أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نعيم إيليا - محاورة الربضي















المزيد.....


محاورة الربضي


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 4374 - 2014 / 2 / 23 - 16:02
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


- أبالحري أن نميل إلى قضايا الوجود المترفة، وفي العراق وسوريا إلهان يصطرعان على العرش اصطراع الضواري، أم حريّ بنا أن ندع عنا قضايا الوجود، ونهب أنفسنا وأقلامنا جميعاً لهذا الصراع مؤايدة، أو معارضة، أو نقمة وتنديداً، أو استعباراً على خرائب الغرثى وأشلاء القتلى؟
تساءل الربضي وقد لاح في وجهه سأم مجهد أغبر.
فأجبت:
- سؤال قابل أن يجاب عنه بلا أو بنعم أو بما بينهما، ولكنْ، كيفما تكن الإجابة عنه، فإنّها لن تقنعني بالانحياز عن قضايا الوجود. فإن تكن قضية الصراع الذي ذكرتَه وتداعياته المفجعة خبزاً – ولست هنا أشبه الصراع وفواجعه بالخبز؛ فهذا تشبيه زري قبيح منهوك كبيت من الرجز، وإنما أشبِّه به القضية صورةً - فما بالخبز وحده يحيا الإنسان، وإن تكن موضوعاً فما كان لموضوع واحد وحيد أن يستأثر بعنايتنا كلها، ويملك علينا قلوبنا وأوهامنا دون سواه، ويلجم أقلامنا عن حاجاتنا الأخرى، وإن تكن القضية واجباً، فما كان لواجب أن يعدم لنا حقاً،.
- وما حقك...؟
سألني سامي لبيب، ثم انحرف بعنقه إلى الوراء حتى صار وجهه إلى السقف، ومجّ إثر ذلك سحابة دكناء من غليونه الغليظ المسودّ نحو الثريّا (النجفة) المتدلية فوق رؤوسنا بأبهة وفخامة مثل عنقود مرصع من عريشها ذي الزرقة الكاشفة المريحة، من غير أن يتمكن في هذه المرة أيضاً من أن يضبط انفعاله. فرشفت ثمالة كأسي بتأنٍ وهدوء مغضياً عما ازدحم في نبر سؤاله من استفزاز وتحد، ثم أجبت بصوت حرصت على رزانة نبره، ووقار نغمته:
- حقي، حقنا. وحقنا هو حق عقولنا في أن تلتحم بالحوار الأبيض مع عقول تضادُّها، فلا ترتدَّ عنها حتى ينجلي نقعُ الالتحام بأنوار الحقيقة.
- الحقيقة؟ همم.. وما هذه الحقيقة التي لا تفتأ تملأ بها فمك بين كل عبارة وعبارة؟
- إنها حقيقة النظام من حيث هو مبدأ متحكِّم بكل ظواهر الكون.
- النظام!؟ هههه.. يا رجلُ! أبعد كل هذه البراهين التي جئتك بها على سيطرة العشوائية على الكون ما ظهر منه واستتر، تحدِّث بجرأة – ولا أقول بوقاحة تأدباً - عن النظام؟ ما رأسك يا أخي، أمن حطب الزان!؟
- لا، لا.. ( ارتفعت بيننا على حين بغتة ذراع حازم الملقب بعاشق الحرية - وكان إلى جانبنا يتابع النقاش الساخن باهتمام صامت – ارتفعت بحركة تصويرية اعتراضية بدت كأنها محاولة لفثء نزاع قد أوشك أن يحتدم بيننا) لا، أرجوكم! اسمحوا لي أنتم الثلاثة، اسمحوا لي "أن أعطي شيئاً ربما يساهم في حل عقدة المشكلة، وأرجوكم ثانية ألا تعتبروا ما أعطيه لكم تدخلاً في مجرى النقاش.. لا أود أن أتدخل وإنما هي كلمة على الهامش لا أكثر ولا أقل. أنتم الثلاثة - وأقولها بصراحة - لم تحددوا منهج مناقشتكم، فلم نعلم أهو المنهج الفلسفي الخالص، أم هو المنهج العلمي المجرد الذي لا توجد فيه ذرة من فلسفة أو رأي شخصي؟ شيء آخر أود أن أضيفه؛ أود أن أقول إن نعيم إيليا يخلط التعريفات العلمية للعشوائية بأنواعها مع الفرضية الفلسفية الشهيرة (الحتمية) هذه الحتمية التي (علمياً) قد تقودنا لاحقاً إلى نظام صارم، أو قد لا تعطينا شيئاً (أعني ما جاء باليمين راح بالشمال) ولا بد لي هنا من ذكر أنواع العشوائية وفق علوم الطبيعة؛ كي يكون نعيم على بينة منها واطلاع عليها؛ فيتفادى الخلط، وهاكموها على أنواعها:
وهي الفوضى الكاملة. chaos
entropy وهي عشوائية تحمل فى طياتها اللا ترتيب disorder
Random وهي عشوائية أيضاً،و تحمل فى طياتها احتمالات probabilities
ولا بد لي أيضاً من أن أعطي رأياً في القانون الطبيعي الذي تداولتم ذكره في مناقشتكم: فإن هذا القانون شيء أو حدث يتكرر وفق نهج معين، بخلاف العشوائية بأنواعها تلك حيث تكون فرص التكرار فيها أضعف بكثير من الفرص المتوفرة للقانون.. وأخيراً – وعذراً إن كنت أطلت! - لا بد لي من التعريج على نظرية التطور التي أدرجتموها مثالاً في محاورتكم؛ لأقول فيها إنها لا تجري إلا بفضل عوامل طبيعية لا شأن للوعي بها البتة"، ولأسألكم في النهاية: أتريدون أن ترسموا لوحة للكون كل منكم على حدة من وجهة نظره الفلسفية، أم تريدون أن تبحثوا بحثاً علمياً جاداً باحتساب مبدأ الاحتمالات المتكررة؟".
وكنت أعجل من الربضي إلى الرد على كلام العاشق حازم، قلت:
- اعتراضك يا حازم شغب منقوض من وجوه: فأما أولاً، فإن المنهج هنا ليس يسهم في حلّ عقدة المشكلة كما أمَّلتَ وتوقعت؛ لأن عقدة المشكلة لم تنشأ أصلاً عن المنهج ليكون المنهج حلاً لها، وإنما نشأت عن النتيجة التي هي النظام أو الفوضى؛ فنحن هنا فريقان، فريق يأخذ بالنظام، وفريق يأخذ بالفوضى أو العشوائية، كما تدعونها، وربما كان الفريقان، وقد امتلك كل منهما واحدة من هاتين النتيجتين، سلكا معاً إلى امتلاكها منهجاً واحداً؛ منهج التأمل، أو منهج التجريب – ولا أستبعد أن يتناوبا معاً المنهجين كليهما فهما يجربان ويتأملان، وقد من التجريب والتأمل نشأت الفلسفة التجريبية وفلسفة العلوم - وبهذا يسقط الادعاء بأثر المنهج على المشكلة.
فأما ثانياً، فما أهمية أن تنهج المشكلة هذه طريق التأمل الفلسفي الخالص، أو أن تنهج طريق التجريب العلمي، ما دامت الحقيقة في النهاية هي الغاية، فأي المنهجين أدركها فله فضل إدراكها، وما دام النهجان أو الطريقان، على ما ذكرتُ قبل قليل، لا يوجبان نتيجة محددة؟ فلا النهج العلمي يوجب العشوائية لا محالة، ولا هو يوجب النظام لا محالة، وكذا النهج التأملي فلا هو يوجب النظام بالضرورة، ولا هو يوجب العشوائية بالضرورة. فإن أنت أدركت العشوائية مثلاً - سواء أكنت نهجت إليها منهج الفلسفة التأملية، أو نهجت إليها منهج علوم الطبيعة - فلا محيص لك عندئذ من أن تبيت وأنت على خلاف في هذه النتيجة مع من أدرك النظام نتيجةً بعد أن سار إليه في منهج التأمل؛ أو سار إليه في منهج التجريب على السواء؛ وبهذا يفقد المنهج بالإضافة إلى هذه القضية أهميته.
فأما ثالثاً، فإن الحتمية ملازمة للنظام ملازمة الصورة للمادة.. إنها طبيعة النظام، فلا يمكن بحال من الأحوال أن تنفك عنه؛ وهذا يبطل قولك بأن الحتمية (فرضية) ويلزمك بقبول الحتمية على أنها حقيقة لا مراء فيها ولا ظن. فإنا إذ رأينا أن الكون مقوّم بالنظام، فإنا ما رأيناه كذلك إلا لأن كل ما يحدث فيه، إنما يحدث بالضرورة، والضرورة هي الحتمية، فإن أنت تدبرت نواميس الكون، فلن تجدها تتردد بين أمرين كالحدوث واللا حدوث، وكالانطباق و اللا انطباق، وكالتغير واللا تغير؛ فالنار تحرق، ليس من نار لا تحرق، فإن توهمنا ناراً تحرق مرة ولا تحرق مرة فهي ليست النار. وللماء العذب نظام أن يستنبت الزرع في أرض صالحة أو يهلكه، ومحال أن يوجد ماء عذب لا يستنبت زرعاً في هذه الأرض أو لا يهلكه. وللإنسان نظام أن يحيا وأن يموت، ومحال أن يكون إنسان لا يحيا ولا يموت، أو يحيا ولا يموت. وللنجاح في دروس الفيزياء نظام يعتمد على الدرجات، ومحال أن ينجح الطالب، إذا لم يستوف الدرجات المتواطأ عليها للنجاح، وقل مثل هذا في سائر ما حوى الكون من موجودات وظواهر.
فأما رابعاً، فلا أدلّ من تقسيم العشوائية عند من قسمها إلى ثلاثة الأقسام التي ذكرتها، على بطلان الاعتقاد بالعشوائية وفساده بما يوافق رأينا؛ وذلك لأن العشوائية، إن كانت، فلا بد أن تكون مفهوماً مطلقاً أو خاصة مطلقة من خصائص المطلق (الوجود)، فكيف لها أن تنقسم؟ إن ما كان مطلقاً لا يقبل القسمة الخارجية بوجهٍ من الوجوه؛ إن الوجود واحد مطلق، وليس يأتي من الوجود الواحد المطلق بوجهٍ، وجود ثان. وقل مثل هذا في صفات أو خصائص الوجود المطلقة، وهي: الأزلية، الأبدية، الانتظام (القوانين والنواميس) فهي لأنها مطلقة، لا يجوز أن تنقسم واحدة منها إلى صفة ثانية تكون نقيضاً لها. هذا محال، كما هو محال انقسام الوجود إلى وجود ثان ! محال أن تنقسم الأبدية مثلاً إلى اللا أبدية؛ فيصبح الوجود أبدياً ولا أبدياً، محال أن تنقسم الأزلية إلى الحدوث؛ فيصبح الوجود أزلياً محدثاً، محال أن ينقسم النظام إلى عشوائية؛ فيصبح الوجود منتظماً عشوائياً... فلما استحال تقسيم صفات الوجود المطلقة منطقياً، فقد استحال أيضاً تقسيم العشوائية، وهي مطلقة، إلى النظام.
فإن زعمت أن الوجود حركة عشوائية هوجاء لخليط من العناصر تلتقي مصادفة من غير تقدير فتمتزج فينشأ عن امتزاجها مواد جديدة لها نظام وترتيب؛ فقد جعلت بزعمك هذا العشوائيةَ نظاماً؛ لأنّ ما يتحرك، لا يتحرك إلا بحسب مبدأ الحركة وهو مبدأ صارم، ولأن ما يلتقي فيمتزج فينشأ عنه شيء منظم، فإنه لا يلتقي فيمتزج فينشأ منه شيء إلا بنظامٍ لا محيد عنه البتة. فإن التقاء الهيدروجين بالأوكسجين وامتزاج أحدهما بالآخر بمقدار ثابت فنشوء الماء عنهما، فإنما يحدث ذلك بصورة منظمة حتمية ثابتة، ولا يحدث أبداً ألا ينشأ الماء من امتزاج الغازين بالمقدار والظروف الموجبة لنشوئهما. ولو كان الأمر للعشوائية لجاز أن ينشأ الماء في هذه الحالة أو ألا ينشأ. ولو كان الأمر للعشوائية، فلمَ إذا التقى الحديد بالزئبق، استحال أن ينشأ عن لقائهما ماء؟ أوليس لأجل أن نشوء الماء لا يكون إلا بأشراط ومقادير وحالات؟ وبعدُ، فما هذه الأشراط والمقادير والحالات إن لم تكن نظاماً!؟
ولعلك تعترض فتقول: إنما أردتُ إلى أن عملية الالتقاء ذاتها هي التي تتم بعشوائية، لا ما ينتج عنها. واعتراضك هذا مردود عليه بأن عملية التقاء العناصر، ما هي إلا الحركة، والحركة هي حركة الأجسام في الكون، وهي حركة منتظمة يؤيد العلم والمنطق حقيقة انتظامها، فالضوء له نظام حركة، والغبار الكوني له نظام حركة، والأجرام السماوية لها نظام حركة وهي جميعاً مؤتلفة في حركة عامة. والتقاء مادة بمادة هو حركة حتمية فمن طبيعة وتكوين الأشياء المادية أن تلتقي فتتنافر أو تمتزج أو... ولو لم تكن الأشياء تلتقي بنظام الالتقاء العام الحتمي، لالتقت الأشياء، ولما التقت الأشياء وهذا خلف. فإن الشيء لا مناص له من أن يلتقي بشيء آخر في هذا الكون اللانهائي، وليس له أبداً ألا يلتقي بشيء آخر. وبالجملة فإن عملية الالتقاء ذاتها، قانون حتمي.
ثم ما معنى قولك إن العشوائية "تحمل في طياتها اللا ترتيب"؟ وما معنى قولك إن العشوائية "تحمل في طياتها احتمالات"؟ ألا ترى الهفْتَ فيما تقول!؟ ألا ترى أنه إن كانت العشوائية تحمل في طياتها اللا ترتيب، فهي إذاً الفوضى العشوائية؟ فكأنك بهذا فسرت الماء بالماء، والمجهول بالمجهول. ثم ألا ترى أنه إن كانت العشوائية تحمل في طياتها احتمالات، فهي إذاً النظام؛ لأن النظام وحده هو الذي "يحمل في طياته" مبدأ الاحتمال. والاحتمال هو كمُّ الممكن الجائز وامتثال الممكن الجائز للنظام، لا يحتاج في إثباته إلى كبير عناء. فإن الممكن هو الوجود بالقوة، وما كان موجوداً بالقوة، فقد يحدث بالفعل أو لا يحدث بالفعل؛ فالبذرة قد تنبت بالفعل، وقد لا تنبت، وهي لا تنبت ما لم تتوفر لها عوامل النبوت. ولقد وهم بعضهم فظن أنّ الاحتمال لكونه نقيض اليقين، وجب أن يكون دليلاً على العشوائية. والحق أن اللايقين ليس فصلاً في هذا الباب، ولا شأن لا من قريب ولا من بعيد بفكرة العشوائية، ولو جعلته دليلاً عليها، لأحدثتَ تناقضاً شكلياً في منطقك لا يسوغ تبريره؛ لأن اللايقين بذاته لن يكون إلا مبدأ صارماً – إن صدقت نظرية اللايقين - والمبدأ نظام، والنظام نقيض العشوائية.
فأما خامساً، فإن حدَّك للقانون بقولك: " إن هذا القانون شيء أو حدث يتكرر وفق نهج معين، بخلاف العشوائية بأنواعها حيث تكون فرص التكرار فيها أضعف بكثير من الفرص المتحققة للقانون" لم يسلم من الاعتلال والنقص؛ وذلك لأن القانون هو المبدأ الذي له قوة غير مرئية تحدث الوقائع والأحداث والظواهر بصورة حتمية، لا مفر لها البتة من أن تكون إلا على هذه الصورة، كقانون طفو الأجسام على سبيل المثال، وليس كما تراه حدثاً أو واقعة؛ فظاهرة طفو المركب على سطح الماء حدثٌ، هذا صحيح! ولكنَّ هذا الحدث بعينه ليس قانوناً، وإنما هو حدث قد وقع بفضل مبدأ أو قانون طفو الأجسام المعروف. قد يحدث أن يطفو غيرُ المركب على سطح الماء بفضل هذا المبدأ، وقد يحدث أن يطفو غيرُ غيرِ المركب على سطح الماء بفضله، وقد يحدث أن يطفو غيرُ غيرِ غيرِ هذا المركب... بفضله أيضاً، فالأحداث تتكرر ولكن القانون الذي يحكمها واحد هو هو لا يتغير. أضف إلى هذا أنك بحديثك عن (فرص) التكرار للقانون والعشوائية، قد أقررت بالعشوائية والنظام من حيث وجوديهما الواقعيين معاً! وهذا الإقرار منك بثنائية العشوائية والنظام على الحقيقة، إقرار باطل؛ فإن الكون لكونه مطلقاً لا نسبياً إما أن يكون عشوائياً، وإما أن يكون منظماً، ومحال أن يكون في واقعه عشوائياً ومنظماً معاً، كما هو محال أن يكون الوجود واللا وجود في الواقع مجتمعين معاً: فإما الوجود وإما اللا وجود؛ إلا إذا قدَّرت أن العشوائية واللا وجود، فكرتان ذهنيتان: فالأولى تقابل النظام، والثانية تقابل الوجود مقابلة الأضداد - كما هو الحال في مباحث الجدل عند المناطقة الجدليين - من غير أن يكون لهما بالذات وجود في غير الذهن والوهم.
فأما سادساً، فإن التعريج على نظرية التطور، على النحو الذي جاء في قولك: " لا بد لي من التعريج على نظرية التطور التي أدرجتموها مثالاً في محاورتكم؛ لأقول فيها إنها لا تجري إلا بفضل عوامل طبيعية لا شأن للوعي بها البتة" أشبه بعروج أظلع عن الطريق القويم إلى منحدر بعيد الهويّ. وما ذلك إلا لأنك لم تتبين حقيقة أن الوعي هو الذي يحرك عمليات التطور.. أتعترض؟حسناً! أليس الذي يتطور هو الحياة؟ أوليست الحياة وعياً؟ فكيف إذن لا يكون لوعيها شأن بتطورها!؟ أوكان يمكن للإنسان إذ كان وحيد الخلية في غمر، أن يغدو إنساناً لولا أنه وعى وعيه ذاك البدئيّ الضئيلا الضئيلا؟ فإن كنت الآن في شك من ذلك، فحري بك أن تقول لنا: لماذا لا تتطور الجمادات كما تتطور الأحياء؟ أما إن كنت تقصد من ذلك وعياً خارجياً يوجه حركة التطور، فإن قصدك موئله الأساطير والماورائيات، وليس موئله مجلسنا وما نحن فيه.
وبالجملة فإنك بهذا قد جنفت على مادة الحوار بيننا مرتين: مرة عندما حشرت الوعي حشراً في موضوع لا يستلزمه؛ إذ أن القول بالعشوائية ليس مما يصلح أن يكون برهاناً على وجود الوعي (قد يكون الوعي وتكون العشوائية أو لا تكون، ما المانع؟) وليس مما يصلح برهاناً على عدم وجوده (قد لا يكون الوعي، وتكون العشوائية أو لا تكون، ما المانع؟) كما أنه ليس مما يصلح لأن يكون دحضاً لمعتقدات أهل الإيمان – إن كنت ترمي إلى هذا، وما إخالك إلا أنك إلى هذا ترمي كما يرمي سامي لبيب -؛ لأن أهل الإيمان مقرّون بأن العالم كان عشوائياً في عماء، ثم تدخلت إرادة الله فجعلته على نظام.
ومرّة إذ حشرت نظرية التطور فيه على أنها برهان على صدق رأيكم في العشوائية، والحق أن نظرية التطور برهان على صحة الرأي القائل بالنظام خلافاً لرأيكم، فالكائن إذ يتطور، فإنما يتطور بقواه الذاتية ووفق قوانين الطبيعة، وهو أمر لم تنكره.
أطبق مروان سعيد انجيل يوحنا بين يديه، وقال:
- من المعروف أن الكرة الأرضية كانت كتلة ملتهبة... تكونت الأرض من حجارة تجمعت بشكل تصادمي منها ما كان صغيراً، ومنها ما كان كبيراً. ويقول العلماء إن اصطدامها بالأرض كان بشدة معينة فلم تكن شديدة كل الشدة؛ إذ لو كانت كذلك لتراجعت وتفرقت، ولم تكن خفيفة؛ إذ لو كانت كذلك، ما التصقت ببعضها. وقد أنتج هذا التصادم حرارة تصهر الحديد والمعادن الأخرى ببعضها. ومن المعروف أنه لايمكن لعنصر حي أن يوجد في درجة حرارة انصهار المعادن.
فمن أين أتت الحياة؟ وهل الخلية وجدت عشوائياً وبها هذا النظام؟ وكيف كان لها القدرة الذاتية على التفاعل والاتحاد بالعناصر وتقبلها لها وتطورها اتوماتيكيا؟ وما مدى قدرة هذه العجيبة التي تسمى الخلية التي تحملت أشد درجات الحرارة انخفاضاً وارتفاعاً، وكم هي احتمالات إيجاد ظرف قابل للحياة معادل 10 اس 300 من ماء وهواء وضغط جوي وغلاف جوي وبعد عن الشمس وبعد عن القمر وحرارة ووووو وكل ذلك بنظام لو زاد فيه الاكسجين مثلاً أو قل، ما تحقق الظرف الطبيعي الملائم لنشوء الحياة...
فأجهم وجه سامي لبيب كأنه الجو ملبداً بالغيوم، وبادره بغلظة:
- أرى أن تعتنى بما بين يديك من أساطير الأولين، فهذا خير لك وآمن من أن تقحم عقلك في ما لا يسره من أقاويل أهل الرأي، وعد إلى إنجيلك فعسى ربك أن يلهمك الجواب عن سؤالي الكظ: لماذا يتركنا ربك تعصف بنا الحيرة من غير أن يتعطف علينا برحمته فيكشطها عنا، ما دام موجوداً كما تزعم؟ ثم من أنت وما كتبك ومن أنبياؤك لينيبكم عنه في التبليغ؟ أتراه عاجزاً، أم عاجزاً، أم عاجزاً أن يقوم عنكم بالتبليغ...؟ حكمة؟ وأي حكمة في قدرة معطلة!؟ جهل بالغيب وبالمقاصد الخفية؟ هه! فلم لم يغيِّب عنكم الجحيم وأواره، لماذا لا تجهلونه كما تجهلون حكمته ومقاصده؟ أيكون الكشف عن الجحيم بتفاصيله، أيسر عنده من الكشف عن ذاته!؟
ثم التفت نحوي، وما زال الحنق عنه، وقال:
- اسمع! نحن نأتى من تلقيح حيوان منوى واحد من ملايين الحيوانات المنوية لبويضة، وهذا نظام كوضع عام، ولكنه عشوائية لكون الحيوان المنوي الذي أتينا منه واحد محدد من ملايين.
وكذلك هو الأمر عند تحديد نوعية الجنين، فهذا نظام.. ولكن أنت تعلم قصة الاكس والواى، فقل لنا أين النظام فى هذه القصة إن لم تكن هذه القصة عشوائية؟
وإليك مثالاً ثالثاً: أنا أذهب لعملى بتوقيت محدد منتظم، ولكن فى مسيرة نظامى هذا هناك آلاف السيناريوهات التى يمكن أن تحدث بصورة عشوائية: كأن أسقط وأنا نازل على السلم، أو تدهسنى سيارة وأنا أعبر الشارع.. فماذا تسمى هذا؟
فأجبت:
- قبل الرد على سؤالك: " ماذا تسمي هذا؟" ألفت انتباهك إلى أنك تعترف الآن بوجود النظام، وكنت قبل اليوم تنكر أن يكون النظام إلا فكرة جائلة في ذهن الإنسان، وهذا حسن إلى حدٍّ!
فأما الجمع بين النظام والعشوائية في وجود واحد، فمحال وخلف كما أثبتُّ ذلك في الرد على حازم، وقد أكرر القول في هذا ثانية لمزيد من الإيضاح ولإزالة الشبهة والخلاف، فأقول: لما اقتضى أن تكون العشوائية (على رأيكم الذاهب إلى أن للعشوائية وجوداً غالباً) صفة للمطلق الذي هو الوجود، اقتضى أن تكون العشوائية مطلقة مثله؛ لأن صفات المطلق- كما تعلم – يجب أن تكون مطلقة، فلما كانت العشوائية صفة للوجود مطلقة، امتنع أن يكون لها نقيض في الوجود، كما امتنع أن يكون للأزلية نقيض في الوجود، وكما امتنع أن يكون للأبدية نقيض في الوجود.. إذ لا يُتصور الحدوث إلى جانب الأزلية، ولا تتصور النهاية إلى جانب الأبدية.
وفي الرد على سؤالك " ماذا تسمي هذا؟" أقول: أسميه النظام ولا أسميه العشوائية. فكل ما يحدث مما ذكرتَ، إنما يحدث بنظام دقيق وفق قوانين محددة لا تخيب. وإنه لبيّن واضح قانون التلقيح الذي لا يسمح لغير حيوان منوي واحد أن يسبق ويخترق جدار البويضة. وواضح أن الجنين في الرحم يحدد جنسه قانونُ توزيع (الكروموسومات) الذكرية والأنثوية بين المرأة والرجل، وواضح بيّنٌ أنه لا يتم تحديد الجنس بطريقة اعتباطية عشوائية كما تظن، فهناك عوامل عديدة مؤثرة في عملية التحديد، أدرك العلم بعضاً منها، وما يزال بعض آخر منها مجهولاً. والقانون العام الذي يتحكم في عملية تحديد الجنس واحد معروف لا يتغير: فإما الذكر، وإما الأنثى، وإما الخنثى – إن جاز ألا نعد حالة الخنثى حالة تشوه خلقي - ولو كان تحديد الجنس متروكاً للعشوائية، فلماذا هذا النظام الدقيق في توزيع الكروموزومات بين الذكر والأنثى؟ ولماذا هذا النظام الدقيق في حركة الحيوانات المنوية وحالة البويضة؟ ولماذا تأثير الغذاء على المني والبويضة والجنين قبل أن يتعين جنسه؟
فأما اعتقادك بأن سقوطك وأنت تنزل السلم، إنما هو محض صدفة وعشوائية؛ فذلك لجهلك أسباب سقوطك. فإن لسقوطك أسباباً لولا تضافرها عليك ما سقطت. وكل ما له سبب، فليس يقال عنه إنه قد جرى بمصادفة وعشوائية؛ إذ أن العشوائية أو المصادفة لا تقترن بوجه من الوجوه بالأسباب والعلل. وكذا شأن الدهس، فلولا الغفلة ما كان.
فأما قولك إن الإنسان يخرج من البيت، فيتفق له أن يعود أو لا يعود، أو يقتل أو لا يقتل، أو يلتقي بصديق له أو لا يلتقي، أو تسقط فوق رأسه قرميدة فيموت أو لا يموت، أو يصيب ظهرَه حذاء امرأة غاضبة فيسخط أو يبتسم، وما إلى هذا من الاحتمالات التي لا يحصرها العد، وتساؤلك بعد ذلك: لماذا وقع لي هذا الأمر ولم يقع لي ذاك؟ فإن جوابه يسير: فإنك لما خرجت، أصبحت بخروجك نهباً لكل هذه الاحتمالات؛ أي أصبحت ولا بدّ - وأنت خارج من المنزل - أن يحدث لك حادث ما من تلك الحوادث وغيرها، هذا قانون لا يستثني أحداً. ولكي تعلم لماذا وقع لك هذا الحدث، ولم يقع لك ذاك، عليك أن تنظر إلى الأسباب التي تقاطعت مع أسبابك وحتمت وقوع الحدث الذي وقع دون غيره من الأحداث؛ وحتمت أن تكون أنت طرفاً في هذا الحدث. فالمرأة الغاضبة لم ترم حذاءها بالمصادفة دون سبب، وإنما رمت به زوجها إثر عراك بينهما، فتنحى عنه زوجها فمرق من النافذة المفتوحة بلا اعتراض في عين اللحظة التي صرت فيها على مرمى الحذاء..
قالت فؤادة العراقية مقاطعة وقد أضاءت سناً وعبيرا:
- هبنا اقتنعنا بأن النظام يسود الكون، فما يجدينا أن نعلم بأن النظام يسود الكون؟ ولست أعني بقولي هذا، أن ندع الحديث عن الوجود وشواغله بذريعة أن في شرقنا يتعالى الصراخ وتنتهك حقوق المرأة، وإنما أعني: ما هي الفوائد التي يمكن أن نجنيها من كون الوجود منتظماً أو عشوائياً؟
ومرّ بنا في هذه اللحظة عبد الرضا حمد جاسم متعجلاً، فحيانا بكياسة، ثم قال:
- قد سمعت نتفاً من حديثكم - ولا تظنوا أنني سمعته بمحض المصادفة، كلا! إذ قد وجب أن أسلك الطريق الذي يمر بكم إلى حاجتي مرغماً – واعذروني أن أقول وأنا مسرع: لا توجد عشوائية، ولا طفرة، ولا صدفة في هذا الكون.. وأكرر التحية.
ورفع ذراعه بتحيته المكررة إلى صدغه ومضى.
_____________________________
للاستئناس والمراجعة: نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4353 - 2014 / 2 / 2 - 02:21

سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 4326 - 2014 / 1 / 5 - 17:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


















#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسألة الضرورة والحرية، بما هي مسألة وجودية
- وصيد المعنى
- محاورة رمضان عيسى
- ما العلة الحقيقية في انهيار سوريا
- معضلة الروح
- في رحاب المطلق
- أنتي مالوم أبو رغيف. أو فلسفة التغيير
- شبح الطحان شمس الدين الكردي
- إلى السيدة الفاضلة الأديبة ليندا كبرييل
- مشكلة الوجود الإنساني
- خلق العالم . 3- الحياة
- خلق العالم 2- المغزى
- خلق العالم
- إيميل من صديقته السورية
- في ضيافة يعقوب ابراهامي
- ماركسيٌّ بل مسلم والحمد لله
- سامي لبيب تحت المطرقة
- المنهج القسري في أطروحة فؤاد النمري (الرسالات السماوية)
- الإباحية في أدب النساء العربيات
- الحوار المتمدن يسهم في التحريض على المسيحيين في بلاد الشام


المزيد.....




- سعودي يوثق مشهد التهام -عصابة- من الأسماك لقنديل بحر -غير مح ...
- الجيش الإسرائيلي يواصل ضرباته ضد أهداف تابعة لحماس في غزة
- نشطاء: -الكنوز- التي تملأ منازلنا في تزايد
- برلين تدعو إسرائيل للتخلي عن السيطرة على غزة بعد الحرب
- مصر تعلن عن هزة أرضية قوية في البلاد
- روسيا تحضر لإطلاق أحدث أقمارها لاستشعار الأرض عن بعد (صور)
- -حزب الله- يعلن استهداف ثكنة إسرائيلية في مزارع شبعا
- كييف: مستعدون لبحث مقترح ترامب تقديم المساعدات لأوكرانيا على ...
- وسائل إعلام: صواريخ -تسيركون- قد تظهر على منظومات -باستيون- ...
- رئيس الوزراء البولندي: أوروبا تمر بمرحلة ما قبل الحرب وجميع ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نعيم إيليا - محاورة الربضي