|
مُصالَحة ُ الإيمان مع العقل – الممكن الضروري.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4306 - 2013 / 12 / 15 - 01:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لكل ِّ علم ٍ موضوع ٌ محدَّد يبحث فيه، يتشعب إلى جزئيات ٍ كل ٌّ منها قد يكون لوحده ِ موضوعا ً هائلا ً فيه المعاليم و المجاهيل، و تنبثق عن دراسته الحقائق أو الظنيات المُحتاجة للتحقيق بُغية َ إصدار حكم ٍ بالاعتماد أو باستكمال الدراسة. و لكل ٍّ علم ٍ أدواتُه و منهجُه ُ و هدفُه، و قدرتُه على إلقاء ضوء ٍ من زواية معينة على منحى من حياة الكون و الكوكب الأرضي و الإنسان و البيئة بكل ما فيها، لتكوين صورة أكمل لماهية الأشياء و علاقاتها و القوانين التي تحكم هذه الماهية و تلك العلاقات.
لكن الأصعب بالقطع هو "علم الإيمان"، و أُسميه عِلما ً من جذر الفعل العربي "عـَلـِم َ" و هو يُفيد "المعرفة" فبالإيمان يُعلن المؤمن أنه يعرف أشياء ً معينة عن الحقيقة، و يمشي على ضوء منهج ٍ ترسمه هذه المعرفة الإيمانية التي تحكم عقله و أحاسيسه و حياته، و تحدِّدُ أُطر علاقاته مع محيطه و تفاعلاته و ترسم شكل توجهه المستقبلي و بواعث سلوكِه، و تتعدى كل هذا إلى عالم ِ ما بعد َ توقف جسده عن العمل مستمرة ً في رسم مصير ِ "روحِه" المتحررة من قيد الجسد.
و على الرغم من العرض المُغري الذي يقدمه "علم الإيمان" للإنسان الذي هو بطبعه كائن ٌ مُستزيد غير قنوع، هذا العرض الذي لا يضمن له فقط عناية ً إلهية ً على هذه الأرض، و معرفة ً كشفية ً فريدة ً، ثم بقاء ً خالدا ً لا نهاية َ له، إلا أنه في حد ذاته مُثقل ٌ بتركة ٍ التاريخ و الخبرة و منافسة العلوم الأخرى. هذه التركة التي تفرض نفسها واقعا ً يُناقض في ذاته كل ما يحمله الإيمان و ما يبني عليه أساساتِه و يجعل منه فريدا ً، أي أن الإيمان يحمل في نفس ذاتِه أسباب نقضِهِ و بُطلانِه، لكنها تبقى تحت سطح ِ الماء الساكن ِ حتى يطوف َ به جناحا التاريخ و العلوم، فيهتز َّ السطح و يُخرِج َ ما تحته.
للتوضيح نقول أن العلوم الأخرى هي إما 1. طبيعية علمية تهدف إلى فهم ظواهر موجودة في الطب أو الكيمياء أو الفيزياء أو أي علم ٍ آخر، و تستطيع ُ وصفها و تبيان أسباب حدوثها، و قياسها، و إعادة إنتاجها، أو على الأقل التنبؤ بسلوكها حين يستحيل إعادة الإنتاج كالظواهر الفضائية مثلا ً 2. أو تاريخية تهدف إلى الاستدلال على أحداث الماضي و التوثق من روايتها و إعادة سردها بالتركيب العلمي المُثبت بالكشوفات الأثرية الأركيولوجية.
و بينما يمكن تطبيق العلم التأريخي على العلوم الأخرى لإثبات وجودها و نشأتها و صحة منهجها في مرحلة ما أو خطئه، أو تطبيق العلوم الأخرى لدراسة الحقب التأريخية و تحديد أعمار الأحافير و غيرها، لا يمكن أبدا ً استخدام أي علم ٍ من العلوم في إثبات حقيقة الإيمان و العقائد أو قياسها أو إعادة إنتاجها أو التنبؤ بدورها في مشكلة ٍ عالمية تنتظر الحل مثل البطالة أو الفقر أو الجوع أو المرض أو استهلاك المصادر.
و تتفاقم المشكلة أكثر عندما نُدرك أن علم الإيمان يُعطي نفسه الحق في التدخل في باقي العلوم الأخرى، فهو يتكلم في مواضيع من اختصاص علوم الفضاء و التطور و الكيمياء و الفيزياء و الطب الفلسفة و القانون، و يطلب ُ كرتا ً أبيض َ من الفرد لكي يهيمن َعلى فضائه المعرفي كاملا ً و يصيغ َنظرته للحياة و شكل علاقاته و يتربع َ على مركز ِ الإدارك و الفهم و يُصدر الأحكام و يُنتج َ السلوك.
و تفرض ُ المشكلة نفسها بشكلها النهائي عندما يبرز تناقض ُ المعرفة العلمية ِ المُثبتة مع الطرح الإيماني الذي لا يستطيع ُ أن يأتي بالدليل على صحته من جهة، و مع عدم منطقية أو جدوى التشريع الديني العباداتي المعاملاتي الجامد من جهة ثانية في غُربته و انفصاله عن القرن الحادي و العشرين، و مع إصرار المؤسسة الدينية على استدامة نفس الخطاب أو تغيره لكن بالاحتفاظ بنفس المحتوى من جهة ثالثة.
و تفرض ُ هذه المواجهة ُ نفسها على الفرد لاختبار مصداقيته و تحديد مقدار اتزان هويته و قدرته على التعامل مع عالمين يشكلان واقعه لا يستطيع الاستغناء عن أي منهما، أحدهما الذي صنع له الحاسوب و السيارة و الثلاجة و الغذاء و الدواء، و الآخر الذي يمدُّه بالثقة في عالم أفضل و عناية ٍ إلهية و يُعطي معنى لغموض هذه الحياة و تفسير ٍ لعبثيتها إن غاب هذا الآخر الإيماني الفريد.
لقد تربينا جميُعنا بدون استثناء على "الذرائعية" بمعنى أننا تعلمنا من والدينا و مدارسنا و مجتمعنا أن كل موجود له سبب، فالشمس موجودة لكي تُعطي الدفء للبشر و الطاقة للنباتات للنمو، و المطر موجود لكي يروي الزرع، و الزرع موجود لكي يأكله الإنسان و يعيش، و الإنسان موجود لكي يسبح الله و يحمده و يتعرف إليه و يعبده، و الله موجود لانه واجد و وجوده واجب الوجود بحد ذاته و بصفة وجوبه و بضرورتها، و كفى بهذا جوابا ً!
في الإيمان نكبر على الأمل و الرجاء بما لا يُرى، و نسعى نحو الأفضل و التكامل البشري، و نستطيع أن نجد الدافع للاستمرار اليومي الحياتي، و نتعزى عن عبثيات نتائج التفاعلات البشرية و المُجتمعية السلبية، و نُخفِّض من مستويات الغضب و اليأس و الحنق على الظلم الموجود في العالم و الشر المُستمر على هذا الكوكب الصغير، على رجاء ِ حياة ٍ قادمة ٍ أفضل يتفنَّن ُ كل َّ دين ٍ في ادعاء معرفة كُنهها و شكلها و رسمها لنا.
في الإيمان نثق بالكائن الأعلى الأذكى المُحب ِّ الأنقى، و نستسلم ُ ليده الحانية ِ المُحبة و نستطيع أن نثق بالعلم الطبيعي و التأريخي ما داما الاثنين من يدهِ المصدر المُعطي كل خير، و نستطيع أيضا ً أن نُلغي التناقض بين العلم الطبيعي أو التأريخي و بين الإيمان حين نعترف ُ لأنفسنا أن نصوصنا الدينية هي حصيلة الفضاء المعرفي و الخبراتي العلمي لذلك الزمن و لأولئك الكُتَّاب، و أن الحقائق الإلهية هي اختبارات ُ الإنسان عن الله مع لمسة ٍ خفيفة من إصبع الله لا ينبغي تحميلها أزلية الحقيقة، و أن الشرائع و التشريعات و النواميس هي بشرية ٌ بحتة لتنظيم مجتمعات ٍ لم تكن قد وصلت إلى تعقيد مجتمعاتنا الحالية و نُظُمِها المُتكاملة الغنية عن تُراث ٍ عتيق ٍ لا يستقيمُ مع هذا الزمان و لا ينفعه و لا يُضيف إليه لكن يُعطـِّلُه ُ و يمنع تطوره الطبيعي.
نحن بحاجة إلى نظرة جديدة إلى الدين، نظرة َ اعتراف ٍ باليد البشرية كصانع ٍ أول، و باللمسة الإلهية كمحور ٍ جاذب ٍ و يد ٍ مُوجِّهة ٍ خفيفة، يد ٍ غير مُفسدة للبشري لكن مُعينة ٍ له، و هذه قطعا ً مُهمَّة ٌ صعبة تقتضي إعادة دراسة كل النصوص و تحليلها و هدم ما تعلق بها من مفاهيم و بناء حقائق إيمانية جديدة، و فتح المنظومة الاعتقادية كاملة ً نحو إعادة تشكيل و صياغة و توزين لعناصر الفعل، حتى يرتسم الإيمان ُ أمامنا كوعاء ٍ معنى كوني لما يُثبته العلم باختباراته و قياسه، فتنسجم حقيقة ُ الإثبات العلمي مع حقيقة اشتياق النفس ِ للكائن الأعلى.
هاتان الحقيقتان اللتان هما واحد.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قيمة الإنجيل الحقيقية – لماذا المسيحية كخيار؟
-
حوار مع الله – محاولة للفهم
-
من سفر الإنسان – سيد السبت
-
قراءة في التجديد الديني – حتميته من بواعثه.
-
عن نلسون مانديلا – من سجن جزيرة روبين
-
عشتار – 3 - القَيُّومة
-
متى يذوب ذاك الثلج في بركاني
-
عشتار – 2 – ثتنائية جوهر الألوهة
-
عشتار – 1 - الله و الشيطان.
-
قراءة من سفر الحب الإلهي– تأمل صباحي
-
اللذة - إنسانيتنا عندما تغتالها الآلة التسويقية.
-
هلوسات ما قبل النوم – من أصبحنا؟
-
قراءة من سفر التطور – من الكرومانيون حتى اليوم.
-
قراءة من سفر هوشع – تأمل قصير
-
سيداو في العقل العربي الذكوري – عيون ٌ على الأفخاذ و ما بين
...
-
من سفر الإنسان - المرأة
-
عن الدكتور حسن و الدكتور سامي – ثروة العقول العربية
-
من سفر الإنسان – ما هو الحق؟
-
من سفر الإنسان - عشتروت
-
من سفر الإنسان – الإنسان
المزيد.....
-
الاحتلال يعتقل مواطناً من قرية فرخة غرب سلفيت
-
الإمارات تدين اقتحام باحات المسجد الأقصى وتحذر من التصعيد
-
عبارة -فلسطين حرة- على وجبات لركاب يهود على متن رحلة لشركة ط
...
-
رئيسة المسيحي الديمقراطي تريد نقل سفارة السويد من تل أبيب إل
...
-
هل دعا شيخ الأزهر لمسيرة إلى رفح لإغاثة غزة؟
-
-في المشمش-.. هكذا رد ساويرس على إمكانية -عودة الإخوان المسل
...
-
أي دور للبنوك الإسلامية بالمغرب في تمويل مشاريع مونديال 2030
...
-
قطر تدين بشدة اقتحام مستوطنين باحات المسجد الأقصى
-
-العدل والإحسان- المغربية: لا يُردع العدو إلا بالقوة.. وغزة
...
-
وفاة معتقل فلسطيني من الضفة الغربية داخل سجن إسرائيلي
المزيد.....
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
المزيد.....
|