بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 4366 - 2014 / 2 / 15 - 13:32
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
منذ نهاية السبعينات في القرن الماضي حتى آذار 2011 ، اعتمدت المعارضة السورية الوطنية بعامة ، أسلوب النضال السياسي ، السلمي ، التدرجي ، من أجل التغيير الوطني الديمقراطي . ولما بدأ التصعيد من أطراف باتت معروفة ، في تظاهرات آذار 2011 السلمية ، حذرت المعارضة الوطنية الديمقراطية من مغبة الوقوع في مستنقع الصراع المسلح بديلاً للأسلوب السياسي ، لأنها كانت تعي بحق ، أن القوى الاستعمارية العريقة ، المتربصة دائماً ، للعدوان على سوريا ، منذ مؤامرة ( سايكس ـ بيكو 1916 ) حتى الآن ، سوف تستغل التداعيات المسلحة ، وتحرف الأزمة السورية عن حلولها الوطنية الديمقراطية ، لتمرير مصالها ومخططتها المعادية ، ولأن " هذه المعارضة " كانت على يقين ، أن لحمل السلاح ضريبة من الصعب تحملها ، ألا وهي تدمير الوطن .. وتمزيقه .. وربما إزالته من خريطة العالم ، وأن السلاح حين تنطلق آلياته ومفاعيله ، ’يخرس صوت السياسة والعقلانية ، و’يخرس أصوات المؤسسات القانونية والحقوقية ، وخاصة مؤسسات حقوق الإنسان ، التي انطلقت بحيوية ناشرة خيوط ضوء مبشرة بالحرية .
وكان ما حصل فعلاً ، أن الرصاصات الأولى التي انطلقت ، بذريعة الدفاع عن المتظاهرين ، وافتتحت مرحلة الصراع المسلح ، أصابت النضال من أجل حقوق الإنسان بالشلل التام . ولم ينفع تغطية هذا الشلل الادعاء العالي النبرة ، أن حقوق الإنسان هي التي من أجلها ’أشعلت ، و’دعمت ، الحرب في سوريا ، لأن هذه الحقوق ، بعد أن صار الشارع السياسي ميداناً للحرب .. والقتل .. وصار صوت الرصاص والقنابل لعلو فوق كل الأصوات والشعارات ، لم تعد الحقوق التي لخصت بالتغيير السياسي واردة في خطابات ناشطيها السابقين واللاحقين ، وطبيعي ألاّ تكون واردة في الخطاب السياسي " المسلح " ، الذي قلب المعادلة السياسية السورية ، وامتهن حقوق الإنسان أبشع امتهان ، وألغى حق الشعب في القرار والاختيار ، وصارت الحرية ومسألة السلطة هي للمنتصر عسكريا . وبذلك ’حذفت عملياً ، مفاهيم وطروحات حقوق الإنسان ، من اهتمامات الإنسان العادي .
ومع تجذر التدخل الإقليمي والدولي ، العسكري ( سلاحاً ورجالاً ) والمالي والإعلامي في الشأن السوري ، ومع إمعان الإرهاب الدولي ( جهاديين ومرتزقة ) في الفتك والتدمير بالإنسان والعمران في كل بقعة سورية طالها سلاحه وتوحشه ، غابت من فكر الإنسان السوري تماماً ، أية خاطرة تتعلق بما سمي سابقاً حقوق إنسان ، واندفع بكل طاقاته وعقله ومشاعره ، لدرأ مخاطر الحرب .. والقتل .. والتهجير ، وللتشبث بحق الحياة أولاً .. وبمقومات هذا الحق ، والاهتمام بوجوده .
ذلك أن الإنسان السوري ، مثل أي إنسان في أي مكان ، عندما تتحول حريته ، وقضاياه المشروعة ، عند السياسيين ، الموسميين ، والانتهازيين ، والخونة ، إلى سلعة وموسم للارتزاق السياسي والمادي ، ويصبح هو ، كلية موضوعاً للصراعات المحلية والدولية ، ويفقد كمحصلة حق المواطنة مع فقدانه حق الحياة ، ويصبح إما قتيلاً .. أو رهينة .. أو مهجراً ، وعندما يستدرج وطنه أمام عينيه بالتدمير والعنف المتوحش نحو الضياع ، يتوقف عنده التفكير بالسياسة التقليدية ، وبالمسائل الحقوقية الخلافية ، وتنشأ لديه بدلاً منها نظرة عملية إجمالية ، إلى ما آل إليه حاله وحال أهله ووطنه ، نظرة تنبع من مشاعر الألم ، لفقدان أعزاء بلا ثمن ، بالقتل والتهجير والجوع والرعب ، ويتجاوز همه عالم الحقوق النظري ، ويكرس طاقاته الذهنية والجسدية .. من أجل .. سقف يأويه .. ورغيف يكفيه .. وأمان مؤقت يجنبه الضياع والانقراض .
وهذه المحصلة المأساوية ، نظرياً وعملياً ، لسيرورة حقوق الإنسان ، التي تشكل نقطة ضعف كبيرة ، في الجبهة الشعبية .. الوطنية .. في مواجهة التدخل الأجنبي والإرهاب الدولي ألد أعداء الإنسان وحقوقه ، ينبغي ألاّ ننسى أنها لم تأت من فراغ . وإنما تأتت عن ظروف الأزمة الأسوأ في تاريخ سوريا ، التي آثر فيها سياسيون مغامرون من أطياف عدة ، العنف وسيلة لحلها . وأنها أيضاً نتيجة منطقية لمأساة الإنسان السوري ، الذي فقد ، تحت ضغط فقدان الرجاء ، البوصلة السياسية . وتحت ضغط غياب الطبقة السياسية المجتمعة على قاسم وطني ديمقراطي مشترك ، فقد الثقة بالساسة والسياسيين ، وخاصة تلك الكتلة السياسية ، التي منحت نفسها اسم المعارضة ، واختارت الالتحاق بالمخططات الخارجية الإقليمية والدولية المعادية ، وانخرطت في لعبة غبية فاشلة ، هي لعبة الحرب والاستعانة بالمجرمين الدوليين ، لتحقيق العدالة المزعومة في يلادهم .
وفي مواجهة هذه اللعبة الوسخة ، لم يكن الإنسان السوري العادي ، بحاجة إلى قراءة وقائع الصراعات الدولية الراهنة العاصفة وتأثيرها في موازين القوى الداخلية ، أو إلى معرفة كاملة لهوية وبرامج القوى المسيطرة على مقاليد الحكم في الدول القادرة على توجيه المسارات الدولية ، واللعب بمصائر الشعوب الأضعف ، وما تجلياها في المنطقة ، أو إلى المزيد من الحاجة لمعرفة البنى العائلية القبلية المفوتة ، والمذهبية المتعصبة ، الحاكمة ، المالكة لقدرات بترولية ومالية هائلة ، التي تهدرها ، على متع أمرائها وخدمها الإقليميين ، وعلى مغامرات منسقة مع المنظومة الدولية الاستعمارية خارج قوس مصالح شعوبها المدجنة ، لم يكن على هذا الإنسان أن يعرف بالكامل كل هذا أو بعضه ، ليصدر حكمه على خيار سياسييه السيء الفاشل ، وعلى كذب هذه الدول في مزاعمها دعم حقوقه الإنسانية . فهذا المواطن ، عدا عن إلمامه المعلوماتي والمعرفي المتواضع ، قد شاهد وعايش تطور وتفاعللات الأزمة السياسية في بلاده ، وليصدر حكمه أيضاً على جرائم هذه الدول ، في العراق ولبنان وسوريا وليبيا واليمن والصومال وأفغنستان والبلقان ، وعدد كبير من البلدان الإفريقية . وقبل هذا وذاك ، فإنه يكابد على مدى ثلاث سنوات مشؤومة من الجيوش الإرهابية ، التي ترسلها هذه الدول إلى سوريا بأسماء مجاهين تاريخيين ، بزعم أن هذه الجيوش " المباركة " ستوصله إلى حقوقه ، فأوصلته إلى الموت .. والجوع .. والتشرد .. وأعادته بشريعتها المفوتة المتطرفة حقبة طويلة بائسة إلى وراء .
ومن يبحث في عمق الكارثة ، يجد أن المواطن السوري الذي صودر منه في مراحل سابقة عدد من حقوقه السياسية وانعكاساتها الثقافية ، التي كان يعول على نضاله السياسي السلمي لاستعادتها ، فإن انتشار الجيوش الإرهابية في وطنه ، وممارسة " جهادها " التكفيري المتعارض مع حركة التاريخ والمكفر للديمقراطية والحرية ، قد حرمه ، بعد أن هدر دمه واستباح وطنه ، حتى من مجرد التفكير أن له حقوقاً على أي مستوى كان . كما يجد أن لوائح حقوق الإنسان ، وبيانات ووثائق لجان الدفاع عن حقوق الإنسان ، مقتولة ، ومقطعة ، ومشوهة ، ومرمية ، بين جثث الضحايا وركام الدمار ، في الشوراع والمعابد والبنى التحتية .
كل مايذكر عن كارثة الشعب السوري ، يقتصر على أرقام الخسائر المادية وعدد القتلى ، ويقدم ذلك بأسلوب إعلامي فضائحي . لاأحد يقدم هذه الخسائر بأسلوب بحثي ، موضوعي .. إنساني .. يذكر فيه حجم الآلام وأنواعها ، التي يكابدها هذا الشعب جماعات وفرادى . وإذا ترجمنا الأرقام المليونية الجامدة ، عن النازحين ، والمهجرين ، واللاجئين ، إلى ما تعنيه من أناس من لحم ودم ومشاعر إنسانية .. أناس يهيمون بين البيوت المدمرة ، وخيم اللجوء ، وغرف الإيواء المؤقتة ، وأجسادهم ترتجف من الرعب ، والبرد والجوع ، ومن افتراس الحرب لرجائهم وأفق مستقبلهم ، ويتوجسون أسوأ المصائر .. وعيونهم القلقة تتجه إلى الدروب .. لعل من فقدوه يرونه قادماً إليهم .. نقترب من معرفة عمق المأساة السورية . ونتوصل إلى قناعة أعمق بضرورة وقف هذه الحرب الكارثة النكبة فوراً ، وإنقاذ الإنسان والوطن من وحشيتها .. التي تجاوزت كل ما هو تقليدي من التوحش .
وفي غمرة هذه المأساة المركبة إنسانياً ووطنياً ، حيث يصول ويجول مجرمو الحرب والتدمير والموت ، بلا أفق للخلاص منهم . وحيث مذلة وإهانات اللجوء والهجرة .. يعاد بناء الذات السورية من جديد . وتنشأ مفاهيم جديدة عن الحق ، والسلطة ، والدولة ، والعدالة ، والحرية ، وحقوق الإنسان ، وحقوق الوطن .
لقد ولد في الثلاث سنوات الحربية الجارية جيل سياسي جديد ، هو صغير بقياس الأعوام ، لكنه كبير بقياس الضرورة السياسية والوطنية والحقوقية العادلة . فلأول مرة .. على المستوى الشعبي .. والشبابي خاصة .. تنبع رؤى سياسية .. من عمق جراح وآلام الوطن .. تستطيع أن تلم بأطراف العالم ، وتعرف النافع والضار منه .. وتعرف العدو والصديق فيه .. وتعرف مدى مقاربة .. أي قول أو حدث من مصالح الوطن أو معادته .
بمعنى آخر ، إنها رؤى تجمع بإبداع ومسؤولية حقوق الوطن إلى جانب حقوق الإنسان ، بل إن حقوق الوطن في ظروف الحرب المدمرة لها الأولوية في الوعي السياسي والإنساني . ورسخت معادلة تقوم على : إن وطناً بلا حقوق هو وطن ناقص الإنسانية ، لكن يمكن إزالة هذا النقص مع الحفاظ على الوطن . أما حقوق الإنسان بلا وطن تتجسد فيه باحترام واستقرار .. هي حقوق نظرية خيالية ميتة مع موات الوطن . ومن هو صادق في الدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا ، عليه أولاً الدفاع عن الوطن .. الوعاء الذي يحتضن الإنسان وحقوقه .
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟