أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - آلات النفخ أو ( ضرورة تدريب الطفل على اصطياد الزبائن لأمه )















المزيد.....


آلات النفخ أو ( ضرورة تدريب الطفل على اصطياد الزبائن لأمه )


ممدوح رزق

الحوار المتمدن-العدد: 4191 - 2013 / 8 / 21 - 18:42
المحور: الادب والفن
    


لماذا أنتِ غير راضية عني يا لولو؟! .. أليس من حق كل واحد أن يغير حياته خاصة لو كانت بائسة كحياتي؟! .. أنت تعرفين تماما ـ لأنكِ عالمة الغيوب ـ أنها ليست بائسة وإنما كارثية يا لولو .. ثم من أين تأتيكِ الجرأة ـ بعد كل ما لاقاه الإنسان منذ وجوده على الأرض ـ كي تصرين على تحديد أي الطرق ينبغي اتباعها لتغيير الحياة دون الأخرى؟! .. من حقي يا لولو أن أغير حياتي، وأن أبذل كل ما أملك دون تردد لتحقيق أحلامي .. ألم تقرأي رواية الأديب العالمي الكبير باولو كويلو ( ساحر الصحراء ) عن أهمية تتبع العلامات التي يزرعها القدر في طريقي ـ كأي راعي غنم حسّاس، وأن أتأملها وأفهمها حتى أصل إلى أسطورتي الخاصة .. بالتأكيد قرأتيها يا لولو لأنك تحيطين إحاطة تامة بكل حرف داخل كل كتاب...
في هذه الليلة كنت في سريري أحاول النوم بينما السماعة الصغيرة الموصولة بالراديو في أذني تمرر برامج فترة الفجر .. أنتِ تعرفين أنني أحب التسجيلات الإذاعية القديمة يا لولو؛ لذا تابعت باهتمام لقاءا أجرته الإذاعية القديرة ( سهير سامي ) مع مؤلف الأغاني الوطنية الراحل ( كمال بسيوني ) .. كان هناك صوت خافت لصخب شارع أو طريق سفر في خلفية الحوار، ربما خفف من حدة وضوحه تأثير مرور السنوات الطويلة على شريط التسجيل .. أصوات باهتة تحاول التخلص من الشحوب، لكن من بينها ارتفع صوت مفاجيء لكلاكس سيارة .. سيارة عبرت بسرعة ـ أنا متأكد من هذا ـ وللكلاكس الصادر منها نبرة أعلى من كلاكسات السيارات الأخرى التي ظللت أسمعها في خلفية الحوار .. فتحت عينيّ، وأدركت تماما أن هذا الصوت سيغير حياتي .. شعرت بجسدي يرتعش، ويستسلم لخفة مباغتة تملكته وجعلته على وشك الطيران .. كل الأفكار والمشاعر تدفقت إلى داخلي، أو بالأحرى تحررت من نقاط غامضة وكثيفة من أعماقي كمنابع نور حريرية متناثرة .. هذا الكلاكس الذي يبدو عاديا للوهلة الأولى هو في حقيقته رسالة يعرف صاحبها ـ سائق السيارة ـ أنه سيتم الاحتفاظ بها بطريقة ما، وأنها ستصمد عبر الزمن حتى تصل إليّ في مكان آخر وبعد كل هذه السنوات في اللحظة المناسبة .. لا تسأليني يا لولو من هو هذا السائق، وما هي هذه الرسالة ـ أنتِ تعرفين أنني لا أعرف ـ لأن كل ما أدركته وآمنت به حينئذ أن هذا الكلاكس هو الإشارة التي ستقودني إلى إنقاذ حياتي، وأنه ينبغي ألا أتردد أبدا في الاستجابة إليها، وهذا ما حدث فعلا.
* * *
رحمتكِ التي وسعت كل شيء يا لولو هي التي تجعلكِ تسمعين مني ما تعلمينه، وهي ما تدفعني لأخذ راحتي في الحكي الذي يفيض منه الشكر والامتنان يا مزتي الطيبة...
قررت السفر إلى القاهرة والتوجه إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون، لكنني أردت أولا أن أودع ( نبوية ) جارتي المنقبة، ممثلة المسرح المعتزلة والمديرة الإعلامية لمؤسسة ( التمويل ) الثقافي .. أتأملها باستمتاع هائل وهي تطلع وتنزل فوق قضيبي واستعيد ذكرياتنا .. جاءت إلى العمارة منذ ثلاث سنوات برفقة ( هاني ) زوجها الروائي، وصاحب شركة ( النيل والأهرامات ) لإلحاق العمالة بالخارج .. ظللت أتلصص عليها فترة طويلة من شباك مطبخي الذي يطل على مطبخها وهي ترتدي قمصان نوم وجلاليب حمالات على اللحم .. لا يمكنني أن أنسى اليوم الذي رفعت فيه رأسها فجأة ورأتني رغم ضوء مطبخي المطفأ، وصغر الشق بين ضلفتي الشباك الذي تأكل عيني جسمها من خلاله .. رأيتها تخرج غاضبة جدا من المطبخ ثم تعود لتقف أمام الشباك مرتدية النقاب وعباءة سوداء .. في اللحظة التي ذبحني فيها مزيج قذر من اليأس والخجل؛ وجدتها تعيد النظر إليّ، وتفتح الأزرار العلوية للعباءة وتخرج ثدييها الأبيضين الكبيرين ثم تواصل العمل في المطبخ بشكل عادي جدا .. لو أنها خلعت ملابسها كلها، وظلت عارية تماما ما تملكني ذلك الهيجان العظيم الذي شعرت به وثدييها الخارجين من عباءتها يهتزان ويترجرجان بنعومة مهيبة مع حركتها بين الحوض والبوتاجاز .. يدي المرتجفة كانت عاجزة عن ملاحقة سخاءهما وهي تستمني عضوي الذي أوشك جلده على التمزق من شدة الانتصاب.
نعم أنتِ تعرفين يا لولو أن حياتي كارثية خاصة بعد فشلي في العمل كناشط سياسي .. على يدكِ حاولت كثيرا، وتعرفين تماما أنني فرحت للغاية حينما حصلت على عمل بمركز ( الوسيط ) الحقوقي .. كنت سعيدا جدا لأنه جاء اليوم الذي تحقق فيه حلمي أخيرا بأن أصبحت أمشي في الشارع معلقا على كتفي حقيبة جلدية فارغة إلا من العدد الأخير من ( أخبار الرياضة ) كي أذهب بها إلى المقهي ويسألني أصدقائي: ( كنت فين؟ ) .. ( في المركز ) .. ( رايح فين؟ ) .. ( رايح المركز ) .. لكنكِ تعرفين وساخة النشطاء يا لولو .. كأنه لا يكفيهم أن جميعهم أمنجية وانتهازيين ومهووسين بتصوير طياظ بعضهم خلسة بالموبايلات في الندوات والمؤتمرات ـ كم عانيت من هذا يا لولو ـ ولكن كان ينقصني أيضا قيادات وأعضاء حزب الوفد من الرجال والنساء الذين لا ينزلون المظاهرات إلا لكي يغافلونني، ويلصقون على ظهري صور لمشاهد من أفلام عربي ابيض واسود .. هل كان يرضيكِ يا لولو أن أظل هكذا؟! .. أن أبقى سجينا في حجرتي وسط أربع بوسترات ضخمة لـ ( ماركس )، و( الخوميني )، و( بن لادن )، و( سلفادور دالي ) دون أن أجد ما أفعله سوى الكتابة ليل نهار على الفيس بوك: ( كله بيض .. أنا مجنون .. مش عايز اصحاب .. كله بيض .. أنا مجنون .. مش عايز اصحاب .. كله بيض .. أنا مجنون .. مش عايز اصحاب .. كله بيض .. أنا مجنون .. مش عايز اصحاب .. كله بيض .. أنا مجنون .. مش عايز اصحاب .. كله بيض .. أنا مجنون .. مش عايز اصحاب .. كله بيض .. أنا مجنون .. مش عايز اصحاب .. كله بيض .. أنا مجنون .. مش عايز اصحاب )؟! .. هل كان يرضيكِ أن أبقى غارقا للأبد في هوس الإدعاء بأنه لاشيء يعنيني وأنني لا أحمل قيمة أو رغبة أو أمل تجاه أحد أو فكرة بينما الإنشغال يقتلني والنفسنة تشد أمعائي من شرجي؟! .. يرضيكِ أن أظل محاصرا بضحكات العيال السيس الذين لا يكفون عن معايرتي لأنني لم أظهر في التليفزيون المصري طول عمري سوى مرتين فقط: الأولى مع ( بابا ماجد ) وأنا صغير، والثانية في أحد البرامج الثقافية بالقناة السادسة بعد صدور أول مجموعة قصصية لي في بداية العشرينيات؟! .. يرضيكِ أن أظل بضينا يا لولو؟!!!.
* * *
في الأتوبيس أغمض عينيّ .. أحاول استدعاء النوم بتركيز الاستماع إلى الراديو الذي تركه السائق يسلي المسافرين .. إذاعة الشرق الأوسط من القاهرة تقدم: ( مستر حادق ومستر حلو ) .. مع شيف ( حسن )، وشيف ( شربيني )...
شيف ( حسن ): أهلا بيكم أعزاءنا المستعمين مع حلقة جديدة من برنامجنا ونشوف شيفنا العالمي شيف ( شربيني ) ها يعملنا إيه النهاردة...
شيف ( شربيني ): مساء الفل يا بو علي .. النهاردة ها نعمل أكلة كلنا بنحبها وبنموت فيها بس هانعملها المرة دي بطريقة جديدة: ( الفيتشية المصرية بالكريمة )...
شيف ( حسن ): يا جمالو يا جمالو .. نقول المقادير يا شيف...
شيف ( شربيني ):
75 شعرة من طيظ محمد بديع
3 كوب تفافة من توفيق عكاشة
90 سم شمع من ودن محمد أبو تريكة
كيلو ونص عرق من تحت باط وبين فخاد صفوت حجازي
12 جرام خرة من مرتضى منصور
7 كوب استفراغ من أحمد السقا
6 ملاعق نفافة من محمد البلتاجي
28 حباية عماص من محمد البرادعي
ربع كيلو صنانة من الموسيقار الكبير مصطفى كامل
20 كوب لبن من بزاز حياة الدرديري ( أو يمكن استبدالهم بـ 55 لتر من بزاز عزة الجرف )...
شيف ( حسن ): خدوا بالكو يا جماعة من تفاصيلو وتكاتو .. الشيف ( شربيني ) بيشتغل على المتاح وبيدي نفس النتيجة .. اتفضل كمل يا شيف...
شيف ( شربيني ): 4 كور وساخة من مناخير حمدين صباحي
15 سم بلغم من محمد حسان
فنجانين ضوافر ( محتفظة بوساختها ) من إيدين ورجلين أحمد ماهر
11 نقطة صديد من دمامل عبد المنعم أبو الفتوح
شيف ( حسن ): طبعا ماننساش يا جماعة عشان النكهة والمنظر؛ الفنانة الاستعراضية ( سما المصري ) ها ترشلنا 7 ونص على الوش قبل التقديم...
في ( ماسبيرو ) حصلت على إجابات لكل أسئلتي: التسجيل كان بتاريخ 7 مارس 1983 وتم في منزل الشاعر ( كمال بسيوني ) وعنوانه 14 شارع الدرب المتفرع من القصر العيني.
لم أضيع وقتا، وتوجهت على الفور إلى العنوان يا لولو .. انتِ بالتأكيد تعرفين أن القرارات التي تحسم حركتي لا يحكمها سوى إلهام غير كاشف .. أحصل على معلومة فتتحدد على الفور خطوتي المقبلة بلا تفكير، كأن قوة غيبية تقودني دون تبرير أو إيضاح لهدف .. ذهبت إلى شارع الدرب واثقا ومؤمنا بجدوى الخضوع للأوامر الماورائية التي تسيّرني .. وجدته شارعا جانبيا محاصرا بعدة شوارع فرعية لا يتناسب الهدوء الذي يهيمن عليها مع الصخب الموجود في التسجيل .. قلت في نفسي أن السبب ربما يرجع إلى التغيرات التي شهدتها المنطقة، والتي اكتشفت أن أبرزها هدم البيت الذي كان يسكنه الشاعر ( كمال بسيوني ) وبناء برج حديث مكانه .. عرفت ذلك من إجابة بواب البرج على سؤالي، وهو يتشمم كلوت حريمي قال أنه يخص أمه الميتة .. ظللت واقفا أمام البرج أتلفت حولي، أتأمل البيوت والنوافذ والمحلات متأهبا لعلامة جديدة ترشدني نحو الوجهة التالي في رحلتي .. اقتربت مني امرأة عجوز ترتدي الملابس السوداء التقليدية التي ترتديها أغلب العجائز في مصر .. كانت قصيرة، وتضع نظارة تكشف عن ضعف بصرها وتمشي بصعوبة بينما فمها الصغير نصف مفتوح بسبب أنفاسها المتقطعة .. وقفت أمامي ووضعت يدها المهزوزة فوق كتفي ثم ابتسمت وقالت:
ـ ماتخفش يابني .. إحنا فعلا لازم نبقى ولاد متناكة أكتر من كده.
واصلت المشي بنفس البطء والتعب وأنا أحدق في ظهرها محاولا تفسير هذه العلامة .. كانت المشكلة تكمن في عدم توصل روحي إلى اتجاه أمشي إليه بناء على ما قالته العجوز .. أيضا شيء ما منعني من إيقافها والاستفسار عن معنى ما قالته، كأنني خشيت إفساد الترتيب الذي تم إعداده من أجلي أو إغضاب المشيئة التي تنظمه .. شعرت فجأة بالحاجة إلى التبول .. في اللحظة التي بدأت قدماي تتحركان فيها بنية البحث عن مقهى يمكنني استخدام حمامه؛ رأيت راهبة شابة تركب دراجة يتدلى منها صليب كبير براق .. مرت بجانبي ثم توقفت قاطعة عليّ الطريق .. كان وجهها أبيضا جميلا، ويظهر في قسماته الطيبة والوداعة .. ابتسمت لها دون أن أنطق بكلمة واحدة؛ فقالت لي:
ـ عمو .. حضرتك خش من الشارع إللي جاي يمين هاتلاقي قهوة .. ممكن تشخ هناك ...
ثم نظرت مرتبكة إلى الأرض لتنفجر فجأة في بكاء حاد، وحينما رفعت وجهها الغارق في الدموع صرخت قائلة:
ـ بس من فضلك من غير ماتجيّص...
على الأقل تأكدت بما لا يدع مجالا للشك أنني في المكان المناسب، وأن كل تفاصيله تدل بقوة على صحة مساري وبالتالي فإنني أتقدم بثبات نحو النتيجة المنشودة .. كان مقهى قديما جدا وحمامه في غاية القذارة .. على مكتب متهالك في المنتصف رجل عجوز يبدو متمتعا بصحة جيدة، يرتدي بدلة أنيقة مع قبعة إيطالية، ويعزف على الكمان موسيقى الأب الروحي .. لم أنتبه إليه عند دخولي، لكن بعد خروجي من الحمام تلاقت عيوننا فوجدته يضحك بصوت غريب كأنني أسمعه عبر التليفون في ثلاثينيات القرن الماضي .. ترك صاحب المقهى الكمان ثم أشار لي بالمجيء إليه، وبقايا ضحكته الغريبة تخفت تدريجيا .. جلست بجواره فاقترب بملامحه التي تشبه ملامح الكومبارس الذين ضربهم ( عادل إمام ) كثيرا ثم همس كأنما سنتفق على صفقة مخدرات:
ـ أنا زيك سمعت الكلاكس...
لو قلت لكِ يا لولو أنني شعرت لحظتها باقترابي الشديد من الموت لكان في هذا الوصف خيانة للحقيقة لأن ما شعرت به يفوق ذلك لأبعد مدى .. ربما ما أنقذني بالفعل هو الشعور بالسعادة وهي أيضا كلمة قليلة القيمة تبخس كثيرا من حق الحالة التي وجدت نفسي أغيب فيها كل الغياب .. أضواء كونية يا لولو اندفعت في طمأنينة خالصة ومباغتة لتتلاحم بيسر وانسجام كي تغمر روحي كليا .. نهض العجوز وقال لي: تعال معايا...
سرت وراءه كأنني ذاهب إلى الجنة .. خرج من باب المقهى ثم دخل من بوابة البيت القديم الملاصقة له وأنا أصعد معه السلالم مزهوا بكل شيء: اختيار القدر لي .. صلابتي العقلية والنفسية التي جعلتني أصدق رسائله .. نجاحي في تنفيذ كل الأوامر غير المباشرة التي جاءت بي إلى هذه اللحظة التي يندر أن يعيشها أحد دون أن تنجح شياطين اليأس والشك في هزيمتي.
وقف عند عتبة شقة في الدور الثالث ذات باب من طراز شعبي عتيق .. حينما أصبحت بجواره نظر في وجهي وفي عينيه لذة عميقة ممزوجة بالخبث، بدت أقرب إلى ضحكة مكتومة لمنتصر في معركة تدور في كوكب آخر .. فتح الباب فوجدت قاعة بيضاء واسعة ذات جدران براقة وسقف عال .. كانت أنيقة بمزيج من ألوان مختلفة لإضاءة ساحرة وهدوء مدهش .. في وسط القاعة تنتصب تماثيل حجرية منحوتة بإتقان غريب لشخصيات مجلة ( ميكي ): ميكي .. ميمي .. بطوط .. زيزي .. محظوظ .. عم دهب .. الجدة بطة .. عبقرينو .. كوكا .. أبو طويلة ...
ابتسم صاحب المقهى العجوز وقال لي: استعد...
التفت إلى التماثيل الحجرية وأطلق تكريعة فاجرة زلزلت الأرض تحت أقدامنا لكن ذلك لم يكن أفظع شيء .. وجدت التماثيل تنطق .. هل تصدقين يالولو .. التماثيل الحجرية تنطق .. تخيلي ماذا قالوا:
ميكي: الفن
ميمي: هو التقاط اللحظات الجميلة
بطوط: والمشاعر الإنسانية الصادقة
زيزي: والمعاني الراقية
محظوظ: لانتاج قيم معنوية
عم دهب: تشبع احتياجاتنا الروحية
الجدة بطة: وتقاوم شرور العالم المادي
عبقرينو: مع تحيات
كوكا: الطبقة الوسطى
أبو طويلة: لمدينة البط
لوح صاحب المقهى العجوز بيده قائلا بفخر:
أنا إللي عملت كل ده .. وكنت مستنيك من سنين عشان انت الوحيد إللي لازم تشوفه وتسمعه...
أعدت التحديق باستغراب صامت في التماثيل الحجرية التي عادت إلى سكونها وصمتها ثم سألته مترددا:
ـ طب حضرتك إيه علاقة ده بالكلاكس؟!
ابتسم بحكمة من يخفي أمرا عظيما مفروغ من إعجازه ثم قال:
ـ مكتبتك .. الرف الأول من اليمين .. الكتاب الثالث من الشمال .. صفحة 183
ـ أفندم؟!
لم يرد .. أخرج من جيبه مسدسا، وأطلق رصاصة على رأسه ليسقط والدماء تجتاح ملابسه وتتدفق على الأرض .. خرجت من الشقة ونزلت السلالم جريا .. عند مدخل البيت قابلني جرسون المقهى الذي اندفع نحو البوابة بعد سماع صوت الرصاصة .. سألني:
ـ المعلم ضرب نفسه بالرصاص .. صح؟
ـ صح...
ـ طب ماتتفضل تشرب حاجة؟
ـ تسلم ياذوق .. مرة تانية عشان مستعجل...
في الأتوبيس، وخوفا من النسيان ظللت أردد طوال الطريق في رأسي:
( مكتبتك .. الرف الأول من اليمين .. الكتاب الثالث من الشمال .. صفحة 183 )
* * *
اعتمادا على أصلها الريفي، وعلاقاتها المتشعبة تنزل ( نبوية ) إلى القرى لتتسوق الفتيات الصغيرات إلى زوجها .. لكن قبل أن يشحن ( هاني ) البنت الريفية إلى سراير الخليج يجربها هو وزوجته أولا .. لا تستخدمها ( نبوية ) في الأعمال المنزلية، ولا يسخّنها ( هاني ) للراكبين من بعده فحسب بل والأهم من ذلك يستعملانها في شجارهما اليومي .. يجلس الزوجان في حجرة الصالون بشقتهما الفخمة متقابلين، وعاريين .. تقعد البنت الريفية الصغيرة على ركبتيها عارية تماما هي الأخرى وتتبادل المص لـ ( هاني )، واللحس لـ ( نبوية ) ثم يبدأ الزعيق والصراخ .. خذي عندكِ يا لولو مثلا ذلك الشجار الهيستيري الذي سمعه ـ كالعادة ـ سكان العمارة والشارع وبالطبع سمعتيه انتِ:
نبوية: إيه ياعرص اللي انت كتبته على الفيس بوك النهاردة ده؟
هاني: إيه يا كس امك...
نبوية: يعني إيه تكتب إن 2013 من أقوى مواسم الرواية المصرية، وتقوم حاشر كدليل على ده أسماء روايات اصحابك...
( أتخيل البنت الريفية الصغيرة العارية ترفع رأسها، وتتطلع إليهما بخوف لكن نظرة حادة مشتركة من عيون الزوجين تعيد لسانها إلى العمل بين فخذي كل منهما )...
ـ وفيها إيه يا شرموطة؟ .. أنا حر.
ـ لأ مانتش حر يا خول .. انت من حقك بس تقول الروايات إللي عاجباك وإللي مش عاجباك، لكن مش من حقك تقول كلمة ( موسم ) .. محدش عيّن كس امك عشان تتكلم باسم الموسم ...
ـ ( شخرة عاتية ) .. موسم إيه يا أحتها إللي باتكلم باسمه؟!!!
ـ ماتعملش نفسك عبيط يابن المتناكة انت فاهم كويس .. لما تقول موسم ده معناه إنك خدت لنفسك سلطة أبعد من حدودك الشخصية .. يعني بتتكلم باسم العام، وبكده لما تقول على رواية حلوة أو تستبعد رواية تانية فده مش هايبقى انتقاء خاص وإنما انتقاء الموسم .. بتفرض تقييم وإقصاء إلهي مش مجرد وجهة نظر أو ذوق فردي ...
ـ ومين بقى يالبوة إللي من حقه يقول كلمة ( موسم ) .. يعني مين إللي يتكلم باسم دين أمه؟!!!
ـ مفيش حاجة اسمها موسم أصلا يا خرونج .. بس تقول إيه على المعرصين إللي انت منهم...
صوت نهجان عال ثم صمت...
ينهض ( هاني )، و( نبوية ) متعبين .. يغادران الصالون مبلولين جدا من تحت، وسوّة كل منهما تنتفض بينما الفتاة الريفية الصغيرة العارية لا تزال جالسة على ركبتيها ولعابها يسيل بإخلاص على ذقنها ورقبتها وثدييها .. تلوح لكاميرا الفيديو التي تصوّر من فوق الطاولة وتبتسم.
* * *
فتحت مكتبتي .. وقفت أمام الرف الأول من اليمين ثم أخذت الكتاب الثالث من الشمال فوجدته ( مصر في مطلع القرن التاسع عشر ) ـ الجزء الأول .. فتحت صفحة 183 وقرأت:
( وكان في اجتماع 5 مايو الذي ألبس في أثنائه طاهر باشا " فروة " القائمقامية، أن تحدث السيد عمر مكرم عن المظالم والإتاوات التي يشكو منها الشعب، " وكلموه على ( رفعها ) وظنوا فيه الخير "، فوعدهم طاهر باشا والدفتردار خليل أفندي الرجائي برفعها، وأصدر طاهر باشا منشورا طمأن فيه الناس على أموالهم وأرواحهم، وأمرهم في ذات الوقت بمشاهدة قناة ( شعبيات ) يوم الأحد القادم الساعة السابعة مساءً )...
كان اليوم هو السبت .. عرفت يا لولو أن غدا هو محطتي الأخيرة.
* * *
سيادة اللواء شرطة المتقاعد ( عرفة عبد القادر ) الذي يسكن في الشقة المقابلة لـ ( نبوية )، و( هاني ) أطلق لحيته بعد خروجه من الخدمة، وأصبح إماما للجامع المجاور للعمارة فضلا عن ممارسته لتجارة السلاح في أوقات الفراغ .. ذات يوم قابلني ( عرفة ) عند البوابة، وبابتسامته المتسامحة سألني:
ـ ابني العزيز .. ليه مش بشوفك تصلي معانا في الجامع؟
ـ لا أبدا مشاغل، وبعدين أنا أغلب الوقت مش طاهر وبكسل استحمى وكده يعني ...
ـ طيب بمناسبة النجاسة .. أنا عارف إللي بينك وبين جارتنا الفاضلة الست ( نبوية )...
ـ بجد؟! .. طب حط صابعك في طيظك وكاكي زي الفراخ خمس مرات في اليوم وهاتبقى كويس قوي...
ـ أنا بعمل ده فعلا بس عموما أنا مش طالب غير إن ينوبني من الحظ جانب...
ـ يا سلام بس كده .. المرة الجاية ها أندهلك، ووعد مني ها أعدل بينك وبينها...
ـ بجد ؟ .. أنا كنت فاكرك ها ترفض...
ـ أرفض إيه ؟
ـ إنك تجربني بدل ( نبوية )...
ـ وليه لأ بس على شرط...
ـ خير إن شاء الله؟
ـ تقول في ميكرفون الجامع إنك خول...
ـ إذا كان كده بسيطة...
تركني سيادة اللواء متوجها نحو المسجد، وقبل أن يصل إليه جاء شخص مسرعا من الخلف ورشق سكينا في ظهره؛ فسقط ( عرفة ) ميتا بينما نجح أهل الشارع في الإمساك بالقاتل الذي لم يكن سوى ( هاني ) زوج ( نبوية ) .. يومها تعلم الناس درسا مهما: لا تبحث عن مسمار جديد قبل أن تأمن أولا شر المسمار القديم .. صارت العمارة كئيبة يا لولو بعد دفن ( عرفة ) وسجن ( هاني ) واليوم عادت ( نبوية ) وطفليها إلى قريتها بعد استقالتها من مؤسسة ( التمويل ) الثقافي .. الدنيا كلها صارت كئيبة يا لولو.
* * *
أن تتخيل حكاية ما وتعيش تفاصيلها الغنية، ثم يضيّعك الاسترسال في أحداثها المتعاقبة والمتشابكة فهذه نعمة كبيرة يا لولو من نعمكِ الوفيرة .. ما بالكِ إذن لو كانت تلك الحكاية المتخيلة بين ( غرام وحنين ) وبين الحاج ( سمير الدكش ) الذي تم توجيه الشكر إليه ـ من ضمن عدة أسماء في نهاية الأغنية .. عن نفسي تخيلت الفتاتين ـ أو أيا يكن حالة بكارتيهما ـ وهما تغنيان له ( الحتة الجوانية ) التي عرضتها قناة شعبيات في السابعة مساء الأحد كما جاء في كتاب ( مصر في مطلع القرن التاسع عشر ) .. أكاد أرى الحاج ( سمير الدكش ) وهو يبكي بحرقة تأثرا ـ مثلما بكيت أنا أمام الأغنية يا لولو ـ ومستوعبا أن مصر هي التي توجه هذا الخطاب لكل ابن من ابناءها .. أكاد أسمع الحاج ( سمير الدكش ) وهو يخبر ( غرام وحنين ) بابتسامة غاية في الرقة، وبصوت تغمره السكينة أنها أجمل أغنية وطنية سمعها في حياته، وأنه قرر ـ حبا لمصر ووفاء لفضلها عليه ـ أن ينتج الأغنية أو على الأقل المساهمة في انتاجها .. أكاد أرى ( غرام وحنين ) تنحنيان على الحاج، وتأخذ كل واحدة إلى فمها يد من يديه وتقبلها بينما دموع الشكر والامتنان تتفجر من عيونهما .. قبلتي ابنتين لأبيهما .. حكاية كافية لإرجاع الإيمان إلى أكثر القلوب غلاظة وتحجرا يا لولو .. هكذا تغيرت حياتي وعدت للذوبان في كل ذرة تراب وكل نسمة هواء لهذا الوطن .. صدقيني .. أنا لا أبضن عليكِ يا لولو.



#ممدوح_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيوت إيمان مرسال
- عضو واحد
- ( العالم ) الإيمان بأحلام اليقظة
- تحريك الرصاصة
- إنقاذ جيروم
- هل لا يزال هنا من يستخدم كلمة ( ثأر )
- ظلال محنطة
- الظلام
- تقمص العمى والنسيان
- يوميات: محمد عمّار
- سرير
- قطع الحبال
- حروب الظلال في مجموعة - أنا ظل الآخر - لفكري عمر
- نكاية / سام سيلفا ترجمة / ممدوح رزق
- يوميات: السيطرة
- المؤخرات
- ممدوح رزق
- عن (كلمات الموتى) ل فيليب كلوديل
- يوميات: backspace
- عدم التعرّض للآلهة


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - آلات النفخ أو ( ضرورة تدريب الطفل على اصطياد الزبائن لأمه )