أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - إيميل من صديقته السورية















المزيد.....



إيميل من صديقته السورية


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 3643 - 2012 / 2 / 19 - 16:45
المحور: الادب والفن
    


أنعم الله صباحك ومساءك أيها الشرير!
لن أستفسر عن أحوالك في هذه المرة، كما أعتدتُ أن أفعل ذلك في بداية كل رسالة من رسائلي، لن أطمئن عليك، لن أعبر لك عن اشتياقي إليك، ولن تراني أتعجل تفريغ حقيبتي المتخمة بالأنباء على مسمعيك؛ لأنني ناقمة عليك.
ولأنني ناقمة عليك، لا مفر لي من أن أصبّ فوق هامتك جام نقمتي الحبيسة داخل صدري كي أشفى من حرّها أنا، وكي تتلظى أنت من رمضائها. أنصحك أن تتهيَّأ لها الآن، تهيأ لاستقبالها ولكن في صورة عتابٍ مرّ غير مألوف، عتابٍ مرعب لن تجد فيه ليناً ولا مهاودة.
ستكون واهماً إن أنتَ توقعت أن ألين لك أو أرفق بك كما كنت أرفق بك في المرات السابقات إذ أعاتبك. أنا جادة في هذه المرة وصارمة، بعد إذ حقّ عليك العتاب نقيَّ المرارة كالحنظل، وبعد أن صرت تستحقه عن جدارة تضارع جدارتي بحياة خالية من المتاعب والمنغِّصات. أقول جملتي هذه وأنا أضع نقطة في نهايتها، هِهْ! وأخبط بقدمي أرض غرفتنا الخشبية، راجية ألا تستيقظ (جوزيتا) النائمة في سريرها بجواري!.
وعلى ذكر الاستحقاق، دعني أضف فكرة عابرة تتعلق به؛ وذلك لمرضاة عقلك المفتون بالأفكار الهلامية (الخزعبلاوية) المعقدة، ولسبب آخر وهو أن تعلم أنني مهما أغلظ لك، فإني لا أخرجك من رحمة قلبي الواسع، فها أنا كما ترى أرحم عقلك فأقدِّم له هنا فكرة تشغله حيناً وتبعد عنه السأم.
اسمع! تقول الفكرة: ((الاستحقاق في أيامنا منحة؛ أي أنه لم يعد يؤخذ عنوة كما كان يؤخذ في الماضي)) وقياساً على هذه الفكرة العظيمة الخارقة، التي لا أدعي أنها من ابتكاري، فإنك تستحق العتابَ مني، ولأنك تستحق العتاب مني، يكون استحقاقك منحة تستحقها مني، وما عليّ أنا في هذه الحالة إلا أن أوفيك حقك على أكمل وجه، بدلاً من أن أنتظر حتى تأخذ أنت حقك مني بعنوة وقسر.
همم، هل أعجبتك الفكرة؟ أفهمتها؟ أشك في فهمك لها يا عزيزي رغم نباهتك. أنت لم تفهمها بالتأكيد كما لم أفهمها أنا؛ لأنها غير مفهومة أصلاً .. هئ هئ هئ. وهل فهمت قبل ذلك قول الشاعر:
كأننا والماء من حولنا...... قوم جلوس حولهم ماء؟
ولكنك لن تيأس يا عنيد. أعرفك جيداً، ستقضي نهارك على امتداده، وربما ليلك أيضاً، في تأمل هذه الفكرة، التي على سخفها وتفاهتها وخلوها من المعنى، ستراها عبقرية عميقة جديرة بأن يلهو بها العقل كما يلهو بمسألة رياضية أو منطقية، أو شطرنجية، وأنت موقن بأن السخف والتفاهة عنصران وجودُهما في حياتنا ضرورة وحكمة. ولا أستبعد أن تستنتج بعد الجهد أنَّ علاقة جدلية تربط بين الأخذ والعطاء.
أنا الآن أراك، وقد أغمضت جفنيَّ، أراك في مرآة خيالي تبتسم ابتسامة الظفر، وأنت تشرح هذه العلاقة بلهجة تحاول جهدك أن تطمس ما فيها من خيلاء الفلاسفة المبتدئين: ((لولا حاجة الناس إلى أخذ الشيء وإصرارهم على أخذه باللين تارة والعنف أخرى، ما استجاب لهم أربابُ المنْح والعطاء)).
هراء؛ أعني لم أفهم شيئاً. ومن أين لعقلي الصغير بطاقاته المحدودة المنكمشة الخامدة أن يستوعب شيئاً على هذه الدرجة من الخطورة والتعقيد، شيئاً ثقيلاً مثل صخرة، ممتداً بلا نهاية كالخط المستقيم. كيف لعقلي أن يستوعب هذا الذي تسميه جدلاً وعلاقة بين أخذٍ وعطاء؟ كيف؟ إنّ عقلي الصغير لا يفهم معنى (البراغماتية)، فأنى له أن يفهم معنى الجدلية؟ أرجوك، تنحَّ عني! ولا تدخلني في متاهات الفلسفة وسراديب المفاهيم المجردة.. وعد بنا إلى العتاب، أنا أهوى العتاب – ولا تقل النكد من فضلك! - وخصوصاً إذا كنت أنت موضوع هذا العتاب. لماذا أهوى العتاب؟ أتود حقاً أن تعلم لماذا أهوى العتاب؟ ألا تعلم؟ إذن فاصغ بانتباه إلى أغنية فيروز، إنها خليقة بأن تشرح لك دوافع هوايتي الممتعة.
هئ هئ هئ.. أتسألني الآن علام العتاب؟ ولك لسانٌ يسأل يا مظلوم!
أي ياااا ابن آدم! أإن أبطئ عليك بالجواب، تستغلّ إبطائي فتخلد إلى الصمت والكسل والنسيان، وتتجاهلني فلا تبادر بالاستفسار عني ولا تهتم لأمري كأني متاع مهمل؟
ألا تسأل نفسك؟! ماذا لو كنتُ في مأزق حرج؟ وماذا لو كنت مريضة تشوي الحمى جسدي شيّاً؟ وماذا لو كنت أخفقت في امتحاناتي؟ بل ماذا لو كان حادث سيارة قد وقع لي فرماني في غرفة العناية المشددة؟ أجبني! أيهون عليك أن أكون في مثل هذه الحالات الصعبة الرهيبة المخيفة، وأنا قطتك المدللة؟
لقد مرّ زمن طويل على صمتك، ثلاثة أشهر؟ ربما أربعة. فلماذا لم تكتب لي إذن وتطمئن علي؟ أتنتظر أن يأتيك الجواب مني على آخر رسالة وصلتني منك؟ أتنتظر هذا حقاً؟ أليس يستحثك على الكتابة إليَّ شيء آخر؟
كيف تنتظر حتى يصلك جوابي، وأنت (تدعي) أنك تحبني كما تحب الآنسة (ديما) قطيطتك؟! متى كان الصديق المحب يمعن في الصمت، ويوغل في الانتظار إلى أن يأتيه أمرٌ يستحثه على الكتابة إلى صديقه، أمرٌ لا شأن له بحاجات القلب؟ أفي الصمت المنتظر البارد ما يعبر عن حرارة الشوق الحقيقي؟ إذا كان الأمر كذلك، فأين موقع الاندفاع والعفوية واللهفة وإملاءات القلب المعنّى وما سوى ذلك من الإشارات العاطفية الذائبة في الرقة والحنين، من ساحة المحبة والشوق؟ أين موقعها يا حبيبي؟
ثمّ، ألست تقول إن العلاقة التي تربط بين قلبين، إذا ألمّ بها انقطاع وتباعد وإهمال من المحبين، خبَت شعلتها؟ فلمَ إذاً آثرت الانقطاع على المبادرة؟ لمه؟ هل خبت الشعلة في قلبك ومللت صحبتي؟ أهذا هو السبب؟ إن يكن هذا سبباً، فتشجع وصارحني؛ قل لي الحقيقة: هل مللت صحبتي؟ أعدك في هذا الحالة أن أنسحب من حياتك بهدوء كما دخلتها بهدوء.
بهدوء؟! أقلتُ بهدوء؟ يا لي من غبية! لا، لا، أنا لا أعني الهدوء، لا أعني أنني سأنسحب بهدوء، هذا كلام فارغ، مجرد كلام لا معنى له.. أنا لا أستطيع أن أنسحب بهدوء. لا أبداً، أنا أعني شيئاً آخر بالتأكيد، أعني أنني سأحترم رغبتك أنت في الانسحاب، هل أدركت الآن ماذا أعني؟ نعم ! سأحترم رغبتك، هذا ما سأفعله دون تردد. أتظن أن فتاة عاطفية ملتهبة المشاعر مثلي تستطيع أن تنسحب بهدوء؟
هئ هئ هئ.. وبهذا، بهذا المنطق المستوحى منك، أكون سيطرت على مواقعك كلها بهجوم (استباقي) عارم، ونجحت في صدِّ هجومك المتوقع علي قبل أن يبدأ. أنا لم أتعلم فلسفة الهجوم منك، فأنت مسالم لا تهاجم إلا نادراً، إلا إذا أسرفت في الشراب فتردّ حينئذ على آرائي وأفكاري بغير قليل من الحدة. لقد تعلمتها من والدي؛ والدي الذي لم يحجم قط عن تطبيق مبادئ (فلسفته) الهجومية فوق رقعة الشطرنج، كلما جمعه لقاء مع جارنا خليل الصائغ، حتى لو كان في وضع صعب عسير شاق يقتضي الدفاع من كل بد.
والدي يرى أن الهجوم خير من الدفاع دائماً، يراه طريقة مثلى وخطة لا بدّ منها لتحقيق النصر في جميع الأحوال، ولكنه مع الأسف، لم يتمكن إلا نادراً من كسب انتصارات ترجِّح تفوقه على خليل الصائغ. إن هزائمه أمامه إذا جُمعت إلى انتصاراته القليلة الطفيفة، أكثر من أن تُعدَّ.
ولكنْ، انتبه! إذا كان هجوم والدي لم يحقق نتائج تذكر على رقعة الشطرنج ضد جارنا خليل، فإن ذلك لا يعني أبداً أن هجومي عليك، عليك أنت، لن يجدي. عليك أن تعلم أن الهجوم منهج، مبدأ بمعنى أدق، ومثل جميع المبادئ، قد يكون فاعلاً في هذا المجال دون ذاك المجال، أو مؤثراً في شخص دون آخر، فهل أدركت قصدي؟
أتضحك؟ - أراك تضحك يا محتال، أراك فلا تهرب بوجهك عني – وأنا أيضاً أضحك، أضحك في هذه اللحظة؛ لأن لدي إحساساً داخلياً عميقاً بأنك تضحك، تضحك فعلاً، أراك تضحك على بعد المسافة بيننا. وأنا هكذا دائماً في الواقع، أحس الأشياء عن بعد، أحسها في اليقظة، وأحسها وأنا نائمة، وقد أحسها قبل وقوعها. يخيل إلي أحياناً أنني أملك الحاسة السادسة، وربما كانت السابعة، أو أنني أملك قوة خفية مجهولة تقبع بعيداً داخل أغواري، وتتحكم بسلوكي، لست أدري! قد يكون ذلك وهماً لا وجود له إلا في خيالي، بيد أن الوقائع الكثيرة التي جرت في حياتي، والتي سبق أن ذكرت لك عدداً منها، تثبت لي وجود هذه الحاسة لدي، وتنفي أن تكون وهماً: قبل أيام علمت بوفاة والد زميلي الياباني (إيتاشي) وقد علمت بحدوثها قبل أن تقع، وعلمت بحادث السيارة الذي وقع لأخي (باسم) وهو في طريقه إلى ضيعتنا (عيون الوادي)، وبحادثة كسر ذراع الدكتور روجرز أستاذ (الانتربولوجيا) قبل أن يسقط من على دراجته وهو في طريقه إلى الدوام. وكنت قبل سقوطه بليلة قد رأيته في الحلم يتعثر بقدمه ويهوي في النهر الهائج، عندما كان يتسلق معي الحافة الصخرية الشاهقة لنهر كولورادو الذي قمنا بزيارته في رحلة استكشافية مقررة من الكلية.
وبالأمس – اسمع هذه الحكاية – وأنا نائمة مستغرقة في النوم، انتابني احساس مفاجئ بأن عيناً تراقبني. كنت مضجعة على جانبي الأيمن وظهري إلى سرير (جوزيتا) زميلتي التي تشاركني السكن، وكان الغطاء منحسراً عن جسدي المنثني العاري، كنت قد خلعت بيجامتي ولم أترك سوى حمالة الصدر وورقة التوت (ذات الدباديب)؛ لأن الجو داخل الغرفة كان خانقاً دافئاً حاراً أكثر من المعتاد. وفجأة انقلبت على جنبي الأيسر كأنما بدافع من قوة مجهولة، وقد قمت بأداء هذه الحركة بسرعة خاطفة مباغتة، وفتحت عينيَّ على وسعهما في نفس اللحظة التي انقلبت فيها، وأنا في أحسن حالات الوعي، فرأيت جوزيتا قد استيقظت قبلي وهي جالسة على حافة سريرها وساقاها متدليتان تلامسان الأرض، كانت عارية تماماً، يدٌ بين فخذيها المنفرجين شيئاً وأخرى فوق نهدها الأيسر، وكان شعاع غريب ينطلق باتجاهي ويصطدم بجسدي العاري من عينيها المنتفختين الواسعتين المحدِّقتين نحوي بشدة وثبات وحدة، على الرغم من أن ضوء الصباح كان يملأ الغرفة من خلل النافذة المكشوفة، وكان وجهها مشتعلاً بلهيب النار مضرجاً بشهوة ذئبة جائعة. كانت حركتي تلك سريعة مباغتة كما قلت لك، فلم تترك لها فرصة للإفلات والتنصل من فعلتها الجنونية المشبوهة. تجمّدت جوزيتا في مكانها كأنها شلّت عن الحركة، خانتها البداهة التي تدفع صاحبها في مثل هذه المواقف أن يقوم بردِّ فعل سريع معاكس ينقذه من ورطته؛ أفقدتها المباغتة القدرة على تغيير وضعيتها التي ضبطتها عليها. بيد أنني لم أتمادَ في النظر إليها؛ لم أرغب في أن أحرجها أكثر من ذلك؛ أشفقت عليها، وقد لمعت في ذهني على حين بغتة ذكرى موقف حرج ضبطت فيه من قبل أمي، وأنا أمارس العادة السرية في أوائل سنّ مراهقتي، فعدت فانقلبتُ على جنبي الأيمن وأنا أسحب الغطاء فوقي وأتظاهر بأنني ما أزال مستغرقة في النوم متعربشة بهدب الأحلام، وبأنني لم أعِ شيئاً مما رأيت منها. وما هي حتى سمعتها تقول بصوت أجشّ كأنه حشرجة مريض:
(( هل أنتِ نائمة؟ اللعنة! كنت أحلم، أرجوك .. لا تخطئي فهمي! منذ ثلاثة أيام وهذا الحلم المثير اللعين، لا يكفّ عن مطاردتي. عليّ أن أتخلص منه الآن، سآخذ دوشاً بارداً، لا حيلة لي بغيره)).
وبعد ذلك سمعت دمدمة خطواتها المترنحة على الأرض الخشبية وهي ماضية نحو الحمام.
ومع أن إقامتي معها مريحة جداً، خالية خلواً تاماً من المشاكل، التي قد تحدث بين اثنتين من ثقافتين مختلفتين، ومع أنني أستطيع أن أقول بكل ثقة إننا صديقتان طيبتان متعلقة كل منهما بالأخرى بروابط المودة الصريحة، فأنا أفكر الآن بالبحث عن مكان آخر. سأخبر الإدارة عن رغبتي في الانتقال إلى غرفة لشخص واحد أو الإقامة مع زميلة غيرها أعرف أن ليس لديها ميول من هذا النوع، هكذا أفضل؛ لأن شعوري نحوها بالشفقة والحزن يزداد يوماً بعد يوم، حتى صار يشغلني ويكاد يفقدني التركيز. أشفق عليها كلما تذكرت رفضها الزواج من ذكر، وإصرارها على الارتباط بأنثى، وأندب جمالها الرائع الفاتن المثير – أنا أجمل منها فلا تجنح بخيالك – كلما فكرت بعجزها عن توريث جمالها وذكائها العجيب إلى أطفال من صلبها، وينتابني أسى ممتزج بشيء من الغيظ، كلما رأيتها لاهية عن هذه المسألة لا تعيرها اهتماماً ولا تشعر إزاءها بقلق. تجيبني كلما ناقشتها فيها: إنها قانعة بفكرة التبني، هذا إذا سمحت لها القوانين بذلك، وأحياناً بالتعويض عن الطفل بتربية حيوان أليف، وأحياناً تظهر عدم الرغبة بأن يكون لها طفل إطلاقاً، وفي أحايين أخرى تبدو متفائلة بمستقبل العلم الذي سيجد قريباً – على حد قولها - حلاً لمشكلة الإنجاب باختراع علمي يمنح الإنسان القدرة على التكاثر الذاتي.
كما بتُّ أضيق أن صرت موضوعاً جنسياً مشتهى مرغوباً من صديقة لي، وإن كانت تحترم ميولي ولا تحاول أن تغويني، أو تزيّن لي أن أصبح مثلها، كما كانت (ريم) تفعل ذلك. على فكرة، التقيت بريم، التي لم أحدثك عنها في رسائلي السابقة إلا باقتضاب، في زيارتي الأخيرة لسوريا – سأروي لك عن هذه الزيارة بعد قليل، والتي كانت السبب الحقيقي في تأخري بالكتابة إليك - ريم تزوجت في بداية السنة الفائتة في دمشق، وكنت قبل ذلك قد نصحتها ألا تتزوج من الرجل الذي لا تشعر نحوه بشيء، ومن الرجل الذي لا تمتلك الجرأة على أن تصارحه بميولها وعلاقتها السرية بصديقتها (سمر) قبل الزواج.
عندما سألتني رأيي، رجوتها أن تحتفظ بعلاقتها السرية مع صديقتها، وأن تمتنع عن الزواج، أو أن تصارح خطيبها، إن لم تجد مناصاً من الزواج به؛ فلعله يغضُّ ويرضى بأن تستمر في علاقتها معها، ومن يدري! فقد يطيب له، مثل بعض الرجال، أن يشترك معهما في سرير واحد. ولكنها مع الأسف لم تتفهم نصيحتي، تزوجت ريم ولم تصارحه بشيء، أخفت عنه حكايتها، فضَّلتِ الكتمان مراهنةً على فكرة تخيّر الوقت الملائم. ولكنَّ رهانها خاب، كما توقعتُ، لم يكسب، وها هي تطلب الطلاق من زوجها الذي سيلبي طلبها، كما أخبرتني، بعد أن فشلت في إقناعه. أنت لم تلتق بريم، وأنا لم أعرِّفك عليها عندما التقينا في دمشق، إنها متوسطة الجمال ممتلئة تسير نحو البدانة، ولكنها تفيض حيوية، وتمشي مشية غريبة مضحكة تقارب مشية الصبيان، وهي من المتفوقات في دراستها الجامعية، وستصبح معيدة قريباً، كان أكثر ما يلفتني فيها ويثير دهشتي واستغرابي وما يزال، هو التناقضُ العجيب في شخصيتها وتكوينها النفسي؛ إنها مع ميلها هذا متدينة – تصور !- تؤمن بالخرافات والطالع والأبراج والفنجان، وتعشق الأطفال، وقد أخبرتني أنها بدأت تدخر لإجراء عملية تكبير لصدرها. شيء مضحك، أليس كذلك؟ وأنا مثلك لا أفهم لماذا تولي ريم صدرها كل هذا الاهتمام، حتى باتت وكأنها لا رغبة عندها في الحياة أقوى من رغبتها في أن يكون لها صدر نافر مشمخرٌّ ثقيل، مع أنّ صدرها ليس ضامراً وليس هزيلاً كضرع شاة أعجف مثلما تصفه هي، ألا يدفعك هذا إلى أن تضحك من عقل النساء أو تسخر؟. هئ هئ هئ.. تذكرني ريم بالرجال الذين يشكون صغر القضيب في عيادات الأطباء التي أزورها أحياناً في المواقع الالكترونية والمجلات الورقية، والذين يتلهفون على امتلاك قضبان كالعواميد. لماذا يشكون؟ هل لحجم العضو علاقة بالفحولة والقوة ومقدار اللذة الجنسية؟ أنا لم أسألك هذا السؤال من قبل، مع أنني أسمع زميلاتي وزملائي هنا يتحدثون عن هذا الموضوع، كما يتحدثون عن موضوعات أخرى مشابهة له كأشكال الفروج، بجرأة وتلقائية وصراحة لا مواربة فيها. ترى هل تفكر أنت أيضاً بمثل هذا الموضوع السخيف؟ أنا شخصياً لم أفكر فيه قط، ولا أظن أنني سأفكر فيه أبداً، ولماذا أفكر؟ إذا كان الأصبع – واعذر وقاحتي - يفي بالغرض، فلماذا عليّ أن أفكر فيه؟ هل أنا على خطأ؟ لا أظن.. وما دامت ريم وجوزيتا لا تجدانه ضرورياً، فلن أجد التفكير فيه أنا أيضاً ضرورياً، أليس قولي صحيحاً؟. أعتقد أن الحب يلغي كل هذه الترهات. الحبُّ بلذاته الروحية والجسدية، الحبُّ بتباريحه وأوجاعه وإيقاعاته السحرية، هو الموضوع الوحيد الجدير في رأيي بأن ينشغل به العاشقون المغرمون المتيمون.
كم أحبُّ الجلسات التي تجمعني بزملائي الجدد من الولايات الأمريكية ومن أطراف أخرى من المعمورة، بعد المحاضرات والمشاريع العملية، في الكافيتريا أو في حديقة الكلية! تعجبني صراحتهم ونقاشاتهم الهادئة المهذبة المسالمة الخالية من الانفعالات العنيفة المقيتة الحادة المريضة التي تستبد بنا عادة نحن الشرقيين، ويشغفني فيهم أنهم يعبرون بصدق وعفوية عما في دواخلهم، ويعالجون القضايا الأكثر سرية في حياتنا، القضايا المحرمة، كما نسميها نحن، من دون خوف أو ارتباك أو حياء أو ستر!
نادراً ما أشارك في الأحاديث الدائرة بينهم، أكتفي بالإصغاء إليهم، وبتأمل ملامحهم، وبالتدبر فيما يقولون؛ لأنني ما زلت أجد نفسي غير مؤهلة للحديث عن مثل هذه القضايا الجريئة، ما زلت أشعر بأنني مقيدة بالخوف والحياء والحرج. بيد أنني أتقبل الأفكار الجديدة ولا أنفر منها، ولا أزج بعقلي ونفسي في صراع مدمر خاسر معها. أخال أنني أمتلك قدرة طيبة لا يستهان بها على التأقلم والتكيف، وعلى الاندماج ببيئتي الجديدة. وهذا ينعش روحي برذاذ من سعادة حقيقية.
وتزداد سعادتي كلما تخيَّلتُني حرة قادرة على الاختيار، أحيا مستقلة عن الآخرين وفق منظومتي الفكرية الخاصة بي، النافعة لي، الملائمة لطبعي ومزاجي. لم أعد أشعر بالخوف من الناس، من المجهول، مما تخبئه لي الأيام، كما كنت أشعر بذلك فيما مضى.
لم تعد فكرة العنوسة مسلطة كالرعب فوق عنقي: أستطيع الآن أن أتزوج دون زواج، أستطيع أن أنجب أطفالاً دون أن يكون لي زوج، أستطيع أن أقيم في مسكن وحدي أو مع من أشاء، أستطيع أن أطلق زوجي إذا ما أضحت العلاقة به ترهقني وأحتفظ بأولادي، وأستطيع وأستطيع... تخيل كلّ هذا، أليس رائعاً جميلاً نبيلاً متفجراً باللذات!؟
أنا حرة – هل تسمعني؟ - وحريتي هي سعادتي. ولولا الأوضاع الرديئة المأساوية المزرية التي انزلق إليها أهلي في سوريا، لأعلنت انتصاري النهائي الحاسم على الهموم.
سأحدثك عن زيارتي الأخيرة للبلد، أنتَ من غير شك، متشوق لسماع ذلك مني أكثر من سماعك لثرثرتي الفارغة عن جوزيتا، وعن حاستي السابعة، وعن زواج ريم، وعضو الذكور، وصور الفروج والنهود والأرداف، وسعادتي. أعرف طبعك، وأعلم أن تسقّطك للأنباء من هنا وهناك، ورؤيتك للأحداث المصورة في الفضائيات وفي (اليوتيوب)، لا يغنيك عن طلب المزيد مني خاصة.
لا تحسب يا عزيزي، أن زيارتي الأخيرة، التي أرغمتني عليها سورة الحنين الجارف، التي عصفت بكياني عصفاً، والتي لم تكن لتهدأ رغم محادثاتي الطويلة مع أهلي على (الميسنجر) ومراسالاتي التي لم تنقطع، كانت حافلة بالمتع، ولا تظنَّ أنها حققت لي شيئاً مما كانت نفسي تتوق إليه من استجمام وراحة نفسية وهدوء بعد الإجهاد الذي أصابني في نهاية سنتي الدراسية الأولى، والذي أخبرتك به قبل سفري.
لم تجلب لي هذه الزيارة غير الشؤم والنكد والحزن والغضب - يؤسفني كثيراً أن أصدع رأسك بنقل هذه الانطباعات البغيضة - كنت أتابع ما يجري في بلدي، ولكني لم أتوقع البتة أن تكون الأوضاع فيه على هذا النحو من السوء.
لقد تغيرت سوريا ومدينتي (حمص) خاصة تغيراً جذرياً فادحاً مقرفاً: شارات الحداد ترتفع فوق الأمكنة الكئيبة التي اغتالها الموت، الرعب يتربص بالناس في المنعطفات الحادة المظلمة، يترصدهم في الأحياء الرمادية، وفي الدروب المتوجسة، والمدينة متخمة بالعسكر المدجج بالنار، نقاط التفتيش منتشرة في كل مكان تعوق الحركة وترهق المرور.
بات العيش في حمص فارغاً من الطمأنينة ومن الدعة والبهجة، صار العيش فيها يحفُّه الخطر والحزن الواجم والترقب المذعور، حتى إن المرء ليخرج من داره ولا يعلم هل سيعود.
تعصّبٌ أحمق أرعن بليد، يعشّش في الصدور، وشبق ظامئ إلى العنف وشرب الدماء، يغلي في العروق.. ويسقط الضحايا، ويموت الناس من هنا وهناك بذنب ومن غير ذنب.
أتساءل الآن في غضب؛ أصرخ في سخط محتجة: لماذا ينبغي أن يموت الناس في وطني؟
لماذا ينبغي أن يقتتل الناس في وطني؟ أليس لهم من سبيل إلى الكرامة والحياة، غير سبيل الجنون والحماقة والدم والألم ؟!
وأتساءل بمرارة، ووخزةٌ من حسدٍ تخزني في جنبي: لماذا لا يقتتل الناس بوحشية هنا أيضاً كما يقتتل الناس في وطني؟ أليس الناس هنا بشراً مثلنا؟ هل يختلفون عن الناس في وطني؟ فلماذا إذن لا يقتتلون؟
أنا منفعلة الآن في هذه اللحظة، منفعلة جداً، لا أستطيع أن أسرد أمامك كلّ انطباعاتي عن الأحداث الرهيبة دفعة واحدة، سأرجئ السرد المفصل عنها إلى وقت آخر تكون فيه نفسي راقت مما تلطخت به من دكنة الفواجع المريرة التي أحدقت بالناس الذين أحبهم في وطني؛ سأؤجل الحديث عن ذلك. حسبي الآن أن أنقل إليك صورة، ولو كانت ضئيلة عائمة مضطربة مهشمة الإطار، عن التحولات المفاجئة السريعة التي عبثت بمجرى الحياة عند أهلي. فلعلك تستنتج بفراستك حجم الدمار الذي يتهدد الآخرين في وطني!:
أنتَ تعرف والدي، أليس كذلك؟ وتعرف كم كان والدي خفيف الروح محباً للنكتة والمرح! وكم كان شغوفاً بالحياة، مقبلاً على وجهها المبتسم، متفائلاً بها، مستهتراً بمصاعبها، منغمساً في لهوها البريء! أنت تعرف منه كلّ هذا، ولكنك حين تراه اليوم، ستنكره عيناك بلا ريب، كما أنكرته عيناي حين وقعتا عليه في المطار. لقد حسبتني لوهلة أرى شخصاً آخر غير أبي، أبي الذي أعرفه، والذي كنت أراه دائم الابتسام والمرح وهو يكلمني عبر (الميسنجر) وأراه متماسكاً صامداً لا تزعزعه ريح ولو عزفت وصرّت. كنت أتخيل والدي، الذي يحبني أكثر من الجميع، أو هكذا كما يبدو لي أنا، سيطير مع أمي وأخي وباقي أفراد الأسرة من الفرح لدى وصولي، ويحملني بين جانحيه كما كان يحملني وأنا طفلة غضيضة، بيد أن الصور التي رسمتها في خيالي، سرعان ما تبين لي منذ الوهلة الأولى عند لقائي بهم، أنها لم تكن غير صور خيالية فحسب. لم يكن بينها وبين الواقع – مع الأسف - تقارب أو انطباق. ولا أقصد هنا أنهم لم يبتهجوا لمقدمي، بلى! لقد سروا بعودتي ولقائي في المطار سروراً لا يحده الوصف. كان ذلك أمراً متوقعاً طبيعياً من بعد أن غبت عنهم سنة كاملة، غبتها عنهم لأول مرة في حياتي، ولكن الأحداث كانت قد أرخت بقتامها فوق وجوههم المنقبضة، وبدلت نظرتهم المعتكرة إلى الحاضر والمستقبل.
بدأ والدي يفكر بالهجرة – ألا تصدق؟! – ولا سيما بعد أن ثبت لديه أن مشاريعه في تدهور مستمر، وأنها لا يمكن لها أن تنجو من هذه الكارثة المحتمة مهما تكلف في سبيل إنقاذها من المشقة والحرص. وأخذ القلق على مصيري يسبب له الأرق والشرود؛ بات يخشى أن يعجز في القريب العاجل عن تغطية نفقات دراستي في الخارج، فأضطرُّ للعودة بخفي حنين. كما أمسى في شك من قدرة أخي الأكبر (سليم) على تسديد أقساطي الجامعية بعد أن تضخم إنفاق سليم على حاجات زوجته وأطفاله الثلاثة، حتى ليكاد دخله، رغم سعته، ألا يفي بمتطلبات أسرته جميعاً.
وليست أمي بأحسن حالاً من أبي. إنها موزعة النفس خائفة تحاول وسعها أن تقنع والدي بمغادرة حمص والإقامة في ضعيتنا (عيون الوادي) حتى تستقر الأوضاع وتنجلي الغمّة. ولكنها مع ذلك لم تنس ديباجتها المكرورة؛ أن تلومني على رفضي الزواج منك. ما تزال أمي مقتنعة بأن الزواج منك، كان خيراً لي وآمن من (الشنططة) والصداع والتفريط بالوقت بحثاً عن مستقبل مجهول، فأقول لها ضاحكة مواسية: وأين سيفلت مني؟ خاتم في أصبعي، شارباه مربوطان إلى مؤخرتي، سأجره إليّ متى ضنَّت عليّ الحياة بتوفيق، فلا تقلقي.
أما أخي الأصغر (غسان) فهو مواظب على دراسته في كلية الصيدلة بدمشق، روى لي أنه يقضي جلّ وقته بعد خروجه من الجامعة في غرفته وحيداً، لم يعد ينفق وقته مع (شلّته) كما كان دأبه في ذلك قبل الأحداث. وقد استبشر كثيراً حين أكدت له أن (جينفر) تفكر فيه تفكيراً جدياً ولا تمزح. ولما أخبرته أنها عازمة على زيارته قريباً، وتستعد لهذه الزيارة فعلاً، ومضت عيناه باشراقة الأمل. تخيل يا عزيزي، هذه الجينفر امرأة مطلقة من غير ولد، تكبر أخي بسنتين، وهي أمريكية من أصل لاتيني، عاطل من العمل وربما من الجمال، تقيم مع والديها بجوار مسكن أخي (جورج) المدرس في كلية الاقتصاد بكاليفورنيا، ومع ذلك فأخي جورج معجب بها ويتمناها زوجة لأخيه، والأعجب من هذا أن (غسان) يظهر لنا أنه متيم بها، مع أنه لم يلتق بها إلا على (التشات) أنا أعتقد أنه ليس صادقاً في ميله إليها، ربما يراها الخلاص ولا سيما في هذه الظروف.
الحقيقة أن جنيفر، التي التقيت بها مرة واحدة في سهرة عيد الميلاد، لا تعجبني أقولها باختصار، ولا أتمناها زوجة لأخي غسان؛ لأنني على يقين من أنه لن يوفق في حياته الزوجية إذا ما اقترن بها. لديّ فراستي، ولديَّ حاستي، وهما قلما تخيبان، وأنت تعرف ذلك.
أما جارنا خليل الصائغ (يا حرام!) فمريض مرضاً لا أظنه يمهله. رأيته – وليتني لم أره – جلداً على عظم، غائر العينين، شاحب اللون، بارز عظام الوجنتين لا يكاد يقوى على النهوض فوق ساقيه الضاويتين المهزولتين، يمكنك أن تراه بخيالك كما رأيته أنا، إذا استحضرت في ذاكرتك صورة (مسلول) الأخطل الصغير. لقد أمسى – يا حسرة - شبيهاً به إلى حد بعيد، وأظنه الآن في مرحلته الأخيرة.
حاولت أن أضبط نفسي، أن أقهر تأثري عندما جاء ليسلم علي متحاملاً على نفسه، ولكنني لم أفلح في ذلك، غلبني التأثر وأجهشت بالبكاء. فأخذ المسكين يواسيني في الوقت الذي كان عليّ أنا أن أواسيه فيه وأطيب خاطره وأبعث الأمل في نفسه، قائلاً بصوت شاحب واهن، ولكن واثق مطمئن، لن أنساه:
((لا تحزني يا ابنتي! هكذا الحياة، قضاءٌ، ولا مردّ للقضاء... ومن يدري، فقد أتماثل قريباً للشفاء!)).
بيد أن الحزن لم يفارقني في تلك الليلة، وبقيت مسهدة أفكر في مغزى الحياة.
هذا ما في حقيبتي الآن، وأرجو ألا أكون أطلت، فأجهدت بصرك. أودعك بما تعلم مني في لحظات الوداع، ثم أستعدُّ للذهاب إلى النوم.
دندوشه. حبيبتك)).
استيقظ على مواء قطته (ديما) كان مواؤها طويلاً نحيلاً موجعاً، وكانت تتمسح بساقه الممدودة تحت الطاولة، مقوسة ظهرها ورافعة ذيلها إلى الأعلى.
نهض من مجلسه وهو يفرك جفنه المسترخي، واتجه بخطى وئيدة نحو المطبخ و(ديما) تتبعه وهي ما انفكت تموء، ولكنْ مواء متقطعاً. وضع لها الطعام في إنائها، ثم عاد إلى مجلسه يحمل زجاجة النبيذ ليملأ كأسه التي لاحظ أنها فارغة.
من خارج النافذة، من محطة (الميترو) القريبة، حيث اعتاد جماعة من المشردين المخمورين والمدمنين على المخدرات أن يتجمعوا، تناهت إلى مسمعيه جلبة وعربدة. فمضى إلى النافذة فأحكم غلقها وأرخى عليها الستارة، ثم جلس إلى طاولته من جديد، وقد تنبَّهَ ذهنُه وصحا من أحلام يقظته، وجعل يقرأ الرسالة المفتوحة أمامه بقلب سرى فيه دفء حانٍ:
((لك مرحبا يا ضرسان، كيفك؟ أنا مشتاقتلك كتير، وأنتَ؟
واللهِ أني مقصرة كتير معك بس شو طالع بالأيد، الحياة جرفتني والمشاغل عبّت وقتي وراسي، وصرت عم دوّر على أي طريقة أستريح فيها وما عم يطلعلي.
برغم هاد كلّو، أنا ما بنسى اللي بحبهم، وبرغم المشاغل والأحداث المؤلمة بسوريا فأنا كتير سعيدة ومبسوطة بحياتي ع الأقل بهاللحظة الأنا فيها.
أخباري: حالياً إضافةً للدراسة، في عندي مسابقة ناوية أشترك فيها وإذا ربحت بئدر أحصل على تدريب بشركة مهمة بولاية تينيسي لمدة سنة مدفوعة الأجر، وهاد بيفتحلي طريق للشغل بالمستقبل.
الشي الوحيد اللي مخوفني هو المستقبل الوظيفي. الشغل بأميركا للمهندسين، صاير صعب كتير؛ لأنو مرتبط مباشرة بالمصاري، وبمستوى الرفاهية، والنشاط الاقتصادي يللي شبه منهار هلأ.
للأسف ما عاد في مشاريع جديدة وكلّو صار مقتصر على مشاريع إعادة تأهيل مباني قديمة أو مشاريع صغيرة ما في غنى عنها. وأنا عم حاول هلأ أطرق كل الأبواب، وإلا ما واحد من الأبواب ينفتحلي بالأخير.
سامر قدم على هجرة لكندا إلنا نحنا التنين، وعنا فرصة منيحة للنجاح؛ لأنو مؤهلاتنا عالية.
رغم أنو اللي صار بسوريا ما كتير بيسرّ الخاطر، بس هالشي مع أسفي الكبير صبّ بمصلحتي بشكل مباشر – رب ضارة نافعة - لأنو قطع على سامر طريق الرجعة. وهلأ صارت مصلحتو من مصلحتي أنو يطلع برا البلد ، وهوِّ صار مقتنع بهالفكرة يمكن أكتر مني. المسكين شغلو صاير تعيس جداً، من قبل كنت ما لائي وقت أحكي معو، كل شهر ببلد وإمكانياتو المادية كانت ممتازة، بس هلأ عم شوفو على السكايب كل يوم، وعم نحكي بالساعات مع بعض، ومن فترة خبرني أنو اتديّن مصاري من أخواتو ليكمل بيتنا بحلب.
نحنا خلصنا كسوة بيتنا، وهلأ ما باقي إلا الفرش، فقلتلو أنو منجيب فرش مستعمل لأنو البيت – هادا إذا ما انصاب بشي قذيفة واتهدم - إن شاء الله ما ح نحتاجو إلا للزيارات، رغم أنو تكلفنا كتير على الكسوة. يعني هالموضوع ما فيه خسارة لأنو بيرفع سعر البيت بالمستقبل.
الوضع بالبلد متل ما عم يخبرني سامر صاير بيغبب عالألب، والحواجز العسكرية منتشرة على مداخل الشام كلها، والأمن صاير متل النمل، والمخبرين منتشرين بكل محل، وفي منهم عم يشتغلوا لصالح الطرفين. والأسوأ من هاد كلو أنو المسيحيين بعد مواقف رجال الدين المخجلة صاروا مهددين. لك حتى هون بأميركا كلمة مسيحي تعني شبيح سافل وموالي للنظام. أنا بقلّك أني مو مع هالثورة بشكلها الحالي خصوصاً أنو صبغتها الطائفية واضحة جداً، إي بس كمان المسيحيين ما المفروض يوقفوا هالموقف المثير للاشمئزاز ويدعموا هالمعتوه يللي وجه دباباتو نحو شعبو، وعم يكذب بكل صفاقة ويقول هدول مسلحين.
أنا نازلة على حلب بديسمبر لأشوف أهلي وأشوف سامر اللي بعدو بالشام، عندي عطلة طويلة وبدي أستفيد منها، بس عندي شعور أنو الوضع ما رح يكون متل مو متصورة لأنو بتذكر بزيارتي الأخيرة كل العالم كانت مكتئبة والمزاج العام سيء جداً.
بس أنا على الصعيد الشخصي، مبسوطة وفرحانة بهالأيام. طبعاً في أوقات بمرّ بحالات مزاجي بيكون سيء جداً فيها بسبب الأخبار، وأوقات بكون عم أحكي عالسكايب مع (سامر) وبسمع صوت ضرب الرصاص يللي م يصير بنص الشام هلأ. رفقاتي بكلية الفنون وكلية العمارة نصهم صاروا بالمعتقلات وعم آخد أخبارهم من هون وهون ويللي طبعاً مو أكيدة. ما منعرف يمكن أكيد عم يتعرضوا للتعذيب لأنو اليوتيوب مليان مقاطع مؤلمة فعلاً ما عم اقدر أتفرج عليها. من فترة كان مزاجي ومعنوياتي بالحضيض، كنت حاسة بذنب كبير أني تركت كل شي ورا ضهري وأجيت لأميركا، بينما إلي رفقات عم يتعذبوا وينقتلوا، بس بعدين تخلصت من هالشعور لما فكرت أنو أحسن شغلة منعملها لبلدنا أنو ننتبه لمستقبلنا نحنا بالأول ومين بيعرف بيجوز بكرا أولادنا وأحفادنا يقدروا يعملوا شي لهالبلد. الفكرة خيالية شوي ما هيك؟
أصدقاءنا القدامى عم أتواصل معهم أحياناً، مثلاً أحمد الكردي بعتلي من فترة رسالة.. المسكين متشرد هلأ باسبانيا، وحالتو حالة. بس هاد الزلمة من يوم يومو هيك لهالسبب إذا بسمع أنو مبسوط ومكيّف بستغرب.
(سُهار) كمان، يا حرام ! ناوية تتطلق من جوزها، حكيت معها على (الميسنجر) ونصحتها أنها تصلح الوضع؛ لأنو بيناتون طفلة عمرها سنتين ونص، بس آلتلي أنو ما في أمل: جوزها أرعن وعم يخبص كتير، زلمة طايش مولدن ما عندو القدرة أنو يتحمل مسؤولية بيت. وهلأ للأسف الوضع بيناتون صاير سيء كتير نتيجة تجاهل الأخطاء القاتلة بالماضي.
عادل، ما حكيت معو من فترة طويلة، وكنت عم فكر زوره بعطلة عيد الشكر بس ما لقيت وقت كافي، وفضلت أني وفر مصاريي لأني اتبحترت كتير ببداية الفصل بسبب رحلتي الطويلة من ويسكنسن لأريزونا يللي قررت أني أعملها بالسيارة وأمرق بولايات وسط غرب أميركا وأتعرف عالبلد أكتر.
هي كل أخباري لحدّ هلأ. أنت خبرني عنك.؟ كيف شغل البناية معك؟ بس ما تكون عشقان شي وحدة صبية من المستأجرات الجدد، دير بالك هه، بموتك بعدين! وكيف الآنسة (ديما) ؟ سلملي عليها وشد لي دنبها.
بتمنى أسمع أخبارك الحلوة دايماً، وناطرة زيارتك ألي بويسكنسن، ما تنسى! )).
دندوشه.



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في ضيافة يعقوب ابراهامي
- ماركسيٌّ بل مسلم والحمد لله
- سامي لبيب تحت المطرقة
- المنهج القسري في أطروحة فؤاد النمري (الرسالات السماوية)
- الإباحية في أدب النساء العربيات
- الحوار المتمدن يسهم في التحريض على المسيحيين في بلاد الشام
- ما جاء على وزن الذهان من مقالة السيد حسقيل قوجمان
- حملة الأريب على سامي بن لبيب
- رسالة الطعن في النساء
- الحقيقة بين التلجلج واللجاجة
- الأستاذ حسين علوان متلجلجاً داخل شرك المنطق
- شامل عبد العزيز بين أحضان المسيحية
- سامي لبيب والرصافي خلف قضبان الوعي
- ضد عبد القادر أنيس وفاتن واصل
- إلى الأستاذ جواد البشيتي. ردٌّ على ردّ
- بؤس الفلسفة الماركسية (6)
- بؤس الفلسفة الماركسية (5)
- بؤس الفلسفة الماركسية (4)
- بؤس الفلسفة الماركسية (3)
- بؤس الفلسفة الماركسية (2)


المزيد.....




- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيم إيليا - إيميل من صديقته السورية