أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نعيم إيليا - مسألة الضرورة والحرية، بما هي مسألة وجودية















المزيد.....



مسألة الضرورة والحرية، بما هي مسألة وجودية


نعيم إيليا

الحوار المتمدن-العدد: 4346 - 2014 / 1 / 26 - 20:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ما الأول الذي يحرِّك الإنسان أن يؤدِّي أفعاله؟
سؤال لا ندحة عنه اليوم لفهم مشكلة الحرية والضرورة حقّ فهمها.. سؤالٌ قد يكون له أن يحلّ محلّ السؤال القديم الخَلَقِ: ((هل الإنسان مخير أم مسيّر؟)) بعد إذ وضح أن القديم لا يخي بتمام الدقة والاشتمال إلى النتيجة الحاسمة وخيَ الجديد؛ فما القديم إلا أن ينكبَّ على أقرب العلل من النتيجة، من غير أن يتكلف جهد الصعود إلى أولها، حتى يستخلص النتيجة المطلوبة من تلكم العلل، ويقرَّها في هذه الصورة أو تلك من صورها المنطقية الأربع المعلومة على عجل:
1- الإنسان مخير.
2- الإنسان مجبر.
3- هو بين الأمرين.
4- هو على مبدأ هيغل المتضمن فكرة الحرية التي هي وعي الضرورة. وهذا الرأي يكاد أن يضاهئ الرأي الثالث.
فأما الجديد فيطمح إلى استخلاص النتيجة من علتها الأولى ذات البعد السحيق لا القريب؛ إنه السؤال الذي يطمح إلى أن يقبض على المبدأ الأول الذي تصدر عنه جميع أفعالنا، وتتعلق به حاجاتنا؛ المبدأِ الذي هو المكلَّف بتعيين طبيعة هذه الأفعال والحاجات وحقيقتِها من قِبَل أنها حرة أو مقيَّدة.
فما هو هذا المبدأ؟
في قصة (عرس رنيم) لأنطون كَرَباشي، تقتحم عينَ القارئ شخصية ثانوية من شخصياتها، وسم المؤلف مزاجها بالنهم المعرفيِّ بدافعٍ - ربما - من قلقها الوجودي، ومن تناقضات عيشها. لا تفتر، كلما ضمَّها مجلس إلى أصحابها، عن ذرِّ (اللماذات) حولها بسخاء، حتى لو لم يكن في أحاديث الصَّحْب في بعض تلك الجلسات، ما يستوجب اللماذا.
وفي الجلسة الأخيرة، وبينما الصحب منهمكون أشد الانهماك في جدل عويص طويل مرهق دائر حول البحث عن أسباب إخفاق تجربتهم المسرحية الثالثة، هبَّت (شخصيتنا) فجأة إلى قطع الجدال، بحركة فظة خشنة ووجهٍ غبَّقه دمٌ محتبس:
- لماذا في رأيكم يجنِّد العلماء معارفهم لغزو الفضاء؟
فجعل القوم يغالبون حميَّتهم بمشقة، ما إن قرع السؤال أسماعهم، فإذا هم بعد ذلك منتهون عمَّا كانوا فيه من الجدال على مضض، وإذا هم مشرئبُّون له بأحداق اتسعت فيها معاني دهشة متحفِّزة سرعان ما أعقبها همهمة خاملة فصمتٌ مترقِّب.
ثم ما لبث واحدٌ منهم أن أجاب في ضجر:
- وما عساه أن يكون، إن لم يكن الطمع في استغلال موارد الكواكب الأخرى!؟
وردّ ثان:
- قد يكون الفضول.. جموح الرغبة إلى المعرفة.. استكشاف المجهول. هكذا الإنسان! طبع على الاستكشاف، وفكّ الطلاسم والألغاز، والعلمِ بما يعلم أنه لا يعلمه.
وأجاب ثالث وهو ما يزال يجاهد انفعاله:
- لعله الخوف.. نعم، إنه الخوف! خوف الإنسان من نضوب أسباب العيش على الأرض؛ الأمر يكرِه الإنسانَ على البحث عن موطن له في الكواكب البعيدة، يضمن له البقاء، ويكلأه من الفناء.
وأجاب رابع:
- لحماية كوكبنا الحي من اصطدام محتمل بنيزك طائش ضلَّ عن طريقه.
وقال خامس مستجهلاً ما سبق من الآراء:
- لا هذا، ولا ذاك، ولا ذلك... إنْ هو إلا التوحش البشري؛ أعني بغية الأمم المتفوقة أن تستذل الأمم المغلوبة بمشاريع عسكرية وتجارية فضائية. هذا كل شيء يا أصيحابي، ولا شيء إلاه.
أما زميلتهم الأستاذة (هيفار قدري) فقد عسَتْ أن تنظم جميع الآراء في سلك واحد درءاً لنزاع جديد قد يشبّ ويمتد؛ فهمَّت أن تقول: (( كل هذه الأسباب التي ذكرتموها صحيحة...)) ولكنّ (شخصيتنا) باندفاعتها التي جاوزت في هذه اللحظة حدَّ الاعتدال، صفقت باب القول دونها وأترجته خلف أذنها بإحكام، وقالت من غير إمهال:
- أعلم كلّ هذه الدوافع، أعلم كل هذه الآراء، وأعلم أن أقربها إلى الحقيقة، الرأيُ القائل بالنزوع إلى البقاء، بيد أن الرأي هذا ليس هو الذي أتوخاه.. إنني لا أتوخى العلم بالدوافع المذكورة فحسب، بل العلم بأمر آخر أكثر بعداً؛ أمرٍ يلبُد بما خلف هذه الدوافع فيدفعها. إني لأتوخى الدافع الأول إلى هذه الدوافع جميعها: ترى ما هو.. ما هو؟ وهل هو حرٌّ أن يدفعها، أو هو مجبر على دفعها؟ ولماذا يكون ال...
فقاطعه صاحب الرأي القائل بالبقاء:
- ألم نقل إنه النزوع إلى البقاء، واستجدت قولنا واستصوبته، فعلام المماحكة إذاً؟ أخلف النزوع إلى البقاء من دافع آخر!؟
- نعم! خلف هذا دافع آخر..
- وما هو؟
- إنه الدافع السرمدي الدائم.. إنه الدافع الذي يدفع إلى النزوع إلى البقاء؛ إنه البقاء ذاته؛ البقاء الذي لا دافع يدفعه إلى البقاء إلا البقاء ذاته بغير علة تسبقه.
فقالت الأستاذة هيفار، وقد طافت بثغرها الناضج الممتلئ ابتسامة ماكرة ساخرة:
- فما دمتَ تعلم أنه البقاء ذاته – ولأعترف بأنني لا أفهم معنى البقاء ذاته – فلمَ التطريب منك في تساؤل لا يطرب عقولنا؟
أمرَّت (شخصيتنا) راحتها على جبينها بعصبية مقموعة، وأجابت:
- البقاء ذاته، ليس أحجية مستغلقة يا عزيزتي، إنه الوجود الكلي الأكبر؛ هذا الوجود الذي وحده لم يتأدَّ من مبدأ الصيرورة... إنه هذا، وما أحببت إلا أن أفكر به أمامكم بصوت رجوت أن يكون رخيماً.
- وما شأن الوجود الأكبر بالدوافع؟ وما شأنه بها إن كانت حرة أو غير حرة؟
- هنا مربط الفرس كما يقولون؛ بل قل: هذا بيت القصيد! ولكي ندرك حقيقة البيت ونعي مغزاه البعيد، أليس يجب أن نغوص في أعماقه كما يغوص صائد اللؤلؤ... ؟ أليس يجب بعد ذا أن نفكِّكه إلى أجزائه التي بها قوامه؟ أليس يجب بعد التفكيك أن نركِّبه؟ وبعدُ، أليس يجب أن نرى إلى البيت، إثر الغوص والتفكيك والتركيب، بعين البصيرة والرويِّة؛ أعني أليس يجب أن نرى إليه وهو في علاقته الوشيجة أو الواهية بجسد القصيد عامةً، وأن نرى إليه في صلته بأعضاء الجسد الكلي المتعددة المتفردة المتناثرة أو الملتحمة المتصلة - وإن بدا من بعيد أنَّ البيت مستقل بذاته لا رابط يصله بجسد القصيد ولا بأعضاء القصيد – خاصةً؟ وإلا فكيف نقدر – إن لم ننهج هذا النهج - أن ندرك حقيقته، وأن نحكم عليه حكماً معقولاً صادقاً؟وهكذا الوجود الأكبر؛ إنه سيُّ البيت من القصيد. فكما أن للبيت نسبة إلى القصيد، فكذلك هو الوجود الأكبر في نسبة الموجودات إليه.
قد سألتكم في البدء: لماذا الفتوحات في مجال الفضاء؟ فظننتم أنني أبحث عن الأسباب التي تدفع العلماء إليها، وأطلب العلم بها وكفى... والحق أنني لا أبحث عن الأسباب لذاتها، ولا أطلب العلم بها من أجل العلم بها فحسب؛ لأنني أعلمها - كما أخبرتكم من قبل – وإنما أردت أن أتوقَّل معكم صعداً إلى الأول الذي تنشأ عنه جميع هذه الدوافع، ولولا أن (هيفار) وقتني مؤونة أن أنفق زمناً طويلاً في الصعود إليه درجة درجة، عندما حرضتني على أن أباشر ذكره، فذكرته لكم بلا تسلسل ولا درجات، لتكلَّفتُ مؤونة الصعود إليه معكم في هذه اللحظة بطيبة خاطر غير عابئ بالمؤونة ولا بالزمن؛ فما من شيء يعدل عندي التضحية بالجهد والوقت من أجل بلوغ الحقيقة.. والآن: فما دمنا رقينا إلى الدرجة الأخيرة من سلم الدوافع دون أن نضطر إلى الرقيِّ في كل الدرجات، بات القول في هذه الدرجة لازماً لا مفرَّ منه. وإني لأقول فيها إنها العلة الأولى التي يستقر على وجودها الحكمُ الأخير على دوافعنا وأفعالنا وإرادتنا من حيث هي حرة أو ضرورية حتمية.
- أفهم أن العلة الأولى هي الوجود الأكبر، أستطيع أن أوعب هذه الحقيقة في ذهني، ولكن ما شأن هذه العلة بإرادتنا وأفعالنا ودوافعنا؟ كيف لها أن تكون مؤثرة فيها؟
- تسألني هذا السؤال للمرة الثانية مع إضافة يسيرة، وسؤالك في محله يا عزيزي، تريث! أوَلمْ ألمِّح، قبل أن تسألني في المرة الأولى، إلى مسألة الحرية واللزوم تلميحاً دون بسطٍ؟
- بلى!
- حسناً! فإن الوجود الأكبر حقيقة بلا مراء، هذه هي المقدمة الكبرى. إنه، على رأي الفلاسفة والعلماء، من البداهة والمباشرة بحيث إنه من المحال أن نتصور عدم وجوده، أليس الأمر كذلك؟. بيد أننا قادرون مع ذلك على أن نتساءل بإزائه، أن نخاطبه: هل أنت أيها الوجود الكلي الأكبر، حرٌّ في وجودك؟
وقد يجب هنا أن أستعين بلفظ آخر أكثر وضوحاً، وأبلغ في الدلالة على مقصدي، قد يجب أن أقول له؛ أن أسأله: أكان يمكن أيها الوجود الأعظم ألا تكون موجوداً، ولكنك اخترتَ أن تكون موجوداً؟
- دعني أجب بدلاً منه، فأسألك: وما ينفعك الجواب أيها البشر الضئيل، لو جاءك الجواب مني بتصديق أو جاءك مني بنفي وسلب؟
قاطعه (وجيه) كاتب المسرحية بنفاد صبر، وأشاح عنه وفي صدره ضيق وتوق إلى الاشتباك من جديد مع صديقه المخرج.
فردت (شخصيتنا) على الفور بلهجة شابها شيء من التوبيخ:
- لو كنتَ أمعنت معي في هذه الحقيقة، لأدركت أن علماء الفضاء، لا يقتحمون مجاهيل الفضاء بإرادة حرة، وإنما يقتحمونها قهرَ إرادتهم.. يقتحمونها بقوة عتية ترغمهم على الاقتحام إرغاماً، بقوة لا محيد لهم ألبتة عن الخضوع لها، ولا خيرة لهم سميرَ الليالي بين الانصياع لها وبين مقاومتهم لها. لو كننت أمعنت معي بمثل هذا التدقيق، لاستنتجت مثلي أنْ ما دام الوجود الأكبر لا يملك حرية أن يكون أو لا يكون؛ أن يوجد أو لا يوجد، فكيف لعلماء الفضاء، على هذا القياس، أن يكونوا أحراراً في غزوهم للفضاء!؟ وكيف لنا نحن أيضاً أن نكون أحراراً في أفعالنا!؟ وكيف لسائر الكائنات التي معنا أن تكون حرة في وجودها وما يستتبعه وجودها من غريزة وشعور وحركة!؟
ولو كنتَ أمعنتَ أيضاً - أضاف بعد ذلك متضاحكاً على نية العبث بصديقه وجيه الكاتب ومداعبته - ما كنتَ أطلت في اللجاجة، ولا كنتَ بدَّدت طاقتك في العراك بحثاً عن أسباب إخفاق المسرحية.. لكان حسبك أن ترضى بالإخفاق على أنه كان حتماً لازباً وضرورة مقضية، لا يد لك ولا لنا فيه؛ فتسكن إلى الدعة مع كأسك، ونسكن إلى الدعة مع كأسنا ومعك...!
*****************

وجاء في (خابية الكنز المفقود) أن شاباً غض البنيان يدعى (اندراوس شمّاس) ما إن ابتدأ وعيه المستقل يعوم في الطور الأخير من أطواره قبيل انزلاقه إلى العدم الصرف الخالص، حتى صار ماضي حياته على الأرض يتدفق في ذاكرته كدمع المفجوعة الهامع. وكان مما سفحته ذاكرته المتدفقة بالذكريات وهو في هذا الطور الهش من وجوده، أنَّ رجلاً في مقتبل العمر من ضيعته لم يكن يشبه سائر الرجال فيها؛ رجلاً غريب الأطوار والميول! رجلاً ربما أثار محضره أو ذكره الهلع في قلوب الأطفال والغلمان من أولئك الذين تعرض لهم بفجوره، وربما أجج الرغبة في قلوب الأشداء من رجال ضيعته لدقِّ عظامه كما يدق الفلفل الأسود في الهاون؛ إثر كل فضيحة ينزاح عنها الغطاء من فضائحه التي لا تحصى. وما كان يمنعهم من ذلك إلا الشفقة على أمه الأرملة العجوز، وإلا ذكرى أبيه الذي احتفظوا لأنفسهم بمآثره وسيرته المشرّفة في سجل ذاكرتهم الجمعية بكثير من التجلَّة والافتخار. كانوا، إذا ذكر ابنه هذا الخليع، ترحَّموا على الأب.. تأسفوا عليه تأسفاً ممضاً، وغضبوا على الابن غضباً شديداً واشتهوا طرده، وربما قتله، ثم تفلوا على الأرض طويلاً، وكرروا قولتهم: ((عوسج نبت في أرض كريمة!)) من غير أن ينال التكرارُ بالبهَت والإحالة مما في قولتهم من قوة التعجب والمقت والازدراء.
ثم يسترسل اندراوس في استحضار حكاياتٍ من مخازي هذا الرجل بتفصيل، وأحداثاً متفرقة من تاريخه الملوَّث، لا يسعنا - ونحن في هذا الموضع - أن نستقصيها جميعاً؛ بل لا يفيدنا أن نستقصيها، ما خلا حكاية النهاية المروعة التي اختتم بها حياته، فإنه لا مناص لنا من ذكرها واستقصاء حيثياتها وتتبع خيوطها؛ لأنّ فيها الشاهد المحكّكَ على رأينا في مسألة الحرية والضرورة.
قال: ((فلما تحقَّق له أن يمكِّن حبَّه في قلبها، بما مهر من فنون الإغواء، وبما ورث من تناسق البنية وحسن المنظر والمظهر - والنساء تعشق بالفطرة الرجالَ على وسامة ورشاقة ونظافة رداء وعلى تركيب لا تنقصه المتانة، وقد يكون لهذه الفطرة أنّ نساء القرية لم يكنّ كرجالها في النقمة عليه - لجّ الرجل في إقناعها بالزواج منه، وهي تصده في بادئ الأمر صداً لا هون فيه ولا لين، تصرخ في أعماقها الممزقة المحطمة المدماة صرخة عنيفة صاخبة جياشة بالنكر. ولكن صرختها ما إن تبلغ لهاتها، حتى تمسي من الضعف والخور وكأنها حشرجة محتضر تكاد لا تبين:
- كيف لمثلي أن تتزوج بك.. أجننت!؟ ألست تراني على ذمة رجل!؟
فلا يبدي ضعفاً أو تخاذلاً، يمضي ولا يبالي بالعوائق، يقول لها بثقة باردة:
- الأمر منوط بكِ.. بك أنت! فإن أردت، فلا رادّ لإرادتك.
- كيف لي أن أريد!؟ كيف تريدني أن أريد المستحيل!؟ أنا امرأة متزوجة وليس في الدنيا شريعة واحدة تجيز للنساء أن يتزوجن باثنين...!
- أتحبينني حقاً؟
- أوتشكُّ في حبي!؟
- لا ! لا أشك فيه البتة، أصدق حبَّك لي.. وإنما أردت أن أذكرك بالحب الذي يصنع المعجزات...
وما يزال بها يحوك لها على هذا المنوال بذكاء خبيث، وباجتهاد لا كلالة فيه ولا ملالة، حتى أقنعها (بمعجزته).
وفي ليلة حالكة الظلمة من ليالي الشتاء ذات القرّ، قطعت (س) أمراسَ ماضيها الممتلئ بأنفاس طفولتها، الزاخر بأشواق صباها، الملطخ بشقوة سنيِّ نضجها، ورحلت عنه إلى حاضر جديد كان منها مجهولاً، تاركة خلفها طفلها الوليد الرضيع لزوج لن يتسنى له ألبتة أن يرعى شأنه. فإنه لما علم بالمكيدة، ثار ثائره، وجن جنونه، وخرج إلى دار حميّه وفي يده بندقية، فلقي حماته، ولم يلق غيرها في الحوش، فأطلق عليها النار، إذ كان خالها دارية بالجريمة متسترة عليها متواطئة مع ابنتها على الهروب، فأرداها من علو قامتها إلى الأرض كما يردي بطة بريّة، وأخذ يلعنها وهو فوق جثتها المختلجة الغارقة في الدماء هائجاً هياج زوبعة من عجاج. ثم كرَّ بنفسه عن دار حميِّه إلى داره، بعد أن أيقن بهلاكها – والحق أن يقينه كان وهماً، فلم تمت حماته.. أصابتها النيران، لحسن طالعها، في كتفها الأيمن وفي فخذها بمكان ليس بمميت. ولكنها وإن نجت من الهلاك، فإنها لم تنج من الإصابة بعاهة مستديمة أبشع من الموت؛ لقد جفَّ ذراعها كغصن قُصَّ من شجرة، وبترت ساقها بعد أن فسد الدم فيها؛ فباتت عرجاء لا تقوى على السير بغير عكاز - وفي الدار لم يحتج الزوج المغدور لغير دقيقة واحدة صرفها في استخراج نطاق الذخيرة من صندوقه الحديدي، حتى إذا تم له ذلك، شدّه على خصره كيفما اتفق، وانطلق خارجاً مثل ملدوغ مولياً وجهه شطر الغروب باتجاه قرية (ركيّة) قبل أن يفطن الناس لأمره.
غاب الزوج المخون من تلك الساعة عن الأنظار.. غار وجوده في طيّ الخفاء العميِّ، فلم يُعلم مصيره قط حارقاً قلب والديه بلوعة وكمد لن يطفئ إلا الموت لظاهما المضطرم.
وقد قيل إنه هام على وجهه في شعاب الجبل الجوديّ ومغاوره، فصادفه دبٌّ بنيٌّ مهول الخلقة ساغب النيوب فهشَّمه وافترسه حتى عظامه. وقيل: بل قتله واحد من أهل (ركية) القرية التي لجأت إليها زوجه مع زوجها الجديد حين أراد مداهمة القرية لقتلهما، وطمر القاتل جثته في مكان موحش يستحيل العثور عليها فيه. وقيل: بل فرّ من العار إلى استنبول ومنها إلى البرازيل ماحياً آثاره عن أحدِّ أهل القيافة بصراً.
لم يمكث الهاربان في (ركية) المجاورة سوى يومين خوفاً من الثأر والانتقام، ولكنهما كانا كافيين لإشهار إسلامهما على يد شيخ تركي طيب الملمح أبيض اللحية أجنف الظهر أدرد. وقد أكرمهما الشيخ واحتفى بهما وزوّدهما بتوصية لأخيه المختار في قريةٍ نائية بولاية ديار بكر، فأسكنهما الأخ إلى جواره، وأقطعهما أرضاً يرتزقان منها مرابعة...)).
ثم جعل اندراوس يتتبع من مرقاه السديمي دقائق عيشهما في موطنهما الجديد، حتى انتهى إلى حديثه الأخير عن مصيرهما؛ عمّا آل إليه أمرهما، فقال:
((... ولكن (ع) ما لبث أن عاد إلى سابق عهده بالمخزيات والفواحش، لينطبق عليه المثل الدارج عندنا نحن الفلاحين: (من فيه عاهه، لا ينساها). ففي يوم قائظ تسلل كالثعبان في عزّ الظهيرة، والناس أكثرهم يهوّم أو يغطُّ في قيلولة ما بعد الغداء، إلى أجمة وارفة غزيرة الأفرع كثةٍ كأنها لحية قسٍ ارتودوكسيّ تقع على الضفة اليمنى لنهير القرية مقابل طلل الطاحون المهجور؛ ليتلقي غلاماً واعده في ذلك المكان - وكان أفسده قبل هذا الحين - فلمحه من بعيد فلاحٌ عائد من حاكورته، فاستراب به ودفعه الريب إلى أن يعلم من أمره شيئاً، فمشى خلفه في حيطة وحذر، وجعل يراقبه من مكمن محتجب خلف شجرة. فلما رآه يداعب الغلام بفحش، تقهقهر عن الدغل إلى طريق الضيعة بقدم حرص ألا تحدث خشخشة تفضح وجوده، عازماً على تبليغ وليّ الغلام بالحدث المخجل القبيح. إلا أنه حينما ضمه جناح منزله البارد، أظهر شيئاً من التردد في إخبار والد الغلام بما رأى؛ مما أغاظ زوجته التي كان أفشى لها السرَّ عقب أن فرغ من تناول غدائه، فأقسمت، وهي ترتعد من الغضب، أن تمنعه من فراشها، إن هو لم يخبر والد الغلام بما رأى؛ فاضطر الفلاح تحت طائلة التهديد أن يخبر والدَ الغلام بما رأى. فلما علم والد الغلام بما رأى الفلاح، هبَّ، وقد أعماه الخبر، إلى (طَفَرْزين) له لامع الشفرة مرهفها لو ضرب به الهواء لانقطع، فشاله من موضعه بلمح البصر، وهرول نحو الرجل - كان الرجل في هذه الأثناء، قد أتم فعلته الشنعاء، ورجع إلى منزله وجلس في تربُّعٍ إلى سفرة الغداء مع زوجه - وهجم باب منزله فكاد يخلعه برفسة واحدة من قدمه، وهو يرغي ويزبد طائش اللب. فإذا الرجل، وقد وقعت عينه على والد الغلام، يجمد كصخرة بلهاء في مكان جلوسه من هول المفاجأة وروعتها، وينشف الدم في شرايينه وعروقه نشْفَ الغدران في صميم القيظ فلا تبدر منه حركة ولا نأمة. وإذا والد الغلام كقضاء معجَّل يهوي بالطفرزين على رأسه بجماع قوته فيقدّه نصفين.
ما وعت الزوجة حركة الفلاح المهولة المباغتة، ولا وعت ما حلّ بزوجها من فتك رهيب عظيم.. ذُهِلت عما حدث أمامها، وتدلَّهَ منها الرشاد.. أمست بين رفة هدب وهدب وحيدة في عالم عجيب غريب مسحور تتحرك فيه ظلال الخلائق والأشياء أمام ناظريها حركة فاترة بلا ضجيج ولا معنى؛ كأنما هي موج يتهادى فوق الماء هادئاً هدوءَ الوسن.
قضي عليها ألا تستيقظ من ذهولها ألبتة. ستظل الزوجة المنكودة العمرَ كله راتعة في عالمها العجيب اللامعقول تقتات الذهول بوداعة بقرة، خلا يومٍ أو بعض يوم؛ يومٍ يتيم لن يتكرر في حياتها القصيرة ثانية. ستستيقظ الزوجة في هذا اليوم يقظةَ الحالم ثاب إلى واقعه بعد طول رقاد. ولكن يقظتها – مع الأسف - لن تدوم أكثر من ساعات قليلة، قليلة جداً، بدأت عندما طلعت الشمس من مطلعها، وانطفأت عندما بلغت الشمس سمتها. إنه لنصف نهار على وجه التقريب.. وقت قصير، على أنه، وإن قصر، سيتسع لوعي الفتى اندراوس شماس أن يحاورها فيما استغلق عليه فهمُه من أمرها، سألها:
- ما أغواك بالزواج من (ع) وزوجك الأول لم يكن بك إلا حفيّا؟
- الحب.
- الحب!؟ وما الحب، إن يكن فيه شؤم وعار وهلاك؟
- هو الحب ولو كان فيه شؤم وعار وهلاك.. ثم إنك تسألني، وكأنك تجهل أن الحب قدر لا يأتي من الإرادة؛ كأنك تحسب أن حبي له آتٍ من إرادتي.. كلا! لقد أحببته غصباً عني وعن إرادتي.
- أصدقك القولَ، نعم! الحب لا ينبع من الإرادة. ولكنَّ الإرادة قوة تقهر الحب.
- إن تكن الإرادة قادرة على قهر الحب، فلماذا لم تقهر إرادتي حبي، وقد أردت لحبي أن يُقهر عندما وعيت خطره، ووعيت ما فيه من دنس؟
- لا أدري! ربما أخفقت الإرادة حيناً، كما في حالتك، في قهر الحب، ربما كان الحب أقوى منها، لن أماحك في هذا، ولكن... ولكنْ إن كنتِ غير مستطيعة بإرادتك أن تقهري الحب، أفما كنت مستطيعة أن تقهري مشروع الزواج؟
لماذا الزواج؟ أما كنت تستطيعين أن تعالجي حبك بالستر والخفاء؟ عفواً ... أرجو ألا تسيئي فهمي! فأنا أعلم أن الخيانة عقابها شديد ونتائجها وخيمة أيضاً، ولو لم يذع سرها في العلن، إلا أن نتائجها – مهما تكن وخيمة - أهون من نتائج زواجك منه، لماذا لم توازني بينهما في النتائج؟
- ومن حدَّثك بأنني لم أوازن بينهما!؟ لقد وازنت بينهما طويلاً، ولكنّ الموازنة بين نتائج الحب السري، ونتائج الزواج لم تردعني – مع الأسف! - عن اختيار الزواج. ترى لماذا لم تردعني الموازنة عن اختيار الزواج؟ لماذا؟ أنا التي يجب عليها الآن أن تطرح السؤال: لماذا اخترتُ أن أختار الزواج، ولم أختر أن أختار الحب السريّ؟
- السبب معلوم؛ إنه هو.. هو الذي أقنعك بلا ريب؛ بل قولي هو الذي أرادك على هذا الاختيار فرضخت لإرادته. وكان يمكن أن يحدث العكس فتجبريه أنت على أن يختار الحبّ السريّ عوضاً عن الزواج، فلماذا...
- وما الفرق – ما دمتَ ذكرت الجبر والاختيار - بين أن أختار أنا، فأجبره على قبول اختياري، وبين أن يختار هو ويجبرني على قبول اختياره؟ ألا ترى أنّ كلينا في الحالين مجبرٌ على الاختيار؟
- كيف؟
- المسألة في غاية البساطة... فلا هو كان حراً في اختياره، ولا أنا كنت حرة في الرضوخ لاختياره. مهلاً! أتظن أنه اختار الزواج السري ثم أخضع إرادتي لاختياره، بملء حريته؟ لا، لا.. لقد كان هو الآخر مجبراً على اختيار الزواج.
- وما الذي أجبره على هذا الاختيار؟
- هو عين الذي أجبرني على الاختيار؛ إنه الحب.
- كأننا، والحديث يدور بنا، نورجٌ يدور بنا في حلقة حصيد مقفلة.. هأنا قد علمت أن الحب دافعكما إلى الزواج، ولكنني لم أعلم بعد لماذا كانت الغلبة لهذا الدافع، ولم تكن الغلبة للإرادة؟ ألستِ تقولين أنك كنت مريدة ألا يغلب الحبُّ إرادتك؟
- بلى! ولكنْ.. هَبْنا كنا اخترنا الحبّ السريّ معاً، أفما كنا، وقد اخترناه، قد اخترناه بجبر لا بحرية؟
- كيف؟
- ... صمتٌ. لم تجب (س) سؤاله، نظرت إليه نظرة فارغة وغطّت في الذهول.
كانت الشمس استوت على رأس العمود الساقط فوق رأسها من نقطة السمت، وجعلت تفيض ضياءها الثرَّ على الكون بجود عفويّ لا يرجو منَّة ولا شكراناً غير مبالية بما يفعل البشر فوق الأرض أيّ بِلاء...)).
**********
ذات شوقٍ، حزم السيد (يعقوب سرياني) متاعه في حقيبة واسعة، ثم زجّ بمؤخرته على مقعد غير وثير داخل طائرة سفر تركية متجهة إلى ولاية (...) في جنوب شرق تركيا. وكان السيد يعقوب، على عادته، يحمل كتاباً بيده مفتوحاً أمام حاجبيه المقطبين وبصره المشدود إلى صفحات الكتاب. إلا أنه، وإن بدا منهمكاً بالقراءة، لم يكن في هذه المرة يعي شيئاً مما يقرأ؛ وذلك بسبب شرود ذهنه الذي كان تعلق منذ الصباح بحدث مفجع راح ضحيته فتاة يافعة بتهمة الإخلال (بالشرف) نقلته صحيفة (بريد الفجر) اليومية.
وقد يكون من المبالغ فيه أن نظن أن ذهن السيد يعقوب لم ينشغل طوال الرحلة بغير الحدث المؤلم الذي وقع فجر اليوم. سيكون هذا ظناً منا متسرعاً، فإن الحقيقة غير ذلك؛ إذ ما مرّت بالسيد يعقوب غير دقائق قليلة بدءاً من لحظة جلوسه في مقعده، حتى قفز به ذهنه بتأثير مباشر من حدث اليوم إلى التفكير بحدث آخر مماثل له، وقع في عصر شبابه في مكان غير هذا المكان ؛ حدثٍ مؤلم مشؤوم سينقر الزمن صورته رغماً عنه بإزميل مدبب من فولاذ عنيد على صخرة في أعماق نفسه الجوانية طابعاً فوقها أثراً عميقاً هيهات له أن تمحوه الأيام!
عاودت السيد يعقوب ذكرى جريمة القتل الفظيعة.. الأشد فظاعة من جريمة اليوم بطريقة تنفيذها. إنها الجريمة التي ارتكبها شابٌ – يومذاك - من أبناء قريته يدعى (خلف) وكانت المجنيَّ عليها، شقيقتُه الصبية (راحيل) الجميلة ذات اللحظ العليل المؤثر، والابتسامة العذبة المثيرة، والنهد المتمرد على مشدّه برعونة الصبا.
ويا لها من معاودة نغَّصت عليه متعة القراءة والتفكير والحلم! إنها لتحرمه من دأبه، في هذه المناسبة وهذا المكان، على أن يحلم؛ على أن يتخيل بصفاءٍ بهجة الحفاوة المنعشة التي يفوز بها من لدن أخيه وزوجته وأبنائهما وبعض الصديق، وفرحة الصغار بهداياه، ولذة المآكل التقليدية بنكهتها الخاصة التي تجيد طهيها زوجة أخيه مع خمرة الكرم النشوى بالسكر الخفيف، ولذة الاسترخاء والاستجمام في أحضان قريته التي ما تزال رائحة طفولته عابقة بشفوفها.
إنّ استرجاع الطريقة التي قُتلت بها راحيل ليعذبه الآن، كما يعذبه في كل مرة يسترجع فيها طريقة قتلها! ومع أنه لم يشهد الجريمة بنفسه، ولم ير تفاصيل وقوعها بعينه، ولا يعلم على وجه اليقين أنها تمت بهذه الطريقة دون غيرها من الطرائق الوحشية الأخر، فإن ما سمعه من وصفٍ لكيفية قتلها بيد شقيقها بعد أن افتضح حملها من مجهول، ظلّ هو الثابت عنده، ظل هو الثابت الذي يعذبه عذاباً لن يشفيه الزمن ولا الطب النفسي.
إن تخيّل راحيل الصبية الجميلة ذات القد المشتهى، ورعبُ الموت يمعن كمدية لئيمة في جمالها تشويهاً وتمزيقاً، ولهفةُ الحياة في دمها تصرخ مستجيرة، تتوسل بحرقة، تتضرع بجنون إلى شقيقها بصوت يشخب من ولهٍ وذهول أن يبقيها رحمة بجنينها، ورحمة بروحه من عقاب الآخرة، وهي تختفق بجميع أعضاء بدنها في هوج كدجاجة مذبوحة، لا يمكن إلا أن يعذب القلوب ويدميها ولو كانت حديداً صلباً أو حجراً صلداً.. إن تخيل راحيل، وشقيقها يرجمها، بعد أن باغتها في الكرم، وهي بين الدوالي تجني العنب، بحجارة موت أحمرَ متتابعٍ حجراً بعد حجر، محال ألا يعذب القلوب وخصوصاً قلب من كان مثله شفوقاً عطوفاً رقيقاً حتى الذبول والضعف.
وليس هذا فحسب، فإنه كثيراً ما ينتابه تبكيت الضمير، ضغثاً على إبَّالة، فيزيد من طول عذابه وأرقه.. كثيراً ما يشعر بالذنب كما لو كان شريكاً في الجرم، أو كان مسؤولاً عن وقوعه بمعنى من معاني المسؤولية الغامضة، وهو في غضون حالة التبكيت هذه لا يني يحدث نفسه بنجوى لا يدري من أين مصدرها! يتنهد عقله من عبء الذنب فيبوح لسانه الداخلي بتنهيداته مترجمة إلى حروف صامتة متساءلة حائرة صائتة بتوبيخ مر:
لماذا كان قعودي عن إنقاذ راحيل؟ ألم يكن بوسعي أن أنقذ حياتها بمبادرة ما، كأن أطلب يدها للزواج؟
فلماذا لم أقدم على هذه المبادرة؟ لماذا؟ ما العار الذي كان يمكن أن يلحق بي، لو تزوجت حاملاً من غيري، وأنا أبغي إنقاذها؟
أوَما كان خليقاً بي، على أضعف المبادرات، وأنا الذي يقرأ ويكتب الرسائل بلغات أربع، أن أروّي عقل شقيقها الأحمق بحيلةٍ تنقذ حياتها؟
وتمر به الساعة وربما الثانية وهو على هذه الحال من المناجاة المكدرة، لا يسكت عن تقليب السؤال هكذا دوليك على كثير من الوجوه والتفاريع بصمتٍ محتدم، مع أنه ليدري دراية لا تحتمل النقصان، أنْ لا ذنب له في حقيقة الأمر: فهو لم يرتكب الجرم، ولم يحرض عليه، ولم يشجعه،كما أنه، إنْ يكن قعس عن المبادرة لمنع وقوعه؛ فلأنه لم يكن له علم بتدبير الأخ، ولا كان الأخ من أصحابه ولا من بيئته؛ بل لم يكن له صلة براحيل نفسها عدا السلام العابر وابتسامةِ الذي لا يعرف الآخر إلا عن بعد؛ فمن أين له أن يعلم بغلطة راحيل وبحملها سفاحاً؟ أهو الوهم الذي ينشأ عن فرط الحساسية، كما تؤكد ذلك طبيبته المتخصصة بالمعالجة النفسية؟ ألعله الوهم حقاً؟ فإن يكن هو، فما العمل؟ ماذا يفعل والوهم لا يفارقه؟
لله! ما أشبه وهمه بوهم (كوما بَرْ جرجيس) بطلِ قصةٍ لكويتب أنسي اسمه تدعى (شبح الطحان شمس الدين) قرأها في الربيع المرتحل وهو مستلق على ظهره فوق سجادة عشب ندي يتشمَّس في حديقة الحيوان عارياً!
يا للغرابة.. يا للدهشة! لكأنّ وهمه انتقل إلى (كوما) بالعدوى، وانتقل الوهم إليه من كوما باتجاه معاكس... أووووه، لا، لا.. تباً لعقله ! لا يمكن أن يكون العكس صحيحاً؛ العكس هنا لا يصح من جهة المنطق؛ لأن شعوره المرهق بالذنب أسبق من شعور كوما به، بل لأنه، بتعبير أدق، لم يقرأ حكاية كوما بر جرجيس إلا في وقت متأخر.
كان كل شيء في دار شقيقه قد أعد لاستقباله، وكانت الفرحة بقدومه عارمة، والرائحة الزكية تتصاعد من أطباق الطعام التي اكتظت بها مائدة (شوشانه) زوجة أخيه ؛ تتسلل إلى منخريه محرضة شاهيته على الانفتاح على لذة لم يتذوق مثيلاً لها منذ عامين.
طعم يعقوب وشرب وتفكه بالحديث مع أهله حتى الامتلاء. وفي الصباح الباكر قبل أن تفرغ شوشانه من إعداد القهوة، فوجئ أخوه به وهو يسأله:
- أما يزال (خلف) مقيماً في القرية؟
- خلف!؟ ومن خلف؟
- خلف دنحو
- آآآ؟ وما ذكَّرك به؟
- أريد أن أراه
- تراه!؟ وما شأنك به لتراه؟
- لي بعض شأن به
- ستراه في قهوة (أبو عيدو) من كل بد، فهو لا يكاد يفارقها من مطلع الشمس إلى مغربها.. نذهب إليه بعد الإفطار.
- لا، أريد أن أراه وحدي على انفراد..
كان (خلف) وحده في المقهى الخالي من الرواد، جالساً على كرسي من قش دون مسند إلى مائدة خشبية صغيرة واطئة فوقها كأس شاي فارغ يدخن منتظراً – أغلب الظن - قدوم لاعب ورقٍ من (شلته) يسليه. لم يكن خلف الذي يرحب به الآن ترحيباً جميلاً حاراً خجولاً مرتبكاً وينادي الفتى القائم خلف منصة المشروبات المكلّف بخدمة زبن المقهى آمراُ إياه أن يكرم (ضيفه) بأجود ما لديه من أصناف المشروب، هو خلف الذي رآه آخر مرة قبل ثلاثة أعوام.
يا لجور الزمن! قال متأسياً متعجباً متسائلاً في سره: أهذا الرجل الذي يراه وقد تخددت قامته وبان انحناء في عاتقه، ونصع بياض شعره، وشحب وجهه النحيل وامتلاً بأخاديد الزمن العميقة، وغارت عيناه وضاقتا، ونفرت عروق يديه الزرق الثخينة، وخالط الإهمال رداءه الرث، هو خلف !؟
ولولا إشفاقه من أن يؤذي شعوره، لتحقق من هويته بأن يسأله: أحقاً أنك خلف بن دنحو ولست رجلاً آخر؟ قبل أن يجلس قبالته متكلفاً ابتسامة ودودة.
وأخذ في مجاملته وقتاً، إلا أنه ما عتم أن أحس بالضيق من مجاملته بحديث فارغ، فأسرع إلى غايته بلا تمهيد، قال:
- المعذرة! قد أبدو متطفلاً متدخلاً في أمرٍ يخصك وحدك ولا حق لي في الاطلاع عليه، وقد أبدو فظاً غليظاً، إن أنا رجوتك أن تجيب سؤالاً قد استعصى جوابه علي.. وربما خيل إليك أنني إنما أنوي شيئاً من سؤالي بغيضاً إليك، بيد أنني لا أنوي شيئاً بغيضاً يسيء إليك، إنني مدفوع دفعاً إلى سؤال مازال يطاردني من غير أن تكون لي نية شريرة في إزعاجك ...
- لا داعي للاعتذار والتحرج يا خواجه يعقوب! اسألني ما شئت ولن أحمل سؤالك على محمل الشك في حسن نيتك، فأنا أعرفك وإن كنت أنت لا تعرفني كما أعرفك.
قاطعه خلف ونظر إليه نظرة هادئة ثابتة طيبة صافية، أزالت خوفه من أن تصدر عنه ردة فعل غير مستحبة، وشجعته على السؤال؛ فأفرغ ما في صدره أمامه بعبارة واحدة واضحة قاطعة صريحة لا حشو يسبقها ولا حشو يليها ولا رأفة يتخللها:
- لماذا قتلت راحيل؟
تنحَّى خلف ببصره عنه، مال بعنقه إلى الأرض ساهماً مطرقاً، ثم عاد بعد هنيهة فرفع رأسه واتجه نحو يعقوب وقد ألمت بوجهه ابتسامة شاحبة ذابلة، وأجاب:
- كنت أتوقع منك هذا السؤال، ولقد سمعته من غيرك مراراً، ولكي لا أطيل عليك أجيبك بأنني لم أفعل ذلك إلا دفاعاً عن سمعة العائلة.
- أعلم هذا، ولكن لماذا قتلتها؟ لماذا اخترت أن تقتلها؟ أما كان ثمة طرائق أخر للدفاع عن سمعة العائلة؟
- بلى! ولقد جمعت كل الطرائق المتوفرة آنذاك وعالجتها بروية وأناة قبل أن ألقي بها على بساط الاختيار، فأختار القتل.
- ما الذي دفعك إلى القتل؟ لا بد من أن يكون ثمة دافع أرغمك على اختياره دون غيره..
- ربما شدة الغضب وشهوة الانتقام للعرض والكرامة.
- ولماذا الكرامة؟ما خيرها؟
- سؤال غريب! وهل للمرء في ديارنا أن يحيا بلا كرامة؟
- إذاً فأنت تعتقد أن الكرامة هي الدافع الحقيقي للقتل. ولكن الكرامة في ذاتها قيمة لا معنى لها خارج الحياة الاجتماعية، فلو كنت سترت على راحيل ولم يدرِ بفعلتها أحد، فأيّ جرح وأي كرامة؟
- لو كنتُ سترت عليها من أعين الناس، فكيف أستر عليها من عيني؟
- أتقتل لخاطر عينك!؟ ألا تدري ما معنى القتل؟
- وهل كنتَ لا تقتل، لو أن أختاً من أخواتك – لا سمح الله بذلك – فعلت مثل فعلتها؟
- نعم، لا أقتل
- فماذا كنت تفعل؟
- أيّ شيء ما عدا القتل
- حسن! فما الذي يدفعك إلى اختيار (أي شيء) بدلاً من القتل؟
- أيّ شيء، خير من الموت.
- قد يكون أي شيء خيراً من الموت، ولكن ما الذي وراء اختيارك لأي شيء؟
- العقل
- إذن فإن العقل هو الذي يرغمك على اختيار (أي شيء) أما أنا فالجهل هو الذي أرغمني على اختيار القتل، فما الفرق بيننا الآن في مسألة الاختيار؟ أما ترى أنك لست حراً في اختيارك، وأني لست حراً في اختياري؟
- أرى ذلك ولكن..... وقبل أن يتم يعقوب اعتراضه دخل أخوه المقهى وهو يلهث، فسلم وألح عليه بالقيام لأمر يستوجب القيام، فقام يعقوب وغادر المقهى بصحبة أخيه إلى الأمر الذي يستوجب قيامه، وإذ هو في الطريق اكتشف أن الثقل الذي كان يجثم على صدره قد تدحرج.



#نعيم_إيليا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وصيد المعنى
- محاورة رمضان عيسى
- ما العلة الحقيقية في انهيار سوريا
- معضلة الروح
- في رحاب المطلق
- أنتي مالوم أبو رغيف. أو فلسفة التغيير
- شبح الطحان شمس الدين الكردي
- إلى السيدة الفاضلة الأديبة ليندا كبرييل
- مشكلة الوجود الإنساني
- خلق العالم . 3- الحياة
- خلق العالم 2- المغزى
- خلق العالم
- إيميل من صديقته السورية
- في ضيافة يعقوب ابراهامي
- ماركسيٌّ بل مسلم والحمد لله
- سامي لبيب تحت المطرقة
- المنهج القسري في أطروحة فؤاد النمري (الرسالات السماوية)
- الإباحية في أدب النساء العربيات
- الحوار المتمدن يسهم في التحريض على المسيحيين في بلاد الشام
- ما جاء على وزن الذهان من مقالة السيد حسقيل قوجمان


المزيد.....




- الطلاب الأمريكيون.. مع فلسطين ضد إسرائيل
- لماذا اتشحت مدينة أثينا اليونانية باللون البرتقالي؟
- مسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيلية: الجيش الإسرائيلي ينتظر ال ...
- في أول ضربات من نوعها ضد القوات الروسية أوكرانيا تستخدم صوار ...
- الجامعة العربية تعقد اجتماعًا طارئًا بشأن غزة
- وفد من جامعة روسية يزور الجزائر لتعزيز التعاون بين الجامعات ...
- لحظة قنص ضابط إسرائيلي شمال غزة (فيديو)
- البيت الأبيض: نعول على أن تكفي الموارد المخصصة لمساعدة أوكرا ...
- المرصد الأورومتوسطي يطالب بتحرك دولي عاجل بعد كشفه تفاصيل -م ...
- تأكيد إدانة رئيس وزراء فرنسا الأسبق فرانسو فيون بقضية الوظائ ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - نعيم إيليا - مسألة الضرورة والحرية، بما هي مسألة وجودية