أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين عاشور - جان دمّو .. أو ديوجين في حياةٍ أخرى














المزيد.....

جان دمّو .. أو ديوجين في حياةٍ أخرى


ياسين عاشور
كاتب

(Yassine Achour)


الحوار المتمدن-العدد: 4308 - 2013 / 12 / 17 - 15:50
المحور: الادب والفن
    


لمّا طُلب منّي تقديم مداخلة حول نصوص الشاعر جان دمّو , لم أفكّر لحظةً واحدة فيما وصلنَا من نصوص له , بل ذهب بي التفكير رأسًا إلى نصّه الأبدي , ذلك النصّ الذي لم يُكتب بالحبر , و إنّما بالدّم الحار . و قد جاء في سيرته المرويّة عن مجايليه أنّه كان يهزأ بكل قصيدة تُقرأ أمامه ، متوعدا الجميع بأنـه سيكتب القصيدة الكبرى , تلك القصيدة التي خُتمت في شوارع أستراليا , و وُقِّعتْ في قبرٍ عموديٍّ يسع ضيق أحلامه .
المتن في مسيرة جان دمّو حياتهُ , أمّا نصوصه المكتوبة فما هي إلّا هوامش مبعثرة بين الحانات و الأزقّة , تؤرّخ لمرور جسده النّحيل من ثناياها .
طوال حديث الأصدقاء عن حياة جان دمّو المربكة , دُفعت إلى إعادة التفكير في عقيدة التقمّص أو تناسخ الأرواح , ذلك أنّي رأيت طيف ديوجين الكلبي يحلّق بيننا هامسًا: أنا الذي حللت في جان دمّو روحًا كانت و لن تُنسى .
إذا كان ثمّة من مرجعيّة يمكن أن نستند إليها في قراءتنا لتجربة جان دمّو الحياتيّة , فهي قطعًا مرجعيّة ممثّلة في الفيلسوف اليوناني ديوجين الكلبي خاصّةً و في الفلسفة الكلبيّة عامّةً , و ‘الكلبيّة القديمة , على الأقلّ في أصلها الإغريقي , هي من ناحيّة المبدأ وقحة . و وقاحتها تضمّ منهجًا جديرًا بالاكتشاف ‘ (نقد العقل الكلبي – بيتر سلوترجيك ). .
تميّز جان دمّو بهذه الوقاحة الكلبيّة فلم يسلم من سلاطة لسانه أحد : أصدقاءه و مجايلوه من الشعراء و السلطة و العالم كلّه… إلخ
ديوجين الذي ‘ اعتزم أن يعيش كالكلب , و من ثمَّ سُميَّ بالكلبيِّ -;- و نبذ كلّ المواضعات التقليديّة , سواءً أ كانت خاصّة بالدّين أم بالآداب العامّة أم بالثياب أم بطريقة السكنى أم بالطّعام أم بطرق الاحتشام ‘ ( تاريخ الفلسفة الغربيّة – برتراند رسل). و لعلّه من اللّطيف أن نشير إلى مصنّف تراثي عربي طريف يحمل عنوان ‘ تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب ‘ لصاحبه ابن المرزبان المحولي.
و بمناسبة حديثنا عن جان دمّو باعتباره أحد شعراء الهامش الذين حُرموا من وميض البرق اللّامع في الأسماء , أنبّه إلى أنّ الفلسفة الكلبيّة تعتبر من فلسفات الهامش التي بخسها تاريخ الفلسفة نصيبها من الذكر أمام هيمنة المثال الأفلاطوني .
إذا علمنا بأنّ الكلبيّة هي فلسفة عمليّة بامتياز , و أنّ جسد الكلبيّ هو مدوّنته الحيّة , سندرك سرّ اشتغال جان دمّو على قصيدته الكبرى – أي جسده – انطلاقا من مصادرتنا القائلة بحضور المرجعيّة الكلبيّة في ذهنه , فهو المتشرّد و كذا كان ديوجين يعيش في نصف برميل محاطًا بالكلاب . و هو المتّسخ الرثّ المتهرئ الأشعث , و كذا سائر الكلبيين .
لقد كان بإمكان جان دمّو أن يعيش أفضل عيشة , أن يأكل في أفخر المطاعم , أن يشرب في أفخر الحانات , أن ينام في أوثر النزل مع أجمل الغانيات , لكنّه اكتفى بزجاجات النبيذ الرديء , و زهد في النّساء حتى اكتفى بالاستمناء , و فضّل الخيش على الدانتيل …
إنّ كلبيّة جان دمّو خيار لا اضطرار , حيث استطاع أن يجعل من جسده وثيقة رفض للعالم , فكانت حياته انتحارًا مؤجّلا . فهو لم يستعجل الموت بل ترك الأمر للطّبيعة , و في الأثناء يقوم بمهمّته المفضلّة : قول الحقيقة . ف’ داخل كلّ حضارة تجذّرت فيها مثاليات تجعل من الكذب أسلوبًا للحياة , ترتهن سيرورة الحقيقة بوجود أناس عدائيين و أحرار بما يكفي لكي يقولوا الحقيقة . ‘ ( نقد العقل الكلبي – بيتر سلوترجيك ) و لنا على سبيل التمثيل أن نستحضر موقفًا كلبيًا لجان دمّو , يستهدف من خلاله السلطة الثقافيّة و السلطة السياسيّة في آن . فقد استطاع ذات مرّة اقتحام محفل رسمي و البصق في وجه وزير الثقافة امام الحضور , و رغم محاولة السلطة استمالته فإنّه يرفض الوقوع في حبّها . كذا فعل ديوجين عندما حاول الاسكندر الأكبر استمالته . فأجابه بكلّ بساطة ‘ تنحَّ عن طريقي فأنت تحجب شمسي ‘ .
إنّ حياة جان دمّو هي قصيدته الكبرى و قصيدته هي حياته , لقد استطاع أن يذهب بالعبث إلى أقصاه و بالوقاحة الكلبيّة إلى منتهاها , قوّض العالم على رأس الأسياد المزيّفين , و أثبت نهايةً أنّ السيّد هو الذي لا يملك شيئًا و لا يملكه شيء .
عاش جان دمّو غريبًا و مات غريبًا فطوبى للغرباء .


ـ كُتبت هذه المداخلة المقتضبة بمناسبة إحياء ذكرى الشاعر العراقي جان دمّو في إطار التظاهرة الشهريّة تُنسى كأنّك لم تكُنْ لنادي الإبداع الأدبي . سوسة تونس .



#ياسين_عاشور (هاشتاغ)       Yassine_Achour#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشّعرُ يُنشدُ خافتًا
- غثيانٌ من وطأة الرّاهنِ
- الرّابطة العربيّة الأكاديمية للفلسفة
- محاكم التّفتيش السّراطيّة
- كلّ الهزائم لي
- فلسفة المعيش
- يوميات الخيبة
- أوّلُ الاغترابِ
- تشذّرٌ على هامِشِ النّسقِ
- العرّاف
- و هل تغيبين عنّي ؟
- مشروع ميثاق العمل الإسلامي - محمّد شحرور
- الإسلاميون و الكذبة المقدّسة : قراءة في أخلاق التدجين
- كنَعِيقِ البُومِ أو أتْعَسْ
- هَمْسُ البَرَاءَةِ
- سَعَةُ البَيْنِ
- فاتحةٌ لروايةٍ لمْ تبدأْ بعدُ
- الكينونةُ مأساةً و استحالةً


المزيد.....




- لتوعية المجتمع بالضمان الاجتماعي .. الموصل تحتضن اول عرض لمس ...
- -شاعر البيت الأبيض-.. عندما يفتخر جو بايدن بأصوله الأيرلندية ...
- مطابخ فرنسا تحت المجهر.. عنصرية واعتداءات جنسية في قلب -عالم ...
- الحرب في السودان تدمر البنية الثقافية والعلمية وتلتهم عشرات ...
- إفران -جوهرة- الأطلس وبوابة السياحة الجبلية بالمغرب
- يمكنك التحدّث لا الغناء.. المشي السريع مفتاح لطول العمر
- هل يسهل الذكاء الاصطناعي دبلجة الأفلام والمسلسلات التلفزيوني ...
- فيلم جديد يرصد رحلة شنيد أوكونور واحتجاجاتها الجريئة
- وثائقي -لن نصمت-.. مقاومة تجارة السلاح البريطانية مع إسرائيل ...
- رحلة الأدب الفلسطيني: تحولات الخطاب والهوية بين الذاكرة والم ...


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسين عاشور - جان دمّو .. أو ديوجين في حياةٍ أخرى