|
ثقافة الموت
رياض خليل
الحوار المتمدن-العدد: 4196 - 2013 / 8 / 26 - 12:43
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
لن تقوم قائمة للشعوب العربية مالم تتخلى عن ثقافات الموت ، وتتمسك بثقافة الحياة . ثقافة الموت هي التراكم المعرفي التاريخي لكل ماهو غير علمي وعملي في حياتنا الاجتماعية ، ورؤيتنا المريضة لها . ومن سمات تلك الثقافة : الجمود .. التعصب .. الانغلاق .. الكراهية .. الشك وعدم الثقة بالغير .. وصناعة الأوهام والمقدسات من أحط الأشياء وأشدها تفاهة وقذارة وضررا ، ومن بينها عبادة الفرد ، والانقياد الأعمى لبنية الاستبداد ، والدفاع عنها ، كوعاء مقدس للتناقضات الذاتية الداخلية القائمة على الكذب والغش والخداع والخوف ، وازدواجية المعايير في الأقوال والأفعال وسائر السلوكيات . ثقافة الموت تعتمد على اللامنهجية واللاعلمية ، تعتمد على كراهية العقل والأخلاق ، تعتمد على محاربة الحرية ، وتعتبرها العدو الأخطر والأكبر تهديدا لبقائها وآليات حياتها المريضة ، التي تقوم على مبدأ " الصراع والتناقضات والانقسامات والتفتت كلها أكسير الحياة الوحيد لبقائها ، وصمام الأمان لروحها الخائفة القلقة لدرجة الجنون " . إنها ثقافة الجنون حقا . ثقافة الموت تقوم على الجهل والتجهيل والنفاق لتثبيت نفسها ، وفرض سلطتها من قبل المستفيدين منها على سائر الناس ، ثم يصل بها الأمر إلى فقدان أي معايير وضوابط معقولة للعلاقات الاجتماعية الإنسانية ، لتدخل بعدها في حالة من الانتخار والتدمير الذاتي الشامل لكل مكوناتها ، وصولا لموتها الناجز ، وإخلاء المكان لآليات وقوى جديدة ، تكونت وتراكمت من عناصر الحالة السابقة . إن ثقافة الموت لها عمر ، وهي بالتالي حالة آيلة للموت ، لأنها عاجزة عن مواجهة أسئلة لاتنتهي ، وعاجزة عن تلبية استحقاقات الحياة الاجتماعية : كالحرية والعدالة والكرامة والحق والمشاركة . هي بحد ذاتها مرض ، علاجه يعني موته والمضادات الحيوية لثقافة الموت ، لايمكن تحاشيها ولا التهرب منها ، لأنها حاجة حيوية اجتماعية ومادية ، والمضادات الحيوية بالنسبة لثقافة الموت هي ( الداء والدواء معا ) وكلاهما يقضي عليها قضاء مبرما . المضادات الحيوية المتراكمة والتي تتراكم رغما عن كل شيء ، تكمن في العجز عن وقف عجلة العلم والمعرفة الموضوعية ، التي تعتبر اساسا لاي تطور ، في أي ميدان . وبما أن العلم والمعرفة المنهجية ، غالبا ماتربي العقل على الاعتماد على المنطق الصوري والجدلي والعلمي ، فلابد من أن يؤثر هذا بنسب متفاوتة على إداء العقل الفردي والجماعي في مجالات النشاط الاجتماعي والسياسي ، ويلقي بتأثيره وثقله عليه ، لدرجة أنه يتحول إلى خطر ماثل على الحياة الراكدة المريضة للمجتمع ، الخاضع لاستبداد ثقافة الموت والقوى المدافعة عنها . هي إذن سيرورة لايمكن وقفها ولا الوقوف في وجهها إلى مالانهاية .. كما لايمكن هزيمتها استراتيجيا . كانت الحقبة الأسدية السورية النموذج لمثل تلك الحالة ..من سيطرة الاستبداد وثقافة الموت التي تعتبر العنوان الكبير لها طوال عقود خاليات . وهاهي تعبر عن أزمة موتها بأفظع الصور دموية ومأساوية في التاريخ الحديث والمعاصر . فهي حالة تكاد تلتهم نفسها وكل ماحولها من حيوات بشرية اجتماعية كالسرطان . وهاهي تهدد بقوة حياة المحيط الإقليمية والدولي . تربينا ثقافيا خلال الحقبة الأسدية على وجه الخصوص على كراهية الآخر ، وافتراض سوء النية لديه مسبقا ، وعلى الشك الهدام بكل شيء مختلف ومغاير لما هو قائم ومعتمد رسميا . تربينا على أننا وحدنا نملك الحقيقة والحق ، وأن من حقنا إعدام الآخر المختلف وإزالته من الخريطة . تربينا على التلفيق والكذب والنفاق ، وتقديس الطغيان ، على تشويه حقائق التاريخ والجغرافيا . وفرض مفاهيمنا بوسائل القوة والإكراه المختلفة على الأجيال المتعاقبة . تربينا على الولاء المطلق والأعمى للسلطة الثقافية المفروضة علينا ، تربينا على الطاعة والخضوع وتمجيد العبودية ، وتحويل كل شيء إلى مقدس ومحرم . . تربينا على أن نكون مجرد قطيع مدجن ومروض للحاكم المتأله المشوه عقليا ونفسيا وسلوكيا . وحلت ثقافة الموت بديلا لثقافة الحياة ، فقط من أجل أن يكون كل شيء وقودا لحياة الجنون الوحشية ، لحياة الخوف والموت واستلاب الكرامة والحرية والإنسانية خدمة للحاكم المعتوه المنحرف . الحرامي يرى الآخر من منظوره : يرى الآخر حراميا ولصا ، ولايمكنه أن يراه بغير تلك النظارة التي لاتعكس الحقيقة والواقع كما هو ، بل كما يبدو بمرآة الذات المريضة المنحرفة . وبهذه الطريقة تعمل ثقافة الموت ، إنها تكرس الرؤية ال" سرابية " المخادعة للواقع ، وتحارب كل رؤية مناقضة لها وداحضة لها . والمشكلة أكبر من هذا ، حين تشمل تلك الطريقة في الرؤية كل شيء من حولك قريبا كان أم بعيدا ، وكل من يخالف تلك الرؤية يندرج تحت التصنيف نفسه . وكثيرا ما نعيش مع نماذج بشرية تحمل مثل تلك الفيروسات الثقافية ، وترى كل شيء من منظورها المريض المتعصب والذاتي أصلا . وهي تكره كل ماحولها مادام لايتوافق مع وجودها ومنطقها المغالط والشاذ والمتعصب . إن ثقافة الحياة لايمكن مقاومتها ، لأنها تمثل قوانين الطبيعة ونواميسها . وهي ستنتصر بحكم قواها الذاتية ، على أية ثقافة " ستاتيكية " معادية لها . وإن سلاح ثقافة الحياة الأقوى هو العلم والمنطق وقوة الحياة التي هي الأصل في الأشياء ، وهي التي تتضمن غريزة الدفاع عن البقاء والاستمرار ، والتي تتضمن الدفاع عن شروط ومقومات الحياة الأساسية المادية والمعنوة والاجتماعية . في عصرنا الراهن تنتصر ثقافة الحياة على ثقافة الموت ، وسوف تستمر تلك الحالة حتى هزيمة آخر معاقل ثقافة الموت في كوكبنا الأرضي ، وحينها سنشهد عالما مختلفا عن عالمنا الراهي ، إنه عالم المستقبل الحر ، الذي لامكان فيه للاستبداد والإرهاب والعبودية من أي نوع . وسوف يكون المستقبل مزدهرا وعامرا بالبناء والأبداع والتعاون البشري الشامل على قواعد الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية .
#رياض_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دمشق رئة المشرق العربي
-
المعارضة الافتراضية
-
سوريا : سيناريوهان أحلاهما مر
-
سوريا بين مفترسين
-
بيان لجنة المتابعة لمؤتمر: - كلنا سوريون -
-
فيسبوكيات رياض خليل : (4/5/6)
-
فيسبوكيات : (1/2/3)
-
الكذب القاتل: نخاسو الوطن والشعب
-
سورية الثورة (9): نظرية لافروف
-
سورية الثورة (8): كل عام والثورة منتصرة
-
عن المرأة : (2): حق العمل
-
عن المرأة: ربة المنزل
-
سوريا الثورة : (7) :
-
سوريا الثورة : (6): عن مخاطر انحراف الثورة ......
-
سوريا الثورة:(5): منطلقات في التطبيق والعمل الميداني
-
سوريا الثورة :(4): تتمة : مفاهيم نظرية أساسية
-
سوريا الثورة :(3) مفاهيم أساسية عن السلطة
-
سوريا الثورة : (2) : أبجديات في النظرية والتطبيق
-
سوريا الثورة : (1):أولويات المرحلة
-
ومضات: (1)
المزيد.....
-
الصفدي لنظيره الإيراني: لن نسمح بخرق إيران أو إسرائيل للأجوا
...
-
عميلة 24 قيراط.. ما هي تفاصيل أكبر سرقة ذهب في كندا؟
-
إيران: ماذا نعرف عن الانفجارات بالقرب من قاعدة عسكرية في أصف
...
-
ثالث وفاة في المصاعد في مصر بسبب قطع الكهرباء.. كيف تتصرف إذ
...
-
مقتل التيكتوكر العراقية فيروز آزاد
-
الجزائر والمغرب.. تصريحات حول الزليج تعيد -المعركة- حول التر
...
-
إسرائيل وإيران، لماذا يهاجم كل منهما الآخر؟
-
ماذا نعرف حتى الآن عن الهجوم الأخير على إيران؟
-
هولندا تتبرع بـ 100 ألف زهرة توليب لمدينة لفيف الأوكرانية
-
مشاركة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن في اجتماع مجموعة السبع
...
المزيد.....
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
-
سلافوي جيجيك، مهرج بلاط الرأسمالية
/ دلير زنكنة
-
أبناء -ناصر- يلقنون البروفيسور الصهيوني درسا في جامعة ادنبره
/ سمير الأمير
-
فريدريك إنجلس والعلوم الحديثة
/ دلير زنكنة
-
فريدريك إنجلس . باحثا وثوريا
/ دلير زنكنة
المزيد.....
|