أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - الطب والامبريالية في المغرب















المزيد.....



الطب والامبريالية في المغرب


سعيد الوجاني
كاتب ، محلل سياسي ، شاعر

(Oujjani Said)


الحوار المتمدن-العدد: 4163 - 2013 / 7 / 24 - 15:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ينظم الطب في ظل الرأسمالية لزيادة تراكم رأس المال. وعلى الرغم من خرافة الليبرالية ، فان هذا الطب لا يخدم الصحة كغاية في حد ذاتها ، بل يسبب الطب الرأسمالي احيانا المرض او الموت ، كما في حرب الجراثيم والسيطرة على الافكار والتعذيب في مخافر المخابرات والطب العسكري ، وأحيانا اخرى لا يقدم الطب اي شيء للصحة ، كما هو الحال بالنسبة للخدمات الطبية في اغلب المناطق الريفية بالعالم الثالث ، وأحيانا ’يحسّن الصحة ولكن بمعنى ضيق ، اي بما يكفي للمحافظة على قوة العمال العبيد من اجل انتزاع اقصى الارباح .
ان متطلبات التراكم الرأسمالي تستلزم من الطب ان يتكيف مع انواع متعددة من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية . فالخدمات الطبية تأخذ اشكالا مختلفة ، او حتى متعارضة ، وذلك حسب المنطقة ، والطبقة ، والمرحلة التاريخية . ان العالم الثالث يشكل اكبر الادلة على ان الطب مؤسسة رأسمالية ، فالأطباء غالبا ما يعملون كوكلاء للدعاية الكلونيالية والتجسس ، بينما يوفر النظام الطبي الرقابة الاجتماعية ويولد قوة عمل تلائم احتياجات الرأسمال .
والمغرب مثال جيد في هذا الشأن . فقد استخدمت القوى الامبراطورية المتنافسة ، اثناء الزحف الاستعماري في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، الاطباء بشكل مكثف كدبلوماسيين ، وجواسيس ، ووكلاء لكافة الاغراض ، وذلك من اجل التغلغل داخل المجتمع المغربي . واستخدم الفرنسيون ، بعد الاحتلال الاطباء لتهدئة الاوضاع والتجسس والدعاية . وإذا كان النظام الطبي قد حسن من صحة المغاربة ، فإنما فعل ذلك من اجل توفير قوة عمل يمكن استغلالها من طرف الرأسمال الكلونيالي . ولم يتغير تركيب وتطور هذا النظام الطبي بشكل اساسي عندما استقل المغرب ، فهو ما يزال يخضع لقوانين التراكم الرأسمالي ، ويعكس الاستمرارية السياسية والاجتماعية للاستعمار الجديد بالمغرب .
اولا : المرحلة السابقة للاستعمار :
ا ) – الاطباء كوكلاء للتغلغل الاستعماري : برهن الاطباء على نجاحهم كوكلاء للتغلغل الاستعماري في المغرب ، اذ ان الاطباء الذين كثيرا ما عملوا في وزارات الحربية والخارجية او اجهزة الاستخبارات ، اخضعوا مهاراتهم المهنية لإغراضهم السياسية ، ممهدين بحماس الطريق للاستعمار . وقد حقق اطباء الفترة السابقة للاستعمار عددا قليلا من حالات الشفاء المدهشة ، لكنهم لم يرفعوا المستوى الصحي العام في المغرب ، ذلك لان الرأسمال الاوربي لم يستطيع بعد ان يستحوذ على قوة عمل المغاربة . كان التراكم البدائي مسيطرا على جدول عمل رأس المال فارضا الملكية الخاصة والعمل المأجور كقاعدة. وكان عليه ان يقوم بمراقبة الدولة المغربية لتحقيق ذلك . وقد استخدم الاطباء في العمل السياسي لتهييئ الوضع للاستيلاء الاستعماري ، وقاموا ببعض الرعاية الطبية لتغذية نواياهم الحقيقية .
ب )-- الاطباء الدبلوماسيون : عندما تقدم الطب الاوربي على الطب المغربي ، بدأ السلاطين يستدعون الاطباء الاوربيين لمعالجتهم في بلاطهم ، وغالبا ما كانت تتم الدعوات عن طريق الدبلوماسيين مباشرة . وعندما تنبهت دواوين الوزارات الاوربية الى ذلك ، اسرعت بتكليف الاطباء بمهام دبلوماسية . وزيادة على ذلك ، فقد اصبحت فرنسا وبريطانيا ، القوتان الاستعماريتان الكبيرتان ، ترسلان المبعوثين الطبيين كل خمس سنوات تقريبا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر . وقد تسارعت الخطى عندما وضع الاستيلاء الاستعماري على جدول العمل الدبلوماسي .
كانت الشخصية الرئيسية في هذه المرحلة من الدبلوماسية الطبية ، رجل فرنسي هو " فيرناند ليناريس " الذي اقام في المغرب ما بين 1877 و 1902 ، على عكس سابقيه ممن كانت فترة بعثهم وجيزة . كان انجازه الكبير هو تقديم نفسه كصديق ومؤتمن للحسن الاول ، وحظي ايضا بثقة رئيس الديوان ، الصدر الاعظم " بّا احماد " الذي استولى على الحكم بعد وفاة الحسن الاول .
دخل " ليناريس " المغرب بصحبة البعثة العسكرية الفرنسية ، وبعد اكثر من سنة واحدة بقليل ، شق طريقه الى البلاط الملكي عندما اشفى احدى زوجات العائلة الملكية ، وسرعان ما حصل على دار في فاس قلما يسمح للأوربيين العيش فيها . وبعد ذلك بدأ الجانب الفعال من عمله ، ففي الوقت الذي كان يعالج فيه المرضى بقدر ما تتطلبه الدبلوماسية ، حصل على مكانة مرموقة لدى السلطان ودائرة البلاط الملكي ، وساهم بمهارة في دسائس البلاط ، وحسّن بصورة عامة موقع الدبلوماسية الفرنسية .
تفوق " ليناريس " بمناوراته على الوكيل البريطاني الرئيسي المغامر "هاري ماكلين " . لقد اثبتت فنون الطب انها اكثر نفعا من العلوم العسكرية . وصف الوزير الفرنسي في طنجة " سانت رينيه تاينديه " دور " ليناريس " بما يلي : " اصبح للوزراء الفرنسيين وسيط شبه رسمي لذوي مولاي الحسن ووزراءه لم يسبق لهم ان حلموا به . عينان تريان بوضوح ، وقلم يسجل الاحداث ، وكلمة تنطق برقة ، ومنفّذ مخلص لكل التعليمات " .
واعترف وزير آخر في طنجة وهو الكونت " سانت اولير " بما يلي : " ان هذا الدور (دور الطبيب ) هو حسب مفهومي ، سياسي اكثر مما هو انساني بكثير . وجدت في الدكتور " ليناريس " وكيلا ثمينا للارتباط بالمخزن ، قادرا على تحييد التأثيرات المنافسة ،و’معبّدا الطريق لما يسمى ب " التغلغل السلمي في المغرب " . ولا تدع مراسلات " ليناريس " الدبلوماسية الغزيرة ، والمحفوظة لدى ارشيف الحربي الفرنسي ، مجالا للشك في ان الطب كان خاضعا لمهمته الاولى كدبلوماسي في الطليعة الاستعمارية الفرنسية وأداة لها . واعترف البريطانيون ايضا بقيمة " ليناريس " وفضله ، فقدموا الطبيب " اغبرت فردن " لتمثيل الدبلوماسية البريطانية لدى البلاط الملكي في فاس . ومع انه لم يكن ناجحا ابدا مثل " ليناريس " في الفوز بحظوة السلطان او رئيس الديوان الاقوى ، إلا انه وصل الى مواقع حرمت على العديدين سابقا ، وأصبح رجل الارتباط الرئيسي بين البلاط والوزير البريطاني في طنجة .
ج ) – الاطباء المبشرون الدينيون : عندما تطلب التغلغل الاوربي المتزايد ، عملا يتعدى حدود البلاط والدبلوماسية ، وعندما اصبح التجسس والدعاية بين جمهور السكان ضروريين ، تسلم البريطانيون الزمام ، فكانت جمعياتهم التبشيرية هي السباقة للقيام بعمل جماهيري منهجي . لقد اضطرت هذه الجمعيات على اخفاء نشاطات المبشرين بسبب عداء المسلمين المعروف للتبشير المسيحي ، واختارت الطب كمصدر للإغراء ، و ’جند غالبية المبشرين في المغرب ، إما من الاطباء المتمرسين او من الذين حصلوا على تدريب طبي قبل ارسالهم الى ميدان العمل .
واذا كانت بداية العمل التبشيري متواضعة ، فانه قد نما بسرعة ، حوالي 1885 . فبعد عشر سنوات كانت هناك ست جمعيات تبشيرية تضم حوالي خمسة وسبعين مبشرا . وقد بدأ واحد من اوائل المبشرين الذين وصلوا الى المغرب ، وهو الدكتور " تشر تشر " عمله في طنجة ، حيث اقام المقرات العامة لبعثة شمال افريقيا ، وساعد على توجيه المجندين التبشيريين الجدد . وبعد ان قضى سبع سنوات في طنجة ، اقام في فاس مركزا تبشيريا متقدما . اما الدكتور " روبيرت كير " ، وهو من الذين وصلوا مبكرا ايضا ، فقد جمع بين عمله التبشيري والدعاية النشيطة للتوسع الامبراطوري بين المستمعين اليه في البيوت ، وكان يخبر قراءه في البلد الام بان الطب مفيد حيث انه " يفتح العديد من الابواب الموصدة بوجه الاخرين " .
تمركز اغلب العمل التبشيري في العيادات الطبية – التبشيرية الصغيرة المقامة في المدن الكبرى ، حيث يتجمع السكان المحليون من اجل العلاج الطبي ، ولكنهم ينبغي عليهم ان يستسلموا لإرث ديني روحي ، وكمثال على ذلك ، فقد رتبت احدى الجمعيات الامر كالتالي : عندما يدخل الناس للعيادة ، يجلسون في احد جوانب الغرفة الرئيسية ، وبعد ان يستمعوا الى قراءة الانجيل ، يمكنهم ان ينتقلوا الى الجانب الاخر حيث يجري الفحص الطبي . وقد وصفت الصحيفة التبشيرية البريطانية " الرّبير " الطب " كوسيلة لاجتذاب السكان البالغين وحملهم على الاستماع الى الانجيل " ، وحسب رأيها ، فان للطب ميزة اخرى ، إذ انه يجتذب المتبرعين بالمال في البلد الام ، الذين يفضلون الانسانية الطبية على الاقناع الديني .
زار المبشرون الطبيون ايضا التجمعات الريفية المجاورة ، وحاول بعضهم الاقامة الدائمة في بعض المناطق . ان هذا الاندفاع نحو الريف ، جاء نتيجة لإستراتيجية مدروسة بخصوص شمال افريقيا . فالشعوب التي تتكلم البربرية ، كانت تعتبر عرقيا وثقافيا اكثر تقبلا للنفوذ الاوربي . وهكذا فقد ترجم بعض المبشرين المتحمسين نصوصا انجيلية الى عدة لهجات بربرية ، آملين ان ينقلب البعض منهم على الاسلام . ولكنه ثبت ان التغلغل في الريف كان خطيرا وصعبا في آن واحد ، إذ ان البربر لم يلتفوا حول الانجيل ، مما ادى الى انحصار النشاط التبشيري في المناطق الريفية . وبالرغم من ان عدد المنقلبين عن دينهم كان ضئيلا وسط سكان المدن ، فان ذلك لم يمنع من النمو السريع للنشاطات التبشيرية ، ذلك لان التجربتين الحضرية والريفية ، منحتا للمبشرين فرصة غنية لدراسة الظروف الاجتماعية والاتجاه السياسي للسكان ، وتمكنت الدبلوماسية البريطانية من الاستفادة من المقالات المفصلة والتقارير المرسلة الى المقرات التبشيرية المركزية بلندن .
د ) – الاطباء وكلاء الاجهزة الاجنبية : دفع تأثير المبشرين الطبيين البريطانيين الدواوين الوزارية الاوربية الى ارسال الاطباء المعتمدين من الدول الى المغرب . فسرعان ما شاركت فرنسا وألمانيا واسبانيا وانجلترا ، في مطلع القرن العشرين ، في عملية ارسال الاطباء العسكريين على سبيل الاعارة لوزارات الخارجية . وقد ’كلف هؤلاء الاطباء بتجميع المعلومات والتآمر مع الشخصيات الكبرى المحلية لتهيئة السكان للاحتلال الاستعماري . فأسست فرنسا اوسع البرامج لما يسمى ب " شؤون المبشرين الاجانب " . وهكذا وصل المبعوثون الطبيون الاوائل الى المغرب في نهاية سنة 1904 ، وهي السنة التي بسطت فيها فرنسا يدها على خزانة الدولة المغربية . وقد تصاعد عدد المبعوثين الطبيين بعد امضاء معاهدة الجزيرة الخضراء سنة 1906 ، والتي سمحت لوكلاء اية حكومة اوربية بالدخول الى المغرب .
وصل اشهر المبشرين على صعيد السياسة الخارجية الدكتور " اميل موشام " الى محل عمله في مراكش خلال شهر اكتوبر سنة 1905 . وقد كانت مراكش مقر عبد الحفيظ الاخ المنافس للسلطان ، كما كانت مركز عائلة الكلاوي القوية النفوذ . اقام " موشام " في بيت سابق ل " ليناريس " ، وبعد فترة قصيرة شق طريقه الى عبد الحفيظ ونال ثقة الكلاوي ، وعلية القوم المحليين الاخرين . ومكنته مهنته الطبية من المراقبة الدقيقة للمناورات السياسية التي ادت الى مطالبة عبد الحفيظ بالعرش ، واستطاع ان يحافظ على روابط فرنسية مع المطالب بالعرش وأعوانه ، بالرغم من تفوق التأثير المالي والدبلوماسي الالماني في بلاط عبد الحفيظ .
ه ) – الاطباء المستوطنون المغامرون : لم يكن الاطباء الذين يعملون لحسابهم الخاص اقل شأنا من الذين يعملون لصالح الاستعمار الاوربي بشكل مباشر . فقد جاء هؤلاء للممارسة الطب بين التجمعات السكانية التي نمت بسرعة في اواخر القرن التاسع عشر على المدن الساحلية . وقد ادى بحثهم عن مداخل اضافية الى اندماجهم بسرعة في العمل السياسي والدعائي للاحتلال الاستعماري ، وكذا في عمليات التجسس .
كان اغلب الاطباء الذين اجتذبهم المغرب في هذه الفترة ، من عائلات برجوازية صغيرة ، وجدوا صعوبة في ممارسة مهنتهم في المدن الاوربية بسبب افتقارهم للعلاقات الاجتماعية والدعم المالي ، لذلك اختاروا المستعمرات لأنهم لم يكونوا بحاجة فيها الى الامتيازات الاجتماعية الفردية التي تتطلبها الممارسة في البلد الام ، ويمكن ان يبتدئوا من لا شيء ، بدل السعر الباهظ كما هو الحال عادة في الوطن الام . فالمستعمرات وفرت لهم اذن ، امكانية تكديس الاموال الطائلة بسرعة . لقد كان المغرب من اواخر المناطق التي فتحت للتغلغل الاوربي ، إلا ان الاقبال عليه كان كبيرا بسبب اقترابه من اوربة واعتدال مناخه .
يقول الطبيب الفرنسي " فيليكس فيسغربر " الذي بدأ في ممارسة الطب في الدارالبيضاء سنة 1896 : " كنت طبيبا على متن الباخرة " بليروفون " ، وفي طريقنا الى " باتافيا " ، وبسبب اصطدامنا مع باخرة اخرى ، توقفنا بمدينة الجزائر لمدة اثنتي عشر يوما . ولما كنت عائدا من الشرق الاقصى ، راودني حلم للحظة واحدة ، بان اجرب حظي . استقرت تأملاتي بمدينة الجزائر ، فاخترت هذا البلد " المشمش " ، لكن الجزائر وتونس بدتا متحضرتين جدا . ولما كنت اشعر بان فرنسا ستوسع نفوذها قريبا الى المغرب ، وسيصبح بالإمكان القيام بدور الرائد ، قدمت الى طنجة ، لكن مدينة السفارات تلك ، بدت اوربية اكثر مما ينبغي ، لذلك قررت ان اقيم في الدار البيضاء ، المدينة الوحيدة الاخرى في المغرب ، التي بدت لي كمستوطنة اوربية كافية لضمان الوجود المادي لطبيب لا يمتلك موارد خارجية " .
اكتشف " فيسغربر " ان الوضع المالي لمهنة الطب في الدار البيضاء بعيد على ان يكون مشرقا ، لكنه بقي فيها . وبسبب جرأته وثقافته وشعوره القوي بقرب الاحتلال الاستعماري الفرنسي ، قام الى جانب مهنته ، بعدد من المساعي تتضمن الصحافة والدبلوماسية ، ورسم الخرائط والتجسس ، ولم يمض عليه وقت طويل حتى امتلك بيتا انيقا في المدينة ، وممتلكات في الريف ، وصندوقا مليئا بالنقود الذهبية .
و " فيسغربر " ليس إلا مثالا نموذجيا من بين حالات مثيرة شتى ، فنادرا ما ساهم هؤلاء الاطباء المستوطنون ، سواء بدافع الربح التجاري ، او خدمة للحكومة ، او بدافع الرغبة الشخصية ، في تعجيل الغزو الاستعماري . فعلى سبيل المثال ، عمل " فيسغربر " مع السلطان خلال حملة عسكرية ملكية ، وعاد بتقارير مفصلة عن المخزن ومدى التمرد القبلي ، ورسم خرائط للمغرب الداخلي قدمها الى الجيش الفرنسي ، وكتب مقالات عديدة في الصحف والمجلات ، وتردد على باريس للدعوة للتدخل الاستعماري .
عمل الأطباء المستوطنون بصورة عامة كأفراد ، خارج اي اطار تنظيمي ، كما هو الحال بالنسبة لزملائهم في الجمعيات التبشيرية والأجهزة الاجنبية ، ولكن طبيعة عملهم كانت مشابهة . لقد اندفعوا بقوة في عملية التغلغل والدعاية الاستعماريتين ، واعتبروا أنفسهم سوية مع زملائهم الأطباء الآخرين ، وكلاء لمرحلة متنورة جديدة من العصر الأوربي التي كانت في الحقيقة مرحلة التهييئ للاستعمار الأوربي .
و ) – ردود الفعل المغربية والأوربية : بالرغم من ان الأطباء استخدموا ستار الحياد السياسي ليعيشوا في تجمعات تسهل لهم ربط وإقامة العلاقات مع مختلف طبقات الشعب المغربي ، إلا انه نظر إليهم بالشك ، بل ناصبوا العداء ، فبازدياد المقاومة للامبريالية الاوربية ، تعرض بضعة اطباء للهجوم بشكل خاص ، وقتل اثنان منهم على الأقل بمراكش والدر البيضاء .
ساهم تبشير الاطباء بالمسيحية ، وصلاتهم مع الاتباع والمتعاونين ، وتحركاتهم الغامضة في البلاد ، في اثارة كراهية الجمهور لهم ، حتى ان عملهم الطبي ربما ركز الاستياء الشعبي ، لان علاجهم غالبا ما اخفق ، وكثيرا ما تركوا مرضاهم الفقراء لعلاج علية القوم او للسفر في مهام دبلوماسية .
كانت المقاومة الشعبية شديدة في المدينتين الكبيرتين فاس ومراكش ، اذ قتل الطبيب البريطاني المبشر " كوبر " في نهاية سنة 1902 في مدينة فاس ، ثم المبشر الفرنسي في السياسة الخارجية " موشام " خارج منزله في مراكش سنة 1907 . وكانت ظروف هذه القضية سياسية بشكل واضح تماما ، ولو ان الروايات الخاصة بالقتل تختلف ، لكن ثمة اجماع عام على ان السبب يكمن في نشاطات " موشام " التجسسية المعروفة .
اصبح الطب اقل تأثيرا في تهيئة الرأي العام المغربي عندما اصبح دعمه للاستعمار الاوربي مفضوحا ، لكن اهميته في تهيئة الرأي العام في البلد الام كانت على العكس كبيرة ، فقد اصبح الاطباء مبررا للتوسع الاستعماري ورمزا للنظرة الانسانية الاوربية المتنورة . وهكذا فقد عرض مقتل الدكتور " كوبر " في الصحافة الشعبية البريطانية كعملية وحشية سببها التعصب الديني ، توضح همجية المغرب وحاجته الى حكم أوربي يمدّنه . اما مقتل " موشام " فقد لعب دورا بارزا في المخططات الاستعمارية ، بما في ذلك تعبئة الشعور الجماهيري في الوطن الام لبداية الغزو العسكري . يقول " أدولف جيرو " : " في سنة 1907 تطورت احداث خطيرة اجبرت فرنسا على العمل بقوة ، والشروع في العمليات العسكرية . وقد سبب اغتيال " موشام " في مراكش صرخة هائلة في بلادنا ، والسبب الاول لتدخلنا . كانت هناك حاجة ملحة للقيام بعمل تأديبي حتى تقوم الحكومة المغربية بالإصلاح اللازم " .
لم تكد تمضي عشرة ايام على مقتل " موشام " ، حتى عبرت وحدات من الجيش الفرنسي الحدود الجزائرية واحتلت مدينة وجدة المغربية . وبعد ان احكم القائد "بطايور " محاصرة المنطقة دفع جنوبا الى مراكش " لحماية " امن المواطنين الفرنسيين والأجانب الاخرين القاطنين بالمدينة " . لقد انتهت فترة " التغلغل السلمي " وبدأت مرحلة التدخل الاستعماري المسلح .
ثانيا : المرحلة الاستعمارية :
تطلع الفرنسيون ، بعد معاهدة الحماية سنة 1912 الى وضع البلاد تحت سيطرتهم بسرعة فائقة ، لكن الغزو الاستعماري استغرق عشرين سنة تقريبا بسبب المقاومة البربرية والعروبية الشديدة . وقد ارتبط الاطباء ارتباطا وثيقا ببرنامج " التهدئة " الواسع ، عاملين سوية مع الجيش الفرنسي المتقدم . فقد استخدم الطب الاستعماري ، كما كان الشأن في المرحلة السابقة ، مركزا للتجسس والدعاية ، وليس للرعاية الصحية اطلاقا .
احتاجت اجزاء المغرب التي اصبحت تحت السيطرة العسكرية الى استخدام مختلف للطب ، يجمع بين الرعاية الصحية والسيطرة السياسية بجرعات مختلفة ، وأصبحت قوة العمل اكثر اهمية عندما ظهرت المزارع والمناجم والسكك الحديدية والمصانع على الخريطة الاستعمارية .
لم يقدم نظام الطب الاستعماري شيئا يذكر من الرعاية الصحية لمن هم خارج دائرة الرأسمال ، مهتما بذلك بالسيطرة الاجتماعية . أما بالنسبة لمن هم داخل دائرة الرأسمال ، فقد قدم لهم خدمات في أطار نظام طبقي صرف . وهكذا حصل المستوطنون الفرنسيون والأوربيون على رعاية جيدة تتطابق مع مراكز المدراء والبيروقراطيين والمهنيين الماهرين المتخصصين التي يحتلونها ، بينما كانت رعاية المغاربة لا تتعدى ما يكفي لاستخلاص القيمة الفائضة القصوى منهم .
ا ) – الاطباء وكلاء التهدئة الاستعمارية : يعود الفضل في تطوير طب التهدئة الى " المارشال ليوطي " ، آمر القوات الغازية الاولى ، وأول مقيم فرنسي في المغرب . تمركز البرنامج الجديد حول الوحدات الصحية المتنقلة ، وكانت خطة " ليوطي " هي فصل الاطباء العسكريين عن مسؤولياتهم الاعتيادية ( العناية بالجنود والجرحى والمرضى ) وتنظيمهم داخل وحدات يمكنها التحرك بشكل مستقل عن الجيش ، فتستطيع بهذه الطريقة ان تندفع في الاراضي غير المحتلة ، وتهيئ السكان للاستسلام وذلك باستخدام العناية الصحية . وصف " ليوطي " هذه الوحدات فيما بعد بما يلي : " جنود سلميون قلائل يزحفون باستمرار ويتغلغلون الى ابعد المناطق ، وداخل مناطق الجماعات المشبوهة جدا ، ونحن ندين لهم بعلاقات عديدة ، وبالتعاطف معنا وحتى بالاستسلام لنا " .
لم يتوفر " لليوطي " في الطور الاول لا الوقت ولا الأيادي العاملة الطبية لإقامة برنامجه بالكامل ، غير انه مع ذلك نقل الاطباء فورا الى طليعة الجيش الغازي ، والتحقت مجموعة الاسعاف بطوابير الاستطلاع ، وقامت بعمليات في الاراضي المعادية لعرض حسن النية الفرنسيين ، وإغراء القادة المحليين بإجراء المفاوضات . وأرسل " ليوطي " الاطباء في بعثات الاستخبارات العسكرية الى داخل البلاد ليصرف الانتباه عن بعثات الاستخبارات ، ولتجميع المعلومات ذاتها من المرضى ، وانتقلت وحدات طبية كاملة لوحدها الى اراضي غير محتلة .
كانت المناطق غير الخاضعة ، جبال وصحاري بشكل رئيسي ، قد شهدت مقاومة رائعة على شكل حرب العصابات ، وبدأ دور فرق التهدئة اولا حملة في الاطلس المتوسط ( 1918 – 1920 ) ثم في الريف ( 1920 – 1926 ) وأخيرا في الاطلس الكبير والأطلس الصغير والصحراء ( 1931 – 1934 ) . ويرى " ليوطي " ان دور الاطباء كان ثمينا ، ان لم نقل جوهريا في كل الانتصارات العسكرية ، واحتلت الشخصيات الطبية القيادية في هذه الحملات مثل الدكتورين " كولومباني " و " شاتينيير " مواقع بارزة في التاريخ الاستعماري الفرنسي .
يقول " ليوطي " في خطاب القاه في مؤتمر طبي ببروكسيل سنة 1926 : " في اليوم الذي يقرر فيه احد الشخصيات البارزة ، او زعيم ما ، او أي شيطان او مريض ان يرى طبيبا فرنسيا ثم يترك عيادته وهو مشافى ، يذوب الجليد ، وتتم الخطوة الأولى وتبدأ العلاقة في أخد مسارها ..... من المؤكد ان للتوسع الاستعماري جوانبه الصعبة ، فهو لا يرقى عن اللوم ، او انه ليس دون نقائص . ولكن اذا كان هناك شيء يضفي عليه الشرف ويبرره فهو عمل الطبيب ، عمل يفهم كتبشير ورسالة إلهية " .
ان تصريحات " ليوطي " وأتباعه تحتوي على جرعة كبيرة من الأسطورة الاستعمارية ، ذلك ان تصريحات بعض القادة العسكريين الأكثر جرأة توضح حدود التهدئة الطبية " السلمية " وتفضح الوحشية التي تعمل بها . ان كتاب تاريخ حياة الجنرال " غيرو " يسجل وثائق التدمير والتقتيل وحرق المدن وإبادة السكان المحليين . كما عبر الجنرال " غيوم " عن شكوكه حول تصريحات " ليوطي " ومعاونيه حول عملية " التهدئة السلمية " : " قبل الفشل النهائي الكامل للعمل السياسي لهذا المد او ذاك ، هناك حاجة للعمل العسكري لتحطيم مقاومة القبائل العنيدة بالقوة . ليس هناك قبيلة واحدة تتحول نحونا ذاتيا ، ولم تخضع اية واحدة دون قتال ، وبعضها قاومت حتى استنفدت آخر وسائل مقاومتها . ان صيغ " ليوطي " الراعية الى " إظهار القوة لتجنب استخدامها " لا يمكن ان تطبق بشكل مناسب على السكان المصممين على الدفاع عن استقلالهم الى الحد النهائي " . لقد مات مائة الف مغربي ، وعشرون الف جندي فرنسي في هذه المجزرة الاستعمارية .
ب ) – الطب والنظام الاستعماري : اقامت سلطات الاحتلال ترتيبات صحية اكثر ثباتا على الاقل في تلك المناطق التي توقعت وجود الاوربيين فيها ، فأنشأت المستوصفات والعيادات ومستشفيات صغيرة حسب اهمية مراكز الاستيطان والمناطق ، واهتم الاطباء في الوقت ذاته بالعمل الدعائي بين السكان المغاربة المحليين محاولين اقناعهم بقبول الحكم الاستعماري .
قدمت الخدمة الصحية عناية جيدة للمستوطنين وأخرى سيئة للمغاربة . فاستمر الاطباء العسكريون بالعناية بالمغاربة ، بينما راعى اطباء الخدمة المدنيون المستوطنون ، وهذا يعكس نظام الأولويات المتبع لكل من السكان : رقابة سياسية في حالة ، ورقابة صحية في أخرى .
لم تغط الخدمة الصحية ، باستثناء المدن الرئيسية ذات التمركز الكبير للمستوطنين ، إلا جزءا ضيقا في غالبية البلاد ، فقط هناك مستوصفات يزاول فيها الاطباء بالتناوب ، كما كانت هناك وحدات متنقلة بين القرى والأسواق .ومن المهام الاخرى الموكولة الى هؤلاء الاطباء جمع المعلومات والعمل كحرس متقدم لمكتب شؤون السكان المحليين . وهكذا فقد رسموا خرائط المناطق الريفية ، وقدروا عدد السكان والموارد الطبيعية ، وأحصوا الآبار والقرى وطرق المواصلات ، وأكثر من ذلك اهمية ، كان الحصول على معلومات حول التركيبات السياسية التي يمكن ان تلعب كأساس للسيطرة السياسية الاستعمارية .
اما في المناطق الاكثر استقرارا من الناحية السياسية ، فقد قام ضباط شؤون السكان المحليين بنشاطات الاستخبارات هذه ، بينما اهتم الاطباء بالدعاية وبتقديم العناية الصحية للطبقة العاملة المغربية الناشئة . وقد وصف الدكتور " كولومباني " هذه العملية سنة 1932 ، بأنها مزدوجة : انسانية ونفعية ، حيث يقول : " الهدف الانساني يعني التأكيد منذ البداية على دورنا كرسل للحاضرة .... والهدف النفعي هو المحافظة بكل الوسائل التي تحت تصرفنا ، على رأس المال البشري المحلي من اجل ان نحصل من العمل على اعلى ما يمكن من الانتاج . ان مستلزمات ذلك تفرض نفسها منذ البداية من اجل بناء البلد المحتل الجديد " .
وهكذا عمل الاطباء على المحافظة على قوة العمل المغربية ، ولكن فقط حسب احتياجات الرأسمال الاستعماري ، ولما كانت الاحتياجات وتوفير العمل غير منتظمتين ، فقد كان النظام الطبي بالتالي ، متقلبا باستمرار . وكمثال ، ففي سنة 1923 قضى وباء شديد على مئات الألوف من المغاربة مما ادى الى ارتفاع الاجور ، فهلع الرأسماليون الاستعماريون من هذا التهديد لأرباحهم ، مما ادى بهم الى اقناع السلطات بتخصيص اموال اضافية للخدمات الصحية . إلا ان نقص اليد العاملة لم يدم طويلا ، فقد استفاد المغاربة من برنامج القضاء على الامراض المعدية ، فانخفض معدل وفيات الاطفال وتضاعف عدد المغاربة ثلاث مرات خلال الحقبة الاستعمارية . ولما استمر انتزاع ملكية الأرض ، تدفق مئات الألوف من الفلاحين المهجرين الى المدن باحثين عن عمل مأجور ، فلم يعد لدى السلطات الاستعمارية اي حافز لتحسين الخدمات الصحية ، فسمح ذلك في سنة 1928 لوباء آخر ان يأخذ طريقة للفتك بالسكان المحليين ؟
بنيت المستشفيات في المدن الكبرى حيث تركزت اغلب مصادر الخدمات الصحية ، وبالتالي ، لم تكن في متناول السكان الذين يعيشون في المناطق الريفية حيث فرض الأطباء الأجر المقابل للعلاج وباعوا ادوية الخدمة الصحية التي كان من المفروض توزيعها مجانا .
لم تكن المستشفيات في المدن مفتوحة امام الجميع على قدم المساواة ، حيث أقامت السلطات المحلية مستشفيات من ثلاث درجات تحت ستار مراعاة العادات المختلفة . كانت هناك خدمات منفصلة للأوربيين واليهود والمسلمين تبعا لسياسة " فرق تسد " الاستعمارية ، بالإضافة إلى تعزيز نظام العمل الطبقي الاستعماري . كانت المستشفيات الأوربية بالطبع كبيرة ومجهزة تجهيزا ممتازا ، والمستشفيات اليهودية اقل درجة نوعا ما ، أما المستشفيات الإسلامية فكانت غير مجهزة تماما . ففي فاس ومراكش ومكناس حيث يفوق عدد المسلمين عدد الأوربيين بأكثر من خمسة أضعاف نجد ان مخصصات مستشفيات المسلمين مساوية لعشر مخصصات الأوربيين .
بقيت صحة المغاربة بعيدة عن مستوى هذا القرن ، واذا كانت الخدمة الصحية الاستعمارية قد حققت قليلا من التقدم المحدود ، كتقليص حالات التيفوس ، والتراخوما ، وانخفاض وباء الطاعون والجدري والجدام والسل والسيفيليس او مرض النوّار ... إلا ان المقارنة تكمن في ان ظروفهم الصحية اليومية ربما أصبحت أسوأ مما كانت عليه في الفترة السابقة للاستعمار ، وقلبت التحولات البيئوية الناتجة عن الزراعة الحديثة ، موازين الصحة في المناطق الريفية .فأمراض الرئة أخذت قسطها الوافر في المناجم ، وتحطمت الترتيبات الصحية القديمة في المدن : الحمامات العمومية ، الساحات المتشمسة والعلاج بالإعشاب ، ولم تعد هذه الترتيبات قادرة على احتواء المرضى في الاحياء المدنية المزدحمة ومدن الصفيح المنتشرة ، وأصاب مرض التدرن والأمراض التناسلية للذكر أوسعها انتشارا وأخطرها للآلاف من المهاجرين الجدد . ومع ارتفاع الاسعار لم يستطيع العمال شراء نفس كمية الغداء الي اعتادوا استهلاكها في ظل اقتصاد الكفاف . ففي عام 1880 كان المغاربة يتناولون اللحم بمعدل ثلاث مرات في الاسبوع ، اما في عام 1940 فبمعدل مرة واحدة فقط ، كما انخفض استهلاك الحبوب ، وعانى المغاربة من سوء التغذية والأمراض الناتجة عنه .
شكك غالبية المغاربة عن حق في الاطباء الاستعماريين ، وترددوا في طلب علاجهم . وعندما ظهرت اول صحيفة قومية في الثلاثينات " المغرب " فضحت التجمع الاستيطاني بمهاجمة الدكتور " كريستياني " في فاس ، وتحول غضب الجمهور خلال المظاهرات الاولى المعادية للاستعمار في سلا سنة 1944 الى اقرب مستشفى فدمروه عن آخره .
عندما ازدادت الحركة المعادية للاستعمار ، رفض المغاربة العلاج الطبي وقاطعوه ، ولما بدأ الكفاح المسلح ، حولوا النار الى الأطباء مباشرة ، وهكذا ثم اغتيال مجموعة منهم بين 1953 و 1955 ، كما تم حرق بعض المستشفيات المخصصة للأوربيين .
ثالثا : الطب بعد الاستقلال :
مهما كان الانتصار على النظام الاستعماري الاستيطاني بحصول المغرب على استقلاله السياسي ، فانه لم يؤدي إلا لتغيير شكلي محدود ، فقد تعزز ، وراء السيادة الوطنية الجديدة مجتمع جديد متواصل مع المجتمع الاستعماري القديم ، حيث استمرت المؤسسات السياسية والاجتماعية الاستعمارية في عملها ، واستمرت الاستثمارات الهائلة لرأس المال الاستعماري في موقعها القوي .
عكس الطب اللاحق للاستعمار التحولات اللاحقة في الدولة والمجتمع ، وعكس بشكل خاص استمرار النظام الاجتماعي . ومع ان المغاربة حلوا ببطء محل المستوطنين في المهن الصحية ، غير ان هذا لم يؤد الى عناية صحية شعبية ، فكانت المستويات الطبية الاستعمارية جلية في كل مكان عند الاستقلال ، ففي الدار البيضاء مثلا قدم مستشفى " جول كولومبياني " الجديد الهائل خدماته الممتازة للأوربيين ، بينما تجمهرت الاعداد الكبيرة من السكان المغاربة على ابواب مستشفى " موريس غو " البالي الصغير .
كان الارث العلمي والروحي جزءا من الايديولوجيات الاستعمارية ، فكان لا يزال حتى الستينات من القرن الماضي اطباء بارزون يتحدثون عن الاصول البيولوجية لأمراض المغاربة ، كالانقياد والكسل الفطري والاستهلاك بدون انتاج ، واحتمال ان حياة الصحراء ابقت منذ القدم على عدم الاكتراث للألم والعذاب . وهكذا ، ورث المغرب المستقل الصفات المغروسة في التقاليد البالية الطبية وهي العنصرية والحماس التبشيري والتفوق العلمي والثقافي . لذا فقد اراد الاطباء المستوطنون ، العموميون منهم والخاصون ، ضمان امتيازاتهم عند بدء الاستقلال ، وهددوا خوفا من العنف الجماهيري ، وبسبب عدم ثقتهم العميقة بالنظام المغربي ، بالهجرة الجماعية اذا لم يضمن مستقبلهم بثبات .
استدعى الملك الراحل محمد الخامس ، استجابة لذلك ، ممثليهم في نهاية 1955 ، وقدم لهم الضمانات ولمحة عن السياسة الرسمية ، وقال لمستمعيه ان لا غنى عن الاطباء لا لمهارتهم المهنية فقط ، وإنما ايضا لأنهم وكلاء للدعاية الصحية والدبلوماسية . روى الدكتور " دوبو روكبير " مسؤول الارتباط شبه الرسمي مع الحكومة ، وطبيب الملك ، المشهد كما يلي : " اعلن جلالته لنا ، خلال المقابلة ، تقديره للهيئة الطبية ، وتحدث عمّا يتوقعه منها في المستقبل ، ليس طبيا فقط ، وإنما سياسيا اذا جاز لي القول ، لان باستطاعة الاطباء بعملهم ان يمارسوا تأثيرا لا ينكر على الرأي العام المغربي بفعل الاحتكاك والثقة التي يوليها المغاربة للأطباء الفرنسيين ، وكذلك بفعل انهم ، اي الاطباء ، يعرفون الكثير عنهم ، كما ان الاطباء الاجانب هم سفراء حقيقيون لدولهم المعتمدة لدى المغرب " .
عندما تشكلت الحكومة الملكية الاولى برئاسة امبارك البكاي لهبيل ، حصلت استمرارية السياسة الطبية الاستعمارية على مزيد من الضمانات ، إذ عين الملك الدكتور عبد المالك فرج وزيرا للصحة . لم يكن لفرج الفرنسي التأهيل ، اية ارتباطات سياسية فعالة ، حتى مع علاة القوميين المحافظين، وعمل فرج المحاط كليا بجهاز وزاري من الفرنسيين على " المحافظة على التراث العظيم للطب الفرنسي " . وبقي داخل الوزارة متجمدا على الماضي الاستعماري ، فكان الوزير المغربي نفسه صورة مضحكة كاريكاتورية للاستعمار ومسلية حتى لموظفيه الفرنسيين .
لقد طمأن فرج الاطباء الممارسين لحسابهم الخاص ، على ان المغربة الصحية لن تسرق منهم زبناءهم ، الى درجة ان فرج وافق على تقليص برنامج المستشفيات العمومية الذي عارضه الاطباء اصحاب العيادات ، وأكد لأحد الوفود انه " يجب علينا ان نطور الطب الخاص وان نسمح له بالتعاون مع الطب العام " . حصلت هذه السياسة المقترحة من طرف المستشارين الفرنسيين على دعم الحكومة الفرنسية ، ووافقت كإشارة على تأييدها ، على تقديم مساعدة فنية واسعة تضم مئات الاطباء والمساعدين في شؤون الصحة لإدامة خدمات القطاع العام .
اضطرت الدولة المغربية الى زيادة عدد الاطباء المغاربة في الوقت الذي ضمن فيه وضع الاطباء الفرنسيين . كان عدد الاطباء المغاربة اربعة وعشرين من بين الف طبيب من اعضاء الهيئة الطبية عند الاستقلال . في تلك الفترة اسست الدولة الفتية الحديثة العهد بالاستقلال مدرسة طبية جديدة كقسم من جامعة محمد الخامس بالرباط ، وأثيرت مسالة حيوية بالنسبة للمناهج : هل يجب على المدرسة ان تؤهل اطباء عموميين او ان تؤهل الاخصائيين ؟ . الاختيار الاول يمكن ان يطور طبا يخدم الجماهير ، بينما الثاني يدعم القطاع الخاص في المدن لخدمة الاقلية ذات الامتيازات . لم يكن هناك ادنى شك بشأن الاختيار : التخصص ، اذ ان هذا ينطبق ويتماشى مع التركيب الطبقي للمجتمع المغربي الذي ، المواطنون فيه درجات ومستويات .
كانت الخدمة الصحية العامة تحت رقابة الوزير المغربي رسميا ، لكن الفرنسيين هم الذين اداروها لأكثر من عشرين سنة خلت امتدت الى نهاية الستينات . لقد شارك هؤلاء العاملين سواء في الوزارة ام في ميدان العمل برؤية تكمن جذورها في برنامج التهدئة الطبية ، إذ تدرب اغلبهم في المدارس الطبية العسكرية الفرنسية ، وكان العديد منهم ضباطا عسكريين فرنسيين ’اعيروا للمغرب كجزء من برنامج المساعدة الفنية ، وتعزز تداخل الطب المدني والعسكري ،اذ شكل اطباء المناطق الريفية في الجيش المغربي نواة واحدة مع العاملين في الخدمة الصحية العامة .
تدفقت الاستخبارات الطبية على وزارة الصحة بشكل تقارير ميدانية ، وزوّدت السفارة الفرنسية بالإخبار من كل نوع : انتفاضة محلية ، نظام السلطة في مدينة صغيرة ، من كان مسجونا ونوع المساجين في سجن المستشفى ، صحة ووضع الملك والعائلة الملكية ووزراءه وكبار ضباط الجيش والدرك والمسؤولين الامنيين الكبار ... وقد حافظ الفرنسيون على احتكار تقريبي لنظام الاستخبارات الطبية ، لكنهم اقتسموا بعض المعلومات مع حلفائهم الامريكيين .
انشأ النظام المغربي ، لعدم ارتياحه للاعتماد فقط على الفرنسيين ، شبكة استخبارات منفصلة عن بعضها في النظام الطبي ، ووضعت الاعداد المتزايدة من العاملين الصحيين المغاربة المؤهلين للوقاية الصحية تحت سلطة وإشراف وزارة الداخلية . وبالرغم من انهم يفتقرون الى نفوذ وإغراء الطبيب الفرنسي ، إلا انهم كانوا اكثر حركية وتعرفا على المسرح المحلي . فقد رسموا الخرائط واجروا الاحصاءات ، وجمعوا تفاصيل دقيقة عن الحياة الاجتماعية مستفيدين من امكانية دخول اكواخ الفقراء وأفقر الفلاحين وبيوت الصفيح للمعدمين ، ووضعت تقاريرهم في ملفات سلطات البوليس السياسي المحلية وملفات استخبارات وزارة الداخلية ( الشؤون العامة ) ايضا .
حافظ النظام الطبي الجديد بعد الاستقلال على الامتيازات الطبقية في العناية الصحية التي كانت متواجدة في عهد الاستعمار ، فاستفاد الاوربيون والمغاربة من ذوي اكبر الامتيازات من عناية طبية جيدة ، وقدمت للبيروقراطية المغربية الجديدة والجيش وموظفي المؤسسات الكبرى عناية طبية من مستوى ادنى من سابقتها الاولى . لكن ظروف صحة السكان الاخرين بقيت سيئة وتبرهن على تخلف الطب المقدم للجماهير بعد الاستقلال . هكذا ازداد سوء التغذية وانتشار الامراض والأوبئة ، و بالإضافة الى ذلك ، كان هناك تدمير الفيضانات والجفاف وظروف العمل الصعبة في الحقل والمصنع ، وانخفاض توفير المياه الصالحة للشرب .
ومع ان سكان المغرب ازدادوا عددا وساءت ظروفهم المعيشية والمادية ، إلا ان الخدمات الصحية العمومية لم تحصل سوى على زيادات ضئيلة في ميزانيتها العامة ، وتبنت الحكومات المتعاقبة نظاما مالتوسيا لمعالجة المشكلة السكانية المتفاقمة وغير المنظمة آملين في تقليص كمية العمل الفائض الذي كان في الوقت ذاته تهديدا سياسيا . وهكذا قررت الحكومات وبضغط شديد من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبرنامج المساعدات الامريكية ، تقليصا اضافيا لبرنامج الصحة العامة بهدف عدم التدخل في المصادر " الطبيعية " للوفاة .
لم يغر العمل في الخدمة الصحية العامة ذلك العدد القليل من الاطباء المغاربة المؤهلين حديثا ، فاعترضوا على الاجور الزهيدة وظروف العمل ، وعلى تعيينهم بالضرورة في المناطق الريفية . فبعد فترة قصيرة من خدمة الدولة الالزامية ، سارعوا الى الممارسة الخاصة في المدن الكبيرة ، جانين من وراء ذلك ارباحا كبيرة . ولم يجتذب الاصلاح الذي ادخل سنة 1961 ، بالسماح لهم بفتح عياداتهم الخاصة ، إلا القليل منهم . وعلى الفور حوّل العديد منهم مرضاهم الى عياداتهم الخاصة ، وزاولوا عملهم بالمستشفيات بشكل غير منتظم ، وأصبح هذا الاحتيال فضيحة عامة سنة 1967 . ولكن عندما الغي هذا الاصلاح ، انصرف اكثر من نصفهم الى الممارسة لحسابهم الخاص ، وهكذا بقيت الخدمة الصحية العامة مؤسسة اجنبية في جوهرها مغربية في شكلها . ان الاطباء المغاربة الجدد لم يختلفوا في الممارسة عن زملاءهم المستوطنين ، فقد نذروا انفسهم للمداخل العالية ، واتحدوا في جمعيتهم الطبية الذي جرى مغربتها سنة 1960 المحافظة على وضعهم القائم والخاص ، بل حاربوا حتى اكثر مشاريع التأمين الصحي تواضعا ، وقاوموا بشراسة اي اقتراح بضريبة دخل جديدة .
خلاصة : كان الطب في اغلب التاريخ الانساني فرعا من الدين ، وكانت ممارسته لغزا مقدسا عميقا . لم يعد الطب الآن احتكارا كهنوتيا ، بل برهن على كونه علما مستقلا بذاته ، إلا انه مع ذلك يبقى نتاج المجتمع الطبقي وأداة ايديولوجية قهرية . وكما اوضح اكثر من قرن من تاريخ المغرب ، فان الطب الرأسمالي المعاصر مصمم على التكيف مع التراكم المجتمعي الطبقي الذي فيه غير متساوين ، بل هم درجات مختلفة .
ومع ان تفاصيل تاريخ الطب المغربي فريدة ، إلا انه يمكننا ان نجد نفس المبادئ العامة ، وحتى العديد من الاشكال التأسيسية في كل بلد من بلدان العالم تقريبا . ويبقى السؤال المطروح هو في كيفية التخلص من النظام الطبي الموروث عن الاستعمار ( الارباح الخيالية ) وتوجيهه لخدمة الجماهير . يطرح الاصطلاحيون ان هذا يمكن ان يتم بتغيير جزئي وتدريجي ، لكن الواقع يثبت ان الالغاء الكامل للمجتمع الطبقي الذي فيه المواطنون درجات هو الكفيل وحده بفتح الطريق لمجتمع جديد يؤمّن حياة سعيدة وصحة جيدة للمجتمع وليس لفئة او طبقة دون اخرى .



#سعيد_الوجاني (هاشتاغ)       Oujjani_Said#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يصبح الانقلاب والتزوير مشروعا
- منظمة -- حزب -- تيار
- ادوات اشتغال المخزن
- دراسة تحليلية لماهية المخزن -- المخزن عقيدة وليس مؤسسة .
- جدل عن غياب العاهل محمد السادس خارج المغرب
- الطريق الاستراتيجي الثوري للدولة الفلسطينية
- المسار الاعرج لمنظمة ( التحرير ) الفلسطينية
- بين جبهة وجبهة خمسة وثلاثون سنة مرت
- برنامج حركة 3 مارس
- كتمان العلم والحق في الاسلام ( علماء ) فقهاء السوء
- اساطير الاولين
- مشروعية الملكية اساس استمرارها
- الاتجار بالديمقراطية يضر القضايا الوطنية
- البطالة
- الجهة المتقدمة -- الحكم الذاتي
- سوق ترويج الوعود والآمال
- اللغة وفن التمويه والتضليل
- هل تخلت واشنطن عن تدعيم مقترح الحكم الذاتي باتجاه الاستفتاء ...
- الدولة والعنف في الدول العالم ثالثية
- استراتيجية الجماعات واستراتيجية السلطة


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - سعيد الوجاني - الطب والامبريالية في المغرب