أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - بيتهوفن - عبقري الموسيقى الأصم















المزيد.....



بيتهوفن - عبقري الموسيقى الأصم


محمد زكريا توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 4291 - 2013 / 11 / 30 - 10:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    



"الموسيقى التي سمعناها حتى الآن، جميلة. لكن الموسيقى التي لم نسمعها بعد، أجمل وأجمل". الشاعر "كيت"

"لودفيج فون بيتهوفن" (1770-1827م)، هو أهم مؤلفي الموسيقى الألمان، الذين ظهروا في العصر الذهبي للموسيقى الألمانية. ملامح وجهه، من الصعب نسيانها. تنم عن جدة وحدة وعواطف جياشة مكبوتة.
http://www.gramophone.co.uk/sites/gramophone.co.uk/files/imagecache/gallery_main_image/Beethoven%20Free%20CROPPED.jpg

حكايته، تبدأ من نفس البداية المعروفة. طفولة بائسة، تتسم بالجهد والعرق. صراع مرير ضد ظروف غير مواتية وغير رحيمة. جده الهولندي، كان يعمل في شبابه، قائد أوركسترا في فرقة موسيقى عسكرية بمدينة "أنتويرب" في بلجيكا. كان الجد، في نفس الوقت، يعزف على آلة الأورغن في كنيسة "سانت جاك".

بعد ذلك، انتقل الجد إلى ألمانيا عام 1770م. استقر في مدينة بون، في الوقت الذي ولد فيه "لودفيج". الأب كان يعمل مغني "تينور"، لكنه من النوع الذي لا يصلح لشئ، أينما توجهه لا يأتي بخير. لذلك فقد وظيفته، ولم يبذل أي جهد للعناية بأسرته.

لكن الجد، حاول المساعدة بقدر ما يستطيع. وكان الصغير "لودفيج" هو تسليته الوحيدة. لكن للأسف، الأيام الحلوة لا تدوم. مات الجد، وبيتهوفن لم يبلغ من العمر سوى 4 سنوات.

الأم الطيبة الصبورة، لم تدخر جهدا. فعلت كل ما في وسعها، لكن الأسرة كانت تزداد فقرا يوما بعد يوم. كانت تمر بهم أيام سوداء. شقاء وجوع، في هذا المسكن الكئيب بمدينة بون.

الأب، كان في حزن ويأس دائمين، لكن جاءته يوما، فكرة عظيمة. كان قد سمع عن عائلة "موزارت" وابنهما الصغير المعجزة. وكيف كان الأب يطوف بابنه بلاد كثيرة في أوروبا، لكي يعزف "ولفجانج" ويبهر الملوك والأمراء.

إذا كان "موزارت" الصغير معجزة، ف"بيتهوفن الصغير"، يمكن أن يكون معجزة. لماذا لا يستغل نبوغ ابنه المبكر، في إعالة الأسرة وتغطية مصاريفها. وعلى الفور، بدأ الأدب في إعطاء ابنه الصغير البالغ من العمر خمس سنوات، دروسا في الموسيقى والعزف على آلة الهارب.

كان الأب يجبر الطفل الصغير على التمرين ساعات كثيرة، في الليل والنهار. متناسيا حقه في اللعب والنوم. حتى جعل الصغير "لودفيج" يكره الموسيقى، وأي شئ يمت إليها بصلة.

لحسن حظ "بيتهوفن"، والإنسانية أيضا، فكر الأب في الاستعانة بمدرس خصوصي جيد، لمساعدة في تعليم ابنه. بدأ الطفل يتحسن شيئا فشيئا، ثم سريعا. وبدأ يحب الموسيقى.

حبه الأول، كان لآلة الأورغن. لذلك، سمح له بالدراسة مع "نيفي"، عازف الأورغن للبلاط. كان هناك أيضا راهب في دير بالقرب من مسكنهم، أبدى اهتمامه بالطفل، وقدم له مساعدات كثيرة.

لكي يتبع "بيتهوفن" خطى "موزارت"، أخذته أمه وهو في سن العاشرة، إلى جولة في هولندا. أقام هناك حفلات موسيقية في عدة مدن. لكن النقود التي حصل عليها كانت قليلة، والرحلة كانت كيئبة. لا بهجة فيها ولا سعادة.

عند عودته، قرر أن لا يذهب إلى هولاندا مرة ثانية. في نفس الوقت، كانت ثقته في نفسه ومهارته الموسيقية، تزداد يوما بعد يوم. وكان في أحيان كثيرة، يأخذ مكان "نيفي" في العزف على آلة الأورغن بالكنيسة.

في سن الثانية عشر، ألف بعض السوناتات الموسيقية. وكان يسمح له بالعزف على الهارب في دور الأوبرا. لكنه لم ينس دراسته المدرسية. كان يجيد اللغة الألمانية والفرنسية واللاتينية والإيطالية.

"بيتهوفن"، رومانسيات كمان رقم 2.
http://www.youtube.com/watch?v=GQC9UTvoVpU

بينما كان يدرس ويؤلف ويعزف، سنة وراء سنة في بون، كانت رغبة في مقابلة "موزارت" المعجزة، تزداد يوما بعد يوم. في عام 1787م، رتب له بعد الأصدقاء، رحلة إلى فيينا.

هناك، قابل المايسترو "موزارت"، "بيتهوفن" الشاب استقبالا حسنا. بعد أن استمع "موزارت" لعزف "بيتهوفن" لقطعة موسيقية من تأليف موزارت، طلب منه أن يرتجل العزف.

أي يعزف بدون نوته ما يحلو له. بدأت أصابع "بيتهوفن" تداعب مفاتيح البيانو في مهارة وسهولة. وإذا بالغرفة تمتلئ بالموسيقى العذبة الرائعة.

دهش "موزارت"، استغرق في السماع، ثم مال على أحد الأصدقاء، وقال له: "خلوا بالكم من هذا الشاب. لأن سيطه سوف يملأ العالم يوما ما".

بينما كان في فيينا، جاءت الأخبار الغير سارة، أن والدته مريضة جدا. أسرع في العودة. الرحلة كانت طويلة وشاقة جدا. لكن الأم، الوحيدة في هذا العالم، التي كانت تفهمه وتقدر عواطفه، توفيت. ظل يبكيها ويقول: "كانت تسمعني عندما كنت أناديها وأقول يا أمي. فمن أنادي اليوم؟"

تصرفات الأب كانت تزداد سوءا يوما بعد يوم. وكان "بيتهوفن" يتولي الإنفاق على البيت. وبالرغم من ذلك، كان دائم العطف على والده. وكان يغضب بشدة، إذا أساء إليه أحد، أو وجه إليه إية إهانة.

عاد "بيتهوفن" إلى "بون". هناك بدأ في إعطاء دروسا في الموسيقى. لحسن حظه، كانت التلاميذ من عائلات محترمة غنية. كان غريب الأطوار بعض الشئ، لكن هذا لم يكن يمنع الناس من التقرب له وطلب صداقته.

من معجبيه في مدينة "بون"، كان الثري الكونت "والدشتين"، الذي كان يقدم خدماته له بصفة مستمرة. في الوقت المناسب، أهداه بآلة بيانو فخمة، كان في أمس الحاجة إليها.

مدام "فون بروننج"، كانت بمثابة أم ثانية له. كانت تفهم صمته جيدا، عندما كان يمر بحالة تأمل وإلهام. قادته لمعرفة أدب شيكسبير وميلتون وجويه. كانت تراقب نموه الثقافي عن كثب.

مرت السنون وهو في مدينة "بون". في سنواته الأخيرة، عندما أصابه الصمم والشقاء، كان يتذكر هذه الأيام ويعتبرها أسعد أيام حياته. ظل في بون، حتى وفاة والده عام 1792م.

قرر بعد ذلك، الذهاب إلى فيينا، أكبر مركز للموسيقى في ذلك الوقت. أحضر معه شهادات تذكية، من أعلام مشهورين في بون. فتحت له أبواب النبلاء. حاول الدراسة مع "هايدن"، لكنه لم يعجب بطريقته.

بحث عن أساتذة آخرين. بالرغم من أنه كان يقول، لم أتعلم من "هايدن" شيئا، إلا أنه كان معجبا بموسيقاه في سنواته الأخيرة. لكن موسيقى "موزارت" هي التي كان يعشقها، ويفضلها على أية موسيقى أخرى.

آلة البيانو أصبحت الآن هي البديل لآلة الهارب في المنازل. وبات استخدام البيانو، كآلة مصاحبة، للأغاني وأنغام الأوبرا والمقطوعات الصغيرة، هي الموضة تلك الأيام. كان "موزارت" و"بيتهوفن"، هما من أوائل عازفي البيانو المشهورين.

بدأت شهرة "بيتهوفن"، كعازف بيانو، في الانتشار في فيينا. كان يدعي بصفة مستمر في الحفلات الموسيقية كضيف شرف. كان لشخصيته سحر مغناطيسي.

ما أن يدخل في مكان، إلا ويعرف الجميع قدومه. حفلاته الخاصة في أي مكان، كانت بهجة للسامعين. ارتجالاته الموسيقية كانت أكثر من رائعة.

"فالنتينا ليزيتسا" تعزف على البيانو جزءا من سوناتا 57 "لبيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=xz7usUEPWsc

الأمير "ليشنوفسكي" وزوجته الساحرة، كانا يعيشان في ذلك الوقت في فيينا. كانا محبان للموسيقى، لهما أوركسترا خاص بهما، ملحق بالقصر.

كانا منبهران بالشاب غريب الأطوار "بيتهوفن"، يرجوانه الالتحاق بالعمل في البلاط. قبل "بيتهوفن" العرض، بشرط أن يعفى من التقاليد والرسميات والالتزام بالإيتيكيت.

ربما كان من الأفضل، عدم إلزامهم بهذا الشرط. لأنه كان في أمس الحاجة، لهندمة وتلميع ملبسه وسلوكه لمثل هذه المناسباب. قضى "بيتهوفن" في قصر الأمير، وتحت رعايته، سبع سنوات. يقود الأوركسترا ويؤلف الرباعيات ويحي الحفلات، التي تقام كل يوم جمعة في القصر.

خلال نفوذ الأمير وزوجته، بدأت شهرة "بيتهوفن" في الإزدياد شيئا فشيئا. بعد موت "موزارت" المبكر، أصبح "بيتهوفن" هو عبقري الموسيقى الأوحد، الذي تتمكز فيينا حوله.

بعد أن أطبقت شهرته الآفاق، كان لزاما عليه أن يظهر أمام العامة. لذلك، قرر ترك بلاط الأمير، والعمل بمفرده. المستقبل، يبدو ملئ بالأمل والرجاء.

لكن، كما نقول نحن: "المؤمن مصاب". أو كما تقول الرواية، أن أحد المعجبين قال ل"موزارت"، بعد أن أبدع في عزفه: "على رسلك. لو ظللت تعزف هكذا، ستموت مبكرا. فالآلهة لا تحب المنافسة". ها هو بطل قصتنا "بيتهوفن"، وهو في قمة مجده، يصاب بالصمم.

السبب، يرجع إلى عدم اهتمامه بصحته في معظم الأحوال. ففي أحد الأيام، عندما كان يكتب الموسيقى في أحد الحدائق، أمطرت السماء. لكنه كان مستغرقا في التأليف، غير عابئ بالسيول المنهمرة، حتى أصبح غير قادر على الكتابة على الأوراق المبللة. أصيب في ذلك اليوم بالبرد، الذي نتج عنه الصمم.

ذهب إلى طبيب بعد طبيب للعلاج. لكن بدون فائدة. الصمم يزداد يوما بعد يوم. لم تعد أعلى أصوات الأوركسترا أو هدير موجات التصفيق الحاد تصله.

"بيتهوفن" رجل خجول. في البداية، سبب له المرض إنهيارا كليا. لأنه لا يريد أن يعرف عنه جمهوره أنه أصم. أخيرا، باح بسره لتلميذه "رايز"، عندما كانا يقضيان أجازة سويا في الغابة. ولم يعد يسمع موسيقى زقزقة العصافير وأغاني الرعاة.

في وحدته القهرية هذه، كرس نفسه أكثر وأكثر للموسيقى. أصبحت تملأ قلبه وعقله، ولم تدعه يستريح. هذه الفترة، وهذه الروح، هي التي جعلت منه "بيتهوفن"، ووضعته في مكان أعلى من كل أساتذة الموسيقى الذين سبقوه.

قال في يوم من الأيام: "من يستطيع أن يغوص في روح موسيقاي، سوف يعلو ويسمو فوق آلام هذا العالم". في الواقع، موسيقى "بيتهوفن" تمثل متعة حقيقية وصداقة فريدة للموسيقى.

من أجمل أعماله الآتي: أوبرا "فيديليو". اللحن الديني (oratorio) "جبل الزيتون"، الذي يضاهي في الجودة أعمال "هايدن" و"هاندل". لحن القداس في (D). إفتتاحيته الموسيقية، "إيجمونت و كوريولانس". رباعياته الوترية. وأغانيه الرائعة.

قداس "بيتهوفن" مع ترجمة إنجليزية.
http://www.youtube.com/watch?v=gGNthTj3Hzk

كل الموسيقيين الكبار لحنوا أوبرات، لماذ لا يلحن هو الآخر أوبرا؟ لذلك، جاءت أوبرا "فيديليو". هناك في حدائق "شونبرون" الإمبراطورية، مقعد بين أشجار البلوط، كان يجلس عليه "بيتهوفن"، وهي يكتب نوتة ألحانها.

أوبرا "فيديليو"، تختلف عن باقي الأوبرات، في أن لها أربع إفتتاحيات. قال عنها "شوبرت"، أن كل منها أجمل من الذي سبقه. النص الشعر الأسباني للأوبرا، يصف قصة زوجة مخلصة. تتخفي لكي تنقذ حياة زوجها النبيل المسجون.

الألحان مليئة بالعذوبة. تعتبر من أحسن الألحان الغنائية التي ظهرت على المسارح. لكن الأحداث عادية. لذلك، مشاهدة الأوركسترا وهو يقوم بعزف ألحانها، أكثر متعة من مشاهدتها حية على المسرح.

إفتتاحية "فيديليو" ل"بيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=v0Avp2Z9XS4

المسكين "بيتهوفن"، بذل قصارا جهده في البروفات لأول عرض. لكنه لم يكن يستطيع سمع الأخطاء والنشاز في الأداء. وكان في حالة غضب وألم نفسي بسبب الصمم، مما جعله يلقى عصاه على الأرض.

إذا أردنا حقا أن نعرف موسيقى وأسلوب "بيتهوفن"، سوف نجدهما في السوناتا والسيمفونيات التي قام بتأليفها. السوناتا، عبارة عن قالب موسيقي يحوي ثلاث أقسام رئيسية : العرض، التفاعل، المرجع.

حركاتها بالترتيب: سريع، بطئ، سريع. كلمة سوناتا، تعني إصدار الصوت من آلة موسيقية (أو أكثر). "كونتاتا"، تعني الغناء بالصوت البشري. في الواقع، السوناتا هي سيمفونية مصغرة.

في هذه القوالب، بين "بيتهوفن" كل الأمزجة والإنفعالات، التي يمكن أن يمر بها الإنسان. إنتقاله من حالة مزاجية إلى حالة مزاجية أخرى، يتم بسهولة متناهية وعبقرية فذة.

لكن، أيها يمكن أن نختار لهذا المقال؟ التذوق الموسيقي يختلف من شخص لشخص. ما يعجني، ليس بالضرور هو الذي يعجب القارئ؟ فهل نختار سوناتا 17 للبيانو (العاصفة)، أم السوناتا البهيجة (E flat major)، أم سوناتا "ضوء القمر"؟

في أحد الليالي القمرية، كان "بيتهوفن" وصديق له، يتجولان في شوارع فيينا المظلمة. توقفا أمام منزل، يصدر منه لحن سوناتا من تأليف الأستاذ. قال "بيتهوفن" لصديقه، دعنا ندخل".

عندما دخلا بدون إذن للمنزل، وجدا شابا اسكافي يجلس ويقوم بصناعة زوج أحذية. بجواره، فتاة عمياء تعزف على آلة هارب قديمة. اتجه كلاهما للقادمين، فقال "بيتهوفن": "عذرا لتطفلنا، لكنني سمعت الموسيقى. فهل تسمحا لي بالعزف لكما؟"

جلس "بيتهوفن" على آلة الهارب، وبدأ العزف. ترك الشاب الحذاء الذي في يده. مالت الفتاة العمياء إلى الأمام لكي تركز على تتبع النغمات التي تنساب في الغرفة.

بعد فترة قصيرة، ارتعش لهب الشمعة الوحيدة، ثم انطفأ نورها وعم الظلام الدامس. أسرع الشاب بفتح النافذة. فغمر ضوء القمر كل أرجاء الغرفة. الموسيقى أصبحت أكثر وهجا وإشراقا. الآن، ترقص الحوريات، وجنيات الماء، وربات الفن والشعر والعلوم التسع، في ضوء القمر الساحر.

سوناتا ضوء القمر ل"بيتهوفن"، عزف "فالنتينا ليزيتسا".
http://www.youtube.com/watch?v=OsOUcikyGRk

لعبت الموسيقى برأسي الأخوين، وأصابتهما بالدوار. عندما توقف العزف، صاحت الفتاة بالنشوة قائلة: "أنت بيتهوفن". ثم ترك بيتهوفن مقعده، وودع مضيفيه، وهرول عائدا لمنزله لكي يكمل سوناتا ضوء القمر للبيانو.

السيمفونية، عمل رائع موسيقى، يقوم بأدائة مجموعة هائلة من الآلات الموسيقية والأصوات البشرية. وضع أصولها، "هايدن" و"موزارت". لكن خيال "بيتهوفن" بالنسبة للسيمفونية، فاقهما. رفع "بيتهوفن" السيمفونية، إلى آفاق أعلى وأرقى، غير مسبوقة. في الواقع، السيمفونية هي الدليل الحقيقي على عبقرية وسمو "بيتهوفن" في عالم الموسيقى.

هو يعرف جيدا، وهو يؤلف للسيمفونية، كيف يفاجئ المستمع. قام باستبدال الألحان الراقصة في سيمفونيات "هايدين"، بألحان تملأها البهجة والسعادة. سيمفونياته التسع، مثل إلهات الشعر والفن والعلوم التسع، "الميوزات". سوف نذكر بعضها هنا.

السيمفونية الثالثة، "إرويكا"، كانت دائما هي سيمفونيته المفضلة. كان مهتما بأحداث عصره. حبه لفلسفة أفلاطون، جعلته متحمسا لكل الأفكار التي جاءت في كتاب الجمهورية لأفلاطون. لذلك، كان معجبا بنابليون بونابرت وأفكار الثورة الفرنسية.

سيمفونيته "إرويكا"، تبين النضال من أجل الحرية. ألفها تكريما لاسم "نابليون". قبل نشرها، علم أن نابليون أعلن نفسه إمبراطورا على فرنسا. صعق "بيتهوفن" وشعر بخيبة أمل كبيرة. غير رأيه، وقرر إهداء السيمفونية إلى الأمير "لوبكوفيتز".

السمفونية الثالثة (إرويكا)، لبيتهوفن.
http://www.youtube.com/watch?v=InxT4S6wQf4

السيمفونية الخامسة، هي الأخرى تمثل نضال الإنسان من أجل الحرية، المتوج بالنصر في النهاية. كان الشاعر "جوته"، يتأثر بهذه السيمفونية أكثر من أي عمل آخر.

كاتبنا المسرحي العظيم، توفيق الحكيم، كان مغرما بهذه السيمفونية إلى درجة كبيرة جدا، ويعتبرها من أحسن أعمال "بيتهوفن". اقتبس محمد عبد الوهاب منها جزءا في أغنيته، "أحب عيشة الحرية".

السيمفونية الخامسة لبيتهوفن.
http://www.youtube.com/watch?v=GZxN57CC_AA

عندما كتب "بيتهوفن" موسيقى السيمفونية السادسة (الريفية)، كان يستمد ألحانها من الطبيعة والمراعي والحقول، التي كان يحبها حبا جما.

زقزقة العصافير، خرير المياة في الغدير، حفيف أوراق الشجر يداعبها النسيم، أشعة الشمس الذهبية، تتسلل بين الأغصان لكي تفرش أرض الغابة بالدنانير، كما يقول شاعرنا الرائع المتنبي:

غَدَوْنَا تَنْفُضُ الأغْصَانُ فيهَا--- على أعْرافِهَا مِثْلَ الجُمَانِ
فسِرْتُ وَقَدْ حَجَبنَ الحَرّ عني--- وَجِئْنَ منَ الضّيَاءِ بمَا كَفَاني
وَألْقَى الشّرْقُ مِنْهَا في ثِيَابي--- دَنَانِيراً تَفِرّ مِنَ البَنَانِ




ثم الغيام والعاصفة والمطر، تطل على المشهد. يتبعها الهدوء ورضاء الطبيعة وشروق الشمس الذهبية. المصحوب بالبهجة وأغاني الرعاة الجميلة.

إذا كنت حديث عهد بالموسيقى الكلاسيكية، فهذه هي السيمفونية التي تبدأ بها. جميلة ورقيقة ومهدئة للأعصاب. لا تحتاج لخبرة مسبقة لسماع الموسيقى الكلاسيكية. تصلح للعلاج النفسي والكآبة بعد سماع نشرات الأخبار هذه الأيام.

حاول تتبع آلة واحدة، ثم إثنتين، ثم ثلاثة، إلى أن تستطيع تتبع كل الأوركسترا. لاحظ كل آلة، متى تعلو ومتى تنخفض، ومتى تسرع ومتى تبطئ، ومتى تبدأ ومتى تختفي، ليحل محلها أخرى من نوعها أو من نوع آخر.

حاول تتبع اللحن الأساسي، ومتى يتكرر في كل حركة. وما هي الألحان المساعدة. وكيف تتفاعل وتتعارض وتتحد. لاحظ المفاجآت، وقرعات الطبول والنغمات الحادة التي تمثل الأنوثة، والغليظة التي تمثل الذكورة، وهكذا.

تذوق الموسيقى الكلاسيكية، يحتاج إلى تدريب وسنوات طويلة من الإستماع. لكن النتيجة مضمونة. آفاق جديد من المتعة والبهجة، بدون خروج على القانون أو أعراض جانبية.

السيمفونية السادسة (الريفية) ل"بيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=6w-oEQ_QqGA

الطريقة الوحيدة للتخلص من عبودية "النفس"، عند الفيلسوف "شوبنهاور"، هي الموسيقى. لكن الموسيقى أنواع. بالطبع لم يقصد "شوبنهاور" الموسيقى الشبابية. من نوع "بوس الواوا" و "خليها تاكلك".

فقط الموسيقى بدون كلمات وبدون تصور، أي الموسيقى التأملية. هذه الموسيقى تجعلك تهرب من هذا العالم إلى النقاء والصفاء والنيرفانا. هدف يجاهد في تحقيقة أفلاطون وبوذا والصوفيون. منذ أمد بعيد.

السيمفونية التاسعة (الكورالية)، من ناحية الصياغة، بلغت قمة التأليف الأوركسترالي. ويبدو أنها سوف تظل كذلك بين كل روائع المؤلفات الموسيقية الكلاسيكية.

سيمفونية "بيتهوفن" التاسعة بقيادة "بيرنشتين". لاحظ حجم الأوركسترا.
http://www.youtube.com/watch?v=8xPuSzvCSQA

السيمفونية التاسة، هي صورة لحياة "بيتهوفن". آلامه وصراعة مع الحياة، أيام سعادته، آماله. يختتم هذا العمل الجبار بترنيمة شكر وتمجيد للخالق، ليس لها مثيل في عالم الموسيقى الذي نعرفه.

عزفت أول مرة في فيينا عام 18821م. قام بدعوة البلاط للحضور. كل فيينا كانت هناك. قام بقيادة الأوركسترا بنفسه. كان يلبس معطفا أخضر اللون لا يناسب جسمه.

المستمعون ينصتون لموسيقى لم ترد على أسماعهم من قبل. تأتي من السماء. بعد عزف آخر نوته في السيمفونية، كانت هناك عاصفة مجنونة من التصفيق.

لم يسمع "بيتهوفن" شيئا، وظل جالسا في مقعده، ظهره للجمهور. قام أحد العازفين بلمسه لكي يستدير ويرى بنفسه الوقوف والأيادي التي تلوح بالمناديل، والقبعات والمعاطف التي تطير في الهواء. فوقف وقام بتحيتهم بهدوء بإنحناءة منه.

يجب أن نذكر هنا أيضا سيمفونية المعركة. هي ليست ضمن السيمفونات التسع الموزيات ل"بيتهون". كتبت بمناسبة إنتصار الدوق "ويلينجتون" على الفرنسيين في "فيتوريا".

سيمفونية المعركة ل"بيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=yz_Q6uzFkl4

من أعماله الرائعة الأخرى:

كونشرتو الكمان ل"بيتهوفن"، عازف الكمان "أيزك برلمان"، عزف رائع.
http://www.youtube.com/watch?v=ESpi9J-pt_w

كونشرتو البيانو رقم 5 (الإمبراطور)، ل"بيتهوفن"، عازف البيانو "أرثر روبنشتين"، عزف.
http://www.youtube.com/watch?v=enmJ5PwxD7o

جاء مرة لكي يعزي أحد الصديقات، مات نجلها. قال لها: "اليوم سوف نتحدث بالموسيقى". ذهب إلى آلة البيانو، ظل يعزف لمدة طويلة. ثم نهض واقفا. ترك المنزل دون أن ينطق بكلمة واحدة. لقد واسى المرأة الحزينة بما هو أجل من كلمات العزاء.

كان "بيتهوفن"، عاشقا للطبيعة. كان يقول، لا أحد يحبها مثلي. كان يقضي نصف العام، يتجول بدون هدف في الغابات وبين التلال والأودية. يمر بالقرى والنجوع المحيطة بمدينة فيينا. هو مثل الشاعر "وردزورث"، معظم إلهاماته، أتت خلال تنزهه وتجواله بين أحضان الطبيعة.

كان يحمل كراسته. يدون بها خواطره التي غالبا ما تتحول إلى أعمال رائعة. بعد الأحيان يدون بها نوادر وأحداث يمر بها. انتقل إلى سكن جديد، كان قد استأجره صديق له.

سأل صاحب المسكن: "أين الشجر؟". أجاب صاحب المنزل: "لا توجد أشجار". قال "بيتهوفن": "إذن، لن أستأجر هذا السكن. إنني أحب الشجر أكثر من الناس".

لم يتزوج في حياته. لكن، كان له حنين لحب المرأة. بالرغم من تركيزه على الموسيقى، كانت له صداقات نسائية رقيقة حانية. بعد إصابته بالصمم، أصبح يعتمد على خدمات أصدقائه أكثر. وكانوا يقابلون هذا بود بالغ. يقدمون له أطباق طعام شهية، يرفون جواربه، ويحيكون ثيابه.

الكونتيسة "جولييت جويكاردي" و"تيريز دي برونزويك"، اسمان يرافقان اسمه. السيدة الأولى، أهداها سوناتا "ضوء القمر"، وأغنيته المشهورة "أديلادي". تزوجت من الكونت، لكن يقال أنها كانت دائما تحب "بيتهوفن".
http://www.youtube.com/watch?v=zIbN6S1HYI4

كونتيسة "برونزويك"، كانت هي بطلة أوبرا "فيديليو". أهداها السيمفونية الخامسة، وأعمال أخرى. أرسل لها عدة رسائل غرامية. كانت تحفظها دائما في سلة. بعد موته، كانت تذهب إلى قبره كل عام، وتضع علية بعض من رسائها.

بالنسبة لعالم الموسيقى، يقارن "بيتهوفن" ب:"هومير"، "دانتي"، "شيكسبير"، "ميلتون"، و"مايكل أنجلو". كريم ذو قلب رحيم. كاثوليكي متدين، متحفظ دائما بالنسبة للمواضيع الدينية.

مثل باقي مؤلفي الموسيقى العظام، لا يعرف إدارة شئونه الإقتصادية. في بعض الأحيان، كان يتصارع بقسوة مع الفقر. بسبب إصابته بالصمم، كان يلقى معاملة سيئة من الخدم. في أحد الأيام، فقد أوراق نوته موسيقية لقداس جنائزي. بعد بحث شاق، تبين أن الطباخ، كان قد استخدمها ليفة لدعك الأواني في المطبخ.

في سنته الأخيرة، كانت صحته تتراجع باستمرار. لكنه كان يجد العزاء، في موسيقى "هايدن" وأغاني "شوبرت"، الذي كان يميل إلي موسيقاه أكثر.

أثناء مرضه الأخير، اشتدت أزمته المالية. فقبل عرضا من جمعية لندن الموسيقية، لشراء بعض أعماله بمبلغ 100 جنيه إسترليني. في أثناء عودته من زيارة أخيه "جوهان"، أصيب بالبرد. الذي تسبب في مرضه الذي لم يبرأ منه.

كان الشاب "فرانك شوبرت" وأصدقائه القدامى، بجواره حتى النهاية. في عام 1827م، عندما كان محمد على باشا الكبير يحكم مصر، فارقتنا روح العظيم "بيتهوفن"، وصعدت إلى بارئها في يوم ممطر عاصف. بكت الأمطار، وعبرت الغيوم وأصوات الرعد ووميض البرق وهبوب الريح عن غضبها وحزنها لفراق هذا العظيم الرائع.

حمل نعشه، ثمانية مؤلف موسيقى إلى الكنيسة. يتبعهم 32 حاملي الشعل. كان حاضرا، الملوك والأمراء والشعراء والموسيقيون وكل فيينا. 25 ألف شخص صحبوا النعش لمثواه الأخير، إلى المقبرة في "وارنج". كتب على شاهد القبر كلمة واحدة: "بيتهوفن".

لقة الموسيقى الغربية بقية، فإلى اللقاء إن شاء الله.
[email protected]



#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رمسيس الثاني، فرعون موسى
- قصة الموسيقى الغربية – موزارت
- قصة الموسيقى الغربية – هايدن ، أبو السيمفونية الحديثة
- قصة الموسيقى الغربية – جلوك
- التاريخ المصري القديم - توت عنخ أمون
- التاريخ المصري القديم - إخناتون إمام الموحدين
- التاريخ المصري القديم - تحتمس الثالث
- التاريخ المصري القديم - العصر الذهبي
- التاريخ المصري القديم - الدولة الوسطى والهكسوس
- ماذا نفعل بالإخوان؟
- التاريخ المصري القديم - عصر العظمة والتألق
- التاريخ المصري القديم - المملكة القديمة
- التاريخ المصري القديم - بداية التاريخ
- التاريخ المصري القديم - الفكر
- عبد الرسول لص القبور
- قصة الموسيقى الغربية – باخ
- السادات وديموقراطية المستنقع
- قصص وحكايات من زمن جميل فات (16)، من المحطة إلى بيت جدتي
- التاريخ المصري القديم - فترة ما قبل التاريخ
- قصة الموسيقى الغربية – هاندل


المزيد.....




- فيديو رائع يرصد ثوران بركان أمام الشفق القطبي في آيسلندا
- ما هو ترتيب الدول العربية الأكثر والأقل أمانًا للنساء؟
- بالأسماء.. 13 أميرا عن مناطق السعودية يلتقون محمد بن سلمان
- طائرة إماراتية تتعرض لحادث في مطار موسكو (صور)
- وكالة: صور تكشف بناء مهبط طائرات في سقطرى اليمنية وبجانبه عب ...
- لحظة فقدان التحكم بسفينة شحن واصطدامها بالجسر الذي انهار في ...
- لليوم الرابع على التوالي..مظاهرة حاشدة بالقرب من السفارة الإ ...
- تونس ـ -حملة قمع لتفكيك القوى المضادة- تمهيدا للانتخابات
- موسكو: نشاط -الناتو- في شرق أوروبا موجه نحو الصدام مع روسيا ...
- معارض تركي يهدد الحكومة بفضيحة إن استمرت في التجارة مع إسرائ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - محمد زكريا توفيق - بيتهوفن - عبقري الموسيقى الأصم