أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كوره جي - التين في ظلال النخيل الجزء 1















المزيد.....

التين في ظلال النخيل الجزء 1


حميد كوره جي
(Hamid Koorachi)


الحوار المتمدن-العدد: 4185 - 2013 / 8 / 15 - 00:50
المحور: الادب والفن
    


التين في ظلال النخيل - مذكرات شخصية
لم أكن أتصور أنني سأعود إلى مسقط رأسي بعد كل هذا الوقت، منذ هروبي عام 1984. وقد مضى عامان على زيارتي الأخيرة كالحلم، استرجعت ذكريات باهتة ووجوهًا لم يتبقَ منها سوى القليل. في تلك الزيارة، التقطت أطراف الحديث مع بعض الأصدقاء الذين نجوا من عوادي الزمن، وكان من بينهم رفيق قديم، شيوعي عتيق، ورجل عرفته بالكفاح والعمل الدؤوب. طلب مني مرارًا أن أخط قلمه عن شخصيتين بارزتين من أبناء المدينة، صارتا رمزًا تاريخيًا لها: الملا محيي الدين داييزاده والشهيد الشيوعي نصر الدين مجيد.

طوال هذه الفترة، ظلّ وعدي لصديقي "الحلاج" يثقل كاهلي. يومها، حين طلب مني الكتابة عنهما، اعتذرت بأن معرفتي لا تتجاوز ما يعرفه العامة، وأنني أفتقر للثقة الكافية. وعدني بتزويدي بمعلومات غزيرة، لكن شيئًا لم يصلني حتى اليوم. ولا أعتقد أن لديه ما يضيفه على ما أعرفه. اليوم، قررت أن أوفي بوعدي وأتحرر من هذا الدين.

الملا محيي الدين داييزاده، سليل الملاكين والبكوات، عاش مع عائلته الصغيرة في منزل قديم وشاسع. زوجته، ابنة عمه، وابنته الوحيدة بشرى، وأخته ناجية، ووالديه، جميعهم كانوا يملؤون جنبات ذلك البيت المكون من ثلاثة طوابق وغرف لا تحصى. اليوم، لم يتبقَ منه سوى أنقاض وذكريات، فكل من سكنه رحلوا إلى جوار ربهم. تزوج الراحل لاحقًا من امرأة أخرى، وأنجبت له ولدًا أصبح الآن رجلاً كبيرًا.

كنت أسكن في نفس حيه، ولم تكن علاقتنا تتجاوز التحيات العابرة. الغريب في الأمر هو تناقض وضعه الاجتماعي كونه من البكوات، مع انتمائه الفكري للشيوعية. بعد انقلاب شباط 1963، اعتقله الحرس القومي مع جمع غفير من شباب المدينة. أُلقي به في سجن مركز الشرطة، حيث تعرض لأبشع أنواع التعذيب والإهانات.

كان الملا محيي الدين معلمًا في مدرسة ابتدائية، أظنها مدرسة القحطانية. أما أنا، فكنت تلميذًا في مدرسة النعمان، التي كانت تقع في نفس المبنى الذي كان في السابق خانًا قديمًا. كان لهذا المبنى سرداب واسع، نستخدمه لدروس الرياضة في الأيام الماطرة، ونقيم فيه مسابقات رياضية شتاءً.

يتحدث أبناء الحي الذين كانوا طلابًا عند الأستاذ محيي الدين عنه بحب واحترام، واصفين إياه بالمربي الحنون والظريف الذي يعاملهم كأب. ومن الطريف ما كان يُروى عنه، أنه كان يخاطب تلاميذه المشاغبين، ومعظمهم أبناء بقالين أو عمال في دكاكين صغيرة، بقوله: "ارحم أباك، إنه مدفون في قبره حتى رقبته". مشبهًا دكاكين آبائهم بالمقابر التي لا يظهر منها سوى رؤوسهم.

خرج الملا محيي الدين من المعتقل بعد انقلاب عبد السلام عارف على شركائه البعثيين بعدة أشهر. جرائم الحرس القومي، الميليشيا التابعة للبعثيين، أصبحت عبئًا لا يطاق على كاهل القوميين العرب في العراق. بعد إطلاق سراحه، عاتب أخته ناجية لعدم وقوفها بجانبه وعدم إرسالها الطعام له. أثار هذا غضبها بشدة، فكشفت له أنها كانت ترسل الطعام يوميًا، خاصة الدجاج المشوي، عبر أحد أفراد الشرطة الذي كان من معارفهم. لكن هذا الشرطي كان يخون الأمانة ويأخذ الطعام لأسرته. حاولت ناجية في لحظة غضب أن تنتقم منه، لكنها تراجعت بطلب من الراحل الذي دعاها إلى الروية ونسيان الأمر.

أما عن سؤالي، هل كان الملا محيي الدين داييزاده شيوعيًا وعضوًا في الحزب الشيوعي؟ أشك في ذلك. سألت العديد من الكوادر حول هذا الموضوع، لكنهم أبدوا عدم معرفتهم. ليس كل من اعتقل على يد الحرس القومي كان شيوعيًا؛ فالكثير من البسطاء اعتقلوا لأسباب واهية أو لدوافع شخصية. على سبيل المثال، المرحوم إبراهيم جواد، لم يكن شيوعيًا لكنه عارض الانقلابيين وساند الزعيم عبد الكريم قاسم، وهذا كان كافيًا لاعتقاله.

خلال فترة سجنه، كما روى لي محمد عمر، كان إبراهيم جواد القصاب يظهر شجاعة لافتة وشراسة في وجه معتقليه. كان يصيح في وجه الشرطة والسجانين قائلاً إن ما يقومون به مؤامرة فاشلة، ويردد شعارات مناوئة للانقلابيين.

في ذلك الزمن، كنا نتميز بقدر كبير من السذاجة، ونطلق صفة "شيوعي" على أي شخص يتحدث عن العدالة، يعادي الإقطاع والاستعمار، أو ينشغل بالقراءة والكتب والثقافة. لم تكن لدينا حينها معرفة حقيقية بمبادئ الشيوعية أو الاشتراكية.

كان الشاعر الراحل يكتب الشعر العمودي، وقرأت على فيسبوك أن بعض المثقفين من أهل المدينة اقترحوا ترميم داره كمعلم ثقافي وتاريخي، كما دعوا إلى طباعة أشعاره. ومع ذلك، عندما زرت بيته وجدته خرابًا وركامًا، ولم أسمع عن طباعة أي ديوان أو كتاب له. كل ما أعلمه عن شعره يعود إلى قصيدة ألقاها المرحوم الملا عيسى الأركوازي في بغداد أمامي بشكل ارتجالي، وبعض الأبيات الأخرى التي سمعتها من محمد عمر "الشيوعي" المطرود من الحزب والمقيم الآن في ستوكهولم بالسويد. كان بين تلك الأبيات بضعة أسطر كتبها بالكردية كإهداء لابنته بشرى، لكنني للأسف لا أستطيع تذكر أي كلمة منها الآن.

الملا عيسى الأركوازي ألقى حينها قصيدة للملا محيي الدين بحماسة كبيرة، لدرجة أن أحد الأصدقاء الذي كان جالسًا معي همس لي مازحًا دون أن يسمعه عيسى: "كأنه يلقي علينا قصيدة للمتنبي!". كان عيسى ضليعًا في قواعد اللغة العربية ويُدرّسها لبعض الطلبة، لكنه عاش فقيرًا معدمًا طوال حياته بسبب كبريائه واحترامه لنفسه وحفاظه على كرامته. لم يتزوج ولم يحظَ بأي فرصة حقيقية –حسب اعترافه لي- حتى لتجربة متعة الحياة الجنسية.

كان يُعرف بين الأوساط الماركسية بأنه رجل دين ذو توجه تقدمي، وكان يحمل إعجابًا كبيرًا بالاتحاد السوفييتي. كان يقول إن أهداف الشيوعيين في تحقيق العدل والحق والمساواة تعكس المبادئ الحقيقية للإسلام وتجسد روح علي بن أبي طالب، أبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي. مع ذلك، لم يسلم من الإيذاء؛ فقد تم استجوابه في دائرة الأمن بعد انهيار الجبهة الوطنية بين الحزبين الشيوعي والبعثي، وتعرض هناك للإهانة والشتم والضرب.

وعلى ذكر الحديث، يتذكر محمد عمر تفاصيل كثيرة عن ظرفاء المحلة القديمة مثل عبد الله بك، وكذلك عن وجهائها، مجانينها، المبارزات الشعرية والمقالب، إلى جانب الخزعبلات والتفاهات التي كانت تحيط بها. يحتفظ في ذاكرته بأشعار دايه گَوره وعمه حباو وصحبت وقولای، كأنها محفورة في ذهنه. ربما يرجع ذلك إلى تكراره المستمر لتلك الأمور بسبب افتقاره لمنهجية تمكنه من فهم الحياة وتحليلها بشكل أعمق.

حين كنت في كردستان خلال فترة الأنصار، سألت عن محمد عمر بعض الشيوعيين الذين عاشوا في الاتحاد السوفييتي، فكان اسمه ذائع الصيت، لكن أحدهم اختصر معرفته به قائلاً إنه لا علاقة له بالعلم وكان لديه الكثير من المشاكل مع الحزب. بعد هجمات الأنفال، قرر الحزب إخراج ما يمكن من الأنصار إلى دول اللجوء، وكنت ضمنهم. رحلتنا أخذتنا إلى تركمانستان عبر إيران ومن ثم عبرنا النهر الهائج في سرخس. بقينا هناك في انتظار طويل وممل، تغلّب علينا التذمر والغضب تجاه قيادة المنظمة الحزبية في موسكو، حتى صدر القرار بنقلنا إلى دول اللجوء الأوروبية الغربية على دفعات عبر مطار موسكو.

وصلت إلى ستوكهولم قبل يومين فقط من الغزو العراقي للكويت. استقبلونا في فندق مزدحم بالعوائل العراقية القادمة من إيران وسوريا، حيث كانوا يستقبلون زيارات من أقاربهم المقيمين في السويد منذ وقت سابق. بينما كنا نجلس في بهو الفندق، ذكرت إحدى النساء التي كانت تزور أمها وأختيها أن زوجها من خانقين واسمه محمد عمر. بادرتها بالقول إننا أقارب وأبلغي له سلامي وأخبريه أن حميد من عائلة كشكول هنا ويرغب برؤيته. في اليوم التالي جاء محمد عمر للقاء، واستقبلني بحرارة لكنه سرعان ما بدأ يشكو من الحزب ولم يتردد في شتم أحد الكوادر الذين كان لهم دور في طرده. الموقف طريف، حيث كان بعض المقربين من ذلك الكادر جالسين معنا في بهو الفندق. لا أدري إن كانوا قد سمعوا ما قاله أم لا، لكني متأكد تمامًا أنهم شعروا بالحديث بحكم حساسيتهم الظاهرة لكل خطوة أو كلمة حولهم.

كان محمد عمر، قبل هروبه إلى الاتحاد السوفييتي، مولعًا باقتناء الكتب والمجلات والنشرات على أنواعها. وما زلت أذكر أنني في صغري استعرت منه رواية "الأم" للكاتب مكسيم غوركي. كنا نراه دائمًا يقرأ، وفي ليالي الصيف كان يمد توصيلة كهربائية لتشغيل مصباح فوق سطح البيت، يجلس تحته ويستغرق في القراءة وكأنه يستعد لامتحانات البكالوريا. في تلك الأيام كان أغلب الناس يعانون من الفقر، ووالده كان يعمل إسكافيًا بالكاد يوفر قوت يومهم. رغم ذلك، كان كثير من الأقارب يساعدونه بين الحين والآخر. لكن حين جاءتهم أيام الحصار القاسية التي جلبت الجوع والمعاناة، بدا وكأنه أدبر عنهم ولم يعد يلتفت إليهم.

أما علي شريف، فقد كان من أصدقائنا الطيبين ومن الكادحين الذين عرفوا صعوبة الحياة. ينتمي لعائلة فقيرة ومُجدة، وكان يعمل مساءً في طحن حبوب الهريسة داخل متجر صغير تابع لمقهى المرحوم أحمد جايجي. كذلك عمل في مصنع الثلج المملوك للمرحوم كامل خماسة. وكان علي شريف يفتخر بعمله في هذا المصنع، إذ إن مؤسس الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد) عمل فيه أيضًا عندما كان في الناصرية.

ذات مرة، أخبرني علي شريف كيف أنه خلال إحدى ليالي عمله في طحن الحبوب لعمل هريسه، سمع بالصدفة أحد المخبرين يخطط مع مجموعة من رجال الأمن لوضع خطة للقبض على محمد عمر. شعر علي بخطورة الموقف، فسارع بإنهاء عمله تلك الليلة وانطلق مسرعًا ليبلغ محمد عمر بالأمر. بفضل هذا التحذير العاجل، تمكن محمد من الهروب من منزله وترتيب سيارة كانت بانتظاره في منطقة بعيدة عن مركز السيطرة الموجود على طريق بغداد.

قصة مشابهة سمعتها عن شخص آخر يدعى جمال نازدار أو الشمري، الذي هرب بنفس الطريقة تقريبًا إلى الاتحاد السوفييتي. إلا أن الفرق يكمن في أن الشرطة تمكنت تقريبًا من الإمساك به، لكنه قفز فوق تنور البيت إلى أسطح الجيران واختفى طوال الليل. وفي الصباح الباكر كان أحد رفاق التنظيم ينتظره بسيارة خارج نقطة التفتيش على أطراف المدينة، لينقله إلى بغداد ويكمل طريقه نحو أمنه.

ومن الطريف أن أذكر أن والد علي شريف كان دائمًا يهاجم الملا محي الدين ومحمد عمر وخروتشوف وستالين، معتقدًا أنهم أدخلوا أفكارًا شيوعية في عقول أبنائه وتسببوا لهم بمشاكل كثيرة. وقد أصبح غير قادر على العمل بعد حادثة سقوط جدار عليه أثناء عملية هدم.

خلال فترة التحالف بين حزبي البعث والشيوعي تحت مظلة الجبهة الوطنية، تلقينا رسائل من محمد عمر بعد انتقاله إلى الاتحاد السوفيتي. أبلغنا أنه يدرس الصحافة هناك، وطلبنا منه حينها إعادة صور أبيض وأسود كنا قد أرسلناها إليه، ولكن بعد تلوينها في موسكو.

في خانقين، كان هناك نزاع داخلي ومستمر بين الشيوعيين والقوميين الأكراد يكتنفه طابع خفي. محمد عمر تحدث لي عن استفزازه المستمر لصابر، العضو في حزب البارتي، من خلال أشعار تهكمية. قال محمد عمر:

كنت أناديه: صابر! صابر!
فيرد عليّ: نعم؟
فأقول: حزبه كه تان؟ (ما اسم حزبك؟)
فيجيب: چه یه حزبکمان؟ (وبماذا تصف حزبنا؟)
فأردُّ عليه بسخرية: حزبكتان حزبي كَره، حزبي... أد و... (حزبكم حزب الحمير والـ...!)
فيصرخ نافيًا: لا، لا، حزبكتان! (حزبكم!)
فأقول: حزبكِمان حزبي گَله.. حزبي فلاح ورنجبره (حزبنا هو حزب الشعب.. حزب الفلاحين والكادحين).

وهكذا كانوا يستمرون في سجالاتهم لساعات دون التوصل إلى أي نتيجة تذكر.

على مدار سنوات طويلة، كانت بشرى الابنة الوحيدة للملا محيي الدين، التي وُلدت قبل اعتقاله. اعتقد كثيرون من أهل الحي وأصدقائه أن تعذيبه والصدمات التي تعرض لها في السجن قد أثرت على حياته. في أحد الأيام، انتشرت أخبار عن خلافات نشبت بينه وبين زوجته، مما دفعها لترك المنزل برفقة ابنتها والعودة إلى بيت والدها. تردد حينها أن الزوجة غضبت بشدة عندما أخبرها الملا صراحةً عن رغبته في إنجاب ابنٍ يحمل اسمه، يساند في شيخوخته ويخلد ذكره بعد وفاته. لم يستغرق الملا محيي الدين وقتًا طويلاً ليتزوج مجددًا من امرأة أخرى، أنجبت له ولدًا سمّاه محمد، الذي أتيت على ذكره سابقًا. الآن، محمد شابٌّ ناضج، لكنني لا أملك أي معلومات إضافية عنه.

في إحدى زياراتي لخانقين، رأيت الراحل محمد علي يعيش وحيدًا في خرائب بيت داييزاده. كان رجلاً مميزًا، معروفًا بميله العاطفي للفكر الشيوعي وتطلعاته لبناء مجتمع اشتراكي في العراق، حيث يسود العدل والسلام والمساواة. كان متحمسًا للاتحاد السوفيتي وينتقد الحزب الشيوعي العراقي لعدم تمكنه من تولي الحكم في البلاد. من العبارات المنسوبة إليه التي لا تُنسى قوله: "أن تكون كلبًا في موسكو خير من أن تكون وزيرًا في العراق". عندما كان مستأجرًا غرفةً خلف بيتنا، اعتاد النوم على سطح المنزل خلال الصيف، وكان صوت مذياعه يصلني كل ليلة أثناء استماعه لإذاعة موسكو. كان شخصًا مدركًا لقضايا السياسة ومتابعًا للأحداث العالمية، كما أنه يحب أغاني فريد الأطرش ويحرص على الذهاب إلى السينما أسبوعيًا.

من المثير ذكر جانب من البخل الذي اشتهر به عم المرحوم الملا محي الدين ووالد زوجته الأولى، وهو أمر شائع بين أفراد الطبقة الأرستقراطية ومالكي الأراضي آنذاك. طُلب منه في إحدى المرات تفسير سبب تأخر ابنه في الزواج، فكان يجيب بالتركمانية: "نيدن ارواد آلسي، اگر گونده بييييير جريده آلر"، أي "بماذا يتزوج إذا كان يشتري صحيفة واحدة يوميًا؟". وكان يطيل لفظ كلمة "بير" للدلالة على المبالغة في الكثرة والكارثة. اعتدت رؤيته في مقهى ساحة الميدان بمنطقتنا عبد الله بيك، ولم يكن يدفع سوى ثمن استكان الشاي الذي يقدم له فور جلوسه، تحاشيًا لدفع حساب جلسائه الآخرين.

أما محمد علي والملا عيسى، فقد تميزا بوعي طبقي أعمق مقارنة بكثير من المثقفين المنسوبين حينها إلى اليسار والشيوعية. ولكي نكون منصفين، لم يكن الوضع كله قاتمًا؛ إذ نشأت في المدينة كوادر عمالية واعية ومناضلة، تتمتع برؤية نقدية للوضع السياسي والاجتماعي القائم وتفهم الكثير من مبادئ ماركس ولينين وستالين. السبب وراء هذا الوعي كان معايشتهم المباشرة لواقع الاستغلال وتضامنهم العمالي، مما دفعهم للتفكير بعقلية أممية. فقد عانوا الاستغلال من قبل رأسماليين وأصحاب أعمال كانوا من أبناء وطنهم وقوميتهم ذاتها، لذا أدركوا أن العامل أممي بطبيعته وأن جوهر الرأسمالية يقوم على الاستغلال والسعي وراء الربح بغض النظر عن القومية أو اللغة أو الهوية.

كان العمال الشيوعيون الذين يعملون في قطاعات النفط والسكك الحديدية والنقل وبعض الصناعات يتميزون اختلافًا جوهريًا عن الشيوعيين المنتمين إلى البرجوازية الصغيرة المترفة. ولم يكن هؤلاء العمال الشيوعيون يتركزون فقط في خانقين، بل كانوا مناضلين في شتى أنحاء العراق.

غالبية الشيوعيين المنتمين إلى الطبقة البرجوازية الصغيرة كانوا يعيشون حالة من التناقض والتمزق الداخلي بين ولاءاتهم الفكرية المذهبية والقومية والسياسية. بعد بيان آذار 1970، الذي يسميه الحزب الديمقراطي الكردستاني اتفاقية آذار، تجرأ بعض الشيوعيين على الخروج في مظاهرة شبه ممنوعة. وكان عباس كيخسرو قراولوس على الأكتاف يهتف "عاش الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الملا مصطفى البارزاني".

الأخ الأصغر لعباس، الذي كان يبيع اللبلبي والباقلاء في الحي، قام بتعليق صور على جدران الزقاق لكل من الإمام علي، ولينين، والملا مصطفى البارزاني. وعندما مر أحد رجال الأمن وشاهد الصور، علّق في داخله باستغراب قائلاً: "شيء غريب، أشياء لا تشبه بعضها".

ومن اللافت أن أخًا آخر لهم، وهو الأصغر سنًا، تم إعدامه بسبب انتمائه إلى حزب الدعوة. وقد عرف أيضًا بزياراته المتكررة إلى النجف ولقاءاته (كما سمعت) بمحمد باقر الصدر في تلك الفترة، حينما كان يخدم كمتطوع في الجيش العراقي برتبة نائب ضابط.



#حميد_كوره_جي (هاشتاغ)       Hamid_Koorachi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تمرد الغيتو - مقاومة المحكومين بالموت
- كشف الحقيقة في أعماق الظلام
- قد حان لي وقت الصلاة - قصيدة لإميلي ديكنسون
- رحلة موفقة ، سيدي الرئيس!
- قصيدة غزل لحافظ الشيرازي- ياريح الصبا ، هلّا أتيتِني بنفحة م ...
- رواية - كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية- و أجيالنا المحترقة ...
- الزورق العليل
- حافظ الشيرازي: الصبوح َ ، الصبوح َ ، يا أحباب!
- قصيدة - الجمعة- لفروغ فرخزاد
- سهراب سبهري وثلاث قصائد
- من يدير جهاز الدولة الرأسمالية
- واحة في اللحظة
- الفوتبول و الدم والدولار
- لا تَسِرْ وديعا في ذاك الليل الجميل!
- الدولة بين ماركس ولينين
- جلال الدين الرومي: أنا غلام القمر
- لاحقا سوف يأتيني موتي- قصيدة فروغ فرخزاد
- لينين الثوري الروسي وماركس الثوري الاشتراكي
- هل بهتت ذكرى لينين ؟
- محاق


المزيد.....




- حماس تنفي نيتها إلقاء السلاح وتصف زيارة المبعوث الأميركي بأن ...
- العثور على جثمان عم الفنانة أنغام داخل شقته بعد أيام من وفات ...
- بعد سقوطه على المسرح.. خالد المظفر يطمئن جمهوره: -لن تنكسر ع ...
- حماس: تصريحات ويتكوف مضللة وزيارته إلى غزة مسرحية لتلميع صور ...
- الأنشطة الثقافية في ليبيا .. ترفٌ أم إنقاذٌ للشباب من آثار ا ...
- -كاش كوش-.. حين تعيد العظام المطمورة كتابة تاريخ المغرب القد ...
- صدر حديثا : الفكاهة ودلالتها الاجتماعية في الثقافة العرب ...
- صدر حديثا ؛ ديوان رنين الوطن يشدني اليه للشاعر جاسر الياس دا ...
- بعد زيارة ويتكوف.. هل تدير واشنطن أزمة الجوع أم الرواية في غ ...
- صدور العدد (26) من مجلة شرمولا الأدبية


المزيد.....

- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حميد كوره جي - التين في ظلال النخيل الجزء 1