أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رمسيس حنا - -وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ- (قصة قصيرة)















المزيد.....

-وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ- (قصة قصيرة)


رمسيس حنا

الحوار المتمدن-العدد: 4336 - 2014 / 1 / 16 - 10:43
المحور: الادب والفن
    


"وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ" (قصة قصيرة)

لم اٌدرك معنى الغٌصة رغم أننى مرات عديدة أحسست بها في حلقي ... و رغم أنها لم تكن أول مرة و لكن كانت أول مرة اشعر فيها بشدة المرارة و خنقة الغصة ... و أمامى تجسمت العبثية و اللامعقولية و العدمية و اللاشيئية و أنا اسير بين القبور عائدا بعد أن دفنتكِ بيدي و واريت جسدكِ الصغير التراب ... رأيت و سمعت الصمت المطبق ... و تلمست و رأيت و سمعت السكون المُشَوَّشُ ... و إشتممت و تجرعت الغموض البهيم ... و تسمعت دبيب الهوام العوام ...و هم جميعاً يلفون و يبتلعون ثم يتَهَوَّعَون كل قبر من القبور ... و رأيت العجز و إنعدام الحيلة يشلان جسدى و يثقلان عقلى ... و رأيت نمل الوهن و الضعف يسرى فى دمى ... فأحسست بسعار الشمس يهرئ جلدى ... و سياط الزمهرير تنزل بلا رحمة على جسدى ... و وخزات البرد تنخر عظامى ... و أحسست بالرياح اللافحة تضاجع ما يستر جسدى من ثياب ... و رأيت اَخر ورقة توت تسقط من على هيكلى المقدس ... و ما عادت أوراق الشجر تستر سوءتى ... والعقل ما عاد يحصفنى ...

حتى عندما نزلت الى المقبرة لكى استلم جثة حبيبتى طفلتى التى لم تبلغ عامها الأول ... و في المقبرة!! يا لي الهول و الرعب و الهلع ... لا ... يا لي الحقيقة الوحيدة البائسة الموجعة ... الحقيقة الوحيدة البائسة الموجعة التى تصدم كل الحواس ... و تزلزل باللمس البدن ‘ و تصم بالسمع الأذاَن ‘ و تطمس بالبصر العيون ‘ و تزكم بالشم الإنوف ‘ و يتمرر بتذوقها الفم و اللسان ‘ و يتقبح بتجميلها الذوق و الحس و الأحساس ‘ و يتهتك بإدراكها العقل و الخيال ... هنا عُرِيت العظام من أجسادها و أفخاذها و شفاهها و شحومها و نهودها و لحومها... هنا فُرِغت الجماجم من مِخَاخٌها التى من قبل فُرِغت من عقولها ... هنا حُوِلت الأكفان و كل ما يستر الجسد الى أسمال بالية تضاجعها الريح ليل نهار ... هنا خُرِبت الهياكل و لم يُترك فيها حجر على حجر إلا ونُقِض وفُتِت ... و لم يُتْرك فيها نسيج إلا وإنفكت وتهلهلت خيوطه و أوصاله و نسج عليه العنكبوت خيوط الباطل ... هنا حقيقة الرميم ، و رميم الحقيقة هنا ... و هنا ترمم الحقيقة ، و حقيقة الترمم... اللاجمال ... واللاقبح ... المعنى و اللامعنى ... البرود و الغليان ... الإكذوبة و اللاحقيقة و الحقيقة ... الفوضى ، و الاِخْتِلاَل ، و الاِضْطِرَاب هنا!!! أصعب منظر ... لا ... لا يمكن أن تكون عبارة "اصعب منظر" هى المناسبة ... انه شئ لا يمكن التعبير عنه ... ليست صدمة و لا إندهاش ... لا شئ من هذا القبيل. ربما يكون اللاخوف و اللاشجاعة ... اللاتقدم و اللاإنسحاب ... اللاكر و اللافر ... الإيمان و اللاإيمان ... أنه الإحساس و التخدر ... الموت واللاموت واللاحياة ... أنها الثمالة والوعى!!!

ووضعت يدي على جدار المقبرة المظلم من الداخل لاتحسس طريقي ... و أشعلت عود ثقاب ... و كل حاسة و كل خلية فى جسدى ترتعش ... وفى روحى كل الإيمانات تهتز، و فى عقلى كل الثوابت تتزلزل ، و لم يكن من بد أن ينطفئ عود الثقاب الذى أشعلته ... و كأنهم يرفضون الإزعاج و النور ...

- "لا داعي لان تقلقهم ..."
- "أنتم أهنأ حالاً و بالاً منا..."
- "أنكم لا ترون ما نرى و لا تسمعون ما نسمع ..."
- "و لكن هل رأيتم أو سمعتم ...؟؟؟"
- "الحقيقة لا يدريها احد غيركم أنتم ..."

وسمعت الصوت من الخارج: "إستعجل .. ما بك في الداخل ...؟"

فتنبهت من دوار الدوامة التى كانت تلفنى وضجيج الرحى التى تطحن نفسها فى رأسى ... و ما أحسست بإندفاع الهواء المشبع بالأتربة والرائحة الغامضة داخل رئتى حتى إنتزاع السدادة من قصبتى الهوائية وتلتها شهقة وليد ليبدأ ميكانيكية التنقس بعد فك الحبل السرى من حول رقبته وشفط المخاض من رئتيه ... فتوجهت مترنحاً كالثمل ناحية الفوهة المفتوحة واستلمتكِ حاملاً إياكِ بين ذراعي بالعلبة الصفراء ... و الفرق بين الأن و من ذي قبل ... قبل أن يضعوكِ في هذة العلبة الصغيرة كنتِ جميلة ... جميلة جداً جداً ... وعندما كنت أنظر اليكِ فكنت تبتسمى لي ... وتفرجى شفتيكِ الرقيقتين عن فمك الجميل الذي يخلو من العظام .. فكانت الابتسامة من فمك ينابيع حب و حنان و إنسانية ... حتى عينيكِ ... هل تدري يا حبيبتي ... ؟؟؟ :انهما أصفى و أنقى من ندى الفجر ... كنت أخاف عليهما من ان يعكرصفوهما عدم الصفاء الذي بعيني ... و فى بريق عينيكِ كانت تنتشى روحى بحضرة الملكوت السَنى ... و تبتسمى لي فأشعر بالبهاء النورانى يحتوى الكون فيملأ نفسى بالرضا الربانى ... ذلك كان كل شئ بالنسبة لي ... لم أكن أهتم بأي شئ في أي وقت ... للأنني لا أشعر بمرور الزمن و لا أعبأ بالحركة من والى أى مكان ... إلا حيث تكونين ... إلا أنني ذاهب اليكِ ... لكي اراكِ ... أحيانا أيقظك من النوم و أأخذك بين ذراعي ... و أدفن وجهي الجعد في صدرك الصغير و أتشمم رائحة اللبن المَقْشود على مريلتك فتأخذنى النشوى الى عالم فوقانى يحتوينا في الحب بالعطاء قبل الأخذ ... و تسرى الملاحة فى وجهى ... و احس بالقوة تدب في أوصالى و أنا أنظر فى عينيكِ ... يالي الصفاء .. و أي صفاء!!!

و بين ذراعي ماذا أحمل الاَن ؟ لا إبتسام ... لا تعبير ... لا جمال ... لا بريق ... لا نشوى ... لا صفاء... فقط الشتات والضياع فى التيه ...فقط الظلام الدامس الذى يغشى البصر والبصيرة ... علبة خشبية صفراء بين ذراعي ... من بداخلها ...؟؟؟ من الذي يتحمل ...؟؟؟ من الذي لا يتمزق ...؟؟؟ من التي ماتت ...؟؟؟

و يا ليتكِ وافتكِ المنية و انتِ بين ذراعي ... الغريب ... لا أدري ... قد سلموني إياكِ هكذا وقالوا لي: "تعالى إدفن عارك." وأعطوني اياكِ بالعلبة ... كيف تكون حبيبتى طفلتى هى عارى ...؟؟؟ كيف تكون طفلتى هى عار قبيلتى ...؟؟؟ كيف إجتمع كل أفراد القبيلة ليقيموا صروح رجولتهم وفحولتهم ومجدهم وشرفهم وعزتهم ومِنعتهم وكرامتهم ونقائهم على جثة طفلة لم تكمل شهرها التاسع من عمرها؟؟

- "هل تستطيعي الأبتسام ايتها العلبة الصماء...؟؟"
- "هل تستطيعي أن ...؟؟؟"
- "حتى أن ...؟؟؟"
- "تتخلي عن هذا الجفاء ...؟؟؟"
- العلبة الصماء ... بكماء ... عمياء ... خرساء ... لا تخرج منها قهقهة الطفلة ... ولا ينفذ منها و اليها النداء ...
- "هل تستطيعوا ان تكسرو العلبة الصماء ...؟؟؟"
- "لا ... لا تكسروها ... فهى تحفظ من تحّمل كل هزيمتى ... من تحّمل كل عارى ... من لُسِع بجليدى وإكتٌوِى بنارى ...من تحّمل كل انطوائى ... ومن دفع ثمن جبنى وإصطبارى "

وأخذت العلبة الى صدري وهى بين ذراعي ... ثقيلة كأثقال الأرض كلها ... غامضة كليل الشتاء الحالك السواد ... حافاتها تحف في صدري ... تجرحه ... تمزقه ... ولكن لا تسيل الدماء في المقبرة الظلماء من ثقل العلبة الصماء .. جرحته العلبة البكماء بغير دماء ...

وإضطررت أن انزل العلبة من بين ذراعي لأضعها على أرض المقبرة ... ومرة ثانية أشعلت عود ثقاب لأرى المكان ... وأرى مكان الصندوق ... و من جدار المقبرة طنت الحشرات ... تستعد للقاء القادم الجديد ... ومع دبيب الهوام وفحيح الأفاع وإفعاء البشر سمعت الصوت من الخارج قد إنتشر:

- "اخرج ايها الثمل كفاك شرباً من دماء موتى البشر... وكفاك مزاً بلحومهم ... كفى ... اخرج ... اخرج ..."

ثم فجأة أسراب من الذباب والجراد والهوام إكتسح المقبرة مع الريح الصرصر التى كانت تقتلع الرمال من منابتها ... هياج و ميج و طنين ورعد وزلزلة ... وكأن بأرض وسقف وحيطان المقبرة تقذف بأثقالها ... فصرخت كأنى اًرد على من هم بالخارج:
- "اَه ... صبراً ... لأرى ما لها ..."

وفجأة هوت بعض من قطع الطوب والحجارة مثيرة لغبار التراب المخلوط بحبيبات الرمال من فوهة المقبرة الى داخلها لأجد نفسى خارجها كأنها تهوعتنى كما تتهوع الأناكوندا فريستها الثقيلة المُرْهِقة. لأجد نفسى وحدى على فوهة المقبرة ... وحدي في المكان ... وحدى فى التيه ...لم أجد احداً... والذباب الأسود ذو العينين المحتقنتين.. يريد أن يلتهم ... يريد أن يأكل ... أن يشرب .. أن ... أن ... أن ... ليس من دم الأموات بل شبة الأموات ... وليس من دم الأحياء بل شبه الأحياء. فأسرعت الخطى فى الإنسحاب من و الى صحراء التيه والعذاب ... الى خيام قبيلتى حيث طنين الجنادب و عواء الذئاب.
"رمسيس حنا"



#رمسيس_حنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محاربة من ورق
- الطفل المشاغب وشجرة الطاعة (قصة قصيرة)
- الى أمى -شجرة السنديان المسافرة- (شِعر)
- طفل مشاغب فى أعياد الميلاد (قصة قصيرة)
- إنهم لا يفقهون – الى مينا دانيال (شعر)
- عندما تموت الجذور (قصة قصيرة)
- أحلام يقظة (شعر)
- خرجت لتزرع (شِعر)
- بداية وتوجس (شِعر)
- بعض من صور حبيبتى (شعر)
- الظهور - شعر -
- أنا و هى - (قصه قصيره) -
- قصيدة مجنونة -شعر- الى مايكل نبيل سند
- إيزيس وبلقيس وممفيس
- عربدة كاذبة - شعر -
- راحيل - شعر -
- عربدة السكون والصمت - شعر -
- خرجت ولم تعد - شعر -
- إختناق
- قبس من نور (إلي شهيد الكلمة د . فرج فوده )


المزيد.....




- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...
- افتتاح أنشطة عام -ستراسبورغ عاصمة عالمية للكتاب-
- بايدن: العالم سيفقد قائده إذا غادرت الولايات المتحدة المسرح ...
- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رمسيس حنا - -وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ- (قصة قصيرة)