى ثلاثة روافد رئيسية، بالاضافة الى "بقايا" الهنود الحمر، سكان البلاد الاصليين، الذين أبيدت وطردت أغلبيتهم الساحقة، واصبحوا اقلية ضئيلة جدا في الولايات المتحدة:
آ ـ هجرة العاطلين عن العمل، و"فائض" السكان من الفلاحين المفقرين وفقراء المدن الاوروبيين، والموجات المتواصلة من مختلف الاصقاع من الباحثين عن فرص جديدة للحياة، بعد ان ضاقت بهم السبل في اوطانهم الاصلية.
ب ـ هجرة جماعات واسعة من المعارضين والثوريين والمثقفين، من اوروبا الغربية والشرقية، وكذلك من مختلف البلدان الاخرى، الهاربين من الاستبداد والحروب وقمع الثورات والاضطهاد القومي والديني الخ.
ج ـ عشرات ملايين الافارقة الذين استـُرقــّوا لـلعمل في بناء "العالم الجديد".
واذا كان القسم الاول، الاستعماري والامبريالي، هو السائد في اميركا، فإن القسم الشعبي هو الذي، بشكل رئيسي، طبع المجتمع الاميركي بطابعه، وجعل منه، اكثر من اي "مجتمع استعماري" آخر، مجتمعا مدنيا مفتوحا، لـه تاريخ عريق في النضال التقدمي والدمقراطي والانساني، ويتعاطف بشكل كبير مع القضايا التحررية للشعوب. وللمثال، فإذا كانت العنصرية ضد الزنوج هي لطخة عار في تاريخ الاستعمار الاميركي، فإن النضال ضد العنصرية، في وسط البيض أنفسهم، هو علامة مضيئة في تاريخ الشعب الاميركي. واذا اجرينا مقارنة بين تاريخ المسألة العنصرية في جنوب افريقيا، حيث كان البيض اقلية، وبينها في اميركا، حيث ان السود هم اقلية، لادركنا اهمية العامل الدمقراطي العريق في المجتمع الاميركي في مسيرة النضال ضد العنصرية.
وقد تصاعد النضال الدمقراطي في اميركا بشكل كبير، في اعقاب الحرب العالمية الاولى، وخصوصا بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية في 1917، واستشراء الازمة الاقتصادية الامبريالية العالمية في 1929ـ1933. ولكن المجتمع "الشعبي" في اميركا عاد فـ"انتكس" بشدة امام "مجتمعها" الامبريالي، في حقبة الانحراف الستاليني والبيروقراطي السوفياتي، لما مثله هذا الانحراف من "خيبة امل" تاريخية وإضعاف للقوى الدمقراطية في العالم، التي كانت على صلة رحمية بقضية العدالة الاجتماعية والاشتراكية. وقد استفادت القوى اليمينية الاميركية الى اقصى الحدود من الانحراف في النظام السوفياتي، لتبرير تشديد قبضتها على مجتمعها. الا انها بطبيعة الحال لم ولن تستطيع خنق الدمقراطية المتأصلة فيه.
والمجتمع الاميركي اليوم، خلافا لأي مظهر خادع، مؤهل لأن يلعب دورا تحرريا تاريخيا، على النطاق العالمي بأسره، ضد الامبريالية العالمية، وبالاخص الاميركية ذاتها، الى جانب القضايا العادلة لجميع الشعوب. وهو يمتلك الامكانيات الموضوعية لفرض ارادته على الادارة الاميركية، من ضمن "اللعبة الدمقراطية" ذاتها، اذا وعى حقيقة تلك القضايا.
والشريحة الاستعمارية والامبريالية في اميركا غير قادرة على تمرير مصالحها الاحتكارية وسياستها العدوانية المعادية للشعوب الاخرى، إلا عن طريق الديماغوجية وتضليل جماهير شعبها. وليس من الصدفة وضع تمثال الحرية كرمز للولايات المتحدة الاميركية. والادارة الاميركية هي مضطرة دائما لاتباع سياسة مزدوجة الوجه: بقدر ما تزداد امبرياليتها انفضاحا، بقدر ما تزداد حاجتها للتظاهر برفع راية حقوق الانسان والحريات ومعاداة الدكتاتورية الخ. وأخشى ما تخشاه الاوساط الامبريالية الاميركية هو وعي المجتمع الاميركي ذاته لحقيقتها. وهذا ما يقودنا الى النظر في "عقدة فيتنام"، التي هي "عقدة اميركية" بامتياز.
ولكن هذا لا يعني ابدا ان المجتمع الاميركي قادر علاى تحرير ذاته بذاته، من الامبريالية الاميركية، وبالتالي تحرير العالم منها. بل على العكس، ان استمرار وجود الامبريالية الاميركية يعني استمرار قدرتها على تضليل الجماهير الاميركية وتخديرها و"تحييدها". والطريق الى تحرير الشعب الاميركي من الطبقة الاحتكارية السائدة في اميركا يمر عبر كفاح جميع شعوب العالم للتحرر من الامبريالية الاميركية.
العقدة الاميركية
ان التاريخ الخاص لاميركا هو مليء بالعنف، في ابادة الهنود الحمر، واستعباد زنوج افريقيا، وفي حرب الاستقلال عن بريطانيا، وفي الحرب الاهلية الاميركية، ومن ثم في مشاركتها في العديد من الحروب والحملات الخارجية، كالحربين العالميتين الاولى والثانية، ثم الحربين الكورية والفيتنامية، الخ.
وبالرغم من هذا التاريخ الدامي، فإن اميركا تخشى الآن خسارة مواطنيها في القتال. وكانت نقطة التحول في ذلك "حرب الفيتنام"، فسميت هذه الظاهرة "عقدة فيتنام". فما هي هذه العقدة؟
ان الانطباع السائد يعطي تفسيرين:
الاول "عنصري" او "شوفيني"، وهو حرص الادارة الاميركية على دماء ابناء بلدها.
وفي هذا جزء من الحقيقة، وهو خاص بكل دولة استعمارية سيدة، من ايام روما، مما يدل على استعلاء تلك الدولة، وسعيها بمختلف السبل لتوفير "مواطنيها" للسيادة، والتعويض عن ذلك بالقتال بواسطة "العبيد" ومواطني العالم ذوي المرتبة "الادنى"، بما في ذلك "السكان الدون" في "المستعمرات" ذاتها التي يجري محاربتها وإخضاعها. ولقد كان شعار "فيتنمة" الحرب الفيتنامية مثالا نموذجيا على ذلك. وقد كانت افغانستان ساحة نموذجية لتطبيق هذا المثال، حيث اعتمدت اميركا على "المجاهدين" بقيادة اسامة بن لادن و"الافغان العرب" في محاربة السوفيات، ثم اعتمدت على "طالبان" و"الافغان العرب" في تكنيس "المجاهدين"، واخيرا لجأت الى "تحالف الشمال" لمساعدتها في القضاء على نظام "طالبان" وتصفية بن لادن و"الافغان العرب" كـ"آخر الموهيكان".
والثاني "نفسي"، وهو خوف الاميركيين "المرفهين" من التضحية بأنفسهم.
وفي هذا ايضا جزء ثان من الحقيقة، وهو خاص بكل المجتمعات الاغنى والاكثر ترفيها نسبيا. وتحاول الدول الغنية التعويض عن ذلك، بالاضافة الى القتال بواسطة "الغير"، عن طريق تطوير اسلحتها كي تكون ذات فعالية حربية اقوى. وباقتران هذا الخوف مع العنصرية الاستعمارية، فإن هذا المنطق يقودها الى تجاوز جميع "اخلاق الحرب" المعروفة، واستخدام اشد الاسلحة فتكا، حيث لا ضرورة عسكرية لذلك، وكذلك الاسلحة المحرمة، والجرائم ضد الانسانية، بحيث يتحول القتال الى قتل مجاني ومجازر وحشية.
ولكن في نهاية المطاف فإن دور هذين العاملين لم يكن في يوم من الايام هو العامل المقرر، على هذا الصعيد، حيث ان جميع الدول الاستعمارية هي مضطرة في نهاية المطاف للقتال بمواطنيها، حتى تستطيع ـ اذا استطاعت ـ ان تربح معاركها، او ان لا تخسرها. فهناك سبب ثالث لهذا الخوف، هو الجوهري، وهو السبب السياسي.
فالدول الاستعمارية تخشى دائما على سياستها الاستعمارية في الخارج، من مواطنيها انفسهم، لأن موقف هؤلاء المواطنين هو الذي سيقرر، في الحساب الاخير، الاستمرار، أو عدم الاستمرار، بهذه السياسة الاستعمارية، ولا سيما الحروب الاستعمارية.
وللاسف، أنه حتى يومنا هذا، بعد آلاف السنين من التاريخ الواعي للبشرية، و"نزول" الرسالات السماوية، وانتشار الافكار التنويرية والمبادئ الاخلاقية والمدارس الفلسفية والعقائد الانسانية، والتنامي المتواصل لعامل الوعي والتسامي المناقبي والروحي في حياة الانسان، فإن هذا العامل لم يزل بعيدا عن ان يكون هو العامل المقرر في حياة المجتمعات، بدون الحافز المادي ـ الوجودي، المتعلق بمعيشة الانسان وحياته. بحيث ان الوعي يمر بالميزان البسيط، الفردي والجماعي، لحساب الربح والخسارة، ماديا، والبقاء او عدم البقاء على قيد الحياة، والسلامة، شخصيا.
والامبريالية الاميركية، تبعا لخصائص نشأتها، المرتبطة اولا بـ"جزيريتها"، دخلت بشكل عام في "معارك" سياسية واقتصادية وعسكرية، خارجية، رابحة، كانت تنعكس على حياة "مواطنيها" بتحقيق اكبر ما يكون من المكاسب، مقابل اقل ما يكون من الخسائر. وقد افرز هذا "المسار الاميركي الخاص" ظاهرتين اميركيتين خاصتين ايضا، جد متناقضتين، وهما:
الاولى، بالاستناد الى "الوقائع" البراغماتية، "الصحيحة" بعائديتها على المجتمع الاميركي، توفرت للادارات الاميركية على مر اجيال واجيال، امكانية لا مثيل لها لتضليل الشعب الاميركي حول السياسة الخارجية، والداخلية، لدولته. بحيث اصبحت الديماغوجية والكذب العام وسياسة المقياسين هي السائدة. وباعتبار ان "وراثة" امبراطوريات الاستعمار القديم، كانت تمثل احدى القنوات "التاريخية" للتفوق الاميركي، فإن الادارات الاميركية "اقنعت" الى حد كبير "المواطن" الاميركي، بأن سياستها الخارجية انما تقوم على "محاربة الاستعمار" و"الدفاع" عن "حقوق الشعوب"، وهذا ما يجعلها ـ في نظر الشعب الاميركي المضلل ـ "صديقة" للشعوب الاخرى و"مطلوبة" من قبلها. وهكذا اصبح المجتمع الاميركي، مأخوذا بأكثريته، مجتمعا مخدَّرا، "مقتنعا سلفا" بالسياسة الخارجية لدولته. وبحيث اصبح لهذا المجتمع "عالمه الاميركي الخاص"، "المختلف"، المتجاهل الى حد كبير، والجاهل الى حد اكبر، لبقية العالم.
الثانية، بالاستناد الى "العائدية" الاستثنائية للسياسة الخارجية الاميركية، اصبح "المواطن" الاميركي النمطي، "السوبرمان"، "المتفوق" على اي مواطن آخر في العالم، لهذه الجهة بالتحديد، اكثر تطلبا، ماديا ومعنويا، حيال السياسة الخارجية لدولته. فمن جهة اصبح اقل استعدادا، من اي شعب بلد استعماري اخر في العالم، للتضحية ماديا، وبالارواح. ومن جهة ثانية، اصبج اكثر استعدادا مسبقا لرفض ومعارضة اي سياسة خارجية "خاطئة"، بمعنى "مكلفة"، أي ذات عائدية ضعيفة، او بدون عائدية، خصوصا اذا كان فيها ملامح استعمارية ولاانسانية فاضحة، سيدفع هو بالنتيجة "ثمنها".
وهكذا اصبحت الادارة الاميركية نفسها رهينة ديماغوجيتها واعلامها الكاذب. فاضطرت الى اقامة سد عالٍ من التضليل بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. فالعلاقة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية لكل دولة استعمارية اخرى كانت دائما اكثر مباشرة. فإن الدولة كانت مضطرة لتعبئة "جمهورها" الوطني تعبئة مباشرة حول السياسة الاستعمارية الخارجية، تحت شعارات "الصليبية" او "المدى الحيوي" او "التمدين" الخ.، بحيث كانت السياسة الخارجية تبدو بالعين المجردة على حقيقتها كاستمرار للسياسة الداخلية. اما في الحالة الاميركية فقد اصبحت السياسة الخارجية تبدو ظاهريا لـ"المواطن الاميركي" كحالة "موازية"، "اضافية"، "منقطعة" عن السياسة الداخلية. واصبحت تتحكم بهذه السياسة فئة اولترا ـ امبريالية، لا تشعر بأي حاجة لـ"تنوير" و"توعية" "المواطن الاميركي" بسياستها الاستعمارية في الخارج.
وبنتيجة هذا الوضع فإن "المواطن الاميركي" هو "غير مهيأ" كفاية، و"معرضا للصدمة"، اكثر من اي "مواطن" في أي بلد استعماري وامبريالي آخر، في حال اكتشف حقيقة السياسة الخارجية لدولته، وذلك، خصوصا، عندما "يدفع الثمن".
واذا اردنا ان نقارن بين استعمار اي بلد اخر، وبين الاستعمار الاميركي (بالمعنى العام، الامبريالي ـ التسلطي، لا التقليدي وحسب، لمفهوم الاستعمار)، فإن الاول يبدو ـ اذا صح التعبير ـ كـ"استعمار وطني"، اما الاستعمار الاميركي فهو "استعمار استعماري" وحسب، "استعمار عارٍ"، مجرد من اي غطاء "وطني".
وللمقارنة "الانسانية"، فإننا نجد ان القادة الاستعماريين الاسرائيليين، مثلا، وقبلهم الانكليز والفرنسيين والالمان الخ، هم ـ كقاعدة ـ "وطنيون"، يقاتلون هم وأبناؤهم (بالمعنى الحرفي) لأجل "قضيتهم". اما القادة الاستعماريون الاميركيون، ومنهم رؤساء جمهورية كبوش وكلينتون، فهم ـ كقاعدة ـ يختبئون في الملاجئ، ويتهربون من الخدمة العسكرية، او "يخدمون" في المؤخرة البعيدة الخ. فلا احد يمكن ان يضحي بنفسه وماله في سبيل "الاستعمار لأجل الاستعمار".
وهذا السبب السياسي هو الاساس في جعل الادارة الاميركية تخشى على "مواطنها" من تقديم التضحيات، لأنها تخشى من "صدمة التضحية"، التي تدفع المواطن الاميركي للتخلي عن سلبيته واستهتاره بالسياسة الخارجية، ولبدء التفكير بحقيقة السياسة الخارجية لدولته.
أبعد من أميركا!
وفي المرحلة المعاصرة، فإن الطابع المعولم للرأسمالية الاحتكارية، وسلطتها الفعلية الدولية، لم يعودا يسمحان بـ"ترف" الفصل المصطنع بين السياستين الداخلية والخارجية لاميركا، كما لغيرها، وبعدم الاهتمام الكافي من قبل الشعب الاميركي بالسياسة الخارجية لدولته، التي تجر عليه، وعلى شعوب العالم، من الافعال وردود الافعال، ما قد يصل الى حد الكوارث الافظع من مجزرة "الثلاثاء الاسود"، الناتجة عن سياسة ليس هو، ولا اي من الشعوب الاخرى، مسؤولين عنها. ولم يعد بالامكان بعد اليوم النظر الى "عقدة فيتنام" كمسألة خارجية في اميركا، حيث ان مجزرة "ايلول الاسود" جعلتها عقدة داخلية بشكل مباشر. ومن هذا المنطلق لا يجوز بعد اليوم ان يبقى الإعلام الاميركي يعكس قضايا العالم، بشكل غير موضوعي، من زاوية مصالح المسيطرين على هذا الاعلام، وخصوصا الصهاينة، لا من زاوية نظر الشعوب المعنية واصحاب تلك القضايا بالذات. كما لا يجوز ان تبقى الدمقراطية الاميركية قناعا للهيمنة الامبريالية، وأن تكون الانتخابات الاميركية، التي يتقرر فيها من هو "السيد الاول" للعالم، أشبه شيء بكرنفال للتسلية، تتراقص فيه صور المرشحين للرئاسة على صدور الراقصات الفاتنات، في عالم ثلثا سكانه يعيشون تحت خط الفقر، و20 بالمائة منهم يتضورون أو يموتون جوعا، بفضل "سيادة" اميركا على العالم.
من هو "العدو غير المرئي" لاميركا؟
نأتي الى البحث عن هوية الطرف الذي قام بضربة 11 ايلول 2001، والذي يقف اليوم، من خلف ستار السرية التآمرية، في وجه أعظم قوة دولية في تاريخ البشرية.
ان اهمية معرفة ـ او عدم معرفة ـ هوية هذا الطرف، سواء بما تستطيع او تريد ان تكشفه اميركا، او بمقدار ما يكشفه هذا الطرف بنفسه عن نفسه، ليست مسألة إعلامية مجردة، بل بالدرجة الاولى مسألة عملانية، عسكرية وسياسية واقتصادية الخ، لأنه عليها يتوقف محاولة فهم مسار الاحداث في الحقبة التاريخية القادمة.
واذا استعرنا تعابير "علم الجريمة"، فإن اول خطوة ينبغي القيام بها، هي اولا، وعلى خلفية البحث في "اسلوب" الجريمة و"تقنياتها" و"اهدافها"، السؤال عن المستفيد من تلك الجريمة، والقادر على تنفيذها.
فمن هم اذن المستفيدون، والقادرون في الوقت نفسه على تحقيق الشروط الضرورية المطلوبة، لتنفيذ هذه العملية الارهابية الكبرى، وضرب اميركا في "قدس اقداسها"، مع الاحتساب "الطبيعي" لردود فعلها؟
جوابا على هذا السؤال سمع العالم "صوتين":
الاول ـ صوت آلة الدعاية الصهيونية العالمية التي تحاول، ولغايات مفهومة تماما، حصر "التهمة" بـ"الارهاب العربي والاسلامي". وسنأتي لمناقشة هذه التهمة لاحقا.
والثاني ـ صوت الادارة الاميركية ذاتها، التي تحدثت منذ البدء عن "عدو غير مرئي"، وعن "حرب عالمية" من نوع خاص، وبمختلف الاشكال السياسية والاقتصادية والمخابراتية والعسكرية، لخمس او عشر سنوات او اكثر. وهذا بحد ذاته يوحي بأن الادارة الاميركية تعلم علم اليقين ان هذا "العدو غير المرئي" الذي تتحدث عنه، والذي وجه لها هذه الضربة، هو اكبر واخطر من كل "الارهاب العربي والاسلامي!" المعروف الى الآن، حتى بالمقاييس والتوصيفات الصهيونية لهذا "الارهاب". وفي هذا بحد ذاته اعتراف ضمني بأنه، خلف هذه الضربة، أيا كانت الفئة او العناصر المنفذة، يختبئ "عدو"، يمتلك بعض مقومات "النــّدية"، بالمقارنة مع القوة الاميركية العظمى. فمثل هذا العدو هو فقط القادر على تحمل مسؤولية اتخاذ مثل هذا القرار الستراتيجي ذي الابعاد والمضاعفات الدولية، والذي اعتبر بمثابة "اعلان حرب"، وبالتخطيط الستراتيجي، الذي يدخل ضمنه "التحريض" و"الاغراء" و"التعبئة" و"التسهيلات"، والذي يأتي دونه وكجزء منه التخطيط التنفيذي.
ومع ذلك، فإن الادارة الاميركية، في نطاق "اللوائح الاتهامية" التي اصدرتها، والحرب التي باشرتها في افغانستان، وحملات "صيد الساحرات" التي تشنها مع حلفائها في اميركا والعالم، لم تخرج حتى الآن عن نطاق "الهوية العربية ـ الاسلامية" لـ"العدو الارهابي".
يبدو من ذلك وكأن هناك شبه توافق ضمني، بين هذا "العدو غير المرئي"، وبين الادارة الاميركية نفسها، على "الصمت" الفعلي، حتى الآن. وقد التزمت الادارة الاميركية هذا الصمت، حتى في ما يتعلق بجرائم الطرود البريدية الملوثة بجرثومة الجمرة الخبيثة، وفي التحقيق بشأن الطائرة التي سقطت في حي كوينسي بنيويورك، بعد ضربة 11 ايلول.
وليس هذا بجديد، خصوصا في ما يخص أميركا. فكما هي الحال في مثل هذه الجرائم السياسية الكبرى، كاغتيال الرئيس الاميركي الاسبق كندي، ومحاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني، علما بأنها اقل خطورة بما لا يقاس من "الثلاثاء الاسود"، فمن شبه المؤكد إن ما جرى في ذلك اليوم سيبقى في الجانب غير المرئي من التاريخ لسنوات طويلة. وكل تحليل راهن لا يمكنه أن يخرج من نطاق الافتراضات المنطقية، والحقائق الجزئية، لسبب بسيط هو أن "القوة الخفية" التي قامت بهذا الاستفزاز الهائل، لم تقم به إلا وقد وضعت مسبقا قواعد "لعبتها الخاصة"، فلا يمكنها بالتالي ان تعلن عن نفسها وتصبح مكشوفة، بعد يوم 11 ايلول 2001، كما لم يمكنها ان تفعل ذلك قبله وأثناءه، الا بإرادتها هي. وهذا ما لن يحصل، في المدى التاريخي المنظور على الاقل، لأنه يتعارض مع "السرية التآمرية" – السلاح الرئيسي والقاعدة الاساسية لهذه "اللعبة". ولهذا السبب لا يمكن الحديث الا عن "مرشحين للشبهة".
والاستنتاج هو: ان "سرية" هذه الضربة هي بحد ذاتها "مفتاح السر". فـ"العدو غير المرئي" الذي يقف خلف هذه الضربة لا يوجد "خارج" النظام العالمي الجديد الذي تتزعمه اميركا، بل "داخله" بالضبط. فهو بالتالي "من اهل البيت". وهو أشبه ما يكون بـ"مركز دولي مضاد" أخذ يقف بمواجهة المركز الدولي الاميركي الحالي، كقطبين نقيضين في كل واحد. وبالتحليل المنطقي، فإن مثل هذا "المركز الدولي المضاد" يوجد "في اميركا"، مثلما "في باقي انحاء العالم" الذي تتحكم به اميركا. وهو ليس ظاهرة آحادية البعد، كتنظيم ارهابي او ما اشبه، بل "يوجد" على جميع المستويات: السياسية والاقتصادية والعسكرية والمخابراتية والعلمية الخ. وهو يستغل جميع الامكانيات، ويستفيد من جميع التناقضات، ويوظف جميع الحلقات، بشكل متصل او منفصل فيما بين بعضها البعض.
"الدليل الجرمي" لـ"الارهاب العربي ـ الاسلامي"!
منذ اللحظات الاولى لضربة 11 ايلول، رفعت الاوساط الاميركية المعنية التعبير الاتهامي الضبابي: الارهاب! وحددت فورا تنظيم "القاعدة" بزعامة الشيخ أسامة بن لادن، بأنه المتهم الاول في العملية. وبدأت الحرب على افغانستان، بتهمة إيواء الشيخ بن لادن وعدم تسليمه لـ"العدالة الاميركية".
وتحت القصف المكثف لافغانستان باضخم القاذفات والقنابل الاميركية، المترافق مع "القصف" الاعلامي الصهيوني العالمي الأكثر كثافة، ومع شتى التهديدات الاميركية التي لم يسبق لها مثيل منذ الازمات الكبرى في مرحلة الحرب الباردة، تعطل البحث الجدي حول حقيقة وخلفية الاتهامات ضد "الارهاب العربي ـ الاسلامي"، التي اصبحت شبه مسلمات. وحتى دولة حليفة تقليدية لاميركا كالسعودية، اصبحت هدفا للتشكيك، والارهاب المعنوي والسياسي.
وبصرف النظر عن مدى جدية "اليقينية" المتسرعة، التي تتظاهر بها الادارة الاميركية والصهيونية العالمية، في التأكيد على "الارهاب العربي ـ الاسلامي"، فإن هذه "اليقينية" لا تلغي أساس المسألة. ذلك ان هذه "المعرفة" الفورية، نكاد نقول "المسبقة"، بـ"الفاعل"، تتناقض تماما مع الطابعين اللذين تتصف بهما هذه الضربة:
الاول ـ السرية التامة التي فاجأت جميع الاجهزة الاميركية، اذا كانت حقا قد تفاجأت. واذا لم تكن حقا قد تفاجأت، فإن "اللغز"، ومنه "التظاهر بالمفاجأة"، يصبح اكبر.
الثاني ـ الطابع الستراتيجي الدولي الشامل لهذه المواجهة بين القطب الاميركي الاوحد، وهذا العدو الدولي "غير المرئي"، الذي لم يحل وحسب محل الاتحاد السوفياتي السابق، بل وتفوق عليه في مهاجمة القوة الاميركية العظمى بهذا العنف في عقر دارها.
ومع ذلك، وحتى لا يكون العالم العربي والاسلامي خاصة، والعالم اجمع عامة، بما في ذلك بالاخص الشعب الاميركي، ضحية للاستغباء من قبل من ينصبون أنفسهم أوصياء على مصائر البشرية، من الصهاينة او حلفائهم الألداء في التركيبة الاحتكارية الامبريالية الاميركية، لا بد من محاولة الاجابة على هذا السؤال المركزي: هل يمكن لما يسمى "الارهاب العربي ـ الاسلامي" ان يكون، هو وحسب، ذلك "العدو غير المرئي"، الذي تحدثت عنه الادارة الاميركية؟
ان الدعاية الاسرائيلية والصهيونية العالمية تحاول تأكيد ذلك. ولكن أيا كانت طبيعة "الود" الخاص بين الصهيونية، وبين العرب والمسلمين، فإن المنطق يفترض مناقشة هذه التهمة.
إن كل عملية عسكرية، مهما كانت بسيطة بحد ذاتها، لا تتم بشكل "يتيم"، مقطوع الجذور، بل يكون لها سياقها الخاص، الذي تجري من ضمنه، والظروف والشروط، الذاتية والموضوعية، التي لا يمكن بدون توفرها قيام تلك العملية. و"الدليل الجرمي"، المظهّـر إعلاميا حتى الآن، لعملية 11 ايلول 2001، هو "البصمة العربية ـ الاسلامية، المتمثلة في الاسلوب الاستشهادي، او الانتحاري، الذي ظهر انه نفذت به العملية، حسب المعطيات المبتسرة، المقدمة من قبل الدوائر الاميركية. فلنسلم جدلا بهذه المعطيات، ولنأخذ، لأجل التحليل المنطقي المقارن، عملية استشهادية فردية بسيطة، يقوم بها فدائي فلسطيني في الارض المحتلة. ونقتصر في النقاش على هذا الاسلوب القتالي، دون التطرق الى الهدف التكتيكي المدني او العسكري للعملية، او غير ذلك من الجوانب السياسية وغيرها.
خلال الكفاح المرير ضد الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الامبريالية، وامام طغيان وجبروت القوة العسكرية للاعداء، ونتيجة للقهر والظلم واليأس، من جهة، والتمسك بالعزة والكرامة الانسانية، من جهة ثانية، افرزت التجربة والضرورة التاريخية شكلا مميزا للقتال، هو العمليات الاستشهادية، التي يسميها البعض "انتحارية". ويتم تشبيه هذه العمليات بعمليات الطيارين الكاميكاز، التي استخدمها الجيش الياباني. الا ان العمليات الاستشهادية للمقاومة تختلف في جوهرها عن ذلك، لأنها ليست عمليات لجيش نظامي، بل هي تعبير عن حالة ثورية شعبية. وهي ذات جذور في تاريخ الكفاح الشعبي العربي ـ الاسلامي، منذ مئات السنين. وقد سمي رجال المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها "فدائيين"، انطلاقا من هذا التراث النضالي. وفي الكفاح ضد اسرائيل والامبريالية، اصبح هذا الاسلوب خطا منهجيا، كسلاح لا يقاوم، بالاضافة الى صفته الشعبية، مما يجعل من الصعوبة بمكان "ضبطه" او مواجهته.
وللتخفيف من الوقع الصاعق لهذا الاسلوب القتالي على جمهورها المضلل، تحاول الآلة الاعلامية الصهيونية والامبريالية، الادعاء بأن منشأ هذا الاسلوب هو فقط التعصب الديني الاعمى.
ولكن الواقع هو ان الحافز الاول للاسلوب الاستشهادي، مثله مثل عملية النضال التحرري بأسرها، هو القضية التحررية بحد ذاتها. اما المفاهيم الدينية والايديولوجية المختلفة، فهي تعطي حافزا وزخما فكريا اضافيا للقضية التحررية، حسب الطرف المعين المشارك في العملية النضالية. وقد شاركت في البداية في الاسلوب الاستشهادي فصائل مناضلة مختلفة، علمانية ودينية، من مختلف الاتجاهات والمذاهب. واذا كانت الفصائل الاسلامية انتهجت اكثر من غيرها هذا الاسلوب، فهذا ليس دليلا على "التعصب" و"الطمع بالجنة والحوريات"، كما يفسر ذلك دعاة الصهيونية والامبريالية المبتذلون، ذلك ان كل مؤمن، وكل مجاهد، هو بهذا المعنى "متعصب طامع بالجنة"، بدون ان يكون استشهاديا. بل هو دليل على رد الفعل ضد التعصب والعنصرية من قبل الصهيونية، والامبريالية، التي عملت على اذلال العرب والمسلمين وتحطيم وجدانهم الانساني والديني، بما في ذلك تدنيس اقدس المقدسات الدينية.
واهمية هذا الاسلوب القتالي، انه يعطل تماما تفوق العدو، ويجعل اي شكل من اشكال تواجده مهددا. ومع اقتران هذا الاسلوب بمستوى تدريب عال بالنسبة لبعض المناضلين الاستشهاديين، وبتقنية معينة من ضمن المعطيات العصرية القائمة، فإنه يصبح اسلوبا لا حدود لخطورته وجدواه العسكرية والاقتصادية والسياسية والنفسية ضد العدو.
وفي بدايات ظهور هذا الاسلوب القتالي، الذي فاجأ اسرائيل، اخذت اجهزتها تركز، في تبرير عجزها، على الناحية النفسية ـ الدينية فقط، قائلة إن هذا "جنون"، وإنه "لا علاج" لشخص مصمم على الانتحار، إذا لم يتم "تحييده" مسبقا في الوقت المناسب.
ولكن فيما بعد اضطرت اسرائيل للاعتراف بأن هذه العمليات الانتحارية "البسيطة"، ليست مجرد عمليات فردية، بل هي ظاهرة قتالية، نشأت في ظروف وشروط محددة، كجزء لا يتجزأ من المقاومة الفلسطينية، وبارتباط وثيق مع السياق العام للصراع العربي ـ الاسرائيلي وامتداده الطبيعي الصراع الاسلامي ـ الاسرائيلي. ومن هنا أن اسرائيل اخذت تحمـّـل مسؤولية العمليات الاستشهادية للسلطة والمقاومة والشعب الفلسطيني، ولكل العرب والمسلمين الداعمين للقضية الفلسطينية، حتى ولو لم يكن هذا الطرف او ذاك مؤيدا للتنظيمات الاسلامية او لأسلوب العمليات التي تستهدف المدنيين.
ولنعترف أن اسرائيل هي "على حق"! فلولا الشروط الموضوعية والذاتية، التي تتوفر للمقاومة الفلسطينية، وارتباطاتها التنظيمية والاقتصادية واللوجستية والعسكرية، التعبوية، السياسية والدينية الخ، العربية والاسلامية والدولية، لما امكن للعمليات الاستشهادية الفلسطينية أن تظهر. وبكلمات اكثر دقة، فإنها لو ظهرت كعمليات فردية منعزلة، لما كان من الممكن ان تستمر وتتحول الى ظاهرة ستراتيجية، عسكريا وسياسيا.
واذا عدنا الى بدايات العمل الفدائي، فقد كان الفدائيون الاوائل ايضا يتهمون بأنهم "مهووسون" و"مرتزقة" و"ارهابيون" و"مخربون" الخ. وكانت التسمية "الرسمية" الاسرائيلية للفدائيين "مخرب". وكان هؤلاء "المخربون" يقتلون حتى على ايدي بعض الانظمة العربية، او يذوون في سجونها. ولكن التاريخ أثبت ان تلك العمليات كانت تعبيرا عن الضرورة الموضوعية. وتحولت المقاومة الى "قوة اقليمية"، هي القوة الرئيسية التي يتمحور حولها الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وتستند اليها الانظمة العربية ذاتها، في مواجهة "القوة الاقليمية" الاسرائيلية. والتأييد الشعبي الفلسطيني والعربي الواسع الذي تحظى به العمليات الاستشهادية، بصرف النظر عن شتى الاجتهادات، انما يؤكد انها مظهر، او فعل وجود، للمقاومة الفلسطينية.
ونأتي الى تحليل عملية 11 ايلول 2001، مقتصرين على وجهها المظهـّـر، الانتحاري، ولائحة الشبان الذين نفذوها كما اصدرتها الدوائر الاميركية ذاتها.
ان التفسير النفسي ـ الديني لحوافز أولئك الشبان، ومنه "الاتهام" بـ"الجنون" و"الامل الموعود بالجنة والحوريات"، لا يرتفع الى اعلى من مستوى الدعاية الاسرائيلية التبريرية السطحية، في بدايات "تفسيرها" للعمليات الاستشهادية الفردية ضدها. ولكن بعض منظـّـري العنصرية الدينية الاميركيين "يطورون" اليوم "الترسانة الفكرية ـ النفسية" الاسرائيلية الى "مستوى" القول بأن المشكلة ليست فقط في "الاصولية" الاسلامية، بل في التعليم الاسلامي ذاته. وهم يذهبون الى حد المطالبة بتغيير مناهج التعليم الديني الاسلامية، حتى في بلدان صديقة تقليديا لاميركا كالسعودية واندونيسيا الخ.
ولكن هذا "التفسير" هو موجه فقط لاقناع المقتنعين سلفا، وبالتالي للتحريض وتبرير السياسة العنصرية العدوانية ليس إلا. وفيما عدا ذلك فهو هروب من المنطق. ولنأخذ بعض "المقدمات التاريخية" والوقائع المرافقة للعملية:
1 ـ إذا صدقنا المعلومات الاميركية المذاعة ذاتها، فإن الذين نفذوا هذه العملية كانوا من الشبان المثقفين والكوادر الفنية. مثل هؤلاء، ومهما كانت درجة ايمانهم الديني و"جنونهم بالجنة والحوريات"، فليس من السهولة ان يخدعوا من قبل احد، وأن يتخذ اي منهم قرارا خطيرا من هذا النوع، من باب الحماس الديني فقط. واذا اتخذ مثل هذا القرار، فلماذا يكون "جنونه الديني" على هذا الهدف العسكري او الاقتصادي بالتحديد؟ ولماذا يصبح الاستشهاد في اميركا بالذات باب الدخول الى "الجنة والحوريات"؟
2 ـ إن القيام بعملية استشهادية مركـّـبة على هذا المستوى من التعقيد، يقتضي وجود طرف مخطط، ذي عقل علمي وستراتيجي على مستوى رفيع جدا، وذي امكانيات عملانية متناسبة مع هذا التخطيط والتنفيذ. وهذا الطرف يمكن أن يكون: إما ندا، بل ومتفوقا على الاجهزة الخاصة الاميركية؛ وإما مخترقا لها ومطلعا على اسرارها؛ وإما له "حلفاء" نافذون ضمنها، ينسق معهم وينسقون معه، لحسابات مشتركة؛ وإما مسيّـرا من قبل هذه الاجهزة او بعض اجنحتها.
3 ـ ان ابسط عملية عسكرية، ولو كان القائم بها مقاتل واحد، تقتضي وجود قاعدة عسكرية موضعية مساندة، بالاضافة الى قاعدة الانطلاق، المرتبطة بالهيكلية العامة، الجيش او التنظيم الخ الخ، التي ينتمي اليها هذا المقاتل. وفي حالة عملية 11 ايلول 2001 في اميركا، يقتضي وجود قاعدة عسكرية ـ لوجستية واسعة جدا، في قلب الدولة الاميركية، وفي قلب الهيكليات الاميركية، للتحضير والمساندة والانطلاق والمشاركة في التنفيذ والتمويه الخ. فمن السذاجة الاعتقاد أن الامر يقتصر على بضعة عشر شابا، استطاعوا لبس "طاقية الإخفاء" والقيام بمفردهم بما قاموا به، بعد تلقي التوجيهات والدعم المادي من قيادتهم. والدوائر الاميركية تحاول إعطاء مثل هذا الانطباع (كما فعلوا يوم أظهروا وكأن عملية نسف مقر المخابرات الاميركية في اوكلاهوما قام بها فرد واحد هو تيموفي ماكفاي الذي جرى اعدامه)، وذلك إما "لدواعي التحقيق" وإما "لغاية في نفس يعقوب".
فمن هو الطرف العربي والاسلامي الذي يمكن له ان يملك مثل هذه القاعدة السياسية، التقنية، اللوجستية، المالية، العسكرية الخ، في قلب اميركا، بما لم يكن ليخطر في بال قادة المخابرات السوفياتية السابقة، في عز مجدها، حتى في المنام؟
4 ـ اذا صدقنا أن الطرف المخطط لهذه العملية، هو فعلا طرف عربي ـ اسلامي، فإن مثل هذا الطرف، الذي يأخذ على عاتقه تحدي أقوى قوة في العالم، ليس من المنطقي ان يكون على درجة من الغباء أنه يفعل ذلك، فقط من باب الكراهية، والقيام بـ"مظاهرة انتقام" على طريقة شمشون "عليّ وعلى اعدائي يا رب". فلو كان كذلك، لكان من المنطقي أن يقوم هذا الطرف بالكشف عن وجهه والاعلان عن هويته بأعلى ضجة ممكنة. ولكن مجرد عدم الكشف عن نفسه، يبين أن هذا "العدو غير المرئي" يعتبر نفسه مستمرا في المواجهة مع اميركا.
5 ـ إن منظمات المقاومة الفلسطينية التي لجأت الى اسلوب العمليات الاستشهادية، الاكثر اثارة واستفزازا لاسرائيل، كانت تعلم علم اليقين ان اسرائيل سترد بعنف على هذه العمليات. ولم تكن تلك المنظمات لتستطيع القيام بعملياتها ضد "القوة الاقليمية" الرئيسية في المنطقة، المتمثلة باسرائيل، لو لم تكن هي نفسها جزءا من "القوة الاقليمية" المضادة، المتمثلة بالمقاومة الفلسطينية، بكل امتداداتها ومرتكزاتها العربية والاسلامية والعالمية.
وقياسا على ذلك، فمن غير المنطقي ان يعتقد احد ان هذا "العدو غير المرئي" لأميركا، وخصوصا اذا كان عربيا ـ اسلاميا، لا يتوقع من اميركا أشد ردود الفعل على عملية كعملية 11 ايلول 2001، تكون في مستواها بوصفها " القوة الدولية الأعظم". فهل أن هذا "العدو غير المرئي" هو جزء من "قوة دولية"؟ او هو نفسه "قوة دولية"؟ وفي كلتا الحالتين من هي هذه "القوة الدولية" القادرة على تحدي اميركا؟
ذلك هو "بيت القصيد" في عملية 11 ايلول 2001، ضد رموز القوة الاميركية. فلا يقف بوجه "قوة دولية"، إلا "قوة دولية" اخرى. والسرية والغموض، اللذان يحيطان الى الآن بعملية 11 ايلول 2001، لا يغيـّـران جوهر هذه الحقيقة، بل يقتضيان البحث، ومراقبة الاحداث، و"قراءة ما بين السطور"، والتحليل الجدي خصوصا للمواقف والتصرفات الاميركية.
وانطلاقا من هذه النقطة، فإن "القوى الدولية" القادرة نظريا على القيام بمثل هذه العملية، هي قديمة ومعروفة، وهو ما سنتناوله لاحقا. ولكنه ليس من المعروف حتى الآن أن أي طرف عربي ـ اسلامي، نظاما او تنظيما، يدخل في نادي "القوة الدولية". فحتى على المستوى الاقليمي، لا تزال الاطراف العربية ـ الاسلامية المعروفة تصارع بشق النفس، كي تكون "قوة اقليمية" ذات وزن.
واذا كان صحيحا ان بعض القوى العربية والاسلامية، تنظيما او دولة او اكثر، قد قامت بهذه العملية، لأي سبب او حافز كان، فإن هذا يعني تطبيق ممارسة قتالية جديدة، من قبل هيكليات سابقة، مشخصة او يمكن تشخيصها، كما جرى بالنسبة لتشخيص تنظيم "القاعدة" ونظام طالبان في افغانستان.
وفي هذه الحالة، فإنه لمن الصعب التصديق ـ الا اذا اعتبرنا، وهذا خارج المنطق، ان اميركا هي "جمهورية موز" او دولة كرتونية في منتهى الهشاشة ـ كي تؤثر فيها كل هذا التأثير مجرد "ظاهرة ارهابية"، حتى ولو استطاعت القيام بعملية نوعية ضخمة كهذه العملية. فاذا سلمنا جدلا أن بإمكان هذه "الظاهرة" ان "تتفوق" على اميركا في القيام بمثل هذه العملية، فإنها تكون عمليتها "الانتحارية" فعلا كـ"ظاهرة"، اي ليس للقائمين بالعملية وحسب، بل للنظام او التنظيم الذي يقف وراءها، لانه من المؤكد ان الرد الامير كي سيكون ساحقا وماحقا.
فأي هيكلية ثانوية مشخـّـصة، مهما بلغ شأنها، تجسد هذه "الظاهرة الارهابية" الجديدة، لا يمكن أن ترقى الى مستوى "قوة دولية". وستستطيع اميركا، القوة الدولية الاكبر، ان تحتوي هذه "الظاهرة الارهابية"، كمؤسسة مشخـّصة، وكممارسة، عن طريق الردود العسكرية والاقتصادية والسياسية الخ، بما في ذلك مراجعة بعض سياساتها الاقليمية والدولية. ولكن اعتبار اميركا ان هذه "الظاهرة الارهابية"، اي العملية معطوفة على الاطراف القائمة بها، هي بمثابة "اعلان حرب" ذات طابع دولي، فهو اعتراف ضمني بأن المسألة هي اكثر من "ظاهرة ارهابية".
ولننظر عن قرب الى الهيكليات العربية والاسلامية المشخـّـصة الرئيسية، لنر من هي تلك "القوة الدولية" المفترضة، العربية ـ الاسلامية، "القادرة" على القيام بمثل هذه العملية، ومواجهة اميركا دوليا:
لنأخذ اولا الدول العربية والاسلامية:
بصرف النظر عن نوايا وقدرات مختلف الدول العربية، مجتمعة ومنفردة، حتى أشدها عداء لاميركا، اذا كان يوجد هكذا دولة، فلا يوجد عاقل يمكنه ان يتهم اي من هذه الدول "المعادية"، بالوقوف خلف "السيناريو الارهابي" ضد اميركا، وبالتالي ان تكون هي مثل تلك "القوة الدولية". حتى اسرائيل لم تستطع ان تفعل ذلك. وكل ما "طمحت" اليه هو "المساواة" بين المقاومة ضد الاحتلال وبين "الارهاب"، واعتبار الدول الداعمة للمقاومة دولا داعمة للارهاب، ومن ثم التذمر من اميركا ذاتها، لعدم ضمها لها جنبا الى جنب الدول العربية، في "الحلف المعادي للارهاب".
والشيء ذاته يقال عن الدول الاسلامية الاخرى. بل ان اكبر دولتين اسلاميتين، وهما اندونيسيا وباكستان، سارعتا الى اعلان وقوفهما الى جانب "الحلف الاميركي لمكافحة الارهاب الدولي"، وذلك بالرغم من الوضع الدقيق لدولة كباكستان، من حيث حدودها المتداخلة عرقيا ودينيا مع افغانستان، وعلاقاتها القديمة الخاصة مع حركة طالبان، وكذلك مع "الافغان العرب" وفي مقدمتهم الشيخ اسامة بن لادن. اما بالنسبة للدولة "الاسلامية" القوية شبه الاوروبية، ونعني بها تركيا، فهي عضو قديم في الحلف الاطلسي، وحليف ستراتيجي للولايات المتحدة، و"صديق" لاسرائيل، ولا يعقل لمراكز القوى فيها واجهزتها السرية ان تقوم بأي عمل معاد لاميركا، بل على العكس تماما، فإن اجهزتها الخاصة هي على تعاون تام مع الاجهزة الغربية والموساد الاسرائيلي، إن في مكافحة "الارهاب" كما جرى في العملية المشتركة لصيد القائد الكردي عبدالله أوجلان، او في بعض "العمليات الخاصة" الاخرى، كما جرى في محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني، التي اشترك فيها العملاء السريون الاتراك، ومنهم محمد اقجا، والتي – للذكرى وحسب – جرت محاولة إلصاقها بالاسلام والمسلمين، الى جانب الشيوعيين!
وأكثر من ذلك، أن دولا عربية عديدة كان او لا يزال لها مشاكل جدية مع ما يسمى "الارهاب" او "الاصولية الاسلامية"، بما في ذلك مع تنظيم "القاعدة" والشيخ اسامة بن لادن، ومنها مصر والسعودية والكويت والجزائر والسودان واليمن وتونس وسوريا ولبنان وغيرها. ومما ليس بدون مغزى، أن العديد من المطلوبين "الاسلاميين" من تلك الدول كانوا يلجأون الى اميركا واوروبا الغربية بالذات. كما أن غالبية "الافغان العرب"، الذين تعاونوا مع "المجاهدين" عامة ومع "حركة طالبان" خاصة في افغانستان، هم غير قادرين على العودة الى بلدانهم الأصلية، وهم معروفون تماما، وأسماؤهم معمـّمة لدى اجهزة جميع "الدول المعنية". وحينما ارتكبت مجزرة القلعة في مزاري شريف، بحق المئات من الاسرى "الاجانب" الذين استسلموا لقوات تحالف الشمال، وأغلبيتهم من الشبان العرب، وتمت تصفيتهم بشكل غادر وبدم بارد من قبل آسريهم، بالتعاون مع الطائرات الاميركية التي قصفتهم من الجو بعد حصرهم في القلعة، فإن الدول العربية التي ينتمي اليها هؤلاء الشبان، تعاملت مع الموضوع بشبه صمت، وكأنها "استراحت" من هؤلاء المواطنين "المزعجين".
ولنأخذ ثانية التنظيمات، وعلى رأسها تنظيم "القاعدة"، المتهم الرئيسي بالعملية الارهابية ضد اميركا، والى جانبه "حركة طالبان"، التي احتضنته.
لو كان تنظيم "القاعدة"، بقدراته الذاتية، وبما لـه حتما من علاقات مع العديد من التيارات والحركات الاسلامية الاخرى، ولا سيما العربية، يمتلك هذه "القوة" المتفوقة، التي تؤهله كي يكون هو المرجعية الاساسية لهذه المواجهة، وبالتالي هو نواة تلك "القوة الدولية الجديدة"، لكان من المنطقي ان يعمل اولا على كسر عزلته وفرض نفسه في الساحة العربية والاسلامية، ولا سيما في البلدان الموالية لاميركا، والتي اقامت العلاقات مع اسرائيل، قبل مثل هذه المواجهة المصيرية مع اميركا، وفي عقر دارها بالذات، وذلك كشرط ضروري لاجل ايجاد قاعدة دولية واسعة نسبيا يمكنها ان تؤمن لـه حدا ادنى من النجاح. لا ان تكون قاعدة المواجهة نظام طالبان المعزول، في افغانستان المحاصرة والمفقرة حتى الحضيض، والتي انهكتها النزاعات الداخلية.
ولماذا لم يبدأوا اولا باسرائيل ذاتها، طالما انها أضعف وهدف أسهل، وهناك إجماع عربي واسلامي ضد عدوانها، وليس كما هي الحال في الموقف من اميركا، واخيرا لا آخر هي السبب الرئيسي للنزاع مع اميركا ذاتها؟
كما ان السرية التامة التي تمت بها العملية، والتي هي جزء اساسي من ستراتيجية "القوة العالمية" القائمة بها، تتنافى مع "المعرفة التلقائية" بأن القائم بالعملية، بمعنى المقرر والمخطط الرئيسي، بالاضافة الى التنفيذ، هو تنظيم "القاعدة". فإذا صدقنا ذلك، فهذا يعني قلب كل المقاييس رأسا على عقب، بحيث أن السياسة، وامتدادها الحرب، تصبح "لعبة حظ" او "رجما بالغيب"، لا قواعد ولا أسسا لها. ذلك ان الشيخ اسامة بن لادن شخصيا، وتنظيم "القاعدة" عامة، هما محددان ومعروفان تماما، وكانا ولا زالا تحت الرقابة الصارمة، من قبل الاجهزة المخابراتية جميعا، ولا سيما الاميركية منها، منذ سنوات طويلة. وقد اضطر الشيخ اسامة بن لادن ذاته لـ"مغادرة" السعودية، ثم السودان، واللجوء الى "مجاهل" افغانستان. فكيف يمكن ان "يفلت" تنظيم "القاعدة" بطريقة "عجائبية" خارقة، ليتحول تحت السمع والبصر الى مثل تلك "القوة العالمية"؟! واذا كان "منطقيا" ان تنظيم "القاعدة"، بما في ذلك حلفاؤه وحماته وأعوانه من "الارهابيين"، هو هو الشخصية "العربية – الاسلامية"، الاصلية والفرعية، المحرضة والمخططة والمنفذة للعملية، فإن الاكثر منطقية، وبـ"المنطق" ذاته، ان الاجهزة الاميركية والغربية، التي كانت تحيط الشيخ اسامة بن لادن و"القاعدة" بأقصى ما يكون من الرعاية ثم الرقابة، هي التي تغاضت عن تحضيراته "السرية"، لغايات علمها عند بعض النافذين في تلك الاجهزة، او انه كان هناك من يستطيع خداعها الى هذه الدرجة، و"تزويغ" نظرها عن عدو مكشوف الى هذه الدرجة.
اما بالنسبة لجماعة طالبان، ولافغانستان ككل، فإن الاجهزة الاميركية على اختلاف اشكالها ومسمياتها ومئات مليارات الدولارات التي تنفق عليها، كانت – من خلال العلاقات الوثيقة اثناء الحرب على السوفيات، بالتعاون الوثيق مع باكستان - تعرف الطالبان فردا فردا، وافغانستان شبرا شبرا. ولو كانت حركة الطالبان، وبمساعدة اسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة"، بمثل هذه القوة الندية للاجهزة والجيوش الاميركية، فلماذا لم تستطع الحركة، وحتى بعد ان سيطرت على غالبية الاراضي الافغانية،"حل مشكلتها" مع "جبهة الشمال" المعارضة لها؟ حتى لا نقول ولماذا لم تعمل جنبا الى جنب التيار الاسلامي القوي في باكستان، لانتزاع السلطة فيها، والسيطرة على سلاحها الصاروخي والنووي، وقدراتها البشرية الهائلة، قبل التطلع لتحدي اميركا؟ إنه لمن الافتئات على اميركا، الذي يصل الى مستوى التشنيع، القول بأن الطالبان وافغانستان يشكلان مثل هذا الخطر عليها، ويستطيعان توجيه مثل هذه الضربة اليها. ولكم كان لوحة ً سوريالية مثيرة للعجب مشهد إطلالة "قائدي المواجهة" الدولية الراهنة: الرئيس بوش محاطا بكل عظمة وجبروت دولته، ومقابله لا ستالين او هتلر او حتى احد "عظماء" الحكام العرب الخالدين الى الأبد، بل بضعة شيوخ بسطاء يقتعدون الارض، مختبئين في احد الكهوف الافغانية.
نخلص من ذلك الى ما يلي:
من المستبعد تماما ان يكون هناك دولة عربية او اسلامية او اكثر، تقف وراء هذه العملية، حتى لو كانت تمتلك القدرة "اللوجستية" لذلك. ذلك أنه لا توجد دولة عربية او اسلامية، ليس من "حلفاء" اميركا، بل ومن أشد خصومها، تستطيع اكثر من معارضة و"إزعاج" اميركا، ولكن ليس ابدا التحدي الستراتيجي العام للزعامة الدولية الاميركية، ولا سيما المالية والعسكرية، وبالتالي فتح معركة مكشوفة معها، تبدو "المواجهة العراقية" الى جانبها مجرد لعبة صغيرة.
والهيكليات الاسلامية المشخصة، بما هو معروف عنها من قدرات نمظيمية ومالية وعسكرية الخ، ومن حوافز عقائدية وسياسية، يمكنها في احسن الاحتمالات الدخول في مستوى المشاركة التنفيذية في مثل هذه العملية الارهابية، وليس اكثر. وقد ظهر ذلك بجلاء في مستوى رد حركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" وحلفائهما، على الهجمة الاميركية بعد 11 ايلول 2001.
وهذا على وجه التحديد ما يدفع الى الشك بأن عملية 11 ايلول 2001 انما كانت "جولة" من "حرب سرية"، لم تظهر معالمها بعد بوضوح، وهو ما يجعل الادارة الاميركية ذاتها، المعني الاول والمباشر، تعترف مسبقا، ضمنا او جهرا، بأن "العدو" لا يقتصر على ما يسمى "المنظمات الارهابية العربية والاسلامية". ذلك ان مستوى هذه المنظمات، مجتمعة، بدون اي انتقاص من قدرتها، ليس بالدرجة التي تستطيع معها تجاوز السد العالي للاجهزة الاستخبارية والعسكرية والتقنية الاميركية، الأغنى والأقوى والأرفع مستوى في العالم، والنجاح في تحقيق مثل هذه الضربة، النوعية بحد ذاتها، والتي تشير الدلائل وكأنها بداية لمعركة دولية ضارية، طويلة ومعقدة.
التناقضات المستعصية للنظام الامبريالي
ان الغموض الذي يكتنف الحرب الناتجة عن عملية 11 ايلول 2001 وتداعياتها، التي لا تزال في بداياتها، يؤكد حقيقة لا يمكن الهروب منها، وهي ان الاسباب الموضوعية والذاتية لهذه الحرب، انما تكمن في تناقضات المجتمع الامبريالي الدولي القائم، وعلى رأسه اميركا. وأيا كانت "القوة الدولية" التي تقف ضد اميركا حاليا فهي، اولا، قوة ناشئة من داخل النظام الامبريالي، وبفعل تناقضاته ذاتها. وهي، ثانيا، تستفيد، وتجد "المساعدة"، مباشرة وغير مباشرة، من مختلف أشكال هذه التناقضات، ومن قبل أطراف مختلفة، متحالفة ومتعادية، داخل اميركا وخارجها.
وفي هذا السياق لا يوجد "طرف بريء". فهناك اطراف تلعب دورا رئيسيا في هذا الصراع، وأطراف اخرى تلعب دورا "مساعدا"، بشكل مباشر او غير مباشر، "سلبي" او "ايجابي".
و"المتهم" ـ المسؤول الاول انما يتمثل في تركيبة الهيمنة الامبريالية الاميركية، المكونة من مراكز "متحدة ـ متصارعة"، يطمع كل منها لتكون له الحصة الاكبر في هذه الهيمنة.
وجميع القوى الدولية الاخرى، المتضررة بهذا الشكل او ذاك من الهيمنة الاميركية، والطامحة او الطامعة في ازاحتها، او مشاركتها الخ، هي مرشحة، من خلال مصالحها، للشبهة بكونها "محرض رئيسي"، او "مساعد" للارهاب.
والادارة الاميركية، ومعها الصهيونية العالمية، تحاول ان تطمس هذه الحقيقة الجوهرية، وأن تطمس البحث في اسباب الصراع، وأن تحصر المواجهة فقط في النتائج: الارهاب، ومحاربة الارهاب.
ولكن وضع الرأس في الرمل، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال حجة "الشيوعية الهدامة"، "الخارجية"، واستبدالها بحجة "الارهاب العربي ـ الاسلامي"، "الداخلي"، لن يؤدي الا الى حلقة جهنمية مفرغة من العنف والعنف المضاد. وهذا لا يلغي، بل يؤكد اكثر من اي وقت مضى، ضرورة البحث عن اسباب الارهاب والحرب، وجميع الظاهرات العالمية السلبية الاخرى، وطرق معالجتها، في تناقضات النظام الامبريالي العالمي ذاته.
قوى دولية "مساعدة" للإرهاب
نعرض اولا لثلاث قوى دولية "بريئة"، ولكنه تصح عليها "تهمة" الدور الموضوعي "المساعد" للارهاب، وهي:
الهند: التي هي على العموم دولة مسالمة، ذات تطلعات دولية معتدلة ومتواضعة، وهي منجذبة الى حد كبير "الى الداخل"، نظرا لمعضلاتها التاريخية، التي عجزت الدمقراطية الهندية عن حلها الى الآن، وأهمها، وبالاخص، الانفجار السكاني والفقر، والتركيب الطائفي المتحجر. وهي تعيش على "برميل بارود" يتمثل بوجود 250 مليون مواطن مسلم فيها. ونزاعها المزمن مع باكستان، خصوصا حول كشمير، هو من أخطر اشكال المعضلات "الداخلية" لشبه القارة الهندية. والهند تطمح الى اقامة علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة الاميركية، بما لا يتعارض مع مواقفها التاريخية المعادية للاستعمار. ولكن العلامة المميزة للتعامل الاميركي مع الهند، منذ حصولها على الاستقلال، هو "وراثة الدور الاستعماري" البريطاني الذي قسم الهند وكرس فيها النزاعات، والتواطؤ لجعلها دائما في حالة من الضعف والتفكك والتخبط في مشاكلها، واستغلال هذه المشاكل، لا سيما مع الباكستان، من اجل تأمين استمرار النفوذ والمصالح الاميركية. ولا بد من الاشارة هنا الى ان "الموضوع الاسلامي" الخطير، بالنسبة للهند، كان ولا يزال موضع استغلال من قبل الولايات المتحدة. ومن ثم فإن الهند لها مصلحة موضوعية في دق إسفين بين اميركا والاسلاميين، خصوصا في باكستان وكشمير وافغانستان. وتلتقي في مصلحتها هذه مع مصلحة اسرائيل، التي اقامت في السنوات الاخيرة علاقات اوسع مع الهند، ويمكن ان "تتبادل الخدمات" معها على هذا الصعيد.
وهذا ما قد يدفع اوساطا هندية معينة لأن تقوم، من وراء الستار، بكل ما من شأنه المساهمة في رفع "اللعنة الاميركية"، خصوصا عن طريق "تشجيع" الصراع بين اميركا وحلفائها الاسلاميين، فتضرب بذلك عصفورين بحجر واحد.
كما انه يوجد تربة واسعة في الهند للعداء لاميركا، مما يساعد اي قوة "خارجية" معادية لاميركا على استغلال هذا الوضع، والحصول على "خدمات ثانوية". وهناك ألوف "الادمغة" الهندية المهاجرة في اميركا واوروبا، ومنهم عدد كبير من المسلمين الهنود.
اليابان: تشعر هذه الدولة العريقة بالمرارة الدفينة، حيال الولايات المتحدة الاميركية، ولا سيما بسبب ضربها غير المبرر بالقنبلة الذرية في نهاية الحرب العالمية الثانية، لتهديد كل العالم بها، وإذلالها المتواصل بوجود القواعد العسكرية الاميركية فيها الى اليوم، وقيام الجنود الاميركيين بارتكاب الجرائم واغتصاب النساء بدون ان يحق للقضاء الياباني التدخل. ولكن الافق التاريخي للنظام القائم في اليابان يبدو سلبيا وغير مبشـّر، ويزداد سوءا يوما عن يوم، بسبب المحدودية الجغرافية للبلاد، و"شيخوختها" وتناقصها الديموغرافيين، كما بسبب علاقاتها التاريخية "السوداء" مع جيرانها الاقربين، كالصين خصوصا، وكوريا والهند الصينية. وبالرغم من غناها وتقدمها التكنولوجي في الوقت الراهن، تدرك اليابان تماما بأنها في غضون بضعة عقود ستصبح في اهمية مقاطعة صينية، وان التوازن العسكري بين البلدين سيختل الى درجة ان الصين ستصبح قادرة على سحق اليابان كما يسحق الفيل افعى صغيرة. وهذا ما يجعل الدولة اليابانية تخضع بخنوع للوصاية و"الحماية" الاميركية، التي لا تتوانى عن ابتزازها وتحويلها الى "خزنة احتياطية"، تمد اليها يدها كيفما تشاء. وهو ما ظهر بجلاء غداة ضربة 11 ايلول 2001، حيث عمدت اليابان مرغمة الى شراء مليارات الدولارات، من اجل مساعدة الدولار على عدم الانهيار. ولكن هذا الواقع ذاته يوجـِد معارضة شعبية قوية للهيمنة الاميركية في اليابان. ولا ينسى احد "الجيش الاحمر الياباني"، الذي قام اساسا على العداء للامبريالية الاميركية. كما ان الاميركيين من اصل ياباني لا ينسون اعتقالهم ووضعهم في معسكرات اعتقال خلال الحرب العالمية الثانية. علما بأن هناك جالية يابانية لا بأس بها في اميركا واوروبا، حيث تعمل ايضا بنشاط المافيا اليابانية. وهذا كله يوجد ارضية للمساعدة المباشرة وغير المباشرة في اعمال معادية لاميركا.
الصين: هي منكبـّة على بنائها الذاتي، وتطمح للتحول الى القوة العظمى الثانية، فالاولى في غضون عقود. ولذلك، وبالرغم من تناقضاتها التاريخية مع الغرب، وخصوصا مع اميركا، فهي تعمل للتوصل الى "تسويات تاريخية"، من موقع "الدفاع الستراتيجي" البعيد عن التهور. وهذا ما ظهر في معالجة قضية "هونغ كونغ" وطرح شعار "دولة واحدة ونظامين"، ويظهر الآن في معالجة قضية "تايوان". وتطمح الصين للوصول الى إلزام اميركا بعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وإيقاعها بالتدريج في "فخ" التحول الى "الشريك" الاقتصادي الاول لها، بحيث تصبح الكلمة الاولى في الاقتصاد الاميركي "كلمة صينية". وليس من المنطقي ان تقوم الصين بأي عمل من شأنه التعارض مع هذا الخط العام لها. الا انها "تفرح" ضمنا لأي تورط لاميركا، و"تساعدها" على ذلك، وتعمل لاستغلال كل ما من شأنه إضعاف مواقع اميركا، دون ان تنجر هي الى معركة مكشوفة معها. وطبعا لا يمكن الحديث عن "معارضة صينية" معادية لاميركا. ومن هذا المنظور يمكن للصين ان تقدم من وراء الستار بعض الخدمات الاستخبارية وغيرها، لبعض القوى المعادية لاميركا، الا انها ليست في وارد ان يكون هذا عملا اساسيا لها. وهناك جالية صينية كبرى في اميركا، كما يوجد فرع كبير للمافيا الصينية التي هي بالتأكيد مخترقة من قبل الاجهزة الخاصة الصينية. كما توجد جالية كبيرة من الادمغة الصينية في اميركا واوروبا.
اميركا تصنع أعداءها
الفرضية الثانية: قوى دولية مرشحة للتهمة الرئيسية
يبقى هناك ثلاث قوى دولية يمكن لأوضاعها، ومصالحها، وعلاقاتها بالقضايا الدولية، وبالعالم الاسلامي، وتاريخ وطبيعة علاقاتها بأميركا، ان "ترشحها"، كل على انفراد، لامكانية ان تضطلع بدور خاص في عملية بلورة سرية لـ"نواة" لـ"المركز الدولي المضاد"، وهي "النواة" التي من شأنها مد خيوط وشبكات لهذا المركز، بمعزل عن المؤسسات والمواقف الرسمية للدولة المعنية، ولأي دول اخرى تمتد اليها هذه الخيوط والشبكات. ونوردها فيما يلي، بترتيب "جغرافي" من الشرق الى الغرب، بدون "مفاضلة":
I – روسيا:
هذه الدولة لها تاريخ عريق في العلاقة التنافسية، بل والتناحرية، مع اميركا. فالاتحاد السوفياتي السابق (وقلبه وجسمه الاساسي روسيا) حمل العبء البشري والاقتصادي الاكبر في مواجهة الهتلرية ودحرها. وقد تلقى بعض المساعدات الاقتصادية والتسليحية الاميركية اثناء تلك المواجهة، من ضمن السياسة التقليدية الاميركية للمحاربة بالغير. وهذا التعاون ضد الهتلرية، واتفاقات يالطا السرية، كان يمكن ان ترسي اساسا لتعاون ارسخ واوسع بعد الحرب، ولسيادة مناخ جديد في العلاقات الدولية، يتجاوز الاختلافات الايديولوجية، بالرغم من التقييم المختلف لسياسة تقاسم مناطق النفوذ الدولية.
الا انه بدلا من ذلك، وما ان زال خطر الفاشية والنازية عن اوروبا واميركا، حتى عمدت اميركا الى تحقيق "مشروع مارشال" لمساعدة اوروبا الغربية على النهوض الاقتصادي من جديد، بما في ذلك عدو الامس المانيا (الغربية حينذاك). اما المنظومة السوفياتية فلم تحرم فقط من اي مساعدة، بل اخطر من ذلك، انه ما ان وضعت الحرب ضد الهتلرية اوزارها حتى قام تشرشل، في 1946، بإلقاء خطاب داخل احدى الاكاديميات العسكرية الاميركية اعلن فيه ان الغرب أخطأ في وقف الحرب العالمية الثانية، وانه بعد القضاء على المانيا الهتلرية وخروج الاتحاد السوفياتي من الحرب منهكا وضعيفا كان يجب على "العالم الحر" متابعة الحرب ضد الاتحاد السوفياتي والاجهاز عليه واحتلاله. وكان هذا الخطاب، بالتنسيق مع القيادة الاميركية، بمثابة اشارة الانطلاق لـ"الحرب الباردة" على السوفيات، بحجة "مكافحة الشيوعية"، وذلك من داخل اميركا بالذات، التي تولت قيادة تلك "الحرب". وعلى هذه الخلفية هناك شكوك كبيرة بأن تفجير المفاعل النووي في تشيرنوبيل، الذي راح ضحيته مئات الالاف من المصابين الابرياء، ووجه ضربة مميتة لهيبة الاتحاد السوفياتي، لم يكن سوى عملية تخريب كبرى دبرتها الاجهزة الخاصة الاميركية والغربية لـ"فتح الطريق" امام "البريسترويكا" للخائن غورباتشوف وزمرته النيوستالينية.
وقبل ذلك جرى العمل بذكاء، من قبل الدوائر الاميركية بالاخص، لاستدراج روسيا السوفياتية الى "الفخ الافغاني"، حيث تم استخدام التيار الاسلامي لاستنزاف وضرب الجيش السوفياتي (الروسي اساسا)، وهو ما فتح الطريق لانهيار الاتحاد السوفياتي في 1991.
ومع ذلك، فإن انهيار "الشيوعية" السوفياتية، والانفتاح على الغرب، وحتى انبطاح القيادة "الدمقراطية" الجديدة امام الاميركيين، لم "يشفع" لروسيا. بل على العكس استمر استخدام عامل "الارهاب الاسلامي" ضد روسيا "ما بعد الشيوعية"، وعمدت الدول الغربية، بزعامة اميركا، الى محاصرة روسيا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، وتخريبها ونهبها بشكل لا مثيل له، بالتعاون مع الماسونية والصهيونية ومافيات التيار الرأسمالي الموالي للغرب. فتم في بضع سنوات فقط تدمير الاقتصاد وزج الشعب الروسي العظيم في وهاد الجوع والفاقة والبطالة والمرض، وفي الوقت ذاته تم تهريب ثروات اسطورية روسية الى الدول الغربية، وخاصة اميركا، التي اصبحت "الوطن الاول" للمافيا الروسية.
وأصبح واضحا جدا ان الاميركيين القابعين خلف المحيط، لم يكونوا يريدون فقط فشل الشيوعية في روسيا، ولم يكن هدفهم اقامة علاقات تعاون وحسن جوار مع روسيا "دمقراطية!" على الطريقة الغربية، بل كان ولا يزال لهم هدف ابعد واخطر، هو تحطيم الكرامة القومية للشعب الروسي، وتدمير الكيان القومي للدولة الروسية، وتحويل روسيا من دولة عظمى الى دولة "تابعة" لاميركا، وهو ما تبدى في الاستفزاز الخطير، الذي هدد أمن العالم كله، والمتمثل في اغراق الغواصة النووية الروسية كورسك، منذ بضع سنوات، في محاولة مفضوحة لتركيع واذلال روسيا، وخاصة تحطيم معنويات الجيش الروسي العظيم، الذي حطم بالامس فقط الهتلرية.
يضاف الى ذلك كله ما طرحته اخيرا الادارة الاميركية حول نظام الدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ، وتحت غطاء هذا النظام الدفاعي المزعوم تقوم اميركا بنشر الصواريخ النووية قريبة ومتوسطة المدى، بحجة انها صواريخ "اعتراضية" دفاعية، لتهديد العالم بأسره، وخاصة روسيا. والهدف من هذا البرنامج هو تقزيم جميع دول العالم، ووضعها تحت رحمة السيد الاميركي الاوحد، حيث انه لا توجد دولة يمكن ان تجاري اميركا في بناء مثل هذه الشبكة، الا على حساب خسائر غير محتملة في اقتصادها الوطني. وهذا ينطبق اول ما ينطبق على روسيا، التي لم تعد قادرة على السير بسباق تسلح عقيم من هذا النوع، لانها خرجت من "معمعة التحول الدمقراطي" بخسائر اقتصادية اكثر بكثير من خسائرها في الحرب العالمية الثانية.
يبدو من ذلك بوضوح ان روسيا لها "مصلحة" اساسية في الرد، وضرب الهيمنة الاقتصادية والعسكرية الاميركية على العالم. الا انها غير قادرة على القيام بأي مواجهة صريحة مع اميركا، كما كان الامر في المرحلة السوفياتية السابقة.
ولكن بالمقابل فإن روسيا تمتلك القدرات التقنية والمخابراتية لتأمين "الخدمات" الضرورية لمثل ضربة "الثلاثاء الاسود" في 11 ايلول 2001. فعدا المستوى العلمي والتقني، فإن الانتقال الى "الدمقراطية" لم يمنع شبكة التجسس الروسية من الاستمرار في العمل بنشاط في اميركا، وهي تعتمد ايضا على بقايا شبكة التجسس السوفياتية السابقة، التي "نامت" ولكنها لم "تمت". يضاف اليها بقايا الشبكات السابقة لدول اوروبا الشرقية كالـ"شتازي" الالمانية الشرقية وغيرها. وغالبية افراد تلك الشبكات، السابقين والحاليين، هم من "القوميين" و"العقائديين"، وهذا ما يجعلهم أشد خطرا. وفي الوقت الحاضر فإن رئيس الدولة الروسية ذاته هو موظف سابق في المخابرات السوفياتية، الروسية لاحقا. ومن الطبيعي جدا ان تكون اساليب "الحرب المقنـّـعة" خطا رئيسيا في ستراتيجيته الدولية. وأخذا بالاعتبار التاريخ "المخضرم" لفلاديمير بوتين، وعدم احتراق رصيده لدى الرعيل السابق من "زملائه"، كما جرى لغورباتشوف، بالاضافة الى رصيده الجديد المغلف بالغموض، فإن إدارته هي مؤهلة لاستخدام كل بقايا الترسانة "السوفياتية" السابقة، بالاضافة الى القدرات المستحدثة، من ضمن اي "تحرك" جديد، مضاد لاميركا.
واخيرا، فإن الظاهرة الافغانية ليست البعد الوحيد في العلاقة الروسية – الاسلامية. بل ان روسيا تمتلك رصيدا تاريخيا مركبا عريقا، معقدا ومتناقضا، في العلاقة مع الاسلام والشعوب الاسلامية، بدءا من الجمهوريات الاسلامية السوفياتية السابقة، وانتهاء بالغالبية الساحقة من الاحزاب والتنظيمات والحركات التحررية في الدول العربية والاسلامية. وحرب افغانستان، والشيشان، الخ، هي جانب واحد من الصورة. وهنا ايضا يوجد حافز خاص لدى الروس، الذين تلقوا "التحية الاسلامية الاميركية" في افغانستان والشيشان والتفجيرات المريعة وخطف وقتل المئات والالاف في قلب المناطق والمدن الروسية ذاتها، بأن يردوا على اميركا بـ"تحية اسلامية" مثلها او "افضل منها".
والروس لديهم احتياط كبير من "الخامة البشرية" الضرورية لتحريك "العامل الاسلامي"، بدءا من الجمهوريات السوفياتية السابقة، وفي افغانستان ذاتها، وايران وفلسطين وغيرها وغيرها. ومثلما ان تنظيم "القاعدة" انقلب بشكل ما على الاميركيين، فماذا يمنع النظام الروسي الحالي من استخدام اوراقه القديمة، وتحويل و"تطوير" علاقاته مع الاسلاميين الذين نقلوا البندقية من كتف الى كتف، لـ"تجديد" حرب البدائل القديمة ايام الحرب البادرة، و"قلب اللعبة" على الاميركيين، ومحاولة التفوق عليهم في "اللعبة المزدوجة"، اي المشاركة من وراء الستار في "الارهاب" ضد الاميركيين، ومشاركة الاميركيين من امام الستار في "مكافحة الارهاب"؟
II – أوروبا الغربية:
إن الموقع الجغرافي الحصين للولايات المتحدة، الذي جعلها حتى الان بعيدة عن المدى المجدي لنيران اي دولة اوروبية، في اي حرب قامت حتى الان، من جهة، والتركيبة الكوسموبوليتية – البراغماتية للشريحة الرأسمالية العليا الاميركية الماسونية، ونواتها الطغمة المالية اليهودية، التي لا وطن حقيقي لها سوى البورصة، من جهة ثانية، هذا الواقع جعل اميركا تضطلع بدور الشريك اللدود والوريث الالزامي البغيض لعظمة وغنى الامبراطوريات الامبريالية الاوروبية الغربية السابقة. واذا كانت روما في زمانها قد اصبحت مركز العالم القديم، بمعاركها الخاصة ودماء ابنائها (بدون طبعا أي تبرير للحروب التوسعية التي دمرت قرطاجة وغيرها من زهرات الحضارة العالمية في تلك الازمنة)، فإن اميركا الشمالية اصبحت روما العصر، عن طريق استغلال المآسي التاريخية للعالم القديم، وبالاخص مآسي اوروبا الغربية التي سبق وخرج "العالم القديم" (اميركا) من رحمها، بل وكان مستعمرة لها.
ويكفي الاشارة، تاريخيا، لثلاث حالات صارخة، للاستغلال الانتهازي الاميركي لمآسي اوروبا، التي يصح فيها القول "مصائب قوم عند قوم فوائد":
1 – الحرب العالمية الاولى، لم تدخلها اميركا الا بعد حوالي ثلاث سنوات من بدئها. فدخلت الى جانب الطرف الرابح. ولبعدها عن ميدان المعارك، اصبحت منذ ذلك الحين المركز المالي العالمي الاول. هذا عدا التجارة عامة، وتجارة الاسلحة خاصة. وغداة هذه الحرب بالضبط، قررت الطغمة المالية العليا اليهودية نقل مركزها العالمي، المالي والسياسي والديني، من لندن الى نيويورك.
2 – الحرب العالمية الثانية، لم تدخلها اميركا الا بعد سنتين ونصف السنة من بدئها، اي بعد استنزاف قوى اوروبا الغربية كلها بشكل مريع، وبعد هروب الرساميل الاوروبية بشكل كثيف الى اميركا. وهي لم تدخلها الا بعد ان وسع هتلر نطاق حربه وهاجم الاتحاد السوفياتي السابق، وخشيت اميركا من ان يفرض السوفيات هيمنتهم على اوروبا بعد القضاء على النازية. وبعد الحرب، فإن الجميع خرجوا ضعفاء ومدمرين اقتصاديا، باستثناء اميركا التي حققت ارباحا فلكية من هذه الحرب. وبجزء يسير جدا من هذه الارباح، قامت بمشروع مارشال لمساعدة اوروبا الغربية، ولكنها في الوقت ذاته، وبواسطة هذا المشروع، حولت اوروبا الغربية، ولأول مرة في التاريخ، الى تابع اقتصادي لها. ولا تزال اوروبا الغربية الى الان، بعد اكثر من ستين سنة، تسعى جاهدة للتحرر من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية الاميركية.
وفي الآونة الاخيرة، وبعد ان اصدرت اوروبا الغربية عملتها الموحدة "اليورو"، لتعزيز وحدتها واستقلاليتها الاقتصاديتين، وكان سعره الاسمي لدى اصداره أغلى من الدولار، عمدت الاوساط المالية الاميركية واليهودية، بـ"فركة كعب"، لكسر سعر "اليورو" الى ما دون سعر الدولار، كصورة من صور تأكيد الهيمنة الاقتصادية الاميركية. وبعد انفجار الازمة المالية الرهيبة في اميركا سنة 2008، حافظ الدولار على توازنه امام اليورو، وبقي هو العملة الدولية الاولى بالرغم من انخفاض سعر صرفه امام اليورو.
3 – في مرحلة تصفية الاستعمار القديم، غداة الحرب العالمية الثانية، وهو ما ترافق زمنيا مع نشوء اسرائيل في 1948، حلت اميركا محل بريطانيا في دور الوصي الاول على اسرائيل، كما اضطلعت بدور الوريث للامبراطوريات، طارحة نظرية "ملء الفراغ" للرئيس الاميركي الاسبق ايزنهاور. وبانهيار الكولونيالية القديمة، حلت محلها الاحلاف العسكرية وسياسة الاساطيل والتبعية الاقتصادية، وهو ما سمي "نيوكولونياليسم" (الاستعمار الجديد) بزعامة اميركا.
4 ـ وبعد انهيار المنظومة السوفياتية و"الوفاة الطبيعية" لحلف فرصوفيا السابق، رفضت الولايات المتحدة بشدة حل او تغيير حلف الناتو، الذي تهيمن بواسطته عسكريا على اوروبا الغربية، وهي تعرقل بشدة ايضا اي مشروع امن اوروبي جماعي مستقل يتماشى مع السياسة المنفتحة نسبيا للاتحاد الاوروبي. ومن نتائج هذه الهيمنة العسكرية الاميركية، أن جُرّت اوروبا الغربية جرّا الى مغامرة حرب الخليج الثانية، والى الحرب ضد يوغوسلافيا، واخيرا الى المغامرات الاميركية في افغانستان والعراق.
ولا يخفى ان احد الاسباب الجوهرية لمشروع نظام الصواريخ المضادة للصواريخ، الذي شرع الرئيس بوش الابن في تنفيذه، هو الابقاء على التبعية العسكرية ـ وبالتالي السياسية ـ لاوروبا الغربية حيال اميركا. وقد سارت الادارة الاميركية بهذا المشروع، برغم كل الاعتراضات الاوروبية الغربية.
هذا لجهة حوافز اوروبا الغربية للرد على اميركا بأسلوب "الحرب المقنـّـعة". وبطبيعة الحال ان اوروبا الغربية هي قادرة تقنيا ومخابراتيا الخ، على تحقيق مثل هذه الضربة الارهابية، ان لجهة امكاناتها الذاتية، وإن لجهة كونها "من أهل البيت".
يبقى جانب العلاقة مع الطرف الاسلامي المرشح للمشاركة في التنفيذ: من المعلوم ان اوروبا الغربية، لاسباب عديدة جدا، فتحت ابوابها في العقود الاخيرة، ليس فقط لهجرة عربية واسلامية واسعة اليها، بشكل عام، بل ولتتمركز فيها الجمعيات والحركات الاسلامية على اختلافها، بما فيها المتهمة بـ"الارهاب"، ومنها تنظيم "القاعدة" بزعامة الشيخ اسامة بن لادن. وعن هذا الطريق كانت اوروبا الغربية تهدف، فيما تهدف اليه، الى استعادة نفوذها في الشرق العربي والاسلامي، الذي عملت الستراتيجية الاميركية طويلا لاخراجها منه. ولعله من المعبر التذكير، ان اوروبا الغربية سبق ايضا وفتحت ابوابها للامام الراحل آية الله الخميني، الذي قاد من اوروبا بالذات حملة اسقاط نظام الشاه الحليف السابق لاميركا، وطار من اوروبا بالذات الى ايران لاقامة الجمهورية الاسلامية فيها، وهو يرفع شعار "اميركا هي الشيطان الاكبر".
وخلال العقود الماضية، كان هناك وقت كاف للدوائر السياسية والاجهزة المختصة الاوروبية الغربية ذات المصلحة، لأن "تدبر امورها" مع "القطاع الاسلامي"، بما في ذلك بالاخص الاستفادة من اهتزاز العلاقة بين اميركا وبين حلفائها السابقين من الاسلاميين في افغانستان وغيرها، ومن تنظيم "القاعدة" وغيره.
وربما كان ذا مغزى الاشارة الى العلاقات الخاصة للالمان مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين، "على هامش" الهيمنة الاميركية. وليس ما يمنع الالمان من الاستفادة في ذلك من "الرصيد التاريخي" للمخابرات الالمانية الشرقية السابقة (الشتازي) في الاتصالات مع الفلسطينيين وغيرهم. ولا يخفى ان هناك مساع اميركية دائمة لابعاد الالمان والفرنسيين بالاخص، عن "التدخل" بالشرق الاوسط. وقد كانت حرب الخليج الاولى والثانية، في بعض وجوهها، شكلا من اشكال الصراع الاميركي ـ الاوروبي على المنطقة.
III - التناقضات "العائلية" الاميركية:
في مرحلة الثنائية القطبية والحرب الباردة، فإن الاتحاد السوفياتي، وكذلك اميركا، كانا مؤهلين نظريا ـ من حيث امكانيات كل منهما كدولة ـ لتحضير وتنفيذ مثل هذه الضربة المركزية، مع استخدام بعض "البرافانات" والحلفاء الثانويين. ولكن مثل هذا الخطر كان خطرا "خارجيا" تماما، ولم يكن من الممكن بتاتا اخفاء من هو القائم الفعلي بها. وكان القيام بمثل هذه الضربة يعني اندلاع حرب عالمية نووية فورا. وربما لهذا لم يحدث مثل ذلك بالاتجاهين، اي لا من قبل "مملكة الشر السوفياتية" ضد زعيمة "العالم الحر" طيب الذكر، ولا بالعكس. وذلك نظرا الى توازن الرعب الذي كان قائما حينذاك على التوازن الستراتيجي بين الجبارين.
اما اليوم، وبوجود الاحادية القطبية لاميركا، وأيا كان القائمون بهذه الضربة، فلا يمكن النظر اليها الا بوصفها "مسألة داخلية"، خاصة بالنظام الامبريالي العالمي الجديد، الذي تقوده اميركا. وهذا يعني أن هذا النظام، وبدليل هذه الضربة ذاتها، يدين نفسه بنفسه، بأنه ليس النظام الصالح للعالم عامة، ولأميركا خاصة، ويشكل تهديدا للسلام العالمي برمته، كما للسلم والأمن القومي الاميركي، بطريقة اكثر خطورة وتعقيدا مما كان في مرحلة الثنائية القطبية. وإذا كانت هذه "الحالة الحرجة" الجديدة التي اصبح يتسم بها النظام الامبريالي العالمي "المؤمرك"، تحتاج الى تحليل علماء الاجتماع والسياسة المختصين، فإننا نشير هنا الى العامل الذي ينتج ويفاقم هذه الحالة والمتمثل في إزالة الحدود بين "الداخل" و"الخارج" الاميركي. وهذا يعني:
ـ ان الانشقاقات والصراعات في صفوف الطبقة الامبريالية السائدة في المتروبول الاميركي، اصبحت ذات ابعاد عالمية مباشرة، بحيث ان كل طرف احتكاري اميركي اصبح لـه ارتكازات ومواقع قوة و"تحالفات" في "الخارج"، يستند اليها ويستخدمها ليس في الصراعات الدولية وحسب، بل وفي الصراعات الاميركية "الداخلية" بالذات.
ـ ان "الاطراف" العالمية، "الحليفة" او "التابعة" او "المستعمرة وشبه المستعمرة"، في تناقضها العام مع "المتروبول" الاميركي، لم تعد تتحرك من "الخارج" البعيد وحسب، بل ومن "الداخل" الاميركي ايضا، عن طريق الارتباط والتعاون و"المصالح" و"الخدمات" المتبادلة، مع مختلف الاطراف والكتل السياسية والاحتكارية الاميركية.
بالنظر الى هذا الواقع الجديد، فإن هذه الضربة، والتداعيات والتطورات اللاحقة المنطلقة منها، تحتم "إعادة النظر" في أسس هذا النظام. وهذا ما يقتضي إلقاء نظرة على تركيبة النظام الامبريالي الاميركي بالذات، ومحاولة كشف التناقضات داخل هذه التركيبة، التي تصبح اكثر فأكثر المولـّد الاول، ومركز الجذب الاول، للصراعات الاميركية ـ العالمية المركبـّة.
من ضمن زعامتها الدولية، تتميز اميركا بثلاثة معالم مركزية عالمية هي انها:
1ـ مركز المحور الانكلو ـ ساكسوني، الذي يضم ايضا بالاخص بريطانيا وكندا واوستراليا.
2ـ مركز الماسونية العالمية، والمافيا الدولية التي تدور في فلكها.
3ـ مركز الطغمة المالية اليهودية العليا والصهيونية العالمية.
ان هذه المراكز الثلاثة تتقاطع فيما بينها، ضمن الدور الزعامي الدولي العام لاميركا، ولكنها لا تتطابق بالطبع، بل هي تتفاوت وتتناقض وتتناحر، تبعا لمصالحها الخاصة والعامة. الا انها كلها تلتقي في مواجهة سائر "العناوين العالمية" الاخرى، وفي تكييف السياسة الاميركية للتعامل معها، كالشيوعية والسلافية والكاثوليكية والارثوذكسية وروسيا واوروبا والصين والاسلام والعالم الثالث الخ.
والتركيبة الاحتكارية الاميركية هي بطبيعة الحال تركيبة متداخلة تماما بالمعنى الرأسمالي البحت، خصوصا في عصر العولمة الحديث، حيث ان مفاهيم مثل "الرأسمال المالي" و"الرأسمال الصناعي" و"الرأسمال التجاري" الخ، تصبح نسبية جدا اكثر فأكثر. ولكن هذا بالمعنى الاطلاقي العام. اما بالمعنى الملموس، فيبقى هناك دائما كتل رأسمالية ترتبط، أو يكون مركز الثقل الرئيسي لها، في قطاعات انتاجية او مالية او تسويقية محددة. وهناك دائما عملية تنافس وصراع بين هذه الكتل، يعبـّـر عنه سياسيا بمختلف الاشكال. وفي اميركا كتلتان محوريتان على هذا الصعيد، وكتلة ثالثة مزاحمة لهما أقل منهما اهمية، وهي:
1 – كتلة كوسموبوليتية "اميركية لااميركية"، تتمحور قوتها حول اللعبة المالية البحت، ونواتها هي الطغمة المالية اليهودية العليا، وهي تمثل الركيزة الاساسية للوبي الموالي لاسرائيل في اميركا. وهي تستخدم دائرة نشاط اوسع، عبر شبكة الماسونية، والمافيا، التي تعود لها بالدرجة الاولى السيطرة عليهما. والمؤشر العام في النهج الاقتصادي والسياسي لهذه الكتلة، هو انها تستخدم القوة الاميركية، بمختلف وجوهها، في سبيل مصالحها الفئوية "فوق الاميركية"، التي لا تتطابق إلزاما ودائما مع المصالح العامة للرأسمالية "الوطنية" والامبريالية "القومية" الاميركية، والتي تتعارض معها في الحساب الاخير.
وتمتلك اليهودية اداتين "اميركيتين ـ عالميتين" هما: الماسونية، التي تستخدمها الطغمة اليهودية العليا كحلقة أوسع لتمرير سياستها فيما بين غير اليهود. وهذه المنظمة السلطوية السرية لها 33 درجة. وقيادتها المركزية العالمية هي يهودية، وكان مركزها في بريطانيا، فانتقلت الى اميركا حينما انتقلت اليها قيادة الطغمة المالية اليهودية العالمية. والأداة الثانية هي المافيا العالمية، ذات النواة الصقلية الايطالية الكاثوليكية المعادية للبابوية، ومركز قيادتها ايضا في اميركا.
2 – كتلة شوفينية "اميركية اميركية"، ارتباطها بالاقتصاد الاميركي بمجمله، ومركز ثقلها الاساسي في قطاع الانتاج والتسويق الداخلي والخارجي، وتتمحور قوتها المالية والسياسية حول صناعتي الطاقة والاسلحة. والاطار الاتني او الفئوي، لهذه الكتلة، هو الانكلو ـ ساكسونية البروتستانتية. وهذه الكتلة تسعى للاستفادة – في علاقة متناقضة من التكامل والتناحر - من الامكانيات المالية والعلاقات الدولية للطغمة اليهودية العليا، وكذلك من جميع العلاقات الخارجية لاميركا، من اجل مصلحة الرأسمال "الوطني" والامبريالية "القومية" الاميركية. ومن الضروري ان نشير الى ان لهذه الكتلة علاقات خاصة مع الدول العربية والاسلامية، ولا سيما النفطية. وهو ما يتبدى في دعم اتجاه الانفتاح النسبي حتى على دول "مارقة" كايران وسوريا والسودان الخ. وتندرج ضمن ذلك العلاقات الخاصة لعائلة الرئيس بوش ولنائب الرئيس ديك تشيني بصناعة النفط وبالسعودية، بما في ذلك بالمجموعة المالية لعائلة بن لادن التي لها توظيفات كبيرة في اميركا.
3ـ الكتلة الكاثوليكية، وهي تتكون من "نخبة" من الاميركيين البيض، من اصل اوروبي غربي، وجمهور كبير من اصل اوروبي شرقي، وجمهور اكبر من الاصل الاسباني. ولهذه الكتلة علاقات وثيقة بالجمهور الشعبي البروتستانتي، ولا سيما الزنوج والملونين. وتدخل هذه الكتلة في تنافس مع الكتلة الثانية، وفي صراع شديد مع الكتلة الاولى. وكان اغتيال الرئيس الاسبق كندي، ثم شقيقه وابنه، ومحاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني، احد اشكال هذا التنافس والصراع. وبالرغم من ان حوالي 40 بالمائة من سكان اميركا هم من الكاثوليك، الا ان دور هذه الكتلة في الاقتصاد والسياسة الاميركيين هو اضعف بكثير من حجمها السكاني. وهذه الكتلة هي اكثر انفتاحا وتوازنا في العلاقة مع اوروبا عامة، والدول الكاثوليكية خاصة، واكثر تفهما ومرونة في العلاقة مع بلدان اوروبا الشرقية وروسيا، ومع بلدان العالم الثالث ولا سيما البلدان العربية والاسلامية. وتضطلع الماسونية والمافيا بدور خاص في "لغم" الكتلة الكاثوليكية، لصالح الطغمة المالية اليهودية بشكل خاص.
والكتلتان اليهودية والانكلو ـ ساكسونية، هما اللتان تشغلان الى الآن مواقع السلطة والنفوذ الاساسية في اميركا، من ضمن آلية من "الاشتباك" القائم على التعاون والتنافس فيما بينهما.
ولقد كانت اسرائيل على الدوام "نقطة محورية" في العلاقة بين هاتين الكتلتين. ففي حين ان الكتلة اليهودية عملت وتعمل على الدوام كي تكون اميركا في خدمة اسرائيل والصهيونية، فإن الكتلة الانكلو ـ ساكسونية تعمل لأن تكون الصهيونية واسرائيل في خدمة السياسة الاميركية، ولا سيما في منطقة الشرق الاوسط، الخزان والممر العالمي الرئيسي للنفط، وذي الموقع الستراتيجي الاستثنائي. الا ان هذه الكتلة لا تتورع ايضا عن المزايدة على الكتلة اليهودية، في دعم اسرائيل، لحسابات "اميركية" خاصة بها، وهي تحجيم دور الكتلة اليهودية في اميركا، بإظهار ان دعم اسرائيل ليس وقفا عليها وحدها، من جهة، والامساك بـ"الورقة الاسرائيلية"، من جهة ثانية. وتعتمد الكتلة الانكلو ـ ساكسونية في هذه السياسة الممالئة لاسرائيل، على "تفهّـم" "اصدقائها العرب" الذين وضعوا كل بيضهم او جله في السلة الاميركية.
ومنذ عهد بوش الاب، وعلى خلفية الازمة العالمية للرأسمالية والتضاؤل المتزايد للدور الريعي للرأسمال المالي، بدأت الادارة الاميركية تميل الى اعطاء اهتمام اكبر للكتلة الانتاجية – التسويقية. ومن هنا كان ضغطها الهائل لترسيخ الهيمنة على منابع النفط وممراته، وفي الوقت ذاته السعي لتحجيم دور اسرائيل الاقليمي، كشرط لا بد منه لتحسين العلاقات مع الانظمة والاطراف العربية المختلفة، ولا سيما الصديقة التقليدية لاميركا، بعد "تأديب" العراق الذي قام في وقت سابق بمحاولة "قلب الدومينو"، وتعزيز الدور الاوروبي في الشرق الاوسط، مستغلا الاختلال في العلاقة الاميركية – الاسرائيلية الممتازة على حساب العلاقة الاميركية - العربية. وقد استمر هذا الخط ذاته في عهدي كلينتون واوباما. فكان ان عمل اللوبي الموالي لاسرائيل على عدم التجديد لبوش الاب، وكذلك شرشحة بيل كلينتون بواسطة بنت يهودية مدسوسة. وفي الانتخابات الرئاسية التي تنافس فيها بوش الابن وال غور، فإن اللوبي الموالي لاسرائيل دعم بقوة المرشح أل غور، الذي كان قد اعطى هذا اللوبي توقيعا على بياض. ولكن هذا المرشح لم يمر. وبنهاية الحملة الانتخابية، جرت معركة "قانونية" و"تقنية"، على واجهة المسرح، وسياسية ـ مالية ـ أمنية، خلف الكواليس، لم يسبق لها مثيل في تاريخ الانتخابات الاميركية. ومع ذلك وصل الى سدة الرئاسة، وليس بدون "قوة" ما، تتجاوز الفولكلور الانتخابي، رئيس لم يكن اللوبي الموالي لاسرائيل في صفه، بل ضده. ولهذا اهمية استثنائية، حيث انه يحدث لاول مرة منذ 1920 (تاريخ انتقال قيادة الطغمة المالية اليهودية العليا الى اميركا، ومما قد يكون مؤشرا للتفكير بشكل من اشكال "الهجرة المعاكسة" للرأسمال اليهودي). وكان ذلك بمثابة تحول كبير لـه مفعول الزلزال الباطني، وإن كان في الظاهر في بداية الامر بدرجة قوة تدميرية غير كبيرة (بتعابير مقياس ريختر)، في داخل البيت الامبريالي الاميركي. وكان من المرجح ان تتعاقب هزات هذا الزلزال وكذلك دوائره الدفعية والارتدادية.
وكان اول رد فعل صهيوني على مجيء بوش الابن، الاستفزاز المدروس الذي قام به في حينه شارون في المسجد الاقصى في القدس العربية، في اواخر عهد باراك، وهو الاستفزاز الذي اطلق شرارة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ومن ثم مجيء شارون لرئاسة الوزارة الاسرائيلية، الذي قام فورا باحراج اميركا، "راعية السلام"، بضربه عرض الحائط بالاتفاقات السابقة التي وقعتها اسرائيل مع منظمة التحرير الفلسطينية، وانتهاجه سياسة "كسر العظم" مع الشعب الفلسطيني والعالم العربي والاسلامي. وقد ترددت الادارة الاميركية حينذاك في الوقوف بوجه "الهجمة الشارونية"، مع كل ما سببته من حرج للدول العربية الموالية لاميركا خاصة، وللعلاقات العربية – الاميركية عامة. وسبب هذا التردد يعود الى الحسابات الاميركية الداخلية، حيث ان الادارة البوشية خشيت الاصطدام بشكل مكشوف مع اللوبي الموالي لاسرائيل، ذلك ان اسرائيل "الشارونية"، واللوبي الموالي لها في اميركا، كانا في اقصى حالات الاستنفار ضد احتمالات زيادة نفوذ اللوبي العربي والاسلامي الذي اخذ يبرز لاول مرة بشكل واضح، وإن خجول، في اميركا، وخوفا من ان تبدأ الادارة الاميركية في انتهاج سياسة اكثر توازنا في ازمة الشرق الاوسط، وأن تنحو ولو جزئيا، على الطريقة الاوروبية، منحى التقرب من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، لتأمين مصالحها النفطية والستراتيجية الاساسية، بطريقة "يتعدل" معها الى حد ما الميزان الاميركي المختل، ذي الكفة الراجحة تقليديا بشكل صارخ جدا لصالح الصهيونية العالمية واسرائيل. وكان من شأن ذلك ليس فقط تحجيم "الدور الاسرائيلي" في الستراتيجية العامة الاميركية، بل والاخطر من ذلك هو تحجيم دور الطغمة المالية اليهودية العليا واللوبي الموالي لاسرائيل في الدورة الاقتصادية والحياة السياسية العامة في اميركا بالذات.
نستنتج من هذا العرض المكثف أن الكتلة اليهودية الموالية لاسرائيل، ومن ضمن استمرار وتعزيز دورها المالي والسياسي في اميركا، لها مصلحة "وجودية" في:
اولا – قطع الطريق على الكتلة الانكلو ـ ساكسونية، التي تريد تحجيمها و"تخفيف" هيمنتها على اميركا.
ثانيا – توجيه ضربة للعلاقات الاميركية – العربية والاسلامية، لاعادة اميركا الى "بيت الطاعة"، واعادة "المكانة الاميركية" للكتلة اليهودية.
ثالثا – تحطيم مقاومة الشعب الفلسطيني عامة، وضرب وسحق الانتفاضة خاصة، واضعاف "اللوبي العربي والاسلامي" الناشئ في اميركا، واخيرا فرض "الحل النهائي" الاسرئيلي المدعوم اميركيا للقضية الفسطينية، تحت عجاج الحملة الاميركية العالمية لمكافحة الارهاب.
اما فيما اذا كان اللوبي الموالي لاسرائيل اخذ يلمس ان مكانته المميزة في اميركا تسير في خط تنازلي لا يمكنه ايقافه، فليس ما يمنعه من "اخذ المبادرة" لاضعاف الدور الدولي الاول لاميركا، خصوصا المالي والاقتصادي، من اجل التمهيد لاضعاف التمركز المالي اليهودي الرئيسي في اميركا، وترحيل قسم كبير من هذه الرساميل الى مناطق اخرى. وفي هذه الحالة، وفي مناخ العداء الاميركي – العربي والاسلامي، الذي تضطلع الصهيونية بدور رئيسي فيه، فإن الطرف "الانسب" للتنفيذ، و"الأصلح" في الوقت ذاته للتلطي خلفه وإبعاد الشبهة اقصى ما يكون عن العامل الصهيوني، هو أن يكون طرفا عربيا – اسلاميا.
والتناقض العدائي حتى اليوم بين الكتلة الرأسمالية العربية والاسلامية وبين الكتلة الرأسمالية اليهودية، ليس بأية حال عائقا امام مثل هذا السيناريو، ذلك انه اذا كان المطروح السلام والتعايش بين العرب واسرائيل، تحت شعارات "سلام الشجعان" و"السلام العادل والشامل والدائم"، فما هي المحاذير "الاخلاقية" التي تمنع "التعايش" و"التطبيع" و"المشاركة" بين الكتلتين الماليتين والرأسماليتين اليهودية والعربية والاسلامية، حينما تتوفر "الظروف المؤاتية"؟ وهل من المستغرب التساؤل، مجرد تساؤل، ان لا تكون ضربة "ايلول الاسود" نوعا من "مضاربة كبرى" تقوم بها الطغمة المالية اليهودية العالمية، لترحيل الرساميل من اميركا، بمختلف الاتجاهات، وخاصة باتجاه منطقة التوظيفات الواعدة فيما بعد، والمتمثلة في المنطقة العربية والاسلامية ذات الاهمية الاقتصادية الاستثنائية، فتكون هذه الضربة الغادرة بظهر اميركا، نوعا من "مقدّم" او "عربون"، موضوعيا، لـ"التطبيع" والتعاون اليهودي – العربي/الاسلامي القادم، تقدمه الصهيونية اليوم لـ"شركائها الاقليميين" في الغد، في التوظيفات في "مزرعة الشرق الاوسط" وما وراءه، التي تـُهيأ اسرائيل للاضطلاع بدور "الراعي" الرئيسي فيها!
واللجوء الى اشكال التحريض والاستفزاز والارهاب المقنـّـع، هو تقليد نموذجي في التاريخ الارهابي للصهيونية، للوصول الى تحقيق اهدافها بالطرق الملتوية. وكأمثلة مكررة على ذلك نذكر:
ـ استخدام "خدمات" بعض اطراف البوليس السري في ايام روسيا القيصرية، للقيام بحملات "البوغروم" (حملات التدمير والتنكيل والقتل) ضد اليهود العاديين، الذين كانوا في اغلبيتهم الساحقة مع اليسار الدمقراطي والاشتراكي، من اجل دفعهم الى احضان الصهيونية.
ـ "الاستفادة" من الاضطهاد النازي لليهود، في عملية جهنمية ثلاثية قامت على: "افتداء" أغنيائهم الذين حطوا رحالهم في الغرب. و"الموافقة" على القتل الجماعي في الهولوكوست لليهود العاديين، الدمقراطيين والاشتراكيين والشيوعيين، الذين لم يكن لهم في الاساس علاقة بالصهيونية، بل وكان قسم كبير منهم معاديا لها. ومن ثم تهجير من يمكن تهجيره من فقراء اليهود الى فلسطين لاستخدامهم كجيش احتلال استيطاني، بعد غسل ادمغتهم ما استطاعت ضد الفلسطينيين والعرب.
ـ نسف فندق "الملك داود" في القدس. واغتيال الوسيط الدولي في فلسطين الكونت برنادوت.
ـ القيام بالعمليات الارهابية السرية ضد اليهود العراقيين، الذين لم يهاجروا الى "اسرائيل" بعد قيامها، وكان قسم كبير جدا منهم تقدميين وشيوعيين، من اجل اجبارهم على الهجرة.
ـ القيام بعمليات ارهابية ضد مؤسسات اميركية وغربية في مصر في الخمسينات، وهو ما عرف بـ"قضية لافون" (الوزير الاسرائيلي في عهد بن غوريون)، وكان الهدف منها الايقاع بين النظام الوطني المصري الناشئ وبين الدول الغربية.
ـ وأخيرا لا آخر اغتيال اسحق رابين، الصهيوني العريق "المعتدل"، للوقوف بوجه أي "تنازل" لـ"الغوييم" الفلسطينيين والعرب.
ولا بد هنا من التوقف بشكل خاص عند الدور الصهيوني/الماسوني المشترك في اغتيال اول رئيس اميركي "كاثوليكي"، وهو جون كندي. ثم اغتيال شقيقه المرشح للرئاسة روبرت كندي، واخيرا اغتيال ابنه. كما في محاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني. وقد وضعوا في الجريمة الاولى "قناعا شيوعيا"، بشخص اوزوالد، وفي الثانية "قناعا فلسطينيا" بشخص سرحان، وفي الثالثة "قناعين "اسلامي" وشيوعي بشخص أقجا التركي وانطونوف البلغاري.
وقبل اغتيال الرئيس كندي، وبعد الفشل الاميركي في معركة "خليج الخنازير" ضد كوبا، وضعت بعض القيادات الخاصة الاميركية خطة لافتعال حوادث ارهابية "معادية لاميركا". وكان "المشروع" يتراوح بين القيام بعمليات نسف في قاعدة غوانتانامو العسكرية الاميركية في كوبا، وإغراق سفن وخطف ونسف طائرات، واعمال "ارهابية" اخرى في فلوريدا وحتى في واشنطن، بحيث يسقط ضحايا اميركيون، وتتهم كوبا والشيوعيون، ويكون ذلك ذريعة لمهاجمة كوبا واسقاط نظام كاسترو. ولكن الرئيس كندي رفض تنفيذ هذا المخطط، خوفا من انفضاحه، وربما كان ذلك احد الاسباب التي "شجعت" على تصفية كندي.
كما ان هناك استفهامات كثيرة حول نسف مقر المخابرات الاميركية في اوكلاهوما، الذي ذهب ضحيته حوالي 150 شخصا، والذي أعدم بسببه جندي اميركي سابق شارك في حرب الخليج الثانية، وينتمي لاحدى الفرق المسيحية، يدعى تيموفي ماكفاي. فهناك شكوك منطقية بأن السلطات الاميركية تخفي الحقيقة في هذه الجريمة، لأنه من غير المعقول ان يقوم شخص بمفرده بمثل هذا العمل الارهابي الكبير، ضد مركز رئيسي للمخابرات بالذات، المفروض ان تكون عليه حراسة مشددة. ومعلوم ان الصهيونية والماسونية تخترقان الكثير من الفرق المسيحية في اميركا، وتسخرها لاغراضها، سواء بوعي او بعدم وعي من افرادها. وتأتي هذه الشكوك في سياق استنتاج رئيسي بأن القطاع العسكري والاجهزة المخابراتية الاميركية هي بحاجة لوجود "عدو"، يبرر لها وجودها و"الحاجة اليها"، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وزوال "خطر الشيوعية".
واخيرا هناك شكوك كبيرة جدا حول كل ما يحيط بعملية 11 ايلول 2001. ومن الواضح ان السلطات الاميركية المختصة تخفي الكثير من الحقائق، ولا تكشف شيئا جوهريا من التحقيقات. وقد شكك الكثير من الخبراء بأنه من المستحيل أن يقوم طيارون هواة بمثل هذه العملية المركبّة، وبدقتها، وقال البعض بأن الارجح ان يكون هناك مركز ارضي اشرف على تسيير الطائرات المخطوفة عن بعد، وتوجيهها لضرب الاهداف المحددة. ومن الملفت أن "التنظيم الاسلامي" المفترض أنه قام بالعملية، لم يعلن عن عمليته (وكذلك في عملية نسف السفارتين الاميركيتين في تنزانيا وكينيا، ونسف المدمرة الاميركية في اليمن). وهذا غير معتاد في الاسلوب "الاستعراضي" المعتاد للتنظيمات "الجهادية" الاسلامية.
يتبين من ذلك بوضوح ان الطغمة المالية اليهودية العليا، صاحبة القرار والشأن الاول والاخير في التركيبة الصهيونية – الاسرائيلية، ليس لديها اي وازع "اخلاقي" يمنعها من القيام بمثل هذه "الصدمة العلاجية" – من وجهة نظرها – للمجتمع والادارة الاميركيين، كحلقة من حلقات حرب مقنـّـعة، تضطلع فيها بدور مزدوج، حيث ترتكب الجريمة، وتهرول راكضة وهي تصيح "أمسكوا المجرم!".
ولا حاجة للحديث عن الامكانيات "التقنية"، حيث أن المخابرات الاميركية والموساد يكادان يكونان وجهين لعملة واحدة. وكذلك القول بالنسبة للعلاقات مع هذه أو تلك من الاطراف الاسلامية، بمعرفتها او بغفلة عنها، حيث ان اللوبي الموالي لاسرائيل في اميركا هو جزء لا يجزأ من التركيبة الاميركية، وبهذه الصفة فهو على علاقة وثيقة، مباشرة وغير مباشرة، بالاوساط "الاسلامية" المعينة، من ايام حرب افغانستان ضد السوفيات، الى نزاعات البلقان، والشيشان، وغيرها. وهذا اللوبي، بامتداداته الاخطبوطية عبر مختلف اقسام الادارة والاجهزة الاميركية، بالاضافة الى الموساد، قادر على اختراق هذا الطرف الاسلامي او ذاك، و"توريطه"، بعد القيام بكل ما من شأنه "تسهيل العمل" حتى تنفيذه. كما انه قادر على العمل لهذا الغرض من خلال اشخاص "مرتشين"، او من خلال "الميليشيات اليمينية" الاميركية، او "الجنود القدامى" المستاءين الذين شاركوا في حرب "عاصفة الصحراء"، او يتظاهرون بأحدى هذه الصفات، وغير ذلك من الاساليب الملتوية. وكل ما يهم اللوبي الصهيوني في هذه الحالة هو وضع الطرف العربي – الاسلامي "في الواجهة".
وفي هذه الحالة، ليس من الضرورة البتة ان يكون الطرف العربي ـ الاسلامي، "المورَّط" في التنفيذ، مطلعا على الأهداف الخفية التي تهدف اليها الكتلة الصهيونية في "تسهيل" القيام بمثل هذه الضربة الاستفزازية، بل على العكس. فتاكتيك استخدام الحركات، والانظمة، الاسلامية، كان قد اصبح خطا "تقليديا" راسخا في الستراتيجية الغربية، والاميركية خاصة، في العقود الماضية. ولا غرابة أن تلجأ الكتلة اليهودية الاميركية الى هذا التاكتيك، في صراعها ضد الكتلتين الانكلو ـ ساكسونية والكاثوليكية، ولتوطيد مواقعها ومواقع اسرائيل المزعزعة، عن طريق تحريك لعبة الحرب و"السلام". ولكن هذا لا يمنع "انقلاب السحر على الساحر"، في هذا التاكتيك، كما حدث في استخدام الاميركيين لـ"الافغان العرب" و"طالبان" في افغانستان، او كما حدث في "ايران غيت". لأن الطرف العربي ـ الاسلامي، في هذه "اللعبة الدولية"، ليس فقط مجموعة من المرتزقة، تؤمر فتأتمر، بل هو بشكل عام طرف "اصيل" منسجم مع نفسه، وله قضيته ووحساباته وعلاقاته الخاصة. وقد ثبت في التجربة أنه يدخل في العلاقة مع الاطراف الغربية على طريقة "التعاون" و"مَن يستفيد مِـن مَـن؟".
أحرب بدائل جديدة؟
في ما أوردناه آنفا، ننطلق من فرضية ان الطرف "العربي ـ الاسلامي الارهابي"، المفترض مشاركته في ضربة 11 ايلول 2001، واذا صحت تلك المشاركة، لا يعدو كونه أداة في تنفيذ تلك العملية، التي تقف وراءها قوة دولية حقيقية قادرة، من داخل اميركا او من خارجها، او من الداخل والخارج معا.
وقبل ثلاثة عقود، في ظروف "الحرب الباردة" السابقة، كانت تهمة الارهاب توجه بشكل خاص الى بعض المنظمات اليسارية واليمينية، الوطنية والقومية والدينية "المتطرفة"، من جنسيات مختلفة، بمن فيها بعض المنظمات الراديكالية الفلسطينية والعربية.
وكان يجري التأكيد، بشكل خاص ايضا، على التعاون الذي كانت تلك المنظمات تحصل عليه إن من قبل دول المنظومة السوفياتية السابقة، او من قبل الدول الغربية، ولا سيما من قبل الاجهزة الخاصة لتلك الدول.
كما كان يشار الى "اختراق" بعض تلك المنظمات "المتطرفة"، من قبل الاجهزة الخاصة الغربية، ولا سيما السي آي ايه الاميركية وحليفتها الستراتيجية الموساد الاسرائيلية.
ومن ثم كان يجري الاستنتاج ان عمليات تلك المنظمات انما كانت، بهذا الشكل او ذاك، نوعا من حرب بدائل مقنـّـعة:
اولا – في الحرب الباردة بين المعسكرين السابقين، الشرقي بزعامة السوفيات، والغربي بزعامة الاميركيين.
ثانيا ـ في الصراعات الغربية ـ الغربية ذاتها.
وبالرغم من الخصائص، والاهمية الوطنية والاقليمية الخاصة، لكل من الحروب المحلية، والثورات، والانقلابات، والصراعات، كحرب كوريا، وفيتنام، والجزائر، والسودان، وفلسطين، ولبنان، وافغانستان الخ، فقد كانت القوى الدولية على اختلافها تتدخل في هذه النزاعات، او تفتعلها، كشكل من اشكال حرب البدائل، فيما بينها.
اليوم، يبقى العنوان الرئيسي ذاته: الارهاب!
ولكنه يجري تغيير صاحب، او اصحاب العنوان:
فمكان التدخلات غير المشروعة للدول الامبريالية الغربية وأجهزتها وعملائها، حلت "الشرعية الدولية"، التي مدت عباءتها فوق القوى المحلية والاقليمية المرتبطة بها.
ومكان المنظومة السوفياتية السابقة، حل التصنيف الفضفاض، الذي يتسع لكل أشكال الخيال: الدول الداعمة والمساندة والمضيفة للارهاب، بالاضافة طبعا الى الدول "المارقة".
وبعد ان كانت بعض المنظمات اليسارية والوطنية "المتطرفة"، وبالاخص منها المتهمة بالشيوعية، توضع على رأس لائحة الارهاب والنشاط الهدام، أخلت "مكانها الشرفي" هذا للمنظمات والحركات "الاسلامية الارهابية"، كـ"القاعدة" و"طالبان" و"حماس" و"الجهاد" و"حزب الله" الخ، التي تضعها الصهيونية والامبريالية في "سلة واحدة".
ولدى "انتصار" جورج بوش الاب في حرب الخليج الثانية، وما اعقبها من انهيار المنظومة السوفياتية وإعلانه قيام "النظام العالمي الجديد"، ظهر انطباع بأن ظاهرة حرب البدائل ستزول هي ايضا، او تتضاءل جدا، مع نهاية "الحرب الباردة". ولكن يبدو الآن، ان هذه النهاية لم تؤد الى تخفيف، بل الى "تسهيل" وتسعير التناقضات الداخلية للامبريالية العالمية، وبالتالي الى اعطاء حرب البدائل طابعا خطيرا، على مستوى ضربة 11 ايلول 2001.
وهنا يبرز سؤال مزدوج:
ـ هل ان العالم يقف امام حرب مقنـّعة جديدة، بواسطة البدائل "الاسلامية" وغيرها،، تشترك بها من امام ومن خلف الستار القوى الدولية المعروفة، وقد تتطور الى حروب محلية واقليمية متفاوتة الخطورة، بالاضافة الى "كوارث" ارهابية لا يعلم الا الله مداها؟
وفي هذه الحالة لا يكون هناك من جديد في توزيع القوى الدولية في العالم، بل تغيير نوعي في اساليب ومستوى واشكال الصراع بين هذه القوى، وبشكل اكثر تحديدا في المواجهة التي تفرضها الزعامة الاميركية للعالم.
ـ ام اننا، بالاضافة الى ذلك، وبالاختلاط معه، وبموازاته، او بدونه، نقف اليوم امام علائم ظهور "قوة دولية جديدة"، من نوع خاص، لم تتضح كافة معالمها بعد، وهو ما سبق وتساءلنا عنه؟
وفي هذه الحالة نكون امام معادلة جديدة للنظام العالمي القائم. وبالتالي ينبغي من الان فصاعدا، لمعرفة ما يجري على خريطة التفاعلات والصراعات الدولية، ليس فقط البحث في مسار حركة القوى الدولية السابقة المعروفة، بل كذلك، وبالاخص، محاولة الكشف عن هوية وطبيعة ومسار حركة هذه "القوة الدولية الجديدة" المفترضة.
فرضية "القوة الدولية" العربية ـ الاسلامية
اذا كانت عملية 11 ايلول 2001، او "الظاهرة الارهابية"، مؤشرا على وجود، وإن "سري" الى الآن، قوة دولية جديدة اصبحت تقف على قدم المساواة مع القوى الدولية المعروفة، وتستدعي من اميركا، وحلفائها، كل هذا الاستنفار الستراتيجي الدولي الشامل، بدءا من جرها الى "المستنقع الافغاني" ذاته، مما يذكر بالازمات الدولية الكبرى اثناء الحرب الباردة، فإنه "من المنطقي" ان هذه القوة لن تقف عند "جولة" معينة، بل ستتابع "التعبير عن وجودها"، بمختلف الاشكال والاعمال، الارهابية وغير الارهابية، وحتى "المعادية للارهاب"، مثلما تفعل كل القوى الدولية القائمة الى الآن، التي "تقرأ" جميعها من "كتاب الاخلاق السياسية" للمكيافيلية. وفي هذه الحالة، ينبغي الجواب عن السؤال التالي:
ـ من يمكنها ان تكون تلك "القوة الدولية الجديدة"، التي "بشـّرتنا" بولادتها بهذا "الاحتفال الجهنمي"؟
اذا لم تكن احدى الدول ومراكز القوى الدولية المعروفة، التي سبق وذكرناها، فينبغي البحث عنها في اطار الكتل المالية والاقتصادية الجديدة، او الحركات الايديولوجية والعقائدية، الدينية والفكرية، ذات التأثير الجماهيري، او في الاطارين معا.
بطبيعة الحال لا يكاد يخطر ببال احد "اتهام" الهندوسية والبوذية والكونفوشيوسية، حيث لا توجد فيها حركات عدوانية وذات تطلعات عالمية غير التطلعات التبشيرية. واذا كان بين صفوفها بعض اتجاهات معارضة، فهي تصب في قنوات "مشاغبة" اخرى محدودة، حتى اليوم، وتكون، من حيث تدري او لا تدري، بمثابة احتياط وعنصر مساعد للمركز الدولي المضاد لأميركا.
اما بالنسبة للشيوعية، فهي لم تعد تملك منظمة دولية، ولم تستفق بعد من هول انهيار التجربة السوفياتية، كما لم تصل الى نهاية عملية التفكك والتحلل، قبل اعادة التبلور من جديد. ولكن هذا لا ينفي ابدا ان يقوم بعض الشيوعيين الناقمين، الذين كانوا او لا زالوا يشغلون مواقع حساسة معينة، او يمتلكون قدرات تقنية معينة، بدور "مساعد" في اي عمل معاد لاميركا، سواء ادركوا مسبقا ام لا ابعاده ومخاطره. وهذا ينطبق ايضا على "اليسار الجديد"، السابق والحالي، الذي يكن لاميركا ما تكنه لـه من "الود"! وربما من المفيد ان نذكر هنا، للمثال وحسب، العلاقات القديمة للمناضل الاممي كارلوس بالحركات الاسلامية المناضلة، وهتافه بتحية الاسلام المعادي للامبريالية داخل المحكمة الفرنسية، بالرغم من ان بعض "الاسلاميين" هم الذين "باعوه" للمخابرات الفرنسية. ولا ننسى بالاخص الفيلسوف الفرنسي الماركسي "السابق"، روجيه غارودي، الذي جاء بـ"ماديته التاريخية" الى الاسلام، واخذ على عاتقه "التبشير" بدور خاص له ـ أي للاسلام ـ في مواجهة الصهيونية والامبريالية العالمية.
ان هذا الموقف من قبل كارلوس وغارودي، كأمثلة، فيه اشارة ما غير مباشرة على ان "القوة الدولية الجديدة" يمكن ان تتبلور ضمن "الحركات الاسلامية"، بمعناها الفضفاض.
ولكن هذا لا يخرج ايضا عن نطاق الفرضية، ذلك ان مشاركة الحركات الاسلامية المناضلة ضد الاحتلال والاستعمار والظلم الاجتماعي ليس، اولا، مرادفا للارهاب، ولا يعني، ثانيا، وبشكل تلقائي، أن هذه الحركات، مضافا اليها بعض الدول العربية والاسلامية التي تؤيدها بهذه الدرجة او تلك، - بما هي حركات جماهيرية ودول، مشخـّصة – هي "مؤهلة" ان تكون تلك "القوة الدولية الجديدة" المفترضة، القادرة على تحريك الارهاب الدولي واستخدامه في هذه الحرب المقنـّعة ضد القوة الاولى في العالم.
وقد اعلنت غالبية المنظمات المناضلة والجهادية العربية والاسلامية، وكذلك جميع الدول العربية والاسلامية، معارضتها للإرهاب، وفي الوقت ذاته اعلنت تأييدها للمقاومة ضد الاحتلال والاستعمار، ومشروعية هذه المقاومة، وضرورة التمييز بينها وبين الارهاب.
ولكن الدعاية الصهيونية، الجاهزة في عدائها المسبق للفلسطينيين والعرب والمسلمين، تريد للعالم ان يصدق، بما في ذلك العالم العربي والاسلامي ذاته، ان "التهمة" تنحصر فقط في "الارهاب العربي ـ الاسلامي"، "الاصيل عن نفسه"، الذي لا تقف خلفه أية قوة دولية اخرى. وقد تصرفت الادارة الاميركية، من خلال ما تصرح به وتمارسه على الارض الى الان، وكأنها "تصدق" هذه التهمة الحصرية. وقد بدأت بضرب تنظيم "القاعدة" ونظام "طالبان"، والتضييق على المنظمات الخيرية والمالية الاسلامية، وغير ذلك من التدابير والحملات، وهي، في عدم الكشف عما تعرفه حقا، وتريده اخيرا، تحتفظ لنفسها بحرية التصرف في ضرب من تريد، وفي التحرك في اي وجهة كانت، وضد اي جهة كانت.
حيال هذا الواقع، وحتى ولو كان لدى الطغمة الامبريالية الاميركية لوائح ما، لاعداء آخرين، واهداف اخرى، خارج نطاق الاطار العربي ـ الاسلامي كله، فإنه لا يسع أي محلل موضوعي الا ان يأخذ بالاعتبار تماما ويتساءل عن مغزى هذا التأكيد على حصر "تهمة" الارهاب في الجانب العربي ـ الاسلامي.
ولمحاولة الاستدلال على الحقيقة لنأخذ على وجه التحديد، كـ"عينة تحليلية"، سيرة الحياة السياسية والعسكرية لتنظيمات الاسلام السياسي، التي كانت مرتبطة بهذا الشكل او ذاك بأميركا خصوصا والغرب عموما، مثل "القاعدة" و"طالبان"، اللذين فتحت عليهما ابواب الجحيم، بعد 11 ايلول 2001، ولا يعلم الا الله متى ستغلق، اذا قـدِّر لها أن تغلق:
ان الادارة الاميركية تمتنع حتى الان، او تعجز، عن تقديم الدليل المقنع على اتهاماتها ضد هذه التنظيمات، وهو ما تطالب به الدول العربية والاسلامية، او غالبيتها الساحقة على الاقل. وفي المأثور الحقوقي ان "المتهم بريء حتى يثبت العكس". وعوضا عن ذلك، فهي تطبق ضدها سياسة "نعدمه، وغدا ـ اذا شئنا ـ نحاكمه!"، مثل اسرائيل او اي نظام دكتاتوري عربي او آسيوي او افريقي، ضاربة عرض الحائط بكل اسس وقواعد الدمقراطية والحقوق الانسانية والدولية. ومع ذلك، فمن خلال بعض القرائن على الاقل، فإن هذا "العدو الارهابي"، المحدد والمحدود النطاق جدا بالمقاسات الدولية، لا يمكن استبعاده من دائرة تهمة المشاركة في عملية 11 ايلول 2001. والواقع أنه سبق لهذا "العدو" ذاته، أن قام في 1993 بعملية نسف جزئية للمركز التجاري العالمي ذاته في نيويورك، وهي العملية التي حكم فيها بعض الاشخاص، ومنهم الشيخ عمر عبدالرحمن، الذي كان من الاساس مقيما في ضيافة شبه رسمية في الولايات المتحدة، ومتعاونا مع اجهزتها الخاصة، على الاقل في اثناء "لجهاد الاسلامي" الذي كانت اميركا تدعمه في افغانستان. وكانت اميركا قد رفضت قبل ذلك تسليم هذا الشيخ الى مصر، التي كانت تلاحقه بتهمة الارهاب.
فعلى أرض الواقع أثبت هذا "العدو الاسلامي"، أن لـه "مصلحة" كبيرة في الارتداد على اميركا وتوجيه سلاحه نحوها، والانتقام منها ما استطاع الى ذلك سبيلا.
فهذا "الطرف الارهابي" العربي ـ الاسلامي بالذات، كان قد نشأ وتنامى واشتد ساعده، بالتعاون الكلي مع الادارة والجيش والمخابرات المركزية الاميركية. وقد استخدم الاميركيون بامتياز هذا "العدو اللاحق":
اولا – لمحاربة السوفيات في افغانستان، والوقوف بوجه التمدد الروسي من منطقة حوض قزوين، الخزان الكبير للنفط والغاز الطبيعي والمعادن، الى منطقة الخليج، ذات الاهمية الاقتصادية والستراتيجية الاستثنائية عالميا.
ثانيا – لازعاج بعض الانظمة العربية، وابتزازها سياسيا، وإلهائها واضعاف دورها موضوعيا في الصراع العربي – الاسرائيلي.
ثالثا – لزرع الخلافات والنزاعات، الدموية احيانا، داخل صفوف القوى الوطنية والاسلامية المناضلة، في البلدان العربية خاصة، كما في غيرها من البلدان الاسلامية.
رابعا –لإعطاء صورة مشوهة عن الاسلام، لا توافق عليه غالبية الحركات والمراجع الشرعية الاسلامية ذاتها.
فماذا كانت "مكافأة" هذا الطرف، جزاء تعاونه مع اميركا؟
بعد هزيمة السوفيات في افغانستان، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فإن هذا العدو الجديد – الصديق القديم لاميركا، لم تعد لـه الاهمية ذاتها من وجهة نظر المصالح الاميركية. فأهملت افغانستان وعزلت كبلد وكشعب، وخصوصا بعد سيطرة "حلفاء الاميركان السابقين" حركة "طالبان". لا بل ان الادارة الاميركية بشكل خاص عملت كل ما تستطيع لتمزيق هذا البلد من الداخل، بقصد تدميره وتهجير شعبه وافقاره حتى شفير الموت جوعا، بالمعنى الحرفي للكلمة، بقصد ان لا يبقى فيه رجل مرفوع الجبين، وان يتحول فقط الى مزرعة للمخدرات، التي تدير تجارتها الخارجية المافيات الدولية، والتي تسيطر عليها اجهزة المخابرات الاميركية والموساد الاسرائيلية، بصورة رئيسية. وربما كان من اسباب معاداة "طالبان"، محاولتها ـ انطلاقا من تزمتها الديني ـ منع زراعة المخدرات.
وكان للعامل الاسرائيلي دوره الرئيسي في هذا "الانقلاب الاميركي" على حلفاء الامس!
فاسرائيل، التي تقوم كدولة على اساس عنصري، تخشى وجود اي طرف عربي واسلامي قوي، حتى وإن كان من اقرب حلفاء اميركا، وأخلص خلصائها.
وبالمقابل، فإن هذه الجماعات الاسلامية، المغضوب عليها الآن بشكل هستيري، كانت حتى الامس القريب، ككل الاوساط والدول العربية والاسلامية المتحالفة مع اميركا، تتوهم ان المشاركة في الحرب ضد الشيوعية والسوفيات واليسار والقوى الوطنية والقومية التقدمية، وحتى احيانا العمليات الارهابية لازعاج بعض الانظمة العربية، ودفعها للتخاذل امام اميركا، ستؤدي الى تعزيز مكانة تلك الاوساط لدى الاميركان، والى تخفيف الانحياز الاميركي الشديد نحو اسرائيل.
وما حدث بعد هزيمة السوفيات، وخصوصا بعد حرب الخليج الثانية، أسقط الاوهام لدى الكثيرين من حلفاء اميركا السابقين في "التجربة الافغانية" وغيرها. ومن هنا بدأ التناقض يشتد بين الادارة الاميركية وهؤلاء "الحلفاء"، وهو التناقض الذي بلغ من التفاقم حد نسف المركز التجاري العالمي، وربما غيره، والمناداة بالشيخ اسامة بن لادن عدوا رقم واحد لاميركا.
ولكن العداء المستجد لتنظيم بن لادن وأمثاله لاميركا، مهما بلغ من حدته، لا يجعله قادرا على القيام بمثل هذه العملية لا تقنيا، ولا – وهذا هو الأهم – على اتخاذ وتنفيذ مثل هذا القرار الستراتيجي بتحدي الزعامة العسكرية والمالية لاميركا، الذي من السذاجة الاعتقاد بأنه عمل مبتور، لتنظيم محدود، بل هو مرتبط حتما بخطة مواجهة واسعة لا بد وأن يكون لديها توقعات لردود الفعل الاميركية، لاحتوائها والرد عليها.
وباستقراء هذه السيرة نجد أن من كانوا بالامس "مجاهدين"، معززين مكرمين من قبل اميركا، فأصبحوا اليوم "ارهابيين" مطلوبين "أمواتا او أمواتا"، انما يتحدرون ليس فقط من الاوساط الفقيرة، الحاقدة على وضعها الطبقي، بل ـ بالاخص، وللعجب العجـّاب ـ من المليارديرية ومن أبناء العائلات الميسورة والرأسمالية، الشريكة طبقيا واجتماعيا وسياسيا لاميركا والغرب.
فإذا كان حلفاء اميركا وأعوانها الاسلاميون، عربا وغير عرب، يصبحون ـ بفعل منطق "الشراكة" مع اميركا ـ من ألد أعدائها، فهذا يعني، بالقوة الكامنة إن لم يكن بالفعل، وكاستدلال منطقي محتمل، أن العالم العربي ـ الاسلامي برمته، هو مؤهل موضوعيا كي يضطلع بدور حاضنة لظهور "قوة دولية جديدة"، موازية للقوى الدولية الاخرى المعروفة، ومعادية بالاخص للقوة الامبريالية الاميركية ـ الصهيونية، المشتركة والمتناقضة.
مقدمات موضوعية لنشوء قوة دولية عربية
في التصريحات التي أدلى بها الشيخ أسامة بن لادن، والدكتور أيمن الظواهري وبعض قادة "القاعدة" الآخرين، في أعقاب عملية 11 ايلول 2001، وبالرغم من أنهم لم يعترفوا صراحة بالمشاركة في العملية، إلا أنهم أيدوها وباركوا القائمين بها. والأخطر من ذلك أن اسامة بن لادن لم يتورع عن تحدي اميركا مباشرة، وتهديدها، بأكثر مما فعل اي قائد عربي ـ اسلامي حتى الان، وحتى الامام الراحل الخميني نفسه الذي سبق وأعطى اميركا لقب "الشيطان الأكبر". وظهر اسامة بن لادن وكأنه "زعيم" يقود قوة عالمية فعلية، تهدد اميركا حتى في عقر دارها. وبهذا الموقف، فإن الشيخ اسامة بن لادن، ومن حيث يريد او لا يريد، "اتفق" مع آلة الدعاية الصهيونية العالمية، في حصر "التهمة" في الطرف العربي ـ الاسلامي.
إن تنطح زعيم ما، او تنظيم ما، او نظام ما، للقيام فعلا، او الادعاء بالقيام، بعملية ارهابية ما، مهما بلغ من ضخامتها، وحتى ولو كانت ضد اميركا ذاتها القوة الاعظم في عالمنا المعاصر، ربما يكون مؤشرا عن وجود قوة دولية جديدة، ولكنه لا يمكن ان يكون معبـّرا عن وجود هذه القوة فعلا. فهذا يقتضي وجود مقدمات تاريخية ومقومات موضوعية، اجتماعية، اقتصادية، جيوبوليتيكية، ايديولوجية، يتأسس عليها حدوث انقلاب في الفكر والممارسة السياسيين الستراتيجيين، وإن كان في البداية يعتمل في الأغوار، ولا تظهر منه الا الفورات.
فهل ان المحور الحضاري العربي ـ الاسلامي يمتلك مثل هذه المقدمات والمقومات؟
لا ندري اذا كان من سوء حظ العالم العربي ـ الاسلامي، او من حسن حظه، أن الوقائع تجيب بالايجاب على هذا التساؤل التاريخي!
لنترك الكلمة لبعض الوقائع الرئيسية:
1 ـ ان البلدان العربية والاسلامية، بالرغم من الثروات الاسطورية النفطية وغيرها فيها، وبالرغم من الميزات الجيوبوليتيكية والستراتيجية لاراضيها، والدور المميز لشعوبها، هي من اكثر البلدان فقرا وتهميشا وظلما وتحملا للغدر، في عالم الغطرسة الغربية والاميركية – الصهيونية. فحينما تحالف العرب مع الغرب "الدمقراطي" وثاروا على الاستبداد العثماني الاسود، "كوفئوا" بالاستعمار و"سايكس – بيكو" و"وعد بلفور". وحينما "هادنوا" المستعمرين الانكليز والفرنسيين في الحرب العالمية الثانية، لتسهيل مواجهة الخطر الاكبر النازي، وقاتل الملايين من الشباب العرب والمسلمين في صفوف قوات الحلفاء على امل الحصول على الاستقلال، "كوفئوا" ايضا بإقامة اسرائيل ومذابح الجزائر والعدوان الثلاثي ومشروع ايزنهاور وحلف بغداد و"الاستعمار الجديد" والديون الإغراقية الخ. وحينما كان يتم تذبيح اليهود على ايدي الموجات الفاشستية في اوروبا، قامت المجتمعات العربية بحماية "يهودها"، وكانت المكافأة بإنشاء اسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني. وحينما سارت بعض القوى العربية والاسلامية مع اميركا، او سايرتها، فهي لم تلق سوى المزيد من القهر، كما جرى – نموذجيا – في افغانستان، وكما يجري – للعبرة – في فلسطين، حيث ان القيادة الفلسطينية "رضيت"، عن قناعة او تظاهر بالقناعة، بتسليم اوراق الحل للادارة الاميركية، وتنازلت الى درجة القبول بالتفاهم حتى مع أبشع الجزارين الاسرائيليين، فكانت النتيجة مزيدا من القمع والأسر والتجويع والتشريد والتدمير والتعذيب والقتل اليومي للفلسطينيين. وحتى حينما ارتضت الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية التسليم باغتصاب فلسطين، والاعتراف باسرائيل العنصرية، وقبلت بما يسمى "حل الدولتين"، بدل إقامة دولة فلسطينية دمقراطية موحدة تجمع العرب واليهود، فإن جامعة الدول العربية كلها عوملت وكأنها لا تكاد تساوي قلامة ظفر امام اسرائيل، في علاقة الغرب بها، وخاصة اميركا. والشيء ذاته، وأكثر، يقال عن منظمة مؤتمر الدول الاسلامية، التي تمثل اكثر من مليار وربع مليار انسان.
2 ـ ان الدول الغربية الاستعمارية، وبطانتها واخيرا نواتها المالية اليهودية والصهيونية، دأبت على التعامل مع الشرق العربي والاسلامي بعقلية الفتح الاستعماري والمركنتيلية الاستغلالية، دائسة بقدميها على مبادئ "الحرية والاخاء والمساواة"، التي نادت بها الثورة الفرنسية منذ اكثر من مائتي سنة. فكانت تعمل لاستمالة وشراء ضمائر الحكام والموظفين الكبار، ولدعم وتشجيع الانظمة العميلة والاستبدادية والدكتاتورية، بهدف تمرير مصالحها بأحط الاساليب. فمنذ ايام الامبراطورية العثمانية اصبح القناصل الغربيون، في ظل "الامتيازات الاجنبية" التي ابتاعوها من السلاطين، هم الحكام الفعليين الذين يأمرون الولاة الاتراك الحكام الصوريين. واصبح المتمولون اليهود هم مفاتيح "الباب العالي" في الاستانة. وغالبية انظمة الحكم العربية والاسلامية لا تزال الى اليوم واجهات للنفوذ الاميركي والغربي. وبعد انهيار النظام الاستعماري القديم، "صدقت" هذه الانظمة شعارات الانفتاح والتعاون والمساعدات والقروض والليبيرالية الاقتصادية الخ، فوجدت نفسها امام "شريك" لص وغشاش، ومضارب محتال.
ومنذ ان قسمت الدول الغربية البلدان العربية والاسلامية، على طريقة معاهدة "سايكس ـ بيكو" وأضرابها، فقد دأبت بشكل شيطاني على تطبيق "مبدأ: فرق تسد"، لضرب العرب والمسلمين بعضهم ببعض، داخل كل بلد، وفيما بين مختلف البلدان. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية كان لاميركا الدور المجلي على هذا الصعيد.
ومن افدح الكوارث القومية والانسانية التي مني بها العرب والمسلمون، "بفضل" سياسة التفرقة الاستعمارية، حرب الخليج الاولى والثانية، وهي كوارث استخدمت فيها الدول الامبريالية الغربية كل امكاناتها وعلاقاتها و"صداقاتها" ودهائها في استغلال العقلية الرجعية، ونقص التجربة السياسية، والغباء المتشوف والمتذاكي، والمطامع، لدى مختلف الحكام العرب والمسلمين، لتحريضهم الكل ضد الكل، وفي النتيجة كي تعود الاساطيل والقوات الاستعمارية، وعلى رأسها الاميركية، لاحتلال المنطقة من جديد، واذلال ونهب وتجويع وابادة شعوبها، بحجة حماية البلدان العربية والاسلامية من عدوان بعضها على بعض، وبحجة حمايتها من "الارهاب"، تحت غطاء الشرعية الدولية، التي يطوعونها لمصالحهم، كقولة حق يراد بها باطل.
3 ـ ان الشعوب العربية والاسلامية تمتلك روافد حضارية غنية وراسخة وحية، تعود الى اكثر من سبعة آلاف سنة، وتدخل ضمن اطارها الديانتان التوحيديتان العظيمتان، المسيحية والاسلام، اللتان نقلتا البشرية من عصور الهمجية والعبودية الرومانية الى عصور التنوير والحضارة. وقد تبلورت هذه الروافد تاريخيا في الحضارة العربية – الاسلامية. وهذا ما يجعلها تمتلك عنفوانا تاريخيا مؤصلا، وتطلعا حضاريا ثابتا، وتشعر بندّية لا تقبل معه اي امتهان او قهر وظلم معنوي من اي طرف كان. وكل عهود الظلامية والانحطاط التي فرضتها على الشعوب العربية والاسلامية مصائب الاستعمار الاجنبي والاستبداد السلطوي والقومي والديني، لم تستطع تغيير جوهر الشخصية الحضارية لهذه الشعوب. وهذا ما يجعل لا الانتلجنتسيا بالمعنى الضيق فقط، بل والجمهور الواسع من المثقفين والمتعلمين العرب حتى اصغرهم، شعلة متقدة في التطلع نحو غد افضل. واليقظة الاسلامية المعاصرة هي جزء اصيل وراسخ، وله دور تاريخي مميـّز، الى جانب التيارات الوطنية والقومية والاشتراكية والانسانية. وبالاستناد الى ذلك فإن المحور الحضاري العام، العربي ـ الاسلامي، هو مؤهل كي يكون مركز استقطاب وحوار حضاري انساني عام، بمواجهة "حضارة" التمييز والتفوق والعنصرية الاستعمارية والامبريالية.
وهنا لا بد من التوقف عند نقطة مهمة وهي أنه، من ضمن الذاكرة التاريخية الحضارية للعرب خاصة والمسلمين عامة، انهم كانوا في حقبة تاريخية مديدة "قوة عالمية"، بل وحينا القوة العالمية الاولى، بكل معنى الكلمة. وهذا يعني انهم لا يعانون من اي مركب شعور بالنقص والدونية تجاه اي قوة دولية قائمة. بل على العكس فهم يعانون شعورا مضاعفا بالقهر، نتيجة منعهم من ان يستعيدوا دورهم التاريخي كقوة حضارية مساوية لغيرها من الامم المتقدمة، كما هم جديرون بأن يكونوا.
ولذلك فإنهم مؤهلون ذاتيا، من حيث الاستعداد النفسي الجمعي الضروري، ليس فقط للدفاع عن النفس، تجاه اي قوة امبريالية غازية ومعتدية، بل وللرد على تلك القوة في عقر دارها ايضا، كدفاع مشروع عن النفس ضد من يهاجمهم ويستعمرهم ويذلهم في عقر دارهم.
4 ـ اذا صرفنا النظر، جدلا، عن الجانب اللاهوتي والسماوي، كما وعن جانب الاستغلال الدنيوي والسلطوي للدين الاسلامي، كما بالنسبة لأي دين آخر، وفي مختلف المراحل التاريخية، فإن الايديولوجيا الاسلامية، في جانبها الدنيوي ـ الانساني، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، تمثل الى اليوم أرضية ثقافية وفكرية راسخة، وتراثا جهاديا اصيلا وعريقا، في التنشئة الشعبية العامة، الداعية الى الحق والحرية والمساواة، والى معارضة ومجاهدة التمييز العنصري والديني والعبودية والاستعمار والظلم. وأيا كان الرأي في ذلك، فإن الايديولوجيا الاسلامية تمتلك الدينامية الفكرية ـ الاجتماعية التي تجعلها تضطلع حتى عصرنا الراهن بدور فعال في تقريب ومحورة البلدان العربية والاسلامية، كما، بالأخص، بدور رافد رئيسي في التحريك والتعبئة الجماهيرية الواسعة.
5 ـ ان الامة العربية خاصة، والشعوب الاسلامية عامة، لديها ذاكرة تاريخية ايضا بأنها واجهت، وكان لها دور حاسم في القضاء على الامبراطوريات (الاقطاب) السابقة، بدءا من مواجهة روما، والامبراطورية الفارسية القديمة، والامبراطورية البيزنطية، وصولا الى مواجهة الامبراطوريات الاستعمارية والامبريالية في الازمنة الحديثة. وكان للعرب والاكراد دور رئيسي في القضاء على الامبراطورية العثمانية، التي شكلت امتدادا "اسلاميا" للهيمنة الاستعمارية الغربية على الشرق. وفيما بعد، كان للعرب والمسلمين دور رئيسي في زعزعة واسقاط الامبراطوريات الاستعمارية البرتغالية والاسبانية والهولندية والايطالية والفرنسية والانكليزية. هذا بالاضافة الى الدور العربي الاسلامي في هزيمة (الامبراطورية) "السوفياتية!" في افغانستان. وبذلك، وفي مدى تاريخي، فإن العرب والمسلمين هم شديدو الحساسية ضد السيادة الدولية لأي امبراطورية كانت. ومن الطبيعي في المرحلة التاريخية الراهنة ان يكونوا الأكثر حساسية وعداء تجاه الآحادية القطبية لاميركا، المبنية على الهيمنة الامبريالية. واذا اخذنا، كقرينة، السابقات التاريخية، حيث ان كل امبراطورية تواجه العرب والمسلمين كان مصيرها الانهيار كامبراطورية، فإن وقوف العرب والمسلمين ضد الهيمنة الاميركية على العالم يعني بداية النهاية لهذه الهيمنة.
فهل يحتم القدر التاريخي، على العرب والشعوب الاسلامية المظلومة، أن يشقوا الطريق لإعادة التوازن الى النظام الحضاري الحيوي للعالم، بزعزعة الامبراطورية الامبريالية الاخيرة في العصر الحديث، اي الامبراطورية الاميركية؟
"الشبح" العربي ـ الاسلامي
ان فرضية "تثبيت" التهمة الصهيونية على "الارهاب العربي ـ الاسلامي"، تستتبع فرضيات اخرى، منها:
1 ـ ان تنظيم "القاعدة" بزعامة الشيخ اسامة بن لادن هو في اقصى الافتراضات المنطقية مشارك تنفيذي في عملية "11 ايلول الاسود". وان عملية "كشفه" بحد ذاتها هي جزء لا يتجزأ من العملية، وتهدف – فيما تهدف – الى استدراج اميركا للوقوع في الفخ الافغاني، والى المواجهة المكشوفة مع التيارات الاسلامية ونسف العلاقات الاميركية القديمة والراهنة مع الكثير من هذه التيارات اينما كان، والى اضعاف النفوذ الاميركي والغربي عامة في جميع البلدان العربية والاسلامية، واخيرا لا آخر الى رفع المواجهة مع اسرائيل من مستوى مواجهة اقليمية، الى مستوى مواجهة مع الولايات المتحدة ذاتها، "الحليف الستراتيجي" لاسرائيل.
2 ـ أن طرفا عربيا – اسلاميا، مجهول الهوية حتى الآن، وذا رأس ظاهر لجبل الجليد (هو تنظيم"القاعدة" بقيادة الشيخ اسامة بن لادن) او متعدد الرؤوس المخفية (التي قد تظهر او لا تظهر فيما بعد)، ولنسمـّـه مجازا "الشبح"، وصل – في غفلة عن كل عيون الرصد الاميركية والاوروبية والصهيونية التي لا تكل ولا تمل من السهر - الى مستوى ان يكون هو هذه "القوة العالمية الجديدة"، التي اخذت تقض مضاجع رئيس اقوى دولة في تاريخ العالم القديم والحديث، حتى وهو يلوذ بحماية ارقى التكنولوجيا والجيوش العرمرية من العسكر والاجهزة الامنية الخاصة والعامة، وحتى وهو بعيد خلف المحيطات، تفصل بينه وبين أقرب البلدان العربية والاسلامية عشرات آلاف الاميال البحرية.
3 ـ أن هذا "الشبح"، كي يستطيع الوصول الى هذا المستوى، فلا بد أن لـه من الامكانيات وتقاليد العلاقة مع اميركا ذاتها، للمثال لا الحصر، ما اصبح معه قادرا على التغلغل في "البيت الاميركي" ذاته، واختراق التركيبة الاميركية ذاتها، بهذه الدرجة من العمق والخطورة، واستغلال الثغرات والتناقضات في داخلها، وكذلك التناقضات بين اميركا وحلفائها واخصامها القدماء والجدد.
4 ـ وأن الضربة التي وجهت، مع كل طابعها الستراتيجي، ما هي سوى "بصمة" لهذا "الشبح"، وما انكشف او ينكشف من "الجسم" الذي نفذها ما هو سوى جزء منه.
5 ـ واخيرا، انه اذا كان هذا "الشبح" "العربي – الاسلامي"، هو فعلا موجود، بالرغم من كل هذا التبرؤ "العربي – الاسلامي" من الارهاب، فهذا يعني أنه يشكل انقلابا على الحالة العربية – الاسلامية الراهنة، من داخل معطياتها بالذات.
واستنادا الى ما سبق وأوردناه، فإن كل المقدمات الموضوعية الضرورية متوفرة، لكي يتحول "الشبح" العربي ـ الاسلامي من الخيال الى الواقع. وفي هذه الحالة فإننا نقف امام علائم ظهور "قوة عالمية جديدة" على مسرح التاريخ الدولي.
وهنا ينبغي الوقوف عند "التباس بنيوي" حول تحديد هوية هذه "القوة الدولية" المفترضة:
ـ هل هي "قوة نظامية"، بصرف النظر عن الاشكال، اي نابعة من التركيبة السلطوية، وهي تستخدم الحركات والتنظيمات العربية ـ الاسلامية، بما فيها "المتطرفة"، و"الارهابية"، كـوسائل وأدوات تستعين بها للوصول الى اهدافها، الاوسع والابعد والاكثر تعقيدا من الاهداف التي تضعها لنفسها تلك الحركات والتنظيمات. ومن ثم تتجاوز تلك الحركات والتنظيمات حتى، احيانا، بالتعاون مع "الاعداء" انفسهم، الذين تقوم، بالواسطة او مباشرة، بمواجهتهم، مستفيدة من كل التناقضات الدولية القائمة، بما في ذلك في "الصفوف الداخلية" لهؤلاء "الاعداء"؟
ـ أم هي "قوة تنظيمية"، أي نابعة من الاوساط والأطر الجماهيرية، تتمحور اساسا حول الحركات والتنظيمات، وتعبـّئ وتستخدم الامكانيات من مختلف البلدان العربية والاسلامية وغيرها، مستفيدة من جميع التناقضات الدولية القائمة؟
وفي كلتا الحالتين ينبغي "إعادة قراءة" اوضاع البلدان العربية والاسلامية عامة، واوضاع الحركات والتنظيمات الاسلامية خاصة، لأن مثل هذه "القوة الدولية الجديدة" لا يمكن ان تكون "نظام طالبان" وحسب، او "تنظيم القاعدة" وحسب.
ونحاول فيما يلي ان نتناول كل من هاتين الفرضيتين:
إن كل "قوة دولية" لها حتما "مركز محوري" يخطط لها ويقودها، بصرف النظر عن الاشكال.
وفيما يتعلق بالجانب العربي ـ الاسلامي، فقد استبعدنا فيما سبق ان يكون هذا "المركز" قيادة تنظيم او عدة تنظيمات بعينها، او دولة او عدة دول بعينها، او مؤسسة دولية كجامعة الدول العربية او منظمة المؤتمر الاسلامي او ما اشبه. ذلك ان اي مؤسسة تنظيمية او دولوية او دولية مشخصة، لا يمكنها القيام بمثل هذه المواجهة، لسببين، كل على حدة، او كلاهما معا، وهما:
اولا، لأن تركيبتها المشخصة، وإن كانت تستخدم التآمر، في علاقاتها وصراعاتها، فهي غير قادرة بنيويا ان تكون"تآمرية عالمية شاملة"، وبالتالي فإن قيادتها غير مؤهلة للقيام بهذا الدور الدولي العام.
ثانيا، بسبب من تشخيصها كمؤسسة لها كيانها المحدد، مهما كان تآمريا، فمن السهل نسبيا كشفها وحصرها واحتواؤها.
وبالاستناد الى ذلك، فإن اي تنظيم، او مؤسسة دولوية، وطنية او دولية، او اي "جيب" او "حالة تآمرية" داخل اي جهاز دولوي، لا يمكن ان يكون هو ذاته "مركز الشبح"، بل في "احسن" الحالات، لا اكثر من احد اذرع او تجليات هذا الشبح إن صح التعبير.
ففي الحالة العربية ـ الاسلامية، التي تتميز بالانفتاح المباشر الواسع على الغرب، من باب التبعية او التعاون النسبي، من جهة، و"الانفتاح المعكوس" المتمثل في الصراع ضد الصهيونية والهيمنة الامبريالية، من جهة اخرى، فإن الخريطة السياسية العربية والاسلامية هي معروفة بكليتها. فمن اكبر دولة، وحتى اصغر تنظيم كفاحي سري، هي كلها "على اللائحة"، وقيد "المعالجة" الدائمة من قبل الاجهزة السياسية والعسكرية والامنية الغربية المختصة، وفي ايامنا "على الكمبيوتر" وبدقته! وبالتالي يتعذر على اي طرف على حدة، او مجموعة اطراف مشخصة مجتمعة، ان تنسق عملية ارهابية "اوركسترالية"، كعملية "الثلاثاء الاسود"، تتجاوز قدرات المخابرات الاميركية والغربية والاسرائيلية مجتمعة.
من ذلك نأتي الى الاستنتاج ان "مركز" الشبح العربي ـ الاسلامي المفترض، هو "هيئة" ما، غير مشخصة بتنظيم او مؤسسة دولوية معينة، تقع "خارج" او "فوق" جميع التنظيمات والمؤسسات والاجهزة والدول العربية والاسلامية، وفي الوقت ذاته هي على ارتباط وثيق بها، وبالتالي تمتلك – عبر هذا الارتباط - صلات دولية وثيقة ومتشعبة ومتناقضة، لا يجمع بينها و"ينسقها" سوى هذا "المركز".
من يمكن ان تكون مثل هذه الهيئة، اذا وجدت؟
أهي "مشيخة" سرية؟
في التجربة السياسية العربية ـ الاسلامية المعاصرة، لا يمكننا العثور على جواب لمسألة لا سابقة لها. وإن "الامميات" الاسلامية القائمة هي جزء وحسب من الحالة العربية ـ الاسلامية، ولكنها جميعا لا تمتلك "الشمولية المركزية" للهيئة المفترضة.
اما في التجربة العالمية الراهنة، فإننا ـ من باب التشبـّه ـ نجد امكانية لمثل هذا الجواب. ونأخذ للمثال الصهيونية العالمية، والامبريالية الاميركية:
بالنسبة للصهيونية، هناك هيئة سرية عليا، تضم عددا من اكبر الرأسماليين اليهود، الـ"مطعـّمين" بعدد من كبار "حكماء صهيون" من سياسيين واعلاميين الخ. وهذه الهيئة هي التي تقرر الخطوط العريضة للتحرك الصهيوني في العالم، بما في ذلك سياسة دولة اسرائيل، آخذة في الاعتبار التنوع في اشكال التواجد اليهودي في مختلف البلدان، وكيفية احتواء هذا الاختلاف، وتوجيهه بما يصب في المصلحة العليا للطغمة المالية اليهودية العالمية والحركة الصهيونية. وعلاقة هذه الهيئة مع الجسم الصهيوني واليهودي العام، ليست هرمية ولا تنظيمية ولا دولوية، بل علاقة "نفوذ ذاتي" و"توجيه ضمني"، في مختلف الاتجاهات، بحيث لا تدري اليد اليسرى ماذا تفعل اليد اليمنى. وبهذه الصورة، فإن هذه الهيئة هي على "علاقة عملية" بالعمل الاجتماعي، والاعلامي، والاقتصادي، والسياسي، والمخابراتي، والعسكري، والارهابي، الخ، في وقت واحد، وبدون اي ارتباط مباشر او تنسيق ظاهر بين اي حلقة واخرى.
ومع الاختلاف بين تركيبة الصهيونية العالمية، كجسم كوسموبوليتي "متجاوز الجنسية"، وتركيبة الولايات المتحدة كدولة امبريالية، ففي اميركا ايضا يوجد "ناد" لكبار المليارديرية، الذين يستعينون ايضا بكبار "الحكماء" المجربين المخلصين، من امثال هنري كيسنجر وسبغنيو بريجنسكي وغورباتشوف ومحمد حسنين هيكل. وهذا النادي، غير المؤطر قانونيا ودستوريا، والذي يقف فعليا فوق الدستور والدولة، هو الذي يدير الدولة فعليا، وهو يضم مختلف الكتل المتناقضة، وضمنه وعبره تجري الصراعات. وهو ناد سري، لا يخضع ايضا للإعلام، وابحاثه وتوجّهاته وتوصياته وقراراته تبقى سرية، ولا تظهر الا عمليا "بالطريقة المناسبة"، في "المكان المناسب"، و"الوقت المناسب"، وبواسطة "الطرف المناسب"، دون ان يدري احد عمليا المرجع الاخير المقرر. ورئيس الولايات المتحدة الاميركية، المنتخب وفقا للدستور، بواسطة الآلة الانتخابية المتحكـَّم بها، يمكن ان يكون او لا يكون عضوا في هذا "النادي". والغموض الذي يكتنف سيناريوهات انجاح الرؤساء، وإضعاف بعضهم كما جرى لكلينتون، وعزله كما جرى لنكسون، واغتياله كما جرى لكندي، انما يشير الى الاصابع الخفية القادرة لهذا "النادي"، والصراعات التي تجري فيه وعبره.
وفي البلدان العربية والاسلامية، هناك شرائح معينة من الطبقة السائدة، نخص منها كبار المليارديرية وكبار الاعلاميين والعسكريين واشباههم، من اصدقاء الغرب التقليديين وذوي المصالح المباشرة معه، قد تغلغلوا في التركيبة الغربية في العمق الى حد كبير. وخلال فضيحة "ايران ـ كونترا" مثلا، طرحت بعض الاسماء العربية. كما ان هناك شبهة قوية بأن الاميرة البريطانية الراحلة دايانا انما قتلت اغتيالا، بسبب رغبتها بالزواج من ابن ملياردير عربي معروف. وإن عائلة بن لادن، التي ينتمي اليها الشيخ أسامة "المطلوب ميتا او ميتا"، لها توظيفات مالية كبرى في الشركات الاميركية، ولها صلات بعائلة الرئيس بوش بالذات. وبالتالي فإن هذه الشريحة، وخلال العقود الماضية، قد راكمت علاقات مصلحية على ارفع المستويات، واصبحت على علم تام "من داخل البيت" بدخائل و"قواعد" و"اصول" عمل "آلية السلطة" الفعلية في الغرب الامبريالي، وخصوصا بالنسبة للصهيونية، وللقطب الاميركي الاول فالاوحد.
وخلال مرحلة الاستقلال السياسي للبلدان العربية والاسلامية، المترافق مع الفورة النفطية، وبالرغم من التهميش النسبي المتزايد لهذه البلدان، بشكل عام، بالقياس الى مجمل الاقتصاد العالمي ومراكز القرار السياسي الدولية، إلا ان الطبقة السائدة والشرائح الحاكمة راكمت ثروات كبيرة، وتجربة سياسية وادارية، ومعرفة وعلاقات دولية واسعة، على مختلف المستويات والاصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية والتقنية والعلمية والعسكرية الخ.
وبخط معاكس تماما للتهميش النسبي الدولي، فإن الطبقة السائدة في البلدان العربية والاسلامية تشعر بأهميتها المتزايدة بالنسبة للسوق المالية العالمية، لما تمتلكه من امكانيات جغرافية وسكانية هائلة للتوظيفات المالية والحركة التجارية العالمية، جنبا الى جنب الاسواق الشرقية الاخرى، التي هي على صلة وثيقة بها. وإن تجربة "النمور الآسيوية" هي شديدة الدلالة، إن لجهة الامكانيات الهائلة للاستثمار والتطور، وان لجهة التآمر الغربي لتقويض هذه التجربة، وإبقاء البلدان الشرقية ترزح تحت ثقل التبعية للغرب.
وبالاضافة الى ذلك، فإن الطبقة السائدة المشار اليها، ولا سيما في البلدان الغنية بالنفط، او التي تتمتع بمواقع ستراتيجية حساسة دوليا، تشعر اكثر فأكثر بقدرتها على احتلال مكانة افضل في العلاقات مع الغرب، استنادا الى "الاوراق القوية" التي تمتلكها، من ضمن لعبة "العصا والجزرة" الدولية، التي يلعبها الغرب. وللمثال فقط، فإن السعودية، التي لعبت ورقة النفط في حرب 1973، تدرك ان بامكانها ان تلعبها ايضا في اي وقت آخر. وهي تدعم ماديا او سياسيا العديد من القوى العربية المقاتلة ضد اسرائيل (بما فيها، من وراء الستار، "حزب الله" الشيعي)، وقد اضطرت اميركا طويلا ان "تبلع" هذا التصرف لحاجتها للسعودية. ومن جهة ثانية، وبالرغم من توجيه اصابع الاتهام الى سعوديين في ضربة 11 ايلول 2001، وهذا ليس صدفة سواء كان صحيحا ام لا، فإن السعودية قدمت لاميركا والغرب خدمة استثنائية بعد ضربة 11 ايلول 2001، على الجبهة النفطية، وعلى ابواب الشتاء تحديدا. حيث من المعروف انه في اليومين التاليين للضربة ارتفع سعر برميل النفط الى اكثر من 32 دولارا. ولكن السعودية هي التي وقفت، بقدراتها الانتاجية وبنفوذها داخل الاوبك، وراء تخفيض السعر في بضعة ايام الى حدود الـ20 دولارا. والسعودية، بما تملك وبما لها من نفوذ ايضا، تمسك بيدها ورقة الودائع العربية في البنوك الاميركية التي تبلغ آلاف مليارات الدولارات، والتي يمكنها العمل لنقلها الى اوروبا، مما يدعم "اليورو" على حساب الدولار، او نقلها الى اماكن اخرى في العالم العربي والاسلامي والشرقي.
كما نشأ من بين صفوف هذه الطبقة، وعلى حواشيها، جيل واسع من الشباب المتعلم. بنتيجة كل هذا، فإن الممثلين المتنورين لهذه الطبقة، حتى اكثرهم ارتباطا مصلحيا وسياسيا وثقافيا بالغرب، لم يعودوا اولئك "الاصدقاء للغرب" انصاف الجهلة، القنوعين والمطواعين. بل اصبحوا بالتدريج، قياسا على الماضي، اكثر اعتدادا بالنفس، وتحسسا بالسلطة، واستقلالا ذاتيا، وتطلبا في العلاقات الخارجية. وبوجود الارتباطات القومية والدينية، والنضالات الحتمية القائمة ضد الاحتلال الصهيوني والتسلط الغربي، ومناخ النقد الشعبي العارم ضد سياسة الاستخذاء امام الغرب الامبريالي، فإن اوساطا واسعة من المتنورين في هذه الطبقة السائدة، اخذت اكثر فأكثر تعاني الشعور بالمهانة، وعدم القدرة على السكوت عن المظالم والاعتداءات والجرائم، التي ترتكب بحق ابناء شعبها ودينها، والتي تمسها معنويا بشكل خاص، اذا لم يكن وماديا. وكمثال نموذجي على ذلك هو وضع المملكة السعودية، التي يقوم الحكم فيها على اساس ديني، ويعتبر ملكها "خادم الحرمين الشريفين" وحامي مكة المكرمة، التي يحج اليها المسلمون من كل اقطار العالم. فكيف يمكن ان يقبل الامراء والشخصيات البارزة والمثقفون في المملكة، ناهيك عن عامة المواطنين، بتدنيس المسجد الاقصى في القدس الشريف من قبل الصهاينة وعلى رأسهم جزار موصوف كشارون؟ وكيف يمكن ان تقوم اميركا "الصديقة" بتسليح اسرائيل بلا حساب لضرب العرب والمسلمين، في حين ان النفط السعودي يتدفق اليها باسعار رخيصة الخ.
بالاستناد الى ذلك، ليس من حاجة لكثير من الذكاء للاستنتاج، بوجود مناخ استياء متزايد الاتساع، في اوساط الشريحة السائدة ذاتها في البلدان العربية والاسلامية، صديقة الغرب او المهادنة معه. وهذا ما ينعكس بوضوح في الاحداث المتتالية و"الانقلابات من فوق" في العديد من تلك البلدان، ولا سيما الكبيرة منها. كما يبدو في التناقض المكشوف في احيان كثيرة، بينها وبين الدول الغربية، كما حدث في حرب تشرين الاول/اكتوبر 1973، بين السعودية واميركا، حول استخدام سلاح النفط في الصراع العربي – الاسرائيلي. ولا بد من الاشارة هنا انه توجد شكوك كبيرة بدور اميركي في عملية اغتيال الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز، بسبب استخدامه المشروع وان بشكل موقت ومحدود لسلاح النفط ضد اسرائيل.
وهذه الشريحة، ومن داخل الانتماء الاوسع الى المعسكر الغربي، كانت دائما ـ بطريقتها ـ على تناقض مصلحي مع الكتلة الصهيونية، في التركيبة الامبريالية العامة، لاسباب عديدة جدا. وكانت على الدوام تضغط لـ"تخفيض" دور اللوبي الموالي لاسرائيل في اميركا والغرب، وفي مكانة اسرائيل في الستراتيجية الغربية، ولتحقيق حل مقبول من قبلها للصراع العربي ـ الاسرائيلي، وليس بالشروط الصهيونية والاسرائيلية. وكان ذلك يمثل نقطة احتكاك حساسة في التركيبة السلطوية الاميركية والغربية. ولعله من الضروري ان نذكر هنا انه، بالاضافة الى اية عوامل اخرى، فإن اغتيال جون كندي يرتبط بشكل ما بالصراع العربي ـ الاسرائيلي، حيث انه كان يخطط لاحلال "السلام" في الشرق الاوسط خلال ولايته، مما لم يكن يروق للاوساط الصهيونية المتطرفة. و"البصمة" الصهيونية على اغتياله واضحة.
ومع تنامي قوتها الاقتصادية، وتجربتها السياسية، ومع تفاقم الصراع ضد اسرائيل والهيمنة الامبريالية المفضوحة على البلدان العربية والاسلامية، فإن هذه الشريحة اخذت بالتدريج تبدي عدم رضاها عن الدور التابع والمهمش والضعيف، في العلاقة مع الغرب، بمقابل الموقع المميز للصهيونية واسرائيل، وبدأت تعمل ـ بطريقتها ايضا ـ لتعزيز مواقعها الدولية، بالاستناد بشكل غير مباشر على الرفض الشعبي العربي والاسلامي للتبعية للغرب.
وحتى في ظروف الحرب الباردة قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت هذه الشريحة تستفيد من وجود "الخطر الشيوعي"، لرفع مكانتها لدى الغرب الامبريالي.
وحينما انتهت الحرب الباردة، شعرت هذه الشريحة بشيء من "الفراغ" و"فقدان الوزن". وهذه النقطة ايضا كانت نقطة احتكاك "داخلي" بين هذه الشريحة وبين مراكز القرار في الغرب، ولا سيما في اميركا.
ولكن، بالمقابل، فإن انهيار المنظومة السوفياتية، وما نتج عنه من "زوال خطر" الاشتراكية والشيوعية في البلدان العربية والاسلامية، فإن هذه الشريحة السائدة أصبحت اكثر "حرية" في مواجهة التسلط الغربي المرتبط بالصهيونية، دون ان تخشى على سلطتها الفعلية ومواقعها الطبقية الاجتماعية و"الوطنية". وهذا ما يفسح المجال امام هذه الشريحة لكي تتقدم، بدون خوف على امتيازاتها وثرواتها، بل ولأجل تعزيزها وزيادتها، لتصدّر النضال الوطني والقومي، من ضمن مفاهيمها ومصالحها، مع ما يقتضيه ذلك من حوافز ايديولوجية اسلامية، ومع ما يرافقه من عمل على نطاق الاصلاحات السياسية والاجتماعية، بقالب "أبوي" و"خيري"، دون المساس بأسس النظام السياسية والاقتصادية وقواعد "النبالة" الفئوية والاسروية الخ.
وهذا المناخ العام "غير المريح" في العلاقات الاميركية والغربية مع الشرائح السائدة في الدول العربية والاسلامية ذاتها الحليفة للغرب، هو الذي يفسر الهجمات والضغوط الكبرى ضد بلدان كالسعودية ومصر وباكستان، لا سيما على يد اللوبي الموالي لاسرائيل في اميركا، في اعقاب ضربة 11 ايلول 2001.
وهنا يطرح سؤال، تتوفر لـه منذ زمن غير قصير كل شروط الواقعية والممكنية: ألم يفكر بعض امراء الثروة النفطية وغيرهم من المليارديرية و"الحكماء" العرب والمسلمين، خصوصا بعد الاغتيال المشبوه للملك فيصل، بتشكيل "ناديهم الخاص" للمشاركة في اللعبة الدولية "على اصولها"، بكل الطرق الاخلاقية والمكيافيلية، السياسية والاجتماعية والاعلامية والاقتصادية والثقافية والعسكرية الخ، "النظيفة" و"غير النظيفة"، بواسطة مختلف "الخيوط" والأطر والمؤسسات الدولوية والدولية وغيرها، وبما يتجاوزها، على الطريقة الصهيونية والامبريالية الاميركية؟
ان هذا "الدور" هو مغر، ويحتاج الى "بطل". والاوضاع العامة العربية والاسلامية والدولية تسمح لمثل هذا المجلس الخاص والسري، العربي ـ الاسلامي، ان يتحرك ضمن مروحة واسعة جدا من الامكانيات والمعطيات، المنسجمة والمتناقضة سواء بسواء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- الحركات الشعبية المناضلة، ولا سيما الكفاح ضد اسرائيل.
- الاطار الايماني الاسلامي الواسع، المتمحور حول الحج الى الاماكن الاسلامية المقدسة، والمؤطر في شبكة واسعة جدا من المؤسسات والمنظمات الاسلامية.
- الحوار الديني الاسلامي ـ المسيحي ـ اليهودي.
- الاستخدام الواسع للاعلام، ووسائل الاتصال ذات التقنية المتطورة.
- الاسلحة الاقتصادية الستراتيجية، كالنفط والممرات التجارية.
- الافادة من التناقضات الدولية، للحصول على مختلف اشكال "التعاون" في اوساط الدول المتضررة من الهيمنة الغربية والآحادية القطبية الاميركية.
- استغلال التآكل داخل المجتمعات الغربية، وبالاخص الاميركي، لاستمالة الاتجاهات المعارضة، وكسب السياسيين والاعلاميين "الموالين" و"المعارضين"، والاختراق المخابراتي وما اشبه.
- تقليد الاجهزة الصهيونية والغربية، في سياسة "قتل القتيل والسير بجنازته".
واذا عمدنا جدلا الى الابتعاد قليلا عن تفاصيل خريطة الاحداث السياسية في العالم العربي والاسلامي، في الربع الاخير من القرن الماضي، لننظر الى هذه الخريطة عن بعد في إجماليتها، لاستطعنا استشفاف بعض المؤشرات على فرضية وجود "عقل مدبر" او "مركز تحريك" للخطوط العريضة للاحداث. ونتوقف عند اهم هذه المؤشرات:
1 ـ ان استدراج الاتحاد السوفياتي السابق الى "فخ افغانستان" كان عملا اميركيا بامتياز. ولكن بدون وجود الطرف العربي ـ الاسلامي، فإن هذا "الانجاز" لم يكن ليبصر النور. وباستقراء التداعيات اللاحقة، يمكن الاستنتاج ان الطرف العربي ـ الاسلامي في المواجهة "الافغانية" مع السوفيات كان "مستقلا"، "يتلاقى" مع الاميركيين دون ان يكون تابعا كليا لهم. وبالتالي فقد كان هناك "مركز" ما عربي ـ اسلامي، كان يمسك بخيوط اللعبة، وقد اتخذ هذا المركز قرارين: قرار بمواجهة السوفيات في افغانستان، وقرار بالتعاون مع الاميركيين في هذا الشأن، كي يعزز موقعه في المعادلة الدولية برمتها، بدءا بالعلاقة مع الغرب، وبصرف النظر عن توقع او عدم توقع السقوط اللاحق للاتحاد السوفياتي ذاته، الذي استفاد منه الاميركيون لرفع وتيرة الغطرسة والتفرد الدولي، مما "أزعج" ذلك "المركز" العربي ـ الاسلامي، وهو ما يجري "التعويض" عنه الآن في استدراج اميركا الى "الفخ الافغاني" ذاته.
2 ـ ان هذا "المركز" المفترض هو اقدم واغنى واكبر واخطر بكثير، من تنظيم "القاعدة" الذي نشأ ضمن اطار "الافغان العرب"، ومن حركة طالبان وافغانستان، مجتمعين. وهو الذي يقف خلفهم من حيث يدرون او لا يدرون. وهو ما تدل عليه السيرة السياسية للشيخ اسامة بن لادن نفسه، كما للتنظيم، حيث يبدو ان هناك قوى "غير منظورة" كانت تحتضنه وتدعمه وتحميه عند الضرورة. وقد تمت تصفية اسامة بن لادن بعد ان رفع ذلك المركز الغطاء عنه. ومما يلفت النظر هنا "رفض" السعودية في وقت من الاوقات تسليمه اليها لمحاكمته فيها. ومن ثم فمع كل اهمية الدور الذي كان يقوم به الشيخ اسامة بن لادن وتنظيمه، فإن الدلائل تشير الى انه يوجد له مرجعية ارفع منه، وانه اطار من سلسلة اطر مختلفة، ترتبط بـ" "مركز القرار" العربي ـ الاسلامي المفترض. وبالتالي، فإن تنظيم "القاعدة" الخ، هو ـ وليس العكس ـ من "انتاج" تلك "القوة الدولية"، ولن يكون، او ليس هو الآن، "الانتاج" الوحيد. وأن ضربة اميركا، ومعركة افغانستان، وما قد يتبعها، هي مظاهر وحسب للمواجهة الدولية القائمة، التي ستتخذ مختلف الاشكال، في مختلف الامكنة، على مختلف الاصعدة.
3 ـ خلال هذه المرحلة جرى ترسيخ خط الكفاح ضد اسرائيل، بمختلف اشكاله وتلاوينه، بالرغم من انهيار "السند السوفياتي" السابق. وجرى بالاخص ابراز الدور الاسلامي في هذا الكفاح.
4 ـ جرى اطلاق مؤسسات اعلامية عديدة، اخذت تطرح مختلف القضايا العربية والاسلامية والدولية، بشكل واسع وصريح، لا سابق لـه، كما اخذت بالتدريج تزحزح الاحتكار الاعلامي الصهيوني الغربي وتفرض عالمية الصوت العربي والاسلامي.
5 ـ واخيرا لا آخر، فإن ضربة "الثلاثاء الاسود"، واستدراج العملاق الاميركي الى الفخ الافغاني، تتكشف فيها بصمات هذا "المركز قرار"، الذي قرر اليوم، وبعد سقوط الامبراطورية السوفياتية، "استكمال المهمة" وزعزعة الامبراطورية العالمية الاخيرة، الاميركية ـ الصهيونية.
أم هي "بلشفية" عربية ـ إسلامية؟
إن "اسوأ" احتمال، بالنسبة للعالم الرأسمالي الامبريالي بمجمله، يمكن أن تكونه "القوة الدولية العربية" المفترضة، هو أن تكون "قوة تنظيمية". وفي هذه الحالة، فهي أشبه ما يكون بـ"طبعة جديدة"، عربية ـ اسلامية، من البلشفية، لا بالمعنى الايديولوجي، بل بالمعنى الانقلابي الذي مثلته البلشفية في حينه.
وهذه الحالة، اذا صحت، فهي تذكـّـر تماما بمقولة كارل ماركس "إن الرأسمالية تخلق ذاتها بذاتها حفاري قبرها"، وتعيد الى الاذهان حكاية النظام الرأسمالي مع الشيوعية. ففي اواسط القرن التاسع عشر، أخذ "شبح" الشيوعية "يجول" في العالم، خارجا من رحم النظام الرأسمالي ذاته، ومغتذيا من الاحقاد الطبقية لدى البروليتاريا والفئات الاجتماعية والشعوب المظلومة والمهمـّشة، كما ومن تطلعات الانتلجنتسيا الحالمة او المتطرفة. ولكن في مطلع القرن العشرين، وبنجاح الثورة الروسية، والصينية، تحول ذلك "الشبح" الى واقع. وقامت البلشفية – بالحالة الانقلابية التي مثلتها على الصعيد العالمي كله – بعملية "قطع تاريخي" طبعت بطابعها القرن العشرين بمجمله، ووجهت العجلة التاريخية باتجاه آخر، غير ما كان يمكن ان تكون عليه، فقط بوجود الهيمنة الآحادية للرأسمالية والامبريالية. وفي ظروف "الحرب الباردة" تحول "الشبح الشيوعي" الى فزاعة حقيقية في اميركا، خلال ما سمي مرحلة "الماكارثية"، حتى بدون ان يقوم احد برمية حجر في داخل اميركا. وفي الواقع فإن مجمل الستراتيجية الاميركية فيما بعد الحرب العالمية الثانية كان يتمحور حول شعار "مكافحة الشيوعية".
وبالرغم من سقوط تجربة "الشيوعية السوفياتية"، فمن الواضح انه لم يعد بالامكان اعادة عجلة التاريخ الى الوراء. وها ان التاريخ "يعيد نفسه"، بصورة مضحكة – مبكية حقا. فاذا كانت الرأسمالية في القرون الماضية قد خلقت "الشبح" الشيوعي، بالمعنى التاريخي لا بالمعنى الحرفي المباشر، فإن الامبريالية الاميركية – الغربية والصهيونية قد خلقت اليوم "الشبح" العربي – الاسلامي بالمعنيين معا: التاريخي، والحرفي المباشر. وقصة "ايران – كونترا"، والاشراف المباشر على تدريب وتسليح الجماعات الاسلامية في افغانستان، ودعم وتسليح "جيش تحرير كوسوفو" الاسلامي الالباني، وغير ذلك كثير من الامثلة، تبرهن كم هي صغيرة ومحدودة وضيقة الافق روزنامة القيادات والاجهزة الغربية، امام التاريخ والقوانين التاريخية. فمن كان يصدق قبل 10-15 سنة فقط، ان "القاعدة" و"طالبان" الخ، سينقلون البندقية من كتف الى كتف، وان الشيخ اسامة بن لادن سيصبح العدو رقم واحد لاميركا! وهل من ضمان ألا ّ ينقلب مسلمو البلقان وتركيا والشيشان وآسيا الوسطى ضد السياسة الاميركية، التي كانت تدعمهم حتى الآن ضد الروس والسلافيين؟
إن مثل هذه "البلشفية الاسلامية"، اذا صح وجودها، مؤهلة لأن تقوم بعملية "قطع تاريخي" جديد، يطبع بطابعه القرن الواحد والعشرين، ولا يعلم الا الله بأي وجهة سيوجه العجلة التاريخية! وفي هذه الحالة، وبالرغم من التناقض الايديولوجي بينهم وبين الشيوعيين، فإن الاسلاميين يقومون، على المستوى الستراتيجي الدولي، بما لم يستطع الشيوعيون القيام به لجهة زعزعة النظام الامبريالي، وبالاخص زعامة اميركا.
ونشير الى بعض المعطيات الرئيسية، التي تجعل هذا الاحتمال ممكنا:
1ـ بنتيجة تفاعل العوامل المادية والمعنوية، لمقاومة الاحتلال والاستعمار والتخلف والتبعية، فإن الشعوب العربية والاسلامية، ولا سيما الجماهير الفقيرة والمسحوقة، كانت ولا تزال تعتمل فيها نيران دائمة، دفينة او ظاهرة، من الحقد اللاهوادة فيه على الظلم البشري الذي تتعرض له. وهي لم تستكن يوما، ولم تكف عن النضال لاجل التحرر والتقدم. ففي مطلع القرن القرن العشرين، حينما استكملت الدول الاستعمارية تقسيم العالم الى مستعمرات ومناطق نفوذ، فإن البلدان العربية والاسلامية كانت في طليعة الشعوب المناضلة ضد الاستعمار. وهو ما دفع قيادة الثورة الروسية في حينه للتوجه بشكل خاص "الى مسلمي آسيا والشرق" لأجل توحيد النضال ضد الاستعمار والاقطاع والتخلف. وفي ايامنا هذه، فإن الشعوب العربية والاسلامية، تمثل حوالى 20 بالمائة من سكان المعمورة، الا انه ترتبط بها حوالي 60 بالمائة من الاحداث والصراعات في العالم. ومما يزيد تعميق هذه الميزة ان الشعوب العربية والاسلامية هي على العموم شعوب ناهضة، فتية سكانيا، حيث تشكل الاجيال الجديدة اكثر من نصف السكان. وهذا ما يجعلها اكثر دينامية وانخراطا في الكفاح السياسي والاجتماعي، واكثر استعدادا للتضحية، من المجتمعات الغربية التي اصبحت اكثر شيخوخة، واستكانة، واقل انخراطا في عملية التجديد السياسي والاجتماعي. ويحاول احد ابرز دعاة "صراع الحضارات" هنتنغتون ان يتخذ من ذلك دليلا على "الحدود الدموية للاسلام". ولكنه يغفل ان كل هذه النزاعات انما تعود بالاساس الى تركة الاستعمار، والتدخلات والمؤامرات الاجنبية، وترتبط كلها بعملية الصراع من اجل التحرر من الماضي الاستعماري وتجسداته الراهنة، ومن الهيمنة الامبريالية العالمية. وهذا الاستنتاج العام ينطبق ايضا حتى على حالات الانجرار الى المواقف والنزاعات الطائفية والشوفينية البغيضة التي، في الحساب الاخير، يتحمل الاستعمار الاجنبي ومخلفاته، والمؤامرات الامبريالية، المسؤولية الرئيسية عنها. ومن اكبر الادلة التاريخية على ذلك تجربة افغانستان، التي بدأت بالانقلاب على الملكية ومحاولة تطوير النظام السياسي للبلاد، فأغرقت في الصراع مع السوفيات، ثم في الصراعات الداخلية على قاعدة "فرق تسد"، ولكنها الآن تقف وجها لوجه ضد الغزو الاميركي، الذي يتذرع بالارهاب الدولي لتحقيق مطامعه التوسعية.
وبهذه الدينامية الكفاحية، فإن الحركات المناضلة في البلدان العربية والاسلامية، هي مؤهلة موضوعيا كي تضطلع بدور مركزي عالمي في استقطاب جميع تيارات المعارضة والتجديد في العالم.
2 ـ عجز وفشل الليبيرالية والدمقراطية (الرأسمالية)، والاشتراكية الدمقراطية الاوروبية الغربية، والاشتراكية "الشيوعية!" (السوفياتية!)، والانظمة الوطنية والقومية في البلدان العربية والاسلامية، في تحقيق العدالة الانسانية للشعوب العربية والاسلامية المظلومة، بالرغم من القضاء على اشكال الاستعمار القديم، وتحقيق الاستقلال السياسي بتضحيات جمة. وقد اسهم ذلك في اتساع "اليأس"، من الحلول "الدنيوية العلمانية" للمشكلات الاجتماعية والقومية، وبالتالي التمسك بالحلول التي يقدمها الخطاب "الديني" حتى في اشكاله اللاعقلانية، وزيادة التشدد الديني والمذهبي.
3 ـ ان الحركات الاسلامية، على اختلافها، وإن كانت قد ظهرت بقوة في المرحلة الاخيرة، إلا انها تأتي كاستمرارية ذات جذور تاريخية بعيدة. فالدين الاسلامي في التطبيق، كايديولوجيا وكمؤسسة سياسية ـ اجتماعية، كان لـه دائما وجهان: سلطوي وشعبي. ويستند الجناح الشعبي الى الحوافز والمرتكزات الدينية الضرورية للدعوة الى التحرر والعدل والمساواة. وقد ارتبط على الدوام بالثورات الشعبية والنضالات الجماهيرية. وبصرف النظر عن الأخطاء والانحرافات، والصراعات الجانبية العقيمة مع القوى التحررية القومية والاشتراكية، والانزلاق الى الصراعات الدينية والمذهبية، فإنه لم يغب عن الساحات النضالية ابدا. ومن "الطبيعي" أن يسد التيار الديني "الفراغ"، بعد التقهقر المرحلي للتيارات الاخرى.
وقد تعرضت الحركات الشعبية الاسلامية، ولا تزال، للتجارب المريرة، لا سيما لدى الوصول الى السلطة في بعض البلدان، كما جرى في ايران والسودان وافغانستان، حيث ارتكبت الكثير من الاخطاء، الى درجة استعداء "الاصدقاء" و"الاعداء" معا في بعض الاحيان، كما جرى لحركة "طالبان". ولكن من الواضح، كاستنتاج عام، أنها تتعلم تاريخيا من اخطائها، ومثال ذلك التيار الاصلاحي والثوري في ايران، والمواقف المنفتحة الاخيرة للدكتور حسن الترابي في السودان، ورباني وحكمتيار وغيرهما في افغانستان. وبذلك تتقدم الحركات الشعبية الاسلامية اكثر فأكثر، في الظروف التاريخية الراهنة، لتصبح المحور الرئيسي للحركات التحررية في البلدان العربية والاسلامية. وبالرغم من النكسات فهي، بواسطة المعطى الديني "المشترك"، تمتلك السلاح الايديولوجي والاجتماعي والسياسي الذي يساعدها على "عكس الآية" في استخدام العامل الديني، للتأثير على انظمة الحكم، بمختلف الاشكال، والاستفادة من امكانياتها لصالح الحركات الشعبية، والحد من استخدام هذا العامل لصالح السلطة.
ولا بد من الاشارة اخيرا ان "الشبح الشيوعي"، او "البلشفي"، السابق، لم يكن، او لم يبق، موحدا، كظاهرة ايديولوجية ـ سياسية. وكذلك الامر اليوم بالنسبة لـ"شبح البلشفية" العربية ـ الاسلامية. واذا كانت اميركا، بكل جبروتها، قد حققت انتصارا جزئيا موضعيا مشروطا على تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان"، فهي لم تستطع ذلك الا "بفضل" اخطاء هذين التنظيمين من جهة، وتقديم تنازلات كبرى للحصول على دعم "المجاهدين" المناوئين لطالبان، ودعم ايران، وغيرهما من الحركات والبنى الاسلامية الشعبية، من جهة ثانية، مما يصح معه ـ بالنسبة لاميركا ـ المثل الشعبي العربي "كالمستجير من الرمضاء بالنار". فاذا استبعدنا مسألة "الارهاب"، بمعنى ضرب المدنيين، التي هي موضوع خلاف في صفوف الحركات المناضلة العربية ـ الاسلامية، فإن التقرب الاميركي وحده من ايران، هو دليل على عمق الازمة التي اخذت تتخبط بها الستراتيجية الدولية لاميركا.
مفارقة "الصليبية اللاصليبية"
والكمـّاشة العربية ـ الاسلامية!
وسواء كانت الفرضية الاولى، او الثانية، هي الصحيحة، حول من يقف خلف ضربة "الثلاثاء الاسود"، فإن "المشاركة" العربية الاسلامية فيها، أيا كان حجمها، تضع اميركا، والكتلة الغربية برمتها، امام مأزق عويص، سيكون من الصعب عليها الخروج منه، وهو صعوبة التمييز بين معاداة "الشبح الارهابي العربي ـ الاسلامي"، ومعاداة الشعوب العربية والاسلامية ذاتها. وهو المأزق نفسه الذي سبق ووقع فيه المعسكر الغربي، خلال فترة الحكم السوفياتي ومن ثم الحرب الباردة، بالخلط بين معاداة الشيوعية ومعاداة شعوب البلدان الشيوعية.
واذا كانت "التعويذة" التي استخدمت ضد الشيوعية في الحرب الباردة، هي "الدمقراطية"، فقبل عدة سنوات من "الثلاثاء الاسود"، وبدون اي صدمة او انفعال او زلة لسان، صرح كلاوس، الامين العام الاسبق للحلف الاطلسي، وهو "اشتراكي" من مدرسة غي موليه وجوسبان، بأن العدو القادم لـحلفه، بعد الشيوعية، هو "الاسلام". كما "بشـّر" احد "مفكري" الامبريالية الاميركية، هنتنغتون، بكل "عقل علمي" بارد، بـ"صراع الحضارات"، متحدثا عن "الحدود الدموية للاسلام". وبعد ان كانت قبلا الحملات الامبريالية ـ الصهيونية، التي يديرها دهاقنة من امثال كيسنجر وبريجنسكي، والدعاية الصهيونية قبلا تتمحور بالدرجة الاولى حول "محاربة الشيوعية"، واعتبار اسرائيل "قلعة غربية" في مواجهة "خطر التوسع السوفياتي" في الشرق الاوسط، اصبحت اليوم تتمحور حول مواجهة "خطر الاصولية، والتطرف والارهاب، الاسلامي".
وأمام وهلة الصدمة الاولى، يوم "الثلاثاء الاسود"، زل لسان الرئيس بوش الابن، بتعبير "الحملة الصليبية"، لتوصيف الحرب الجديدة على "الارهاب الدولي" في الوقت الراهن. وهي الزلة لسان "اللغوية" التي عاد الرئيس، وغيره من كبار المسؤولين الاميركيين، لتصويبها، عن طريق زيارات قاموا بها لعدد من المساجد والمؤسسات الاسلامية في اميركا، وما رافقها وتلاها من تصريحات تصالحية وتسامحية، للتأكيد بأن المقصود ليس العرب والاسلام بصورة عامة، بل على وجه التحديد "الارهاب" الذي تتهم به فقط بعض الاطراف العربية والاسلامية، وبالتالي ان تعبير "الحملة الصليبية" هو "لاصليبي". علما ان هذه "التطمينات" لم تمنع الادارة الاميركية واجهزتها من شن حملة اعتقالات عنصرية على آلاف من المقيمين والمواطنين الاميركيين من اصل عربي واسلامي، والتحقيق معهم وتعريضهم لشتى انواع الضغوط، فقط للشبهة القائمة على الانتماء العرقي والديني. وكذلك تجميد اموال ونشاط العديد من المؤسسات الخيرية والاجتماعية العربية والاسلامية، بحجة تمويل "الارهاب".
وقد دعيت الدول العربية والاسلامية للانضمام الى الحلف الجديد لمكافحة الارهاب بزعامة اميركا، بما فيها دول كانت او لا تزال مدرجة على لائحة الدول الراعية للارهاب (كايران، وسوريا، والسودان، ولبنان، وحتى السلطة الفلسطينية التي وصف شارون رئيسها المرحوم ياسر عرفات بأنه "بن لادن" فلسطيني). ذلك أنه بدون الدول العربية والاسلامية لا يمكن تأكيد "صدق" "لاصليبية" هذه الحملة الصليبية. وبالتالي فإن هذه الدول هي الوحيدة التي تملك الآن "المفتاح السحري" لامكانية إعطاء الحملة طابعها الشامل "الصليبي اللاصليبي"، الذي لا يمكن بدونه "نجاحها"، وهو المفتاح الذي يمثله الغطاء، مجرد الغطاء، الاسلامي – العربي، للصليبية الجديدة.
فاذا لم يتوفر هذا الغطاء، وبمصداقية تصدقها لا الادارة الاميركية والصهيونية، بل الشعوب العربية والاسلامية ذاتها، فليس ما يضمن ان لا تكون زلة اللسان فعلا زلة لسان، وأن تتخذ الحملة طابعا "صليبيا – صهيونيا"، مكشوفا وبشعا، تضيع معه الحدود بين لفظية مكافحة الارهاب، وعملية غزو امبريالي جديد للعالم العربي – الاسلامي. وحينذاك، وبافتراض وجود "الشبح العربي ـ الاسلامي"، وبالأخص "البلشفية" العربية ـ الاسلامية، من يتحمل مسؤولية ان هذا العالم، الذي يضم مليارا و200 مليون انسان ، ويمتد جغرافيا وبشريا في قارات الدنيا الخمس (ناهيك عن الشعوب الاخرى المعادية للامبريالية)، لن يتحول الى مستنقع "فيتنامو- افغاني" بلا حدود، بمواجهة حملة "الحرية بلا حدود"، خاصة، و"النظام العالمي الجديد" عامة؟ فلقد كان اسم الحملة في البدء "العدالة بلا حدود"، ولكن بعد اعتراض الدول العربية والاسلامية، بكون "العدالة بلا حدود" هي من صفات الله وحده، نزل اصحاب الحملة قليلا من عليائهم "الالهية"، واعطوها اسما "بشريا" هو "الحرية بلا حدود". ولكنهم الى الآن لم يجدوا مرادفا "لاصليبيا" للصليبية.
وحتى اذا كان الدور العربي ـ الاسلامي هو فقط على مستوى المشاركة التنفيذية، الامر الذي يرجحه الكثيرون، فهناك ايضا عامل جديد، ذو اهمية استثنائية خاصة، وهو:
- الاعتماد الرئيسي في التنفيذ، على الدور العربي ـ الاسلامي.
في الظاهر يبدو ذلك أمرا غير جديد. ففي السابق كانت الدول الاستعمارية تستخدم على نطاق واسع في جيوشها ابناء البلدان المستعمرة والتابعة. كما كانت تلجأ الى تجنيد المرتزقة البيض في افريقيا الخ الخ. وفي "حروب البدائل" خلال الحرب الباردة، استخدمت مختلف العوامل والعناصر لـ"القتال بالآخرين". وكان ابرزها حرب افغانستان ذاتها، التي دعمت فيها اميركا خاصة، والغرب عامة، واسرائيل، الاسلاميين ضد الاتحاد السوفياتي السابق. الا انه في كل تلك التجارب والمحن كان العنصر الاطرافي، الاسلامي او غير الاسلامي، يمارس دورا كميا، او دور "كتلة بشرية" لا اكثر ولا اقل، خاضعا كليا لسيطرة وخطة وأهداف القوى الاستعمارية المهيمنة، دون ان يكون هناك اي اهمية لما "تفكر فيه" او حتى "توعد به" تلك "الكتلة". فالجزائريون الذين قاتلوا مع فرنسا في الحرب العالمية الثانية، وهم يحلمون بالاستقلال الذي وعدتهم به، لم يحصلوا عليه الا بالقتال المرير لاحقا ضد فرنسا. ومصير افغانستان مع الاميركيين بعد هزيمة السوفيات هو مثال صارخ اخر.
اما الآن فإن المشاركة العربية ـ الاسلامي، ولعوامل مركبـّة، سياسية ـ انسانية، وقومية ـ ايديولوجية، لا يمكن فصل عناصرها بعضها عن بعض، هي مشاركة نوعية لا بديل لها في مثل هذه الحرب، وبالتالي لا يمكن الاستعاضة عنها بـ"كتلة" اخرى، او "سياسة استخدام" اخرى، واخيرا لا آخر لا يمكن نبذها والتخلي عنها بعد ان بدأت "الحرب"، كما كانت تنبذ او "تحال على الاستيداع" اي قوة رديفة او بديلة في اي حرب اخرى. وهذا ما اثبتته التجربة الاميركية في حرب افغانستان ضد السوفيات، حيث دفعت اميركا غاليا ثمن التخلي عن حلفائها السابقين الاسلاميين.
وهذا يعني: أنه اصبح هناك ارتهان متبادل بين القوة او القوى الدولية التي تقف خلف هذه الحرب، وبين العامل "التنفيذي" العربي ـ الاسلامي. مما يعني بالتالي رفع مستوى هذا العامل في الصراع الدولي القائم، تبعا لطبيعة المعركة مع اميركا بالذات، وفي عقر دارها بالذات. الا أنه مع ذلك يبقى هذا العامل "لاعبا دوليا" من الدرجة الثانية.
ولا يغير في اهمية العامل المشار اليه آنفا أن الدور العربي ـ الاسلامي في هذه الحالة يبقى على مستوى "لاعب ثان" في "اللعبة الدولية".
ان البلدان العربية والاسلامية، حتى اكثرها غنى وتطورا في المرحلة الراهنة، هي كلها بلدان عالمثالثية، كانت غالبيتها مستعمرة وشبه مستعمرة، وتشغل اليوم موقعا تابعا في النظام الامبريالي العالمي، بالرغم من كل الجهود والنضالات والتضحيات لانتزاع استقلاليتها الحقيقية. وهذه هي المرة الاولى التي يتاح فيها لهذه البلدان، ولو من هذا الباب الخلفي، ان تكون لها كلمة "مميزة" في القرار الاميركي، مما لا تستطيع ان تجاريها فيه اسرائيل واللوبي الموالي لها في اميركا. وهذه الدول قادرة، اذا حزمت امرها، ان تضع شروطها، بشكل عام، وأن تفرض، بشكل خاص، ادانة الارهاب الاستعماري والصهيوني، والتمييز بين بعض الاعمال الارهابية الطائشة، لبعض الجماعات الاسلامية المتزمتة او المشبوهة، كخطف وقتل السياح في مصر والفيليبين، وذبح العائلات والاطفال في الجزائر، وما أشبه من الارتكابات المدانة، وهي الاعمال الارهابية فعلا، التي لا يوجد لها أي تبرير، والتي تعاني منها بعض البلدان العربية والاسلامية ذاتها، وبين النضال التحرري الوطني والاجتماعي المشروع ضد الاحتلال الصهيوني خاصة والهيمنة الامبريالية عامة، الذي تشارك فيه المنظمات الاسلامية المجاهدة، من امثال "حزب الله" اللبناني و"حماس" و"الجهاد" الفلسطينيتين، جنبا الى جنب القوى الوطنية والاجتماعية المناضلة الاخرى، بدعم ومشاركة اوسع الجماهير الشعبية العربية والاسلامية، وباعتراف دولي شرعي واسع النطاق.
فاذا اعتبرت "مراكز القرار" الدولية، وأولها الاميركية، بما جرى، وأعطت أذنها بصدق للكلمة العربية والاسلامية، وبالتالي لصوت العقل والضمير العالمي، فتكون العملية الارهابية في اميركا قد افادت الانسانية جمعاء على طريقة "رب ضارة نافعة". وحينذاك ستتضافر كل الجهود فعلا لخنق الارهاب في مهده. وعلى هذا الصعيد، اعطت الادارة الاميركية، وحليفها البريطاني، بعض الاشارات الايجابية حول امكانية "التنازل" في موضوع الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مما قد يستتبع "تنازلات" اخرى عن المواقف الامبريالية القديمة.
اما اذا كانت هذه "التنازلات" ستبقى سرابية، وتضليلية، سرعان ما يتم التراجع عنها و"تنفيسها"، كما جرى بالنسبة لمؤتمر مدريد لـ"السلام" الشامل، وحتى لاتفاقات اوسلو الفلسطينية ـ الاسرائيلية، بعد الوعود التي اعقبت حرب الخليج الثانية، بقصد استمالة بعض العرب ضد بعضهم الآخر، واذا ظلت العنصرية الصهيونية والغطرسة الاميركية تصول وتجول، وتحولت الاصوات العربية والاسلامية المعادية للارهاب، عن قصد او غير قصد، الى شهادات زور هدفها اعطاء "براءة ذمة" للإجرام والارهاب الصهيوني والامبريالي المتمادي، تماما كما تحولت الموافقة على قرارت الشرعية الدولية بخصوص الحصار على العراق الى شهادات موافقة "شرعية" على ابادة مليون ونصف المليون طفل وانسان عراقي، فهذا سيعني سقوط "القوة الاخلاقية" والسياسية الوحيدة القادرة على لجم الارهاب الدولي، المتمثلة تحديدا في الموقف العربي ـ الاسلامي دون غيره، طالما ان تهمة الارهاب هي موجهة للوسط العربي ـ الاسلامي.
واذا تركنا جانبا تصرفات اسرائيل الرعناء في الارض المحتلة، والحرب الظالمة التي تشن على شعب افغانستان المظلوم، لاجل استعادة بعض ماء الوجه للعسكرية الاميركية المتعجرفة، المطعونة في الصميم، فلا يسعنا الا ان نتوقف عند حادثة بسيطة معبـّرة جدا، قام بها رجل يفترض فيه في الوقت الحاضر على الاقل ان يكون شديد اللياقة، وأكثر من يعتبر بما جرى للمواطنين الاميركيين الابرياء بسبب السياسة الخارجية لحكومتهم التي تكيل بمكيالين، ونعني به السيد جولياني، العمدة السابق لمدينة نيويورك المنكوبة. فقد عمد هذا العمدة الى رفض شيك بعشرة ملايين دولار تبرع بها لأسر الضحايا الامير السعودي الملياردير الوليد بن طلال، بعد زيارته التفقدية لأنقاض المركز التجاري الدولي. علما أن هذا الامير هو من اقرب اصدقاء اميركا، ولـه فيها مصالح مالية كبرى. الا انه "سمح لنفسه" بعد الزيارة بالادلاء ببعض التصريحات العقلانية التي، في معرض شجبه للارهاب، طلب فيها تصحيح بعض المواقف الاميركية، من اجل القضاء على اسباب الارهاب، ولمصلحة اميركا بالذات. فكان ذلك رد عمدة نيويورك على هذا الموقف. وإذا اضفنا الى ذلك عدم استقالة اي مسؤول اميركي، كنتيجة منطقية للفشل في منع ضربة 11 ايلول 2001، وخصوصا المسؤولين عن "قلب" اصدقاء تقليديين لاميركا واستعدائهم عليها حتى الموت، من امثال الشيخ اسامة بن لادن وحركة طالبان، فهذا يدل على التشبث غير المنطقي بالمواقف، وأن الأقرب الى المعقول ان الاعوجاج في السياسة الاميركية سيؤول الى الكسر، قبل ان يتقوّم.
وفي كل الاحوال فإن اميركا خاصة، والغرب الامبريالي عامة، يقفان اليوم، ولأول مرة في التاريخ المعاصر، بين فكي كماشة لا يكاد يكون منها فكاك وهما: "شبح الارهاب العربي ـ الاسلامي"، من جهة، والحاجة الى البلدان العربية والاسلامية التي لا يمكن بدونها مواجهة هذا "الشبح"، من جهة ثانية. وفي هذه الحالة فإن زلة اللسان التي تفوه بها الرئيس بوش حول "الحملة الصليبية" تبدو بشكل ما "كلمة حق سبـّاقة"، يصبح معها ذا معنى خاص دعاء الداعين: ليحفظ الله اميركا!... ولكن من "أولياء امرها" اولا، ومن "اصدقائها" ثانيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملاحظات على هامش كتاب -كريم مروة يتذكر-...
- حزّورة الوفاق الوطني اللبناني ...
- التناقضات المستعصية للنظام الامبريالي العالمي
- الحرب السرية -المقدسة- ضد الكاثوليكية
- الجذور السوسيولوجية والاقتصادية لنشوء -شعب الله المختار-
- لانكشارية العالمية المعاصرة
- -الوعد الشيطاني- ليهوه والعداء الاستعماري الغربي للشرق العرب ...
- النظام السوري ومسرحية المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق ال ...
- من هو -العدو غير المرئي- لاميركا؟
- نظرة عربية مسيحية شرقية في موضوعة صدام الحضارات لهنتنغتون
- المأزق التاريخي ل-منطق- الهيمنة الامبريالية الاميركية
- لمحة تاريخية مكثفة عن العلاقات الثقافية البلغارية اللبنانية ...
- الجيش الاميركي حول افغانستان الى -مملكة سعودية- للخشخاش واله ...
- الغطاء الديني للصوصية الاستعمارية
- الحرب السورية: بداية النهاية!
- بعض بنود -لائحة الشرف- للدمقراطية الاميركية المزعومة!
- سقوط أسطورة القطب الاميركي الاوحد
- -الصليبية- الاميركية على قارعة السقوط التاريخي!
- ضجة كيماوية هستيرية مفتعلة لاجل فصل المناطق الكردية عن سوريا
- المهمة الوطنية والدمقراطية الاولى في سوريا: السحق التام للغز ...


المزيد.....




- وسائل إعلام إيرانية: سماع دوي انفجار شمال غرب أصفهان
- صافرات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل وأنباء عن هجوم بالمسيرات ...
- انفجارات قرب مطار أصفهان وقاعدة هشتم شكاري الجوية ومسؤول أمر ...
- وسائل إعلام: الدفاعات الجوية الإيرانية تتصدى لهجوم صاروخي وا ...
- وسائل إعلام: إسرائيل تشن غارات على جنوب سوريا تزامنا مع هجوم ...
- فرنسي يروي تجربة 3 سنوات في السجون الإيرانية
- اقتراب بدء أول محاكمة جنائية في التاريخ لرئيس أميركي سابق
- أنباء عن غارات إسرائيلية في إيران وسوريا والعراق
- ??مباشر: سماع دوي انفجارات في إيران وتعليق الرحلات الجوية فو ...
- عاجل | هيئة البث الإسرائيلية الرسمية نقلا عن تقارير: إسرائيل ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جورج حداد - السقوط التاريخي لمنطق الهيمنة الدولية لاميركا