أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بديع الآلوسي - قصة قصيرة : قمر اللوكيميا وأنياب التنين















المزيد.....

قصة قصيرة : قمر اللوكيميا وأنياب التنين


بديع الآلوسي

الحوار المتمدن-العدد: 4137 - 2013 / 6 / 28 - 15:39
المحور: الادب والفن
    


(على الرغم من تقديمنا الطعام إلى الذئب ، فإنه ينظر دائما شطر الغابة ) 
(تورجنيف) 

مونولوج (جوزيف فلافل وحديث المقهى ) :
يا له من صباح مكفهر ، سمعت أمي تناجي الرب : أيها الرب يسوع ، فك ضائقة من نحب . قلت بخشوع : آمين .. ، وبكيت .
نعم ، يا حسان ، حتى لو لم تكن بيننا ، لكنك موجود في كل مكان . فقد سمعت باعتقالك في صباح اليوم التالي . أتتذكر قبل ستة أيام حين كنا على الجسر معا ً ؟ ، قلت لي حينها : أنظر إلى النهر إنه لا يتظاهر بالسعادة .
بعد خمسة أيام من غيابك كنت أمشي وحيدا ً ، نزلت درجات المكتبة الوطنية وأنا أفكر بهيبتك ، تعثرت خطواتي حين تساءلت : متى تأتي ؟ . بعدها قررت أن أسلي نفسي ، مشيت حتى مقهى البرازيلية ، لم أتوقع أن أرى أخاك نعمان هنالك ، الذي أنهكت قلبه غيوم الخريف ، وجدته منزويا ً يحدق عبر النافذة ، وعلى مقربة منه رقعة الشطرنج التي أعدت للمنازلة .
نعم ، رأيته متذمرا ً ، قال لي : ذلك ما حدث ، لماذا اعتقلوا حسان لست ادري ، كل ما أعرفه ، أن المفاجأة كانت كمباغتة الذئاب .
لا أغفل يا حسان طعم المرارة ، فأدركت أني بفقدك خسرت قلبا ً دافئا ًالتجىء إليه . كل شيء رتيب وروتيني بعدك .
فداحة ما حل بك جعلنا أكثر انتباها ً ، حيث ما زالت أبعاد مهمتهم غامضة بالنسبة لنا . تجهم وجه نعمان ، ولم أنس عبارته التي تحز في نفسي إلى اليوم :
ـ لا أعرف كيف أصف لك وقع المصيبة ، لكني أشعر أن الوطن الذي يغتال أبناءه بالوعة مراحيض .
ـ اللعنة عليهم ! أقالَ لك أيّ كلمة ؟
رد بصوت رخيم وبارد :
ـ لا ، لم أتمكن من الاقتراب منه ، ابتغيت أن أخبره أن قلوبنا معه ، لكني خفت .
ـ وهل كان مرتبكا ً ؟
ـ لا أدري بالضبط ، لكن إحدى نظراته اخترقت قلبي ، أظن أنه أراد أن يقول : سيأتي دوركم ، فاحترسوا .
راودني سؤال لم أفصح عنه: هل يعقل أنك أخفيت عنا علاقتك بتنظيم سري ؟،
لكني فهمت من خلال حديث نعمان ، أن الأمر مبهم على الجميع ويتعذر التكهن بأي شي الآن .
اختفاؤك جعلني أحس آو أقتنع بأن ما حلَ بك سيحل بي يوما ً ، وبما أن الزمن أمهلني ، لذلك يجب أن أرتب حالي كي لا أقع فريسة بين أنياب التنين .
نعم ، هو الخوف الذي جعلني اهمس لنعمان بحرق كل الكتب ودفاتر المذكرات الخاصة بحسان ً .
تطالبنا الحياة وتأمرنا أن نكترث ، فالسلام قد تبدد ، والحذر صار خبزنا اليومي وتغلغل في كل تفاصيلنا الصغيرة ، هكذا التهمت نيران التنور جزءا ً من روحك . نعم ، حاولنا إخفاء أي أثر، كنا نحاول أن ننتشلك بآي ثمن .
وكما توقعنا وخشينا ، فرجال الأمن صاروا يترددون على بيتكم ؟ . قال لي نعمان بعد شهر ونصف : كنا مستسلمين لقضاء الله . يباغتوننا بمناسبة ومن دون مناسبة . وفي كل مرة يثيرون نفس السؤال الذي يرعبنا : هل تعرفون انه يتآمر على السلطة ؟.
لقاء المقهى والمشي والتسكع لساعات ، زادنا جوعا ً ، نظرت إلى نعمان وقلت له ملاطفا ً: إذا ما خيرت الآن بين الدجاج والفلافل ، سأختار الفلافل .
وضحكنا .. لكننا لم ننس أنياب التنين .....
مونولوج (الأب ومأساة ما رأى ) :

كنت بين اليقظة والنوم ، ولا يدور في بالي من شيء ، استمعت لنباح الكلاب . حينها أتوا دون إحداث ضجة ، ما أن رأيت وجه زوجتي المحمل بالخوف والتعاسة ، وهي تردد بصوت مضطرب : مصيبة ، قم بسرعة . ، حتى تأكدت أننا وقعنا في الفخ
نعم رأيت ولدي بين أيديهم ، أحسست بنعمان يسندني كي لا أتداعى ، حاولت أن أستفسر منهم ، لكنهم نصحوني أن لا أقترب ، وقال الشاب الأصلع :
ـ مجرد تحقيق ، سيعود لكم صباح غد .
لم أصدقهم ، نظرت إلى السماء رأيت القمر الأبيض يتلصص من وراء شجرة النبق، كان قلبي يرتجف ، تنهدت بأسى . نظرت إلى حسان وهو لا يبدي أية مقاومة ، شعرت بالألم ، تمنيت في تلك اللحظات من الفوضى أن أخلو به ، ان أقول له جملة واحدة : لماذا ورطتنا مع هؤلاء السفلة .
مرت اللحظات بسرعة ، وبرغم القلق سألتهم : انتظروا قليلا ً ، هل بوسعي أن أتي معكم ؟ . لكنهم رفضوا ، شعرت بالخيبة وتمنيت أن أذرف الدموع .
كان قبل قليل بيننا ، ما أن خطفوه مثل ومضة البرق حتى خانتني ساقاي لأرتمي قرب الباب ، نعمان كان شاهدا ًدون أن ينطق بأية كلمة ، وتعقبت ًنظراتي السيارة التي تلاشت في العتمة ، لكن شكلها ولونها الأسود الناصع سيظل يطارد ذاكرتي حتى الموت .
نعم ، كأن بيتنا احترق تلك الليلة ، راحة النوم صارت تقترن برائحة الموت ، بعدها لم نعرف كيف نتدبر أمرنا ، توقعت أنهم لن يرحموه ، لكني فكرت ونفسي : هناك سيختلِي بنفسه ، هنالك سيتعلم أن السياسة بهذله وموت احمر .
لا اعرف إذا ما غفوت في تلك الليلة أم لا ، لكني كنت أستمع إلى أنين زوجتي التي اختلط في ذهنها الخطأ بالصواب والحمى بالهذيان .
في صباح اليوم التالي ، بدأ زمن آخر للفجيعة ، صار الألم دليلي ، كنت مشوشا ًلا اعرف ماذا بوسعي أن افعل ؟، وكيف يجب أن أتصرف ؟ ، نعم لم أنتظر طويلا ً، اتصلت ببعض أقاربي وشكوت لهم حالي ، متشبثا ً بالأمل ، معتقدا ًأنهم سيبدون المساعدة آو يشفقون عَلي ، لكن خاب ظني بمن أعرفهم وخاصة ًالمقربين منهم للسلطة .
وتأكد لي فيما بعد أنهم جميعا ً جبناء ، وهم ليسوا قادرين على فعل أي شيء سوى : أن قضيته ضمن ملفات المخابرات ، وإذا كان بريئا ً سيرى نور الشمس و .....
مونولوج (حسان الذي صفق للحرية ) :

الذين قبضوا علي ، ثلاثة رجال ، أحدهم أصلع ، يخفون مسدساتهم ويتكلمون بحذر ، دخلت قسرا إلى جوف السيارة حينها شممت رائحة الموت لأول مرة ، وما إن انطلقت حتى قال احدهم : خذ أرتدي العصابة .
نعم ، إنهم لا يريدون أن أرى أي شيء ، كانت السيارة تسارع نحو هدفها ، وكان الزمن يربك روحي بالوساوس ، هذا ربما لأني لستُ مؤهلا ًبعد لمواجهة الموقف أو ما ينتظرني . حينها لم يعد للمستقبل أي اعتبار لأني لم أعد أفكر سوى باللحظة الراهنة .
وما أزعجني خلالها هو : ما نوع الأسئلة التي ستواجهني .
كل ما أعرفه أني وقعت في بؤرة الخطر ، هذه هي المرة الأولى التي أذرع فيها مدينتي من دون أن أسترق النظر إلى أضوائها ومقاهيها وسحر ليلها ومقابرها ، هذا الطواف الإجباري له خصوصيته ، ربما لأنه يدخر مفاجآت عصيبة ، وقد هيأتُ نفسي كي لا أنكسر وقلت في خلدي : إذا لم أنهر نفسيا ً في اليوم الأول سأشكر الموت والجنون لأنهما أتاحا لي الفرصة كي أكتشف نفسي وأعدها للامتحان القادم وبإيقاع آخر . نعم ، لا أكره الموت ولكني إذا ما نجوت سأبجله لأني سأولد أقوى وأجمل ، توقعت أنهم سيمارسون كل الوسائل لخنق روحي الخضراء . نعم ، ما قرأته عن أدب السجون وبطولات المناضلين شيء ، ومواجهة الموقف وجهاً لوجه أعزل ووحيدا ً شيئ ٌ آخر . كان الانتظار سيد الموقف . لو ان أحدا ما سألني حين كنت معصوب العينين : بماذا تفكر، أو ما يشغل بالك تحديدا ً؟ .
سيكون جوابي : إيقاف هذا الضجيج الذي يستفزني .
الطريق بدا لي طويلا ً ، صار الوطن هو الهدف والذات هي المحك ، تجربة فظيعة ، مرارتها المبرحة أني سأدخل سرداب الموت دون أن أعلم إذا ما كنت سأخرج منه سالما ً.
ومنذ اليوم الأول عرفت ماذا تعني الحرية التي مجدتها الملاحم وغناها الثوار ، نعم ، ما أحوجني لأن أصفق لها ، لأنها حجر الزاوية كي لا يصاب الوعي بالعطب ، لا اعرف ما الذي ذكرني بعبارة جيفارا : إذا رأيت عبدا نائما ً أيقظه وحدثه عن الحرية .
تساءلت في خلدي : ماذا يريدون مني بالضبط ؟
أجبت على الفور :
ـ يريدون الجزء المهم من الروح .
وقبل أن نصل إلى المكان ، نهض في نفسي سؤال آخر : عبر إنهاك الجسد ؟
أجبت على الفور :
ـ نعم ، عبر السلخ والمسخ .
هكذا إذن ، الجسد سيمتحن والروح أيضا ً . أشياء كثيرة كانت تنتظرني ، وأنا أفكر ببصيص الأمل شعرت بالهدوء قليلا ً، مرددا ً : ما أجمل أن لا ينحدر الإنسان إلى أسفل سافلين .
قلت في سري : نعم ، إذا طالني الإحباط بمخالبه ، سيكون السجن جحيما ً .
لذلك واجهت خواطري السلبية كي لا يعضني الزمن الرديء ، وطيلة الفترة التي لم أرَ فيها الشمس كنت أردد في خلدي : عليك أن تتأكد من طهارة ذاتك بعد كل دورة تعذيب ، وأن تلعق جراحك كي لا تتلوث ذاكرتك . نعم كنت أوصي نفسي ، حين يجتاحك الضجر اضحك أو أبتسم . ولم أنس ان أردد كل صباح : شكرا ً لك أيتها الحياة لأني ما زلت أتنفس هواءك اللذيذ كالعسل ال... .

مونولوج (القمر المتلصص ) :

هدوء عجيب خيم بعد غروب الشمس ، نعم ، قبل ان تقلهم السيارة السوداء ، كان الثلاثة في كراج المخابرات يضحكون ، وكأنهم قد هيأوا أنفسهم لرحلة أشبه بنزهة لصيد غزال بري ، حشروا أنفسهم في السيارة ، التي انطلقت من البوابة الخلفية ، ما أن تركوا الموقع حتى ضاعفوا السرعة ، كانوا كالمجانين ، كادت سيارتهم تدهس فتاة شابه برفقة رجل عجوز ، لا أعتقد أنهم سيتوقفون حتى لو انتهت الحادثة إلى نهاية تعيسة ، رجال طائشون يبحثون عن فريستهم بأي ثمن .
في منتصف الطريق توقفت السيارة ، نزل الرجل الأصلع وتبول على عمود كهرباء ككلب سائب. في ذلك المساء كانت السماء حزينة وبليدة ، بفضائها الدائري الذي لم تشتعل نجومه بعد ، وقبل أن يتوجهوا إلى البيت المخصص لمهمتهم ، و بعد أقل من ساعة ، توقفوا قبل اقترابهم من الهدف ، ترجلوا وراقبوا عن بعد البيوت التي أضيئت مصابيحها ، خلت الشوارع من البشر ، ولكي لا يثيروا أي ضجة تقدم اثنان وبقى الآخر يراقب الموقف بعد أن سحب مسدسه لتدارك أي طارئ . من حسن حظهم وقبل أن يطرقوا الباب رأى أحدهم طفلة تلعب في حديقة الدار . فقال لها : أذهبي ، وأخبري حسان إننا بحاجة له .
هكذا الطفلة أصغت لطلبهم ببراءة ، لم تظن أبدا ًأن قدرا ًأسود ينتظر حسان ، أو أن العناية الإلهية أغفلت أمره .
بلا تردد فتح حسان الباب ، كان مرتديا ً ببجامة النوم فقط حينها تحدثوا معه قليلا ً ، أمسك احدهم بذراعه ، وقبل أن يخرج الأب ، قال لهم :
ــ طيب ، ما تهمتي تحديدا ً؟ .
وقال الأصلع وهو يربت على مسدسه ليشعر بالأمان :
ـ لا وقت لدينا ، يجب أن تحضر معنا وانتهى الأمر
ـ هل بوسعي ان أ ُخبر زوجتي وأودع طفلتي
ـ لا ، هيا ، يجب ان ننصرف في الحال .
تحول وفي لحظة ٍ الواقع إلى كابوس لا يتنفس سوى أسئلة يتيمة ، والتبس العجز بالوحشة والعقاب بالخطيئة .
لكن حسان وبالرغم من خشيته وذهوله ، رفع رأسه نحوي ، ما أن رآني حتى أبتسم ...

مونولوج (ضابط الأمن الأصلع والحقيقة ) :

تأدية الواجب ودون خطأ يستدعي منا أعصابا ً باردة ً وتنحية العاطفة جانبا ً ، نعم ، سيكون الأمر مختلفا ًلو لم نجد حسان ، كانت مهمتنا ستتعقد بعض الشيء ، ولانتهى الأمر بأخذ الأب بدلا ً عنه ، ربما سيرحمون بحاله ويدخلونه متاهة الأمن العامة فقط ، هناك سيرى عالما ًغريبا ً بتجاعيد حالكة ، نعم سوف لا يألف المكان المكتظ بالأسرار ، وستدخله التجربة عنوة ًبفوضى الهواجس من المجهول ، وسيواجه أسئلة المحققين الماكرة طيلة فترة الحجز وحتى يتم العثور على المتهم . نعم ، حظنا لم يكن سيئا ً ، فقد خرج حسان الذي ما أن عرف بمهمتنا حتى ارتبك وجهه وتطلع الى الخلف مرات ٍعدة. قال : دعوني ارتدي معطفي .
قلت له بحزم : ليس لدينا وقت .
تشجع وقال : حتما ً، هنالك خطأ ما ؟
ـ لا ، لدينا أمر بإلقاء القبض عليك .
عندها خرجت الأم وسمعت بعض ما يجري ، ما إن تراجعت و دخلت البيت ، حتى تعالت الضجة ، ربما أحست ان أمرا ً غريبا ًمثيرا ً للريبة .
وبما أن خطتنا سارت بسلام ، فقد حاولنا أن نلتزم بضبط النفس ، وكذبت على الأب الذي سألني : أين سيكون التحقيق معه ؟
ـ حجي ، لا تقلق ، سيكون في المنظمة الحزبية .
نجحت المهمة ، كان حسان شابا ً في ريعان العمر ، ويبدو مسالما ًوذكيا ً ، حاول في السيارة أن يستفسر عن الجهة التي نتوجه إليها ، عن التهمة الموجهة له ، لكني قلت له ضاحكا ً : سنصل وستفهم كل هذه التفاصيل .
نعم ، مهمتنا انتهت حال أن وصلنا كراج المخابرات ، بعدها تلاقفته أيادي خشنة ومتمرسة ، وبخفة سحبوا يديه خلف ظهره وقيدوا رسغيه بالكلبجات .
قال احدهم ساخرا ً: سنعرف غدا ً إذا ما كنت بطلا ام لا .
امتثل حسان للأوامر والتزم الصمت ، لكن خطواته لم تتعثر على الرغم من انه لم ير سوى طلسم الظلام ... نعم ، أدينا واجبنا ، فنحن نعرف جيدا ًأننا لسنا ملائكة ، لكن ما لا يتخيله الكثيرون أن أي خطأ أو خلل أو تخاذل قد يعرضنا للعقوبة أو إلى الموت أحيانا .
لذلك أردد دائما ً : يا روحي انتبهي من الزلل ، فما ... .

مونولوج (الزنزانة الانفرادية رقم83 ) :

شعاع باهت وهواء عذب تسلل ما إن فتحوا الباب ،على حين غرة رموا بحسان وطرحوه أرضا ً، سمعتهم يقولون له بسخرية : لا تخف أنت في مكان آمن . لم يكتشف المكان ، لكن عفونتي ونتني أشارت له أو هيجت أحاسيسه . نعم ، ربما البرد أيضا ً جعله يتذكر فراشه الدفيء ، قال : ها هنا أذن ستزهق روحي .
هل بدأ يلسعه الخوف الموجع ؟، هل شرعت الحيرة تتناسل في قلبه ؟، لست أدري ، لكني أعرف أن الليلة الأولى في جوفي تشبه الليلة الأولى في القبر . كان يحاول أن يهجع ، رغبته الوحيدة هي أن ينام لينسى أو ليتمكن من مواجهة ما سيحل به غدا ، كل الذين دخلوا زنازين المخابرات للمرة الأولى لا يعرفون إن كانوا مؤهلين لمثل هذه التجربة أم لا ، نادرا ً ما يصمدون ، وبعضهم يصيبه الجنون ، ومنهم من يموت تحت التعذيب ، ومنهم من ينتصر.
يبدو لي أن حساناً كان يعاني كابوسا ً ملتبسا ً ، مخيلته متوهجة لكنها تفيض عذابا ً بلون الحبر . توقع عودتهم في أي لحظة ، كل ذلك زاد من قلقه لكن حفز يقظته . تحرك بكل الاتجاهات ، عرف حينها أنه في زنزانة لا تتعدى المتر والنصف المربعين ، هذه التفاصيل جعلته يندهش ، ومرت بذهنه كوابيس غامضة حتما ً ، سمعته ، كمن كان يهذي : أشعر بالاشمئزاز ، آه من حالة الهستيريا .
نعم ، كنت أشفق عليه ، لأنهم سينسونه لثلاثة أيام ، وبعد ان ينضج اليأس في قلبه ، لن يرحموه ، فهم قادرون على سحق عظامه ولا يتركونه وشأنه حتى يهشموا كبرياءه ،عندها سيعود ها هنا ليبكي لا من البرد بل من الألم و الإحباط . نعم، ربما سيقول ما عنده وسيصرخ مرارا ً وتكرارا ً : ما ذنبي ؟ لكنه لن يجد قلبا ً يتعاطف معه ، وكلما يتعبهم بعناده يزدادون شراسة ، ولا يبالون بقتله إذا ما اقتضت الضرورة .
أنه الآن يتخبط بهواجسه العصية على الفهم ، لذلك كان يردد : مَن وشى بي ؟ صمت وقبل ان يجيب على السؤال أردف :هل سيهتدون الى ما في قلبي؟ .
أراه قد هدأ ، وأتكأ على أحد جدراني ، ربما انه بحاجة إلى ملاك ما يساعده لترتيب أوراقه على مهل ، لتجاوز قسوتهم المفرطة ، التي لا يمكن أن يتخيلها الآن . لكنه قال فجأة ً : نعم ، إن الحرية ناعمة ، جارحة ، لكن لماذا تسألني : هل أنت حر يا ...

مونولوج (زوجة حسان التي نضبت دموعها ) :

كان الذباب على الشباك ، أزحت ُ الستارة ، رأيت القمر شاحبا ً كأنه أصيب باللوكيميا ، نعم ، هذا الانطباع كاد ان يضحكني ، وما إن حاولت رصد المشهد حتى سمعت طفلتي تخاطبني بصوت متوسل : أريد ان أرى . لم أسألها عن ما يبكيها أو يوجعها.
نعم ، التقاليد تمنع النساء الخروج والظهور أمام رجال غرباء ، لم أكن أتوقع من يكونوا بالضبط أول الأمر ، ظننت هؤلاء الغرباء إما ضيوف أو أصدقاء وفدوا يباركون له تخرجه المتميز في الجامعة .
تساءلت كطفلة : ماذا يريدون، لماذا لا يدخلون ؟.
لكن ما إن أمسكوا بذراعه وسحبوه حتى شعرت بالريبة وانقبض قلبي .
فتحت الشباك عسى أن أسمع أو أفهم ما يحدث ، لكن ما إن سحبوه عنوة ً ، حتى تساءلت : أين يأخذه ُ هؤلاء الغرباء ؟. أعرف زوجي او هكذا بدا لي ، فهو لم يخف علي أي شيء ، ومتأكدة أن لا علاقة له بالسياسة . ما أن ولت السيارة حتى هرعت إلى الخارج ، وجدت أبا حسان يتنفس بصعوبة وهو يردد : أخذوه .
شاهدته جزعا ً، متألما ً، يعتصر الحقد ملامح وجهه ، وفي عينيه ترتجف الدموع ، مشهد يصعب وصفه ، ولم أره بهذا الانكسار طيلة حياتي .
سألته وقلبي قد أستفز بالغضب : أخذوه ! ، من أخذه ؟
لم يكن قادرا ً على التفوه بكلمة ، وبقى قرب الباب يدخن لتخفيف أثر الصدمة ولنسيان نظراتهم التي عكرت صفاء قلبه .
كاد أن يغشى علي ، ما إن عرفت مَن هؤلاء ، ورغما ً عني بدأت أولول ، نعم ، فقدت رشدي ، ومنذ ذلك اليوم بدأت كراهيتي للحياة ، وطالني الحزن.
وسحبني والد حسان إلى داخل البيت بصعوبة ، بعد أن حدق في وجهي مواسيا ً قال : إحزني كما تشائين ، لكن لا تفضحينا .
نعم ، قتلني حسان باختفائه المباغت ، كل ذلك جعلني شديدة الانفعال وأغضب لأتفه الأسباب ، خاصة ً بعد أن زادت الشائعات التي تحكي عن تورطه بسخافات لها اسم وحيد هو: السياسة . نعم ، منذ أن أخذوه شعرت أني طعنت ، لم أعرف كيف أوصل لحسان صوتي المذبوح الذي يهيجه الظلام والذكريات والهلع .
كنا لا نأمل سوى أن يبعث حسان من جديد ونفلح بضحكة بريئة تنسينا جزع الموت وتطفله ، وبعد ثلاث شهور استنزفت كل الدموع .
وكل يوم أقول : سيعود حتما ً ، لابد أن يعود . لكني اليوم أجبت طفلتي التي تلج بالسؤال : لا ، لا يا حبيبتي ، لم يعد إلى الآن ...

12 /11 /2012



#بديع_الآلوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة قصيرة : غواية الفيسبوك
- حديقة كيفين
- قصة قصيرة : نجمة في القلب
- خفقات ناي غريب / البوح الثالث
- خفقات ناي غريب / البوح الثاني
- خفقات ناي غريب / البوح الأول
- قصة قصيرة :عجيبة هي الحياة
- الرأس
- صباح أسمر
- هواجس : اللومانتية 2011
- الأركان الضرورية للإبداع
- طريق التغييرالى(( اين))
- وجهات نظر عن ......
- مرايا الإبداع وترويض اللوحة
- عاشقة الفلامنكو
- قصة قصيرة / الروزنامة الملعونة
- قصص قصيرة جدا ً/ إعتراف
- رسائل اليبرالي الجميل
- وكان ماكان ..وقصص أ ٌخرى قصيرة جدا ً
- قصة قصيرة جدا ً : من يصمت يحصد .....


المزيد.....




- سامسونج تقدّم معرض -التوازن المستحدث- ضمن فعاليات أسبوع ميلا ...
- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - بديع الآلوسي - قصة قصيرة : قمر اللوكيميا وأنياب التنين