أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف1















المزيد.....



العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف1


عبدالوهاب حميد رشيد

الحوار المتمدن-العدد: 4128 - 2013 / 6 / 19 - 11:48
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


القسم الأول
المواريث التاريخية في العراق

اشتهرت ارض ما بين النهرين- دجلة والفرات- تاريخيا باسم Mesopotamia، وهي تسمية اغريقية قديمة لبلاد الرافدين.(1) وتعتبر هذه البلاد مربض اعظم مرحلتين للتقدم الحضاري البشري. تمثلت الاولى في ممارسة الزراعة ودجن domestication الحيوانات في الشمال قبل اكثر من سبعة آلاف عام. اذ ان جيرمو Jermo (موقع زراعي قديم شرق كركوك) يعود تاريخه الى اكثر من ستة آلاف وخمسمائة عام قبل الميلاد. والثانية هي تطور الحياة المدنية والنظام الاجتماعي في الجنوب من خلال السيطرة على مياه النهرين والتي تطلبت جهودا بشرية هائلة واعمالا تنظيمية متطورة ساهمت في بناء تنظيم اجتماعي سياسي متقدم. وجاءت محصلته بروزا مبكرا لدول المدن city-states في فترة الحضارة السومرية.(2)
ادمجت دول المدن السومرية بظهور اول امبراطورية في بلاد ما بين النهرين (2400ق م) من قبل الاكديين بعد استقرارهم وسط العراق واخضاعهم كافة دول المدن السومرية في الجنوب بقيادة ملكهم سرجون الاكدي. نجح الاكديون في السيطرة على اعمال الري وصيانتها لتجعل الحياة الحضرية ممكنة. استمرت الامبراطرية الاكدية قرابة 200 عام قبل سقوطها. الا ان المثال الذي ضربته بوحدة ميسوبوتاميا "مثال لا ينسى".(3) وجاء بعدهم البابليون (2006ق م) لينشئوا امبراطورية ضخمة بقيادة ملكهم حمورابي(1792-1750ق م). واعقب سقوط الامبراطورية البابلية ظهور الامبراطورية الآشورية (1500-612 ق م) التي جسـدت ملكية اوتوقراطية وحجما اكبر من البيروقراطية. وكانت اكثر تطورا في مجال الادارة وتميزت بكفاءة عالية، رغم قسوتها. حيث اتبعت الامبراطورية الفارسية (537-330) اكثر جوانب النموذج الآشوري. وبعد سقوط بابل(العصر البابلي الحديث 626- 530 ق م) اصبحت البلاد مفتوحة لدخول الفرس والرومان.
كانت مساهمة بلاد وادي الرافدين في الحضارة البشرية عديدة ومتنوعة: اختراع الكتابة، استخدام العجلات- المعادن، هندسة المعابد الضخمة وفق اشكال هرمية ziggurat، مساهمات ثقافية ادبية وعلمية: فالسومريون وخلفائهم البابليون كتبوا الشعر والاسطورة، وتركوا اول ملحمة علمانية حية في العالم(ملحمة كلكامش) تضمنت اول رواية مدونة عن آيات الطوفان العظيم التي وردت في التوراة فيما بعد. بينما اشتملت الرياضيات السومرية الجذر التربيعي والجذر التكعيبي والمعادلات التربيعية. وبملاحظتهم الاجرام السماوية، انشأ السومريون اولى التقويمات calendars الدقيقة على اساس الاشهر الاثنى عشر والسنة القمرية lunar year وتقسيمات اليوم والساعة والدقيقة والثانية التي تستخدم حتى الوقت الحاضر.(4)
يكتب الباحث السويدي zetterholm,Tore في كتابه " امس كان عندنا نبوخد نصّر- كتاب عن العراق" ما يلي: ليست حضارات وادي الرافدين السومرية والبابلية اقدم الحضارات في التاريخ فحسب، بل اننا نجد انفسنا كذلك في هذه الحضارات- اساطيرنا وملاحمنا وحتى ديننا. نعم ان الكثير مما تعلمناه ناظرين اليه كارث للاغريق ولليهود يعود الى هذه الحضارات. هنا قبل 1500 سنة على عهد اقليدس وهوميروس صيغت نظرية اقليدس وكتبت اول ملحمة في التاريخ.. هنا ظهرت الحكايات والاساطير وقصص نشوء الخليقة والطوفان قبل اسفار موسى الخمس. هنا منبع حكايات وقصص هابيل وقابيل والطوفان. لقد بنى السومريون الحضارة البشرية الاولى، وساهموا في نقل التطور البشري من العصر الحجري وعالم ما قبل التاريخ الى عصر الزراعة والاستقرار وبناء الحضارة البشرية الاولى. السومريون هم اول من استعملوا المعادن، واخترعوا المحراث ذو السن الحديد، وأوجدوا اللغة المكتوبة، وبنوا السدود والقنوات لزراعتهم، وثبتوا نظام التوقيت الزمني على اساس السنة (12 شهرا) واليوم ( 24 ساعة) والساعة (60 دقيقة) والدقيقة (60 ثانية). وحسبوا درجات الدائرة (360ْ). كان السومريون معلمي الرياضيات لكل من الاغريق والعرب، وكتبوا الامثال والقصائد والمجموعات الشعرية المتكاملة وملاحم البطولة. كما تركوا للبشرية اقدم رسالة حب تعود الى خمسة آلاف سنة.(5)
كذلك خلف البابليون مجموعة شرائع حمورابي لتعبر عن هدية موطن الحضارة البشرية الاولى( بلاد الرافدين) الى العالم لاول قانون مدون ومنظم للحياة الاقتصادية والاجتماعية. وكانت لشرائع حمورابي اثرها في كل من قانون موسى والقانون الروماني الذي شكل مصدرا تشريعيا رئيسا لمعظم الدساتير الاوربية الحديثة. اذ تضمنت هذه الشرائع اساس القاعدة القانونية المعروفة "العين بالعين والسن بالسن.." وغطت مختلف حقول المعاملات في المجتمع).(6)
ومع الفتح العربي الاسلامي لوادي الرافدين في القرن السابع الميلادي اخذت البلاد اسمها الجديد(العراق/العراق العربي) بمعنى الجذر/ الاصيل/ العريق. واصبحت في العصر العباسي مركز الحضارة العربية والاسلامية، وبلغت مستوى متطورا في مجال الزراعة. حتى ان بعض التقديرات تشير الى بلوغ سكان العراق ما لا يقل عن ثلاثين مليون نسمة في هذا العهد.(7) لكن التفسخ بدأ في القرن التاسع الميلادي، وجاء الانهيار عام 1258م بسقوط بغداد على يد المغول بقيادة هولاكو ومن بعده تيمورلنك.ودخل العراق ضمن الممتلكات العثمانية منذ عام 1534 ولغاية نهاية الحرب العالمية الاولى.
بدأت المعارضة المحلية ضد الحكم العثماني في سياق المعارضة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، وزادت مع تسلم الاتحاديين للسلطة بسبب سياسة التتريك. ففي عام 1913 قدم طالب النقيب(البصرة) برنامجا للدفاع عن استقلال العرب والعراق عن تركيا.(8) ومع انتهاء الحرب خرجت البلاد من السيطرة العثمانية وخضعت للمحتل البريطاني.








الفصل الأول
المرحلة الليبرالية- الملكيـة

رافق نشوء الدولة العراقية المعاصرة ظهور الملكية الدستورية للفترة 1921-1958 في ظل السلطة البريطانية. وسادت هذه الفترة الطبقات القديمة متمثلة بملاك الاراضي من الاغوات وشيوخ العشائر ورجال القبائل(السادة) وكبار علماء الدين ورؤساء المذاهب الدينية والصيارفة والتجار والمضاربين والضباط السابقين في الجيش العثماني ممن لقبوا بـ "الشريفيين" حيث اتسمت هذه الطبقات بسرعة التغير لاسباب منها سرعة بناء مؤسسات الدولة الملكية وسياسات تسوية الاراضي وتدفق النفط.(9)

1- مراحل العهد الليبرالي- الملكي
عادة ما تقسم المرحلة الليبرالية- الملكية الى ثلاث فترات متميزة. شهدت الاولى(1921-1932) بداية ونهاية الانتداب البريطاني على العراق، ودخوله عصبة الامم بعد اعلان استقلاله رسميا. وعاصرت الثانية (1933-1945) بروز المشكلة الاثنية، وتعاظم دور الجيش في السياسة، وتعاقب الانقلابات العسكرية، لتنتهي بالاحتلال البريطاني الثاني للعراق. بينما جسدت الفترة الثالثة (1946-1958) تزايد عمق الرباط الملكي بالحليف البريطاني وشيوخ القبائل، وبدء الحركة القومية العربية والعائلة الهاشمية السير في خطين متباعدين، وتصاعد اعتماد التاج على الشرطة في مواجهة الغضب الشعبي من مظاهرات واضرابات توجت بانقلاب عسكري قاد الى ثورة 14 تموز 1958.

(1) الفترة الاولى 1921-1932(الانتــداب)
كشفت بريطانيا منذ اوائل القرن التاسع عشر عن اطماعها في العراق كطريق للتجارة. ومع احتلالها للبلاد بعد أن تكبدت مائة الف اصابة ومائتي مليون جنيه استرليني.(10) بادرت الى انجاز اربع مهام رئيسة هي: تأسيس ادارة محلية وكيان سياسي للدولة الجديدة.. اقرار وضعها السياسي (نظام الحكم).. تثبيت حدود الدولة الجديدة، وتأمين حصول الموافقة الدولية عليها.. حماية مصالحها خاصة النفط. وبموجب اتفاقية سان ريمو صدر قرار عصبة الامم(25/4/1920) بمنح بريطانيا سلطة الانتداب على العراق.(11)
وفي بداية الاحتلال البريطاني تولى السير برسي كوكس منصب الحاكم السياسي العام في العراق تساعده المس جرترود بيل التي تولت منصب السكرتيرة واصبحت الساعد الايمن لممثل سلطة الاحتلال في تدبير شؤون الادارة البريطانية في البلاد، واشتهرت بلقب"الخاتون". وفي نيسان/ ابريل 1918 حلّ آرنولد ويلسون محل كوكس بالوكالة. ورغم نجاح السلطة البريطانية اقامة جهاز اداري في العراق افضل من الجهاز العثماني، الا ان العقلية الاستعمارية قامت كعادتها على الزعم بعدم اهلية ابناء البلاد حكم انفسهم بأنفسهم بدعوى انهم من الشعوب المتخلفة. لكن ثورة العشرين ادت الى تغيير موقف المحتل من الحكم المباشر الى الحكم غير المباشر.(12)
اخذت المعارضة العراقية للحكم البريطاني في تنظيم نفسها والدعوة الى استقلال العراق مع بداية الاستفتاء. وتأسس عام 1919 حزبان في بغداد هما حرس الاستقلال والعهد العراقي.(13) الا ان الخلافات دبَّت بينهما بعد فترة قصيرة من تأسيسهما. يذكر الشيخ محمد مهدي البصير: ان العلاقات بين الحزبين كانت سيئة، فطالما تبادل رجال الحزبين الشتائم حتى صار الطعن في الاخلاق والمبادئ امراً اعتياديا عندهم. تراوحت اسباب النزاع بين الامور الشخصية ومنهاج حزب العهد في دمشق القاضي بقبول مساعدة بريطانيا الفنية والاقتصادية للحصول على استقلال العراق، على خلاف حرس الاستقلال الذي كان يفضل المساعدة من اية جهة اخرى على بريطانيا. وفي نفس السنة انتهى الامر بكليهما الى الضمور.(14)
ان استمرار توجه الانكليز في بداية الاحتلال حكم البلاد مباشرة على طريقة حكمهم للهند، وتواجد القوات البريطانية على ارض العراق، وعدم وفاء الانكليز بوعدهم من انهم جاؤوا "محررين لا فاتحين" عوامل ساهمت في تذمر العراقيين. تصاعدت اسباب التذمر لتتجمع في اندلاع ثورة العشرين (30/6/1920) نتيجة ممارسات الاحتلال وعوامل اخرى منها: دور العامل الديني في تحريك المعارضة ضد الانكليز(الكفار).. صرامة الانكليز في تطبيق القوانين وممارسة الضرب بحق المواطنين .. فضاضة ورعونة عدد من الحكام الانكليز في المدن العراقية ومعاملتهم القاسية للناس.. كثرة الاسلحة لدى العشائر.. بعثرة القوات الانكليزية في البلاد وعدم توقعها اندلاع مثل هذا الحدث.
يضاف الى ذلك حصول عدد من الاحداث المهمة التي سبقت الثورة وشجعت على انطلاقها ومنحتها قوة دافعة، متمثلة في:
* تقارب الطائفتين الاسلاميتين الرئيستين لتبلغ قمتها في شهر رمضان (مايس/ايار 1920) باتجاه وحدة المعارضة الدينية والسياسية. ولتعبر عن ادراك قادتها لاهمية وحدة الصف الوطني لنجاح حركتهم.
* ظهور حركة معارضة دينية ساخنة في كربلاء ضد الاحتلال بتأييد المجتهد المرزا تقي الدين الحائري الشيرازي وبقيادة ابنه المرزا محمد رضا الذي اسس جمعية سرية (الجمعية الاسلامية) ساهمت في اشعال الثورة في الفرات الاوسط.
* مبادرة المركز العام لحزب العهد في دمشق(صيف 1919) استرجاع دير الزور من الانكليز لاتخاذها منطلقا لايقاد الثورة في العراق.
* مبادرة عدد من الضباط العراقيين(آذار/مارس 1920) اعداد حملة تمكنوا من خلالها تحرير تلعفر من الانكليز في حزيران 1920 بهدف التوجه نحو الموصل واشعال الثورة من هناك. وكان لها صدى دعائيا ضخما لدى عشائر الفرات الاوسط..
انطلقت الثورة من الرميثية ونفذتها العشائر بقيادة النخبة الوطنية الحضرية من رجال الدين والسياسة. بلغت الثورة اوجها في شهر آب/اغسطس. يقول الدكتور علي الوردي "ولولا وقوف بعض الشيوخ الكبار الى جانب الانكليز في ساعة المحنة، لربما صار مصيرهم في العراق كمصيرهم في السودان اثناء ثورة المهدي المعروفة".(15) مورست الاعتقالات وتم نفي عدد من زعماء الثورة ومؤيديها الى جزيرة هنجام.(16) واعدم آخرون ومنهم عبدالمجيد كنة.(17) دامت الثورة حوالي خمسة اشهر تكبدت فيها القوات البريطانية (2500) اصابة من قتيل وجريح، ونحو(40-56) مليون باون.(18)
الا ان القوة الانكليزية ما كانت وحدها لتقضي على الثورة لولا عوامل ضعف داخلية رافقتها وساهمت في اجهاضها، ومنها: غياب قيادة موحدة.. تضاؤل امدادات الثورة بالمال والسلاح.. نفاد اسلحة الثوار واعتدتهم.. غياب الرقابة في مناطق الثورة على اعوان الانكليز وجواسيسهم.. ضعف ايمان بعض رؤساء العشائر وانضمامهم الى الثورة مرغمين تحت تأثير الرأي العام وتجنبا لالصاق تهمة "الكفر" بهم، وتوجه البعض الآخر منهم الى كسب الغنائم ( السلب والنهب والفرهود) اكثر من ايمانهم بمفهوم الثورة والاستقلال الوطني.(19)
جسدت ثورة العشرين الموجة العارمة الاولى ضمن موجات عديدة قادمة لمقاومة الوجود البريطاني في العراق.(20) وعلمت العراقيين كراهية الانكليز والاستعمار، ودفعتهم الى مواصلة مقاومتهم لتحقيق الاستقلال الوطني الناجز. كما انها وحدت المجتمع العراقي، خاصة المذاهب الاسلامية، وأقامت جبهة صلبة من القوى الوطنية، وكشفت اهمية الوحدة الوطنية لبلوغ اهداف البلاد.
من جهة اخرى، اقنعت الثورة المحتل البريطاني بالتكلفة الباهضة لاستمرار حكمه بطريقة مباشرة في وقت كان تواقا لتقليص قواته والحد من نفقاته.(21) من هنا بدأت سلطة الاحتلال سياسة جديدة مرنة تضمن مصالحها، وفي نفس الوقت تقوم على تجنب اية اصطدامات مستقبلية مع اهل البلاد. من هنا اعلنت رغبتها منح العراق استقلاله وفق مراحل زمنية. وبذلك عمد الانكليز في سياستهم الجديدة التأكيد على مسألتين:
الاولى - انتقاء عناصر نخبة سياسية من الشخصيات النافذة لحكم البلاد تحت اشرافهم، مع قبولهم مسايرة سياسة المعاهدات والاستقلال على مراحل تحت المظلة البريطانية. لذلك لم تكن مصادفة عندما وجه المندوب السامي البريطاني كلامه الى جعفر العسكري بقوله "كانت عادة الانكليز ان يحكموا مستعمراتهم مباشرة، اما الآن فصاروا يحكمونها بواسطة ابنائها".(22)
الثانية - استمرار خلق المشكلات للدولة الفتية و/او التهديد بها، خاصة ما يتعلق بمشكلات الاقليات (الآشوريين) والحدود (الموصل)، بهدف استمرار اعتماد العراق الفتي على الوجود البريطاني في حل مشكلاته والحفاظ على وحدته الوطنية.
ويرتبط بذلك ايضا توجه السياسة العشائرية للانكليز في العراق ومنذ البداية نحو تعزيز سلطة العشائر بخلق نظام قضائي خاص بهم لتعميق الانشقاق بين الريف والمدينة ودعم سلطة الشيوخ. عليه استمرت البلاد من الناحية القانونية وحتى 14 تموز 1958 خاضعة لنظامين قضائيين احدهما خاص بالمدن والآخر بالريف العشائري.(23) يضاف الى ذلك ان الانكليز ظلوا على سياستهم في مكافأة الشيوخ الموالين لهم حتى بعد انتهاء عهد الانتداب. واتخذوا من قانون تسوية الاراضي(1933) وسيلتهم.(24)
جاءت عودة السير برسي كوكس (ايلول/ سبتمر 1920) الى البلاد لتسلم منصب المندوب السامي البريطاني ايذانا بتطبيق السياسة البريطانية الجديدة في الحكم غير المباشر. حاملا خطة نصب حكومة محلية تحت توجيهه لممارسة الادارة المدنية في البلاد. وقع اختيار المندوب السامي على نقيب وجهاء بغداد عبدالرحمن النقيب(الكيلاني) لتشكيل اول وزارة عراقية "الحكومة المؤقتة" (25/10/1920). وكان النقيب- الذي وافق بعد تردد- احد النافذين المساندين للعثمانيين. وبعد الاحتلال اصبح مؤيدا لسلطة الاحتلال.(25) وحسب بلاغ المندوب السامي(27ت2/نوفمبر 1920) تحددت وظيفة الوزارة في القيام بالواجبات العمومية تحت اشرافه، وخضوع كافة قرارات الوزارة لموافقته. كما اختار عددا من الوزراء بلا وزارة للمساعدة في تنفيذ سياسته، وكان بعضهم لا يحسن القراءة.(26) ويظهر ان تعليمات المندوب السامي ودوره في المسؤولية الوزارية اصبغت صفة ادارية على مهمة الوزارة دون صفتها السياسية. وهذه الحالة اصبحت ظاهرة ملموسة في مرحلة الانتداب، بل واستمرت بصورة متصاعدة في الحد من شأن الوزارة امام رئيس الدولة في المراحل التالية لانظمة الحكم العراقية. كما تم تعيين مستشار بريطاني في كل وزارة وادارة حكومية رئيسة مع الزام الوزير باستشارته. واصبح المستشار هو الحاكم الفعلي تقريبا في كل وزارة. يذكر ساطع الحصري عن احد الوزراء (عزت الكركوكلي) من الضباط الشريفيين قوله "انا في كل الوظائف التي توليتها قبلا كنت آمرا مطلقا. ولكن بعد ان صرت وزيرا هنا صار امري لا يتعدى حدود هذا البارفان". وأشار باقر الشبيبي الى مثل هذا المعنى في البيت التالي من شعره:(27)
المستشار هو الذي شرب الطلا فعلام يا هذا الوزير ُتعربد
تلخصت مهام وزارة النقيب، التي استمرت تتجدد على نحو متواصل لغاية تشكيل وزارته الثالثة (1920-1922)،(28) في ثلاثة اهداف مرسومة هي: اقرار المناداة بمرشح لعرش العراق حسبما ترتئيه السلطة المحتلة. . انجاز معاهدة بريطانية عراقية.. اجراء انتخابات المجلس التأسيسي. اما الهدف الاول فيظهر حصول اتفاق في الا راء بين الشخصيات العراقية النافذة على اختيار احد ابناء شريف مكة ملكا على العراق، بعد ان اقترن اسمه بـ"الثورة العربية". من جهة اخرى كانت الادارة البريطانية حريصة من طرفها تنصيب ملك على العراق لتوجيه الحكم الفعلي للبلاد من خلاله. وفي هذا الوقت كانت مواقف فيصل بن حسين شريف مكة قد تكشفت بعد ملوكيته القصيرة في سوريا، واتفاقه مع الفرنسيين(27ت2/نوفمبر 1919) على احترام حكومته احتلال فرنسا للبنان وسائر المناطق الساحلية في سوريا شمالا حتى الاسكندرونة. يقول جورج انطونيوس "وحين وافق فيصل على هذا الاتفاق كان في الحقيقة يسلم شيئا ليس من حقه ان يتصرف به". يضاف الى ذلك قبول فيصل للانذار الفرنسي(10/7/1920) بتسليم دمشق للفرنسيين دون مقاومة. بل وحتى دون السماح لأهل دمشق الدفاع عن عاصمتهم عندما سقط برصاص شرطته مائة منهم. كما ان الاتفاقية التي عقدها فيصل مع وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية (3/1/1919) نصّت في مادتها الثالثة على ان"تتخذ جميع الاجراءات التي من شأنها تقديم اوفى الضمانات لتنفيذ وعد الحكومة البريطانية المؤرخ في 2 ك 2/1917". أي وعد بلفور. بينما نصّت مادتها الرابعة على انه "يجب ان تتخذ جميع الاجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية الى فلسطين".(29)
ورغم ان الدكتور علي الوردي يذكر، من باب الانصاف، ان فيصل خط بقلمه في ذيل الاتفاقية شرطية تنفيذها بنيل العرب لاستقلالهم وإلا لا حكم ولا اعتبار لها، فإِن رسالة فيصل(3/3/1919) الى فليكس فرانكفورت- عضو الوفد الصهيوني الامريكي الى مؤتمر الصلح- بشأن هجرة اليهود الى فلسطين تلقي ضوءا اسطع على موقفه. تضمنت الرسالة: عطف فيصل على الحركة الصهيونية والترحيب الحار باليهود القادمين الى فلسطين. ويستمر في قوله "نحن العرب، وخاصة المثقفين منا، ننظر الى الحركة الصهيونية بعطف عميق جدا... ان وفدنا في باريس مطلع كل الاطلاع على المقترحات التي قدمتها المنظمة الصهيونية الى مؤتمر الصلح، ونحن نعتبر هذه المقترحات معتدلة ومناسبة. وسوف نبذل أقصى جهدنا، في القدر المتعلق بنا، للعمل على تحقيقها. نرحب باليهود القادمين الى الوطن(فلسطين) ترحيبا قلبيا صميميا... لقد كانت لنا اوثق العلاقات مع زعماء حركتكم، لا سيما الدكتور وايزمان، وهي ما زالت مستمرة... ان الحركة اليهودية قومية وليست استعمارية".(30)
مقابل الفريق المؤيد لفيصل الذي ضم معظم المشاركين في ثورة العشرين من قوى دينية وسياسية، ظهر فريق معارض بزعامة طالب النقيب. كما ابدى عبدالرحمن النقيب معارضته عندما قال للمس بيل "انني افضل عودة الترك الف مرة على ان ارى الشريف او احد ابنائه على عرش العراق". وبانضمام توفيق الخالدي وحكمت سليمان اكتملت مجموعة الاربعة التي حاولت تخطيط وتنفيذ معارضتها.(31) واطلقوا لاِول مرة الدعوة الى مبدأ "العراق للعراقيين"، على ان يصبح عبدالرحمن ملكا على العراق وينقل الملك من بعده الى طالب.(32)
اكدت بريطانيا رسميا موقفها في مؤتمر القاهرة (2/3/1921) بترشيح فيصل لعرش العراق. الا ان كوكس لم يعلن هذا القرار، بل وحذر حكومته من فرض فيصل على العراقيين، ناصحا اياها بتركه يتولى بنفسه امر اقناعهم عند وصوله الى العراق.(33) وكل ما فعله كوكس هو ازالة الصعوبات امام فيصل وتعبيده الطريق لبلوغ هدفه بصورة غير مباشرة. فعندما وجد استفحال امر طالب النقيب في معارضته لفيصل، عمد الى اعتقاله ونفيه الى الخارج (15/4/1921).(34) ومن المفارقات التي تعكس طبيعة بعض الشخصيات السياسية في هذه المرحلة من تاريخ العراق، ان عبدالرحمن النقيب تخلى بعد ذلك عن معارضته، ولم يتخذ اية خطوة احتجاجية بشأن ما حدث لوزير داخليته و "ولي عهده". بل وأصبح من مؤيدي فيصل. وعندما فاتحه بعض وزرائه في امر طالب النقيب، اكتفى بقوله "اوصيت ان يعاملوه باحترام وأدب".(35)
في هذا الوقت حيث كانت البلاد مشغولة باختيار ملك للعراق. وكان في مكة عدد من رجال ثورة العشرين من حضريين وسادة ورؤساء العشائر.(36) وبعد صدور العفو عن المشاركين في الثورة، ‘سمِحَ لرجال الثورة الفارين من العراق ان يكونوا بصحبة فيصل عند وصوله الى العراق.(37) نجح فيصل في كسب مختلف الفرقاء وبلوغ العرش. يقول امين الريحاني: ان فيصل كان يخص كل فريق من الناس وكل وفد من الوفود بكلمة توحيها اليه تقاليدهم ونزعاتهم السياسية والدينية. اما اهم نجاح حققه فهو نيله مبايعة المجتهد الشيخ مهدي الخالصي، رغم ان هذه المبايعة بقيت مشروطة بِأِن يكون ملكا على العراق مستقلا عن اية سلطة اجنبية.(38) ومن جانبه قال عبدالرحمن النقيب للمس بيل "منذ مجيء السير برسي كوكس لم افعل بخلاف نصيحته... واني حين علمت بِأِن فيصل يصلح لان يكون ملكا، وأن الحكومة العظيمة تؤيده صممت ان اتجنب كل الأقاويل والاشاعات وأقوم بنفسي لأعلن ملكيته في مجلس الوزراء.(39) وهكذا قرر مجلس الوزراء العراقي المناداة بفيصل ملكا على العراق(11/7/1921)، على ان تكون الملكية دستورية ديمقراطية نيابية مقيدة. وتم تتويج فيصل في الشهر التالي(23/8). حققت وزارة النقيب المهمة الاولى من مهامها الثلاث.
اقنع كوكس حكومته ان تكون علاقة العراق مع بريطانيا على اساس معاهدة بدلا من الانتداب لأنه وجد العراقيين ينفرون من لفظة"انتداب" ويفسرونها بمعنى "الانقياد للسلطة المنتدبة". وعلى هذا الاساس قررت وزارة النقيب قبول المعاهدة (25/6/1922). وكانت لمدة عشرين عاما، وتضمنت كافة شروط الانتداب.(40) وبهذه المناسبة نظم الشاعر الشعبي عبود الكرخي قصيدة في ذم النقيب تداولتها الافواه، خاصة البيتين التاليين:
يا نقيب ويا نقيــب عجب ما عندك صحيب
من عفت جدّك محمد صار لك كوكس حبيـب
وفي نفس يوم اقرار المعاهدة أصدر مجلس الوزراء قانون الاحزاب لأِسباب منها خشية الحكومة في صيف 1922 تكرار احداث صيف 1920، والقبول برأي ساسون حسقيل( وزير المالية) من ان منع الحكومة تأسيس الاحزاب سيؤدي الى تشكيل احزاب سرية. عليه تأسست ثلاثة احزاب احدها حزب الحكومة مدعما من النقيب(العراق الحر) والآخر (النهضة) كان محل دعم السيد محمد الصدر، بينما كان الحزب الثالث(الوطني العراقي) مدعما من الشيخ مهدي الخالصي. ويقال ان التنافس التقليدي بين آل الصدر وآل الخالصي كان له دوره في تأليف الحزبين والا لكانا حزبا واحدا.(41)
امر فيصل اجراء انتخابات عامة على مرحلتين اعتبارا من 22/10/1922 لانتخاب اعضاء المجلس التأسيسي بغرض تصديق المعاهدة. الا ان هذه المهمة- التي شكلت الهدف الاخير لوزارة النقيب- اثبتت انها اكثر صعوبة وأدت الى استقالتها واختفاء عبدالرحمن النقيب من الحياة السياسية العراقية.
وبعد الاعلان عن مرض فيصل، وجه المندوب السامي ضربته لحركة المعارضة باغلاق حزبي النهضة والوطني العراقي، ونفي سبعة من زعماء المعارضة الى جزيرة هنجام(آب/اغسطس 1922).(42) وبعد شفاء الملك رمى بثقله لصالح المعاهدة . الا ان المعارضة تصاعدت واعلن الشيخ مهدي الخالصي على ملأ من الناس بقوله "خلعت فيصل كما خلعت خاتمي هذا".(43)
ومع تصاعد حركة المعارضة ضد المعاهدة وانتخابات المجلس التأسيسي اقتنع الانكليز بحاجتهم الى رجل قوي. وفي تلك الآونة كان قد عاد الى العراق من استانبول عبدالمحسن السعدون.(44) وصفه صاحب كتاب تاريخ الوزارات العراقية بأنه كان "شديد الاعتداد بنفسه، نزيها في ممارسة حكمه بعيدا عن استغلاله لذاته" وعندما "يؤمن بسياسة محددة يصارح بها الشعب من دون لف او دوران، خلافا لما جبل عليه غيره من بعض الساسة".(45) وقال عنه الدكتور علي الوردي "صريحا لا يداجي ولا يميل الى المداراة والرياء، وقد جاءه ذلك من تراثه البدوي الذي نشأ عليه في طفولته. وكان علاوة على ذلك قوي الشخصية مهيبا ذا صلابة وثبات فاذا ابرم امر ما سار فيه قدما لا يبالي ارضي الناس عنه ام غضبوا".(46)
وهكذا وجد فيه الانكليز ضالتهم- الرجل القوي الذي يبحثون عنه. فولوه الوزارة ومنحوه دعمهم. وبالمقابل صمّم السعدون على اجراء انتخابات المجلس التأسيسي رغم اشتداد معارضة رجال الدين. بل وصمّم على انهاء معارضتهم وتدخلهم في السياسة بصفة جذرية. وذلك بنفيهم الى خارج البلاد (1923). ولم ‘يسمح لهم بالعودة لاحقا (1924) الا بعد تعهدهم عدم التدخل في السياسة. وهكذا انتهت مرحلة سياسية في العراق كانت الزعامة فيها لرجال الدين.(47) وفي ظل الوزارة العسكرية الاولى، افتتح الملك المجلس التأسيسي (7 آذار/ مارس 1924) بخطاب حدد ثلاث مهام للمجلس هي على التوالي: المعاهدة، الدستور، قانون الانتخابات. وبدلا من البدء باقرار الدستور لاضفاء الشرعية على بقية تشريعاته، بدأ المجلس بالمعاهدة اولا، مما جعلت مهمة التصديق عليها فاقدة للشرعية القانونية في غياب الدستور.(48)
استمرت مناقشة المجلس التأسيسي للمعاهدة بضعة اشهر دون اقرارها بسبب المعارضة، رغم تخفيض مدتها الى اربع سنوات بمبادرة السلطة البريطانية بغية تسهيل تصديقها من الجانب العراقي (حتى اذا تحقق لها ذلك عادت وطالبت اول مجلس نيابي الموافقة على تمديدها الى خمس وعشرين سنة). ومن الطرائف التي تحكى بهذه المناسبة، ان صبيح نشأت وزير المواصلات كان قادما بسيارته الى المجلس فأحاط به المتظاهرون ومنعوه من مواصلة سيره وهم يهتفون"تسقط المعاهدة". وأخذ يهتف معهم بسقوط المعاهدة ليتمكن من شق طريقه. فطلبوا منه قول شرف بعدم تصديقه للمعاهدة. فصاح مؤيدا "لعنة على امه وابوه كل من يصدق المعاهدة"!(49)
من جانبه حاول المندوب السامي هنري هوبس، الذي حل محل كوكس في مايس/ ايار 1923،ابتزاز المجلس بقوله "عندما بلغ الترك سير المجلس التأسيسي تغيروا وصاروا يطلبون الموصل".(50) ومع استمرار المعارضة وجه المندوب السامي انذاره الى الملك اما بالتصديق على المعاهدة او حل المجلس في موعد اقصاه منتصف ليلة حزيران/ يونيو 1924(نفس تاريخ تأجيل المجلس لجلسته). وهنا سارعت الوزارة (العسكرية الاولى) الى اتخاذ اجراءات بوليسية لجلب النواب من بيوتهم. وهكذا انعقد المجلس قبل منتصف الليلة المذكورة وأقرّ بالأغلبية تصديق المعاهدة على ان تصبح واتفاقاتها الملحقة لاغية لا حكم لها اذا لم تحافظ بريطانيا على حقوق العراق في محافظة الموصل كاملة.(51) وبعدها اقرّ المجلس الدستور(10/ 7) وقانون الانتخابات(2/8) وحلّ نفسه.
ومن الحكايات المثيرة التي شهدتها احداث تصديق المعاهدة ما ذكره الحاج ناجي الكرادي في حديثه الى المس بيل عن تلك الليلة بقوله: ان الشرطة سحبوه من فراشه ووضعوه في السيارة التي كانت تنتظره دون ان يعلم هل سيأخذونه الى المشنقة ام الى مكان آخر.(52) ويذكر الدكتور علي الوردي عن احد النواب ممن وعدوا المس بيل بالتصويت لصالح تصديق المعاهدة. ولكن عندما آن وقت التصديق: اخرج مسبحته من جيبه فاستخار الله فجاءت سلبية مخيبة امل المس بيل!(53)
والجدير بالذكر ان الوزارة الجعفرية الاولى شهدت اول اغتيال سياسي في العراق عندما اغتيل توفيق الخالدي وزير الداخلية في الوزارة النقيبية الثانية، وأحد الاركان الاربعة ممن عارضوا منح عرش العراق لأي من ابناء شريف مكة. يذكر عبدالرزاق الحسني ان اصابع الاتهام توجهت الى كل من نوري السعيد وجعفر العسكري وخلفهما الملك. وأشار الى "الشخصية الفذة والكفاءة النادرة للخالدي، وخوف خصومه من توليه الوزارة واحتمال تمهيده لقيام حكم جمهوري في العراق".(54) وحسب قول محسن شلاش وزير المالية في الوزارة العسكرية الاولى كان"باستطاعة نوري، ان يرتب بسهولة اغتيال اي من معارضيه كما فعل في حالة توفيق بيك الخالدي".(55)
بدأ العمل في الدستور(21/3 /1925) في عهد وزارة ياسين الهاشمي الاولى (1924-1925).(56) كرست الوزارة جهودها لاستكمال بعض جوانب مؤسسات الدولة.(57) علاوة على موافقتها منح بريطانيا امتياز نفط الموصل. يقول توفيق السويدي في كتابه: مذكراتي(ص 108) "وكان المبرر لقبول الحكومة العراقية بذلك هو ان يكون لبريطانيا من المصالح المادية التي تحملها على مؤازرة العراق في مطالبه الاستقلالية".(58)
تم افتتاح المجلس النيابي الجديد(16/7/1925) في عهد وزارة عبدالمحسن الثانية (1925-1926). بادر السعدون بتشكيل حزبه (التقدم) من اعضاء المجلس قبل يوم واحد من افتتاحه لضمان الاغلبية البرلمانية لوزارته، مما حدا بـ ياسين الهاشمي الى تأليف حزبه المعارض(الشعب).(59) عرضت معاهدة 1922 على المجلس بعد تمديدها الى خمس وعشرين سنة. قال السعدون لأعضاء المجلس اثناء مناقشة المعاهدة "اذا رفضنا المعاهدة خسرنا الموصل".(60) وهكذا تمت المصادقة عليها. وفي نفس الشهر(تموز/ يوليو) وقعت اتفاقية الحدود وانضمت محافظة الموصل الى البلاد.
ويلاحظ ان معاهدة 1922 بخاصة، والعلاقات العراقية البريطانية بعامة، كانت المشكلة المحورية في الساحة السياسية العراقية. اذ غطت ما عداها من المشكلات الداخلية. وهذا يفسر ضعف اهتمام المعارضة بالمشكلات الاقتصادية والاجتماعية في العشرينات بخاصة. كما اصبحت المعاهدة وسيلة قفز الى السلطة. وفي هذا السياق اقدمت الوزارة السعدونية الثالثة (1928-1929) على اول مبادرة لحل المجلس النيابي (18/1/ 1928) وجاءت بمجلس موال بعد تدخلات واسعة في الانتخابات. اعلن عضو المجلس عطا الخطيب- نائب الكوت- اثناء مناقشة المجلس لأحداث التزوير والمخالفات بقوله:"انا رجل من ديالى... ولا اعرف شخصا واحدا في الكوت، فإذا لم يقع تدخل من الحكومة في انتخابي فلماذا انتخبوني؟ فمالي والكوت؟". رغم ان هذه الاحداث استمرت على مدى فترة العهد الملكي، بل ان احد اعضاء النخبة (عبدالكريم الارزي) يعترف في مذكراته ( ج1، ص60) بأنه سمع بنيابته للمجلس من الراديو دون ان يقدم على ترشيح نفسه في الانتخابات (1943).(61) كما شهد عام 1928 احياء الحزب الوطني العراقي عندما وافقت السلطة على تغيير تسمية "حزب الجمعية الوطنية" الحديث التأسيس. عليه سادت الساحة السياسية العراقية خلال هذه الفترة ثلاثة احزاب هي: التقدم، الشعب، والوطني العراقي.(62)
بعد استقالة السعدون لفشله في الحصول على موافقة الانكليز لتعديل المعاهدة، الف توفيق السويدي وزارته الاولى(نيسان/ ابريل 1929.(63) وفي عهده حصلت فضيحة مالية طالت سمعته. استقال بعد حوالي اربعة اشهر على تشكيل وزارته، ليعود السعدون يترأس وزارته الرابعة والاخيرة (ايلول/ سبتمبر 192) التي استمرت اقل من شهرين بسبب انتحاره بعد فشله مرة اخرى في اقناع الانكليز تعديل المعاهدة، مقابل الانتقادات الشديدة التي واجهها من نواب المجلس المعارضين. وحسب قول عبدالرزاق الحسني"فقد العراق بانتحار هذا الرجل النبيل كبيرا من سياسيه الكبار، وفقد الانكليز بمقتله كبيرا من اصدقائهم الكبار".(64) وبانحلال الوزارة السعدونية الرابعة الف ناجي السويدي وزارته الاولى والاخيرة ( ت2/ نوفمبر 1929) لتستمر اقل من اربعة اشهر بسبب اصطدامها بمعارضة المندوب السامي في جهودها وضع انظمة وزارية لتقليص وجود المستشارين والموظفين البريطانيين.(65) وبغياب السعدون خلى الجو للملك فيصل تقديم رفيق دربه نوري السعيد لزعامة السياسة العراقية بتشكيله وزارتين متواصلتين(1930- 1932).(66) وانفتح امام فيصل الاول الطريق ليوسد نوري السعيد مقاليد الحكم.(67) وحسب بطاطو"بعد صعود نوري الى رئاسة الوزارة... اصبحت الحكومة عمليا وحتى عام 1932 عبارة عن دكتاتورية اثنين هما الملك ونوري".(68)
بدأ نوري السعيد عهده بتوقيع معاهدة 1930. رغم مواجهته للمعارضة خاصة من قادة حزب الشعب والوطني العراقي بعد ائتلافهما في حزب واحد"حزب الاخاء الوطني" بهدف اسقاط وزارة نوري والمعاهدة.(69) وشهد عام 1932(23ت1/ اكتوبر) الاعلان رسميا عن نهاية الانتداب واستقلال العراق ودخوله عصبة الامم. انتهت مهمة الوزارة السعيدية، فشكل ناجي شوكت وزارته الاولى والوحيدة (1932-1933) بغرض اجراء انتخابات جديدة، ولتستمر اربعة اشهر ونصف تقريبا.(70)
عاصرت هذه الفترة تأسيس الجيش العراقي(6ك2/ يناير 1921). ومع ذلك تميزت بضعف الجيش الوليد مقابل قوة العشائر. استمرت هذه الحالة لغاية منتصف الثلاثينات. فمن بين مائة الف بندقية في البلاد عام 1933 لم تمتلك الحكومة سوى خمسة عشر الف بندقية.(71) وفي ظروف صراع النخبة السياسية على السلطة، استخدمت العشائر لاسقاط الحكومات المناوئة وتحقيق مقاصد ذاتية. وكانت الغلبة في عضوية البرلمان لملاك الاراضي والضباط الشريفيين. يقول توفيق السويدي (ص104) من مذكراته "استمرت الانتخابات واستمر الضجيج والتشاحن من خلالها حتى انتهت بانتخاب مرشحين كان يتفق على تعيينهم الملك ووزير الداخلية ومن ورائه المستشار البريطاني ورئيس الوزراء. وكانت قائمة الترشيح هذه تبقى مكتومة حتى يوم الانتخابات، إذ تبلغ بالتلفون الى المتصرفين، ويطلب منهم ان يبذلوا جهدهم لانجاحها".(72)

(2) الفترة الثانية 1933- 1945( الاحتلال البريطاني الثاني)
مع نهاية فترة الانتداب، برزت في الساحة السياسية عدة مسائل وطنية ستلعب دورا حاميا في الاحداث المقبلة، تتقدمها: المشكلة الاثنية، وتزايد الاعتماد على الجيش، مما عزز فرص تدخله في السياسة.. تعاظم التأثيرات الفكرية القادمة من الغرب لحل المعضلات الاقتصادية والاجتماعية.. تصاعد الضغوط باتجاه التأكيد على التطور الاقتصادي والاجتماعي في مجال توزيع الثروة والدخل. وفيما عدا افكار المدرسة الليبرالية الغربية التي احتضنتها نخبة البلاط، ظهرت مدرستان نبعت منهما الاصلاحية الاجتماعية في العراق.(73) تجسدت الاولى في القوميين العرب ذوي التوجهات الوحدوية. اذ كانت أ‘منية هذه المدرسة تحقيق تنمية اسرع ووحدة اكثر شمولا وارتباطا اجتماعيا وأكثر متانة في سياق دعم القوة الدفاعية العراقية واقامة نظام مجتمعي يقوم على وحدة متراصة وتناغم كلي خاضع لزعامة وحدانية كوسيلة لتوحيد اجزاء البلاد واسراع تحديث المجتمع . عبّرت عن افكار هذه المدرسة قادة الاخاء- جناح حزب الشعب- امثال ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني. اما المدرسة الثانية فتمثلت في الاصلاحيين الاجتماعيين ذوي التوجه العراقي التي اكدت على اعادة توزيع السلطة والثروة وتكافؤ الفرص والمبادرة الى اصلاح حقيقي لصالح الاغلبية. عبّرت عن افكار هذه المدرسة "جماعة الاهالي" التي اسسها الاصدقاء الاربعة: عبدالقادراسماعيل، محمد حديد،عبدالفتاح ابراهيم،حسين جميل. وعرفوا باسم جريدتهم "الاهالي". وانضم اليهم لاحقا جعفر ابوالتمن وكامل الجادرجي وبعدهم حكمت سليمان. هذا بعد انسحابهم من حزب الاخاء.(74)
بعد ان ادرك الملك فبصل قوة المعارضة ضد معاهدة 1930، وتعاظم دور "الاخاء" في قيادتها، لجأ الى تفتيت الحزب بدعوة قادته تشكيل الوزارة بشرط القبول بالمعاهدة. ومع رضوخ قادة الاخاء- جناح حزب الشعب- لدعوة الملك وتشكيل رشيد عالي الكيلاني- احد قادة حزب الشعب- سكرتير الملك الخاص، ورئيس ديوان القصر الملكي- الوزارة "حكومة الاخاء" في آذار/ مارس 1933،(75) هاجم جعفر ابو التمن قادة الاخاء وانسحب وجماعته من الائتلاف، وأعلن اعتزاله للسياسة بعد ان اتهمهم بخرق مبادئ "وثيقة الاخاء" التي وقعها زعماء حزبي الشعب والوطني العراقي(1930) لاسقاط المعاهدة وتحقيق الاستقلال الناجز للبلاد.(76) استمرت وزارة الكيلاني بعد وفاة الملك فيصل. ولكن في اواخر ايام فيصل، واجهت ازمة القاطنين الجدد(الآشوريين) التي لم تخل من تشجيع الانكليز. تمثلت الازمة في المطالبة بامتيازات"لا يقرها العقل"حسب تعبير عبدالرزاق الحسني، و"المطالبات المسرفة" بتعبير جورج انطونيوس. كلفت الحكومة اللواء بكر صدقي التعامل مع الحركة المسلحة بعد فشل الجهود السلمية.(77) ومهما يكن من امر تقييم الازمة، فقد جاءت بسقوط وزارة الكيلاني وتعزيز موقع بكر صدقي الذي سيقود اول انقلاب عسكري في العراق والوطن العربي.
اصبح غازي ملكا على العراق بعد وفاة ابيه الملك فيصل فجأة في سويسرة (8ا ايلول/ سبتمبر 1933)، وحسب وصف اكثر من باحث لشخصية غازي: كان شابا قليل التجربة، امتلك بالكاد اهلية الحكم، ضئيل الفهم لمشكلات شعبه، لم يملاْ مكان ابيه، بل سار على عكسه بعدم اعطاء الاهمية للتوازنات السياسية . وهذا ما قاد الى هبوط مفاجئ في نفوذ القصر. الا ان شعوره الوطني وروابطه مع الضباط الشباب والمعارضة الجديدة، وفرت عنصرا في مركز الهيكل السياسي ساعد بدوره على تعزيز دور الجيش في السياسة.(78)
بدأت جولة جديدة من الصراع على السلطة بعد سقوط الوزارة الكيلانية ، تجسدت في سرعة تعاقب الوزارات. اذ تشكلت خلال الفترة ت2/ نوفمبر 1933- آذار/ مارس 1935) اربع وزارات تعاقب على تشكيلها كل من المدفعي،(79) والايوبي.(80)
قرر الملك غازي تشكيل وزارة لصالح "الاخاء" برئاسة ياسين الهاشمي. وكانت هذه وزارته الثانية والاخيرة (1935- 1936). بدأ الانشقاق بين اعضاء نخبة حزبه بعد منح حقيبة الداخلية الى رشيد عالي الكيلاني بدلا من منافسه حكمت سليمان الذي انسحب الى الجبهة المعارضة. ومع ان توجهات الهاشمي كانت وطنية قومية، الا انه اهمل الاصلاحات الاجتماعية وركز السلطة في شخصه، وبدأ على نحو متزايد عرض سمات "المستبد العادل" benevolent autocrat، مما نشر الخوف بين اعضاء النخبة السياسية من ظهور دكتاتورية جديدة. جاءت خطوته الاولى بحل الاحزاب السياسية بما فيها حزبه "الاخاء" وقمع الحريات الصحفية والفردية بحيث "جعلت المعاملة السابقة لنوري في القمع والكبت تبدو معتدلة بالمقارنة".(81) كما شدد قبضته على الجيش من خلال شقيقه- رئيس اركان الجيش. وحل مجلس النواب وأدخل مؤيديه في المجلس الجديد من خلال انتخابات صورية. ومع ذلك لم تنج وزارته من التآمر والتخريب من مناوئيها. ففي نفس العام واجهت تمردا عشائريا، لكن الجيش اخمده بقيادة بكر صدقي. وأثبت لأول مرة في تاريخ العراق الملكي قدرته على كسر شوكة القوة العشائرية وبسط هيمنته على البلاد دون منازع. شكل هذا النصر مدخلا آخر لاظهار الجيش دوره المتزايد في الحياة السياسية.
رغم قوة الهاشمي في الساحة السياسية الا انها كانت معرضة لانتقادات متزايدة، بعد ان حققت اجراءاتها منفعة اقلية جديدة، وفشلها في القيام باصلاحات اجتماعية، خاصة في قطاع الريف. وفي البرلمان واجهت الوزارة اتهامات بتنمية اقطاعيين جدد. وكان عدد من اعضاء الوزارة واصدقائهم متورطين بشكل ثقيل في تسجيلات الاراضي لانفسهم. كما ان الهاشمي زاد سيطرته على زمام الحكم، وأبدى بشكل واضح تمسكه باحتكار السلطة. هذه السياسة جسدتها الصحافة القومية بالاشارة الى الهاشمي"بسمارك العرب" في تلميح بيّن لامكانية قيادته مشروع الوحدة العربية. وفوق ذلك، فإِن خنق المعارضة وتشديد قبضته على البرلمان، اعطى انطباعا للنخبة السياسية المناوئة منع ظهور اية فرصة جديدة للمشاركة السياسية. وزاد الطين بلة عندما المح الهاشمي(ت1/ اكتوبر 1936) انه يأمل اعطاء العشر سنوات التالية من عمره لتحقيق اهداف البلاد. ومهما كانت نوايا الهاشمي، فقد اثار عاصفة من المخاوف، ووجد اعضاء النخبة ان طموحاته السياسية غير محدودة وتشكل خطرا عليهم، مما زاد من اندفاع خصومه لاسقاطه في انقلاب عسكري.
عُرف انقلاب عام 1936بـ "انقلاب بكر صدقي"، رغم انه كان بمبادرة حكمت سليمان. ضّم الانقلاب ثلاثة اطراف متنافرة في افكارها ودوافعها واهدافها. وكان القاسم المشترك الذي جمعها لأول وآخر مرة هو اسقاط وزارة الهاشمي. كانت دوافع حكمت- مهندس الانقلاب- مختلطة من شخصية وفكرية. الا ان دوافعه الشخصية لم تقتصر، كما تذكر مصادر عديدة، على ابعاده من منصب الداخلية في وزارة الهاشمي فحسب، رغم ان هذه المسألة تركت اثرا نفسيا دفينا لديه، بل يرى البحث وجود عامل آخر ربما لم يكن اقل اثرا. هذا العامل- وبالعلاقة مع انتمائه العائلي- هو شعوره بالحرمان من منصب رئاسة الوزارة. اذ انه كان احد اعضاء النخبة السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية، بل ونجما من نجومها. ومن السهل تسبيب مسألة الابعاد هذه الى موقفه المعارض من ترشيح فيصل لعرش العراق، كما سبقت الاشارة.
ولكن رغم دوافع حكمت الشخصية، كان مهتما ايضا بالاصلاح وتحقيق تطور اقتصادي واجتماعي اسرع وفق نموذج الاستبداد الابوي paternalistic authoritarian للقائد التركي (كمال اتاتورك) الذي كان حكمت معجبا به. وهذا ما قرّبه ايضا من بكر صدقي- العسكري ذو التكوين الاستبدادي في مرانه وحياته- والذي طفحت شهرته وصار ينظر الى تحقيق مكانة عسكرية اكثر رفعة. كذلك رغم الدوافع الشخصية لبكر صدقي الا انه كان مهتما ايضا ببناء واصلاح الجيش وتقويته. وربما وردت في ذهنه اقامة دكتاتورية عسكرية، خاصة وقد قيل ان من بين الاوراق التي خلفها ورقة تحمل اقامة دكتاتورية عسكرية يطيح بالملك.(82) اما الطرف الثالث"جماعة الاهالي" ممن اقحموا في الانقلاب بعد استدراج قادة "الاهالي" من قبل حكمت، فكان اهتمامهم منصبا على تحقيق الاصلاح الاجتماعي، والتركيز على العراق بدلا من الوطن العربي. من هنا برز مجددا شعار"العراق للعراقيين" وكان محل قبول رأسي الانقلاب"بكر وحكمت".
من المحصلات الآنية للانقلاب الذي وقع صبيحة 29 /10/1936، والتي ستستمر آثارها في تعميق صراع النخبة السياسية على السلطة باتجاه تصاعد العنف، هي مقتل جعفر العسكري، واجبار ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكليلاني ونوري السعيد على ترك البلاد للعيش في المنفى. مات الهاشمي في منفاه العام التالي. وظلّ مع عدد من انصاره على قناعة بِأن الملك غازي كان على علم بالانقلاب للتخلص منه بعد ان وضع الهاشمي قيودا على تصرفات الملك لترشيد سلوكه تجاه العرش. ويقال ان بكر صدقي اخبر الهاشمي بنفسه يوم الانقلاب انه يحظى بتأييد الملك غازي.(83) ولا يقل اثرا محصلة اخرى ظهرت بوادرها الاولية حالا باتجاه تشتيت جماعة الاهالي، عندما اعلن عبدالفتاح ابراهيم- احد المؤسسين الاربعة للاهالي- معارضته مشاركة "الجماعة" في الانقلاب. وأنهى علاقته مع زملائه بعد ان سلمهم مذكرة اثبتت الاحداث التالية صحة توقعاته، حيث ذكر فيها "انكم حطمتم حركتنا عندما مكنتم الجيش من حيازة السلطة. ولسوف تدفعون ثمن ذلك".(84)
ومن وجهة نظر البحث، فإِن سيطرة الرؤوس الكبيرة على جماعة الاهالي والنتيجة التي آلت اليها، كانت خطئا سياسيا فادحا، حرّمت البلاد من احتمالات نمو وليد كان يحمل آمال تخفيف ثقافة العنف السياسي التي كانت تنمو بسرعة متزايدة في المجتمع العراقي. وبالنتيجة، لم تقتصر الحركة الانقلابية العسكرية على ازاحة وزارة الهاشمي فحسب، بل كذلك كانت ضربة قاضية غير مباشرة لوليد يحمل مشروعا اجتماعيا ديمقراطيا قتل بِأيدي مدعي الديمقراطية انفسهم. وحرمت البلاد من تجربة فكرية جديدة غنية. وكان عليها ان تنتظر حوالي نصف قرن بمحصلاتها وكوارثها قبل ان ترتفع الاصوات مجددا للعودة الى تلك الافكار والمبادئ في سياق محاولات جنينية تبحث عن فاتحة الطريق الطويل لمعالجة العنف السياسي في ظل نظام اجتماعي يؤمن الخبز والحرية لعامة الناس.
تشكلت وزارة الانقلاب برئاسة حكمت سليمان.(85) وحصل قادة الاخاء على حصة الأسد فيها. اما بكر صدقي- الذي اكتفى بمنصب رئيس اركان الجيش- فإِنه استمر يمارس دورا مؤثرا في الوزارة التي لم تتضمن اياً من الاتجاه القومي العربي. بل ولم تتضمن اياً من مؤسسي"الأهالي" الاربعة، مما يعزز مقولة اقحام"الجماعة" في الانقلاب من قبل الرؤوس الكبيرة. ونظرا لأن وزراء الاهالي كانوا معنيين بالاصلاح الداخلي وليس بالقومية العربية، وبالعلاقة مع اصول زعيمي الانقلاب"بكر وحكمت"، فقد اتجهت سياسة البلاد الخارجية نحو ايران وتركيا. وهذا يفسر توقيع اتفاقيتين في نفس العام، احداهما اتفاقية سعد آباد، والاخرى اتفاقية عام 1936 بين العراق وايران لرسم الحدود المائية بينهما، لتصبح مياه شط العرب كاملة ضمن الحدود العراقية، مقابل توسيع امتداد الحدود الايرانية لتغطي عربستان (خوزستان).
بدأ وزراء الأهالي تنفيذ برنامجهم الاصلاحي، وأظهروا تنظيمهم السري "جمعية الاصلاح الشعبي" الى العلن بعد ترخيصه. شكل برنامج اصلاح الاراضي الزراعية واعادة توزيع الثروة محور هجوم "الجمعية"على الامتيازات الاقتصادية لمالكي الارض. الا ان البرنامج الاصلاحي واجه مقاومة شديدة من اصحاب الامتيازات. كما ان بكر صدقي الذي تابع منذ بداية الانقلاب خطا مختلفا عن "الجماعة"، وقف معارضا لهم ولبرنامجهم. بينما بقي حكمت سليمان خارج نشاط "الجمعية".
انفجر وضع الوزارة بعد ان قرر كل من بكر وحكمت سحق عصيان لقبائل مؤيدة للوزارة السابقة دون الرجوع الى زملائهم الوزراء. قدم وزراء الاهالي استقالاتهم، واصبح بكر صدقي القوة الفعلية الوحيدة المسيطرة على رئيس الوزراء وشؤون الحكم. كما اخذت الحياة السياسية تتسم بالاغتيالات وممارسة الاهانات والاذلال للخصوم السياسيين للحكومة بحيث طالت حتى قادة الاهالي انفسهم بعد اسقاط الجنسية عن عبدالقادر اسماعيل، ونفي كامل الجادرجي.واخيرا تم حل جمعية الاصلاح الشعبي واغلاق جريدة الاهالي. وهكذا انهى قادة الانقلاب اية محاولة للتحرش بالهيكل الاجتماعي لغاية ثورة تموز 1958. وفي 11/8/1937 تم اغتيال بكر صدقي وقائد قوته الجوية محمد علي جواد بتدبير من الضباط القوميين العرب. انهارت وزارة حكمت بعد ان اصبحت ‘معتمدة في بقائها على وجود بكر صدقي.
كان الانقلاب نقطة تحول كبرى في تاريخ العراق المعاصر، وأحدث آثارا لاحقة واسعة وممتدة تعدت اشخاص نخبة النظام والمعارضة الى البلاد نفسها وطبيعة الحكم واعتماده على الجيش لفترة طويلة قادمة. كما ادى الى خلق احقاد وعداءات شخصية. وربما لم تقتصر هذه العداءات على اعضاء النخبة السياسية فحسب، بل امتدت الى البلاط والملك نفسه. إذ وضعت نوري (لمقتل صهره جعفر) في مواجهة حكمت. وشحنت احقاد النخبة من زعماء"الاخاء" ومؤيديهم بسبب ما حدث لهم وياسين الهاشمي. هذه الاحقاد والعداءات الشخصية سممت العملية السياسية العراقية لسنوات طويلة تالية، ودون ان يضع لها حدا مقتل غازي لاحقا. وما ارتبط بذلك من نتائج، خاصة ما تعلق بالوصاية على الملك والاحداث التي اعقبتها.
وضعت نهاية الانقلاب خاتمة لحياة حكمت السياسية بعزله من النخبة وحرمانه من اي منصب وزاري بقية حياته. وفقدت المعارضة الوطنية اثنين من اكثر زعماء البلاد شعبية هما ياسين الهاشمي الذي توفي في المنفى، وجعفر ابو التمن باعتزاله السياسة نهائيا لغاية وفاته (1945). وعلى المستوى الوطني، فتح الانقلاب الطريق معبدا لتدخل الجيش والانقلابات العسكرية التالية التي انتهت بحركة مايس 1941. وكشف عن مدى رخاوةvulnerable النظام الملكي وسهولة ازاحته لولا الحماية البريطانية. كما اطلق الشرارة الاولى للممارسة الفعلية للعنف السياسي المنظم، بدءا من الحرمان من حق المواطنة (اسقاط الجنسية) والنفي ولغاية الاغتيالات والتصفيات الجسدية، والتي ستتطور لاحقا الى ممارسات اعتيادية متكررة routine في الحياة السياسية العراقية وبصفة متصاعدة. كذلك شكل الانقلاب تحولا خطيرا، ليس في خرق breach الدستور فحسب- بعد اضعافه من قبل النظام نفسه- بل كذلك في فتحه المجال رحبا لازالة النظام ودستوره بعد انغلاق سبل اصلاحه.
واخيراً، كشف الانقلاب العسكري بأطرافه المتنافرة، ليس فقط غلبة المصالح الذاتية الانانية ووحشية التكالب على السلطة فحسب، على الاقل فيما يخص بعض اطرافه، بل اظهر ايضا كم هي ضعيفة تلك الخطوط بين ادعاءات وممارسات نخبة المعارضة ذاتها، كما كان الحال نفسه مع نخبة البلاط، وضآلة مصداقيتها للديمقراطية التي تسمّت باسمها. هذا بغض النظر عن الاسباب المفسرة لها، سواء تعلقت بظاهرة التخلف وعدم النضج السياسي او اليأس من الاساليب والممارسات المنحرفة للنظام الملكي التي دلست العملية الدستورية وحولت المؤسسات البرلمانية الى اشكال وقوالب فارغةfacades .
بعد اغتيال بكر صدقي برزت، على الاقل، ثلاث قضايا متميزة في الساحة العراقية:(86) الاولى تعاظم دور المؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية، واستمرار تآكل النظام الدستوري الذي انشأه الانكليز.. الثانية تصاعد توجهات النخبة السياسية للنظام، خاصة نوري السعيد، نحو الصراع من اجل السلطة، مقابل استمرار اهمال المسائل الاجتماعية الضاغطة، وبقاء الممارسات السياسية على اساليبها التقليدية في ظروف بروز تهديدات خارجية جديدة مع مستهل الحرب العالمية الثانية.. الثالثة عودة المشكلة الفلسطينية الى الظهور بشكل اقوى، وما افرزتها من تزايد العداء الوطني ضد الانكليز.
شهدت السنوات التالية على نهاية الانقلاب حالة عدم استقرار تجلت في فرض الاحكام العرفية لتغطي السنوات 1939- 1941 بالكامل. هذا بالاضافة الى التغيرات السريعة للوزارة. رغم ان تبدل اشخاصها لم تضع الجيش تحت السيطرة المدنية، بل ظل الجيش يمارس دوره في السياسة خلف الستارة اولا، ثم اخذ يزحف نحو السلطة بتشجيع من النخبة التي لم تخل ادعاءاتها من مطامع شخصية. فخلال الفترة 1937-1941 تألفت سبع وزارات وبمعدل (195) يوما للوزارة الواحدة. كما عاصرت الفترة ما بعد الانقلاب ولغاية مايس/ ايار 1941 خمسة انقلابات عسكرية: اغتيال بكر صدقي.. اسقاط وزارة جميل المدفعي الرابعة.. تثبيت وزارة نوري السعيد الخامسة.. اسقاط وزارة طه الهاشمي.. عزل الوصي عبدالاله وتشكيل حكومة الدفاع الوطني.
جاءت الوزارة المدفعية الرابعة (1937) بعد سقوط حكومة الانقلاب. وطبق المدفعي سياسته المشهورة "اسدال الستارة" على الماضي.Dropping Curtain لم ترض اجراءاته نوري السعيد الذي اراد الانتقام من حكمت سليمان. وكانت هذه المسألة اساس تطور العلاقات بين نوري والعقداء الاربعة- قادة حركة مايس 1941- الذين كانوا مع توجه اعدام حكمت. من جهة اخرى حاول المدفعي تقليص نفوذ الضباط القوميين والحد من تدخلهم في السياسة، فجاء رد العقداء الاربعة بانقلاب نفذوه يوم 24 ك1/ ديسمبر، مجبرين المدفعي التخلي عن الوزارة لصالح نوري السعيد. يذكر صلاح الدين الصباغ (ص95) من مذكراته: فرسان العروبة في العراق- انه كان يلح على الملك غازي استبدال وزارة المدفعي بغيرها، فاذا بالملك يقول له "سأقبل يا صلاح بشرط ان لا يأتي نوري بعده". فيرد الصباغ "لكن نوري هو المطلوب يا سيدي". وهكذا ارغم الملك على اسناد الوزارة الى نوري ليقوم بدوره باعدام الصباغ ورفاقه بعد سحق حركة مايس 1941.(87)
وبالعلاقة مع طبيعة صراعات النخبة على السلطة خلال هذه السنوات الحرجة من تاريخ العراق المعاصر، يذكر الصباغ في الصفحات(68-71، 123) من مذكراته "وكم حرضنا نوري لاسقاط وزارة ليكون هو رئيسا للوزراء فيطبق ما في جعبته من مشاريع واعمال جبارة تدعم استقلال العراق وتخدم بلاد العرب." وكان نوري السعيد يطعن المدفعي بقوله "انه طبل فارغ لا يصلح أن يكون مدير ناحية". بينما كان المدفعي يصف نوري بِأنه "صنيعة الانكليز وانه لا يؤتمن". ويضيف الصباغ "ورأينا توفيق السويدي يتقرب الينا ليحرضنا على اسقاط وزارة زيد بدعوى كذا، ورأينا صبيح نجيب وابراهيم كمال يشجعاننا على اسقاط وزارة عمر لانه كذا فرستم شيعي يشجع الشيعة، والآخر خائن، وغيره شيوعي... الخ.. وهكذا خبرناهم… وعرفنا الاعيبهم ومناوراتهم ما هي الا حزازات شخصية تحركها ثعلبيات نوري وخطط الانكليز الاستعمارية".(88)
الف نوري السعيد وزارته الثالثة (1938-1939)، واجرى انتخابات جديدة واشغل المجلس النيابي باتباعه. ثم حاول التعامل مع حكمت سليمان ومؤيديه في انقلاب بكر صدقي. وطالما لم يستطع جلبهم للمحاكمة بسبب العفو الذي تمكن حكمت تمريره في البرلمان قبل استقالته، فقد وجد وسيلة اخرى. فاجئ نوري الجميع ببيان رسمي(6/3/1938) يعلن اكتشاف مؤامرة لاغتيال الملك غازي. اتهم حكمت وعدد من مؤيديه بأدلة اتفقت وجهات النظر المحايدة على تلفيقها وتزييفها. ولم ينقذ رقبة حكمت من حبل المشنقة سوى تدخل السفير البريطاني.(89)
وبعد حوالي الشهر على اكتشاف المؤامرة المزعومة، اعلن عن مقتل الملك غازي بدعوى سواقة سيارته بسرعة عالية تحت تأثير الكحول واصطدامها بعمود(ليلة 4-5/4/1938). وكان هذا الادعاء محل شك العراقيين لقناعتهم ان موت غازي جاء لصالح نوري والانكليز. فمنذ عام 1937 اعلن غازي من اذاعته الخاصة في قصر الزهور استنكاره استعمار فرنسا لسوريا، والصهيونية في فلسطين. وهاجم النفوذ البريطاني في الخليج، وادعى لأول مرة عائدية الكويت الى العراق. ذكر ناجي شوكت وزير الداخلية في وزارة نوري "بأن موت الملك غازي جاء نتيجة لعبة قذرة كان وراءها نوري السعيد".(90)
ترك غازي ولده فيصل الثاني طفلا. وكان عليه الانتظار اربعة عشر عاما ليبلغ مرتبة ابيه. تم اختيار الامير عبدالاله وصيا على العرش(6/4/ 1938)، وهو المعروف بولائه للانكليز. وجاءت تسميته وصيا من قبل مجلس الوزراء بناء على شهادة زوجة غازي (الملكة عالية) التي ادعت ان غازي أسر اليها رغبته في تعيين اخاها وصيا في حالة وقوع حادث على حياته. بينما كان معروفا عن الملك القتيل انه حمل كراهية عميقة لابن عمه. بالاضافة الى ان غازي لم يكن على وفاق مع زوجته. ويروي شهود عيان انه بعد التأكد من موت غازي بدا البشر طافحا على وجوه نوري السعيد ورشيد عالي الكيلاني وطه الهاشمي وغيرهم ممن تضرروا من انقلاب بكر صدقي. اذ نسب الى طه قوله: ان الجيش مستعد للتدخل لصالح عبدالاله اذا اقتضى الامر. بينما مارس نوري دورا فعالا في فرضه وصيا. واصبحت السلطة الفعلية منذ ذلك الحين وحتى نهاية الملكية موزعة بين عبدالاله ونوري. كتب السفير البريطاني م. بيترسون عن عبدالاله قبل ثلاثة اشهر من توليه الوصاية "اني اشك ان يكون لديه اية قدرة على الاطلاق، حتى ولو اوجد اية مشاغل اكثر جدية من سباق الخيل والمطاردة غير المشروعة للغزلان بالسيارات، وليست اخلاقه الشخصية فوق الشكوك وخصوصا فيما يتعلق برفقته لـ جاكي(فارس) من الدليم. بينما يحتفظ بزوجته المصرية الجذابة مسجونة خلف الجدران كأية محظية من الحريم".(91) وكتب ناجي شوكت "رأى عبدالاله ان الامير غازي ابن عمه وليا للعهد، وأن اباه الملك علي يعيش عالة على اخيه فيصل، وأن الامور لا تبشر بمستقبل له فتملكته الحقد والحسد لأِنه كان محروما من كل جاه او سلطة، وقد اعيد الى العراق قبل ان يتم دراسته في كلية فكتوريا بالاسكندرية لفشله في الدراسة، فانزوى ولم يتصل بأحد وانصرف الى اللهو بسباق الخيل وبقي كذلك حتى اصطفاه نوري السعيد وأخذ يهيئه للمستقبل بدلا من الامير غازي الذي كان يكره نوري السعيد كرها شديدا لثقته العمياء بالانكليز". وفي اعقاب مقتل غازي اتخذ "نوري السعيد كل التدابير لتنصيب عبدالاله وصيا على العرش، وكان نوري يأمل ان يماشي عبدالاله سياسته الضالعة مع الانكليز".(92)
وفي عهد وزارة نوري الثالثة وقع اغتيال سياسي لوزير ماليته رستم حيدر. كان هذا الحادث هو الاغتيال السياسي الثاني من نوعه في العراق بعد حادثة اغتيال توفيق الخالدي السابق الذكر. اشارت اصابع الاتهام مرة اخرى الى نوري السعيد. ويقال انه رغم موالاة رستم لـ نوري والانكليز لكنه أخذ يدعو في الخفاء الى الاتصال بدول المحور على حساب العلاقة التقليدية مع بريطانيا. وكان هذا كافيا لاغتياله. بينما كتب صلاح الدين الصباغ في مذكراته، ص4 "قتل رستم غيلة في وزارة المالية بتاريخ 18ك2/1940 تطبيقا لما تقتضيه المصالح البريطانية في العراق".(93)
وفي ظروف الحرب، وبناء على طلب بريطانيا اقدمت الوزارة السعيدية الرابعة على قطع علاقات العراق مع المانيا. ومع استقالة الوزارة نتيجة خلافات شخصية داخلها بشأن كيفية تعامل نوري مع خصومه السياسيين عندئذ عبأ العقداء الاربعة قواتهم في انقلاب آخر لصالح نوري ليشكل وزارته الخامسة (1940) وبمباركة الوصي، ولتستمر(45) يوما. وبناء على نصيحة نوري، عهد الى الكيلاني تشكيل وزارته الثالثة (1940-1941). ومن الآن فصاعدا اخذت الاحداث تقترب من ازمة مايس 1941. وبدأ نوري السعيد الابتعاد عن جبهة العقداء لصالح البلاط والانكليز.
قفزت الازمة الى السطح عندما رفض الكيلاني ومؤيديه طلب الانكليز قطع علاقات العراق مع ايطاليا. لجأ الوصي الى الديوانية لاجبار الكيلاني على الاستقالة التي تحققت لصالح طه الهاشمي(شباط- ابريل 1941). ورغم مرونته، إلا انه عارض قطع علاقات العراق مع ايطاليا، بل وعارض بشدة نوري السعيد عندما اراد اعلان الحرب عليها. مفضلا بقاء العراق على الحياد.(94) وعندما حاول طه التحرش بمكانة العقداء الاربعة لابعادهم عن السياسة، عمدوا في 31/3 الى تعبئة قواتهم في انقلاب آخر وأجبروه على تقديم استقالته في اليوم التالي.
هرب الوصي هذه المرة وبمساعدة الهيئات الدبلوماسية الامريكية والبريطانية الى القوات البريطانية في الحبانية ثم البصرة وبعدها الى الاردن. تم تنصيب الشريف شرف وصيا جديدا على عرش العراق بعد موافقة البرلمان(10 نيسان). وكلف الكيلاني تشكيل وزارته الرابعة "حكومة الدفاع الوطني"، لتنتهي هذه الأحداث بالاحتلال البريطاني الثاني.
كانت للازمة ونتائجها أصداء مستقبلية ضخمة. اذ ان كافة المشاركين فيها دفعوا الثمن عاجلا ام آجلا. تم اعتقال وسجن واعدام الكثيرين من انصار الحركة، وطرد المشكوك في تعاطفهم و/او وضعوا تحت الاقامة الجبرية. وبدأ رشيد عالي حياة نفي طويلة. اما عقوبة نوري واتباع النظام فجاءت بعد سبعة عشر عاما. واصبح العقداء الاربعة وبقية العناصر الوطنية ممن اعدموا شهداءmartyrs الشعب العراقي. وكان الضباط الشباب الذين اسقطوا الملكية عام 1958 مقتنعين انهم يستكملون المهمة التي لم تنته عام 1941. اما النفوذ البريطاني وسلطة البلاط في العراق فقد اثبتت الاحداث كم كانت ضعيفة ومتهرئة. فبدون الاحتلال البريطاني الثاني للبلاد كان من المشكوك بقاء النظام الذي يعود فضل استمراره فترة اخرى الى حالة الطوارئ ووجود القوات البريطانية على ارض العراق.
جسدت حركة مايس مرحلة هامة من عملية نضالية طويلة في تاريخ العراق الحديث. وشكلت استمراراً لثورة العشرين بصفة اخرى وبقوى اجتماعية اخرى. إذ صار ضباط الجيش والعناصر المدنية من ابناء الطبقة الوسطى هم القوة المركزية في الساحة العراقية وليس زعماء القبائل وابناء العائلات المعروفة كما في عام 1920، رغم ان الهدف النهائي بقي ثابتا، وهو القضاء على الوجود البريطاني في العراق. كما يعتبر عام 1941 الحد الفاصل بين نظام سابق احتوى على جماعات نخبة متنوعة وبين نظام لاحق متجه على نحو كامل وشامل الابتعاد عن النهج الوطني- القومي باتجاه تحقيق مصلحة الانكليز بعد انهاء دور نخبة المعارضة الوطنية من الساحة السياسية العلنية، ومحاولات النظام انهاء دور الجيش ليشهد انحسارا شديدا بتقليص حجمه وتصفية عناصره الوطنية. واصبح توزيع المناصب الوزارية مهمة يمارسها الوصي وبفعالية اكثر من قبل.(95)
كانت حركة مايس 1941 امتدادا للحركة الوطنية في العراق التي وجدت في صورتها الاولى المنظمة كتيار قومي داخل الحزب الوطني العراقي خلال الفترة 1928-1920. وفي نفس الفترة بدأت عملية تنظيم الضباط في السياسة من قبل توفبق حسين المحاضر القومي المتحمس في الكلية العسكرية والمدافع القوي عن تدخل الجيش في السياسة. وبدأ الضباط القوميون التجمع حول صلاح الدين الصباغ منذ عام 1929. وكانت للصباغ اتصالات لفترة مع جعفر ابو التمن. وخلال الفترة 1935- 1936 قدّم الصباغ دعما غير محدود لرئيس الوزراء ذو التوجه القومي ياسين الهاشمي، واقترب في الوقت نفسه من نادي المثنى الذي انشئ عام 1935 لنشر الدعوة القومية. ومع اخماد ثورة فلسطين(1936-1939) قدم مفتي القدس الحاج امين الحسيني الى بغداد وتحالف مع ضباط حركة مايس. لخَّص الصباغ فلسفته (ص29 من مذكراته) بقوله "لا اعتقد بالديمقراطية البريطانية ولا بالنازية الالمانية او البلشفية الروسية. انا عربي مسلم، لا اريد أي بديل من المطامح والفلسفات".(96)
كذلك لعبت شخصية اخرى دوراً محوريا في حركة مايس، وهي شخصية محمد يونس السبعاوي- المحامي الموصلي والشاب القومي المتحمس الذي انتمى الى النواة القائدة للحركة. وكان على اتصال بالصباغ منذ 1929. وبلغ عضوية السبعة السرية التي وجهت منذ نيسان/ابريل احداث حركة مايس. اما رشيد عالي فلم تكن له علاقة بالحركة، ولم تظهر ارتباطاته بالعقداء الاربعة قبل آذار- مارس 1940. ويرى بطاطو ان وجود الكيلاني في قمة الحركة بعد سنة واحدة كان"مجرد صدفة". ويستمر بقوله: ان حكومة رشيد عالي استحقت الملامة بحرمانها الناس من حقهم الدستوري في تنظيم انفسهم في احزاب ونقابات، لأِنها بذلك انتزعت قلب الحركة وتركت ظهر الجيش مكشوفا. هذا بالاضافة الى تخبطاتها وترك الساحة نجاة بنفسها "لكن عيوب القادة لم تنتقص ابدا من(طهارة) حركة مايس ومن الحماسة الشعبية النقية التي استحثتها".(97)
شهدت السنوات 1941-1945 على نحو اكثر تركيزا اعطاء الاولوية للمصالح البريطانية في البلاد. يقول توفيق السويدي (ص 392 من مذكراته) "اصبحت البلاد تحت احتلال عسكري صرف. وكل ذلك كان مبررا بضرورات الحرب والضرورات الاستراتيجية التي كان الحلفاء يخصونها بأعظم الاهمية. ولكن الدولة اضاعت جميع سلطاتها، وتغلغل النفوذ الاجنبي في الدوائر من صغيرها الى كبيرها وكانت التعليمات تصدر من لندن ومقر الحلفاء في الشرق الاوسط والقيادة العامة في العراق وايران، والترتيبات تتخذ، والحكومة تصدع بتنفيذ ما تؤمر به".(98)
اتسم اقتصاد الحرب بالتصاعد اللولبي للاسعار spiraling prices اثناء الحرب، خاصة القمح والمواد الغذائية الاساسية، وتزايد الفجوة بين الاغنياء والفقراء، وانتشار واضح للفساد والرشوة. وساءت المواقع الاقتصادية والاجتماعية للطبقة الوسطى من موظفي الخدمة المدنية والضباط ذوي الدخول المحدودة. وهناك سنوات فاصلة تميزت بالاضرابات خاصة عام 1943، عندما كانت المخازن مليئة والاسعار بلغت الذروة. وحققت بعض الفئات ثرائها اثناء الحرب في خدمة بريطانيا. وكانت المشكلة الاكثر خطورة هي التضخم الذي جاء أثناء الحرب بالثروة لبعض الفئات مثل عائلة الجلبية باستفادتها من ارتفاعات اسعار القمح، إذ كانوا مسيطرين على تجارته.
بعودة النظام بعد سحق حركة مايس، برز دور"الرجل الدائم للتسويات المذلة" perennial compromises- جميل المدفعي- حسب تعبير فيب مار.(99) ليشكل وزارته الخامسة مع بداية حزيران/ يونيو 1941. وذلك في اشارة واضحة لاسدال الستارة على الماضي. كان المدفعي جاهزا، كعادته، الذهاب الى حدود معينة لتلبية طلبات الانكليز والقصر في الحد من خطورة الوطنيين، ولكن ليس الى حدود ممارسة التصفية ضدهم. اصدرت وزارته قانونا من المجلس النيابي باعلان حكومة وزارة رشيد عالي غير دستورية، فاتحا الطريق لاتخاذ اجراءات قانونية ضد اعضائها. وقطع علاقة العراق مع ايطاليا. وتمت ازاحة عدد من ضباط الجيش وكبار الموظفين المدنيين واحلال عناصر موالية محلهم. وجرى حرمان عدد من العناصر القومية التي ساهمت في العملية التعليمية من حقوق المواطنة، ومنهم ساطع الحصري، بالاِضافة الى الغاء نظام الفتوة في المدارس وغلق النوادي القومية مثل الجوال والمثنى. وكانت هذه الاجراءات ابعد نقطة في عزم المدفعي تنفيذها من اجل ترضية البلاط والسلطة البريطانية. الا أنه وقع حالا تحت ضغط الانكليز والوصي لتجاوز هذه الحدود بمحاكمة قادة الحركة. وفي مواجهة هذا الضغط استقال المدفعي. وبذهابه اختفت سياسة الاعتدال.
عاد نوري ليشكل وزارته السادسة التي استمرت لغاية وزارته الثامنة (1941-1944) لتصفية الحساب مع قادة حركة مايس. حصل صالح جبر على مقعد وزاري بناء على رغبة الوصي لمكافئته عن الخدمات التي اسداها له اثناء هروبه الى البصرة اوائل نيسان/ ابريل 1941 حيث كان جبر متصرفا فيها ومناوئا للحركة. يقول توفيق السويدي في مذكراته (ص394( "لقد قامت الوزارة السعيدية بأعمال لم تكن الوزارة المدفعية مستعدة للقيام بها... وقد كان من المتوقع ان تقوم الوزارة السعيدية بأعمال ملائمة جدا للرغبات البريطانية. اذ ظهر ذلك بانتقاء الوزارة ممن كانت تميزهم صفة التودد الى البريطانيين ان لم يكونوا من رجالهم".(100) اقدمت وزارة نوري على تنفيذ احكام الاعدام بالعقداء الاربعة، بالاضافة الى محمد يونس السبعاوي. وكان آخرهم صلاح الدين الصباغ حيث امر الوصي بصلبه على باب وزارة الدفاع. عليه لم تكن مصادفة عندما علقت جماهير ثورة تموز 1958 جثة الوصي في نفس المكان.
واصل المجلس النيابي دورته التاسعة التي بدأت منذ حزيران/ يونيو 1939. وهو نفس المجلس الذي اقرّ تعيين الشريف شرف وصيا على عرش العراق بعد عزله عبدالاله. وحظي فيه الكيلاني رئيس حكومة الدفاع الوطني (1941) من التصفيق والهتاف ما لم يحظ به أي رئيس وزراء في مجلس نيابي عراقي. وهو ايضا نفس المجلس الذي عاد واعلن عدم شرعية حكومة الكيلاني فاتحا الطريق للتنكيل برجالات مايس. وهو المجلس الوحيد الذي استكمل دورته المحددة بأربع سنوات من بين ستة عشر مجلسا نيابيا في العهد الملكي تعرضت للحل قبل أوانها. وعندما بدأ التحضير لانتخابات دورة المجلس النيابي العاشرة (15/10/1943)، اعدّ عبدالاله بنفسه لائحة كاملة لأعضاء المجلس الجديد، مما حدا بالسفير البريطاني التعليق على ذلك بقوله "لقد استحسن الوصي ان يكون دكتاتورا فاختار كل النواب".(101) بل ويختار كافة وزراء حمدي الباججي (التي تتجدد لاحقا وتستمر للفترة 1944- 1946) حتى يفاجئ بوجود وزيرين لم يسبق له ان التقى بهما سابقا.(102)
وفي تحوله نحو الاعتماد المتزايد على الشرطة لضبط الشارع العراقي، عمل التاج على اضعاف الجيش لمنع تكرار حركة اخرى. يقول المؤرخ العسكري العراقي محمود الدرة "أ‘عيد الى الجيش العراقي في اواخر عام 1941 الضباط الاستشاريون البريطانيون، ومعظمهم من الذين عملوا مستشارين في بدء تأسيس الجيش العراقي واشتهروا بنزعتهم الاستعمارية. فسيطر هؤلاء على الجيش سيطرة تامة... كان من الصعب على الانكليز الغاء الجيش دفعة واحدة، ولذلك عمدوا الى الابقاء على هيكله، مع تجريده من القيادة الكفوءة وروح القتال والوسائل المادية التي تلزمه للدخول في معارك نظامية". وفي تعداده للاجراءات التي اتخذت لتقليص الجيش وتحجيمه، يذكر الدرة: اخرج من الجيش في السنوات السبع التي اعقبت حركة مايس 2789 ضابطا.. اهمل التجنيد الاجباري عمدا.. انخفض ملاك ضباط الصف والجنود الى نصف عدده مقارنة بمطلع عام 1941 واحيانا الى الثلث.. وبالمقابل ركز النظام على زيادة أعداد الشرطة من 12266 الى 21730 عام 1945.. الغيت احدى الفرق الاربع.. سلبت بريطانيا معمل الاسلحة وما يدخره من تجهيزات وأدوات فنية. طبقت سياسة: سلاح بلا عتاد وجهاز حربي تنقصه الإدامة. "وتجلت هذه السياسة بعد ست سنين من تلك الحركة، في فلسطين، على النحو الذي سجله التاريخ".(103)
وقبل ختام هذه الفترة، تجدر الاشارة الى بوادر ولادة تنظيمات سياسية جديدة غير تقليدية في العهد الملكي، ولكن بعيدا عن النخبة السياسية واللعبة البرلمانية. برزت اولا في نشوء الحزب الشيوعي العراقي(1934) الذي سيشكل مع تنظيم سياسي آخر، ستشهد ولادته الفترة التالية، وهو حزب البعث العربي الاشتراكي(1947) محور التفاعل السياسي العراقي لفترة ما بعد الملكية.(104)

(3) الفترة الثالثة 1946- 1958( سقوط التاج)
تألفت خلال هذه الفترة 23 وزارة وبحدود 197 يوماً متوسط عمر الوزارة الواحدة. ووفق هذا المؤشر استمر الوضع السياسي قلقا كما في الفترة السابقة. كذلك بلغ متوسط عمر المجلس النيابي من بين المجالس النيابية الستة خلال السنوات 1947-1958 دون نصف مددها القانونية. بينما فرضت 1219 يوما من الاحكام العرفية. وبنسبة (7و25%) من هذه الفترة. ان انخفاض هذا المؤشر الى نصف مستواه مقارنة بالفترة السابقة قد يجد تبريره في غياب الانقلابات العسكرية وحركات العصيان في ظل الاحتلال البريطاني الثاني للعراق وتزايد قبضة الاحتلال وسلطة النظام البوليسية.
اعلن الوصي سياسته الليبرالية الجديدة في خطاب له اواخر عام 1945. تعهد تنفيذ اصلاحات اقتصادية واطلاق الحريات الدستورية. وأختار لهذه المهمة توفيق السويدي ليشكل وزارته الثانية (1946). وجاءت المفاجأة عندما ضمّ السويدي الى وزارته احد زعماء حركة مايس 1941(عبدالوهاب محمود- رفيق السبعاوي). يذكر مصطفى العمري في يومياته- الاحد 17 شباط "زرت الوصي... وقلت: كيف يصلب محمد يونس السبعاوي، ومستشاره عبدالوهاب محمود الذي كان يرافقه في جبهة القتال، وزوجته تذيع من راديو بغداد أثناء ثورة رشيد عالي، يعين وزيرا".(105)
ومع ان وزارة توفيق السويدي استمرت 97 يوما فقط، الا انها كانت حافلة بالاحداث، اذ نفخت بأول نفحة ريح جديدة في النظام السياسي منذ منتصف الثلاثينات عندما جمّد ياسين الهاشمي خلال وزارته الثانية (1935) الحياة الحزبية. ولكن رغم ان كلمة الوصي تطرقت الى الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، الا ان برنامج الوزارة انحصر في الحريات السياسية. وكانت الخطوة الأكثر اهمية اجازة خمسة احزاب سياسية (2نيسان).(106) وكانت المفاجأة الاخرى ان اربعة من هذه الاحزاب كانت احزاب معارضة فعلية. بل والأكثر مفاجأة ان اثنين منها كانا ماركسيين. واعتبر احدهما قريبا من الحزب الشيوعي العراقي. ضمّت هذه الاحزاب الخمسة وزعاماتها: الاستقلال(قومي عربي- محمد مهدي كبة)..الاحرار (محافظ وسط- توفيق السويدي).. الوطني الديمقراطي (يسار وسط- كامل الجادرجي).. الاتحاد الوطني(ماركسي- عبدالفتاح ابراهيم).. الشعب (ماركسي- عزيز شريف). وكان الأخير من بنات افكار فــــهد (يوسف سلمان) زعيم الحزب الشيوعي العراقي.(107)
عاش برنامج التحول الليبراليliberalization فترة قصيرة. كشف فشله عن جوانب ضعف عديدة لنظام العرش منها: تزعزع النظام.. عيوب في النظام البرلماني.. تناقضات موروثة للنظام في محاولته الانفتاح السياسي، والخوف من ان يقود هذا الانفتاح الى اسقاط العرش. والواقع ان فشل البرنامج عبّر بوضوح عن معضلة النظام وعجزه عن النمو والتطور. اذ أن محاولته للانفتاح بغية السماح بعملية منتظمة في اطار العرش لم تكن قادرة على ان تكون قابلة للحياة لأسباب تتعلق بمقاومة نخبة الحكم خوفا على مصالحهم. من جهة اخرى، لم تكن تقابل مثل هذه المحاولات بتحركات اصلاحية جادة من قبل المعارضة بسبب عدم ثقتها بنظام العرش. وفعلا اعلنت الرجعية من الاقطاعيين ونخبة الحكم من ‘عتات المحافظين حربها على الوزارة السويدية بعد ان اقلقتها حركة الاحزاب في ظل السياسة الجديدة التي توجست منها خطرا على مصالحها. وردّت بـ"احزاب الاعيان" يوم 31/5/ 1946 بالتغيب عن حضور مجلس الاعيان تاركين وزارة السويدي بلا مال، مما عجّل في استقالتها. ويبدو ان الوصي قام بترتيب هذا الأمر سرا، لاسباب قد تجد مبرراتها في عدم جديته او خروج سياسة الانفتاح عن سيطرته او الاطار الذي رسمه.
يقول خليل كنة - ص77 من كتابه: العراق امسه وغده "نعود الى وزارة توفيق السويدي وسياستها الجديدة لنرى ان الساسة القدماء وجدوا فيها خطرا عليهم وتحديا لسلطتهم. فعمدوا الى مقاومة هذه السياسة والتلويح بالنتائج الخطيرة المترتبة على اطلاق الحرية. وانتهت معارضة الساسة للنهج الجديد الى تكتل مجلس الاعيان والى مقاطعة الوزارة. والغريب ان الوصي… ينضم الى الساسة القدماء في محاربة هذه السياسة. ولهذا كتب على الوزارة السويدية الاستقالة. والأمرّ من ذلك ان يعهد الوصي برئاسة الوزارة الى ارشد العمري، وهو ابعد الناس عن الديمقراطية والتنظيم الحزبي". ويذكر محمد مهدي كبة في مذكراته (ص11): في صميم الاحداث "ولم يكن الوصي ولا الطبقة الحاكمة ولا متبعوهم من الانكليز جادين في تنفيذ هذه السياسة الجديدة التي اعلنها الوصي، ولم نكن ولا الساسة والعناصر الوطنية الاخرى التي بادرت الى تأليف الاحزاب والجمعيات السياسية واثقين من حسن نية القائمين في الحكم في انتهاج السياسة التي أعلن عنها الوصي. غير اننا وباقي الزملاء من رجال الاحزاب الاخرى، رأينا من واجبنا انتهاز هذه الفرصة لتنظيم الحياة السياسية في البلاد وجمع العناصر الوطنية، ونشر الوعي السياسي بين ابناء الشعب".(108)
بعد ان شكل ارشد العمري وزارته الاولى (1946) بدعوى اجراء انتخابات "حيادية"، بدأ بقمع الصحف المعارضة. ولكن سرعان ما غطت الاضرابات العمالية لشركة نفط كركوك الساحة العراقية (تموز/ يوليو 1946) بعد حصول"مذبحة كاورباغي" بحق العمال المضربين.(109) تعرضت الوزارة لهجوم الاحزاب الخمسة هجوما عنيفا، واستقالت بعد ان عمّرت(163) يوما. الف نوري السعيد وزارته التاسعة (1946) التي استمرت(110) يوما. وكانت مهمتها المعلنة اجراء الانتخابات، بينما كانت في مضمونها جسرا لتمهيد الطريق امام مشروع قادم.
ومع فشل الشق الاول من برنامجه، التفت الوصي الى شقه الثاني"تعديل معاهدة 1930". وفي هذا الوقت(1947) كانت لا تزال هناك عشر سنوات على نفاد المعاهدة. الا ان الوصي كان يأمل تعديل المعاهدة لصالح العراق، متصورا ان هذا التغيير يمكن ان يذهب بعيدا لتحقيق مقاصد المعارضة ليسترد شيئا من هيبته المفقودة. وفي تصوره هذا كان يعبر عن مدى ضحالة تفكير العرش بشأن المطالبات الفعلية للشعب العراقي الذي لم يكن يقبل بأقل من الغاء المعاهدة بديلا. الا ان مسألة الغاء المعاهدة لم تكن واردة في حسابات الوصي ونوري، رغم انها اصبحت خارج الزمن، لا بسبب عدم قدرتهما فحسب، بل لأن الغائها كان يتعارض مع نظام العرش ووجوده.
شكل صالح جبر وزارته الاولى (1948) لتجديد معاهدة 1930. (110) يقول صدر الدين شرف الدين، وهو من اصحاب جبر، في رسالته: سحابة بورتسموث(ص42) "ظهر ان المنهج الوزاري وضعت صيغته بالاشتراك مع اقطاب السفارة البريطانية، واحكمت آياته بوحي الخطة المرسومة في دائرة الخارجية بلندن".(111) برهن جبر على انه اقل ليبرالية حتى من اسلافه. اذ سحب اجازة الحزبين اليساريين(الاتحاد الوطني والشعب)، وقدم كامل الجادرجي وعبدالفتاح ابراهيم الى المحاكمة بعد ان نجح عزيز شريف في الهروب الى خارج البلاد. ووجه ضربة قاسية الى الحزب الشيوعي العراقي باعتقال ثلاثة من قادته (يوسف سلمان/ فهد، زكي بسيم، وحسين الشبيبي) والحكم عليهم بالموت ليخفف مؤقتا الى السجن. كانت حصيلة الاعلان عن الوصول الى معاهدة جديدة في 10/1/1948 "معاهدة بورتسموث" Portsmouth Treaty مظاهرات ضخمة "الوثبة" لعلع فيها صوت رصاص الشرطة وسقط الكثير من الشهداء، مقابل الغاء المعاهدة وسقوط وزارة جبر.(112)
عبّرت" الوثبة"عن اضخم انتفاضة جماهيرية عرفتها الملكية في العراق. وكانت لها ابعاد وطنية واسعة جسدت رفض الشعب العراقي للوجود البريطاني. وخلقت انطباعا دائما لدى نوري السعيد مؤثرا في سياسته بعد ست سنوات عندما بدأ جمع حلقات"حلف بغداد". كذلك ادت الى ظهور حالة من البرود بين الوصي ونوري الذي كان مع الابقاء على المعاهدة القديمة. ومع الزمن ساهم الشقاق بين الطرفين في خلخلة الجبهة المتحدة لنظام العرش. كما حققت المعارضة، رغم الخسائر البشرية الجسيمة، انتصارا هاما. ومنحت "الوثبة" ثقة اكبر لقوى المعارضة وشجعتها على تحدي النظام بشكل اكثر قوة في السنوات التالية.. وفوق ذلك كشفت"الوثبة" مدى تخلف عقلية التاج عن مواكبة المشاعر الوطنية للشعب العراقي، وشكلت في النهاية عاملا قويا آخر يضاف الى العوامل التي كانت تنخر في نظام العرش وتمهد لسقوطه في سياق تصاعد العنف في الساحة السياسية العراقية.
جاءت وزارة السيد محمد الصدر(1948) التي استمرت 140 يوما لتهدئة الاوضاع واعادتها الى حالتها الطبيعية.(113) حلت مجلس النواب والغت المعاهدة والاجراءات الاستثنائية وأجرت انتخابات جديدة قادت الى مجلس نيابي لا يختلف عن المجالس السابقة بسبب تدخل البلاط. ومن اجل تأهيل "عصبة بورتسموث"تم تشكيل وزارة مزاحم الباججي (1948-1949).(114) يذكر خليل كنة في كتابه السالف(ص86) "مزاحم الباججي سياسي طيع قادر على تنفيذ السياسة المرسومة بما لديه من مؤهلات، وعن طريقه يمكن ارجاع الساسة القدماء".(115) ومع مجيء الوزارة السعيدية العاشرة(1949) للتعامل مع آثار الحرب في فلسطين. انتهز نوري فرصة الاحكام العرفية فوجه ضربته الى الحزب الشيوعي باعدام قادته الثلاثة (14-15 شباط) بعد اعادة محاكمتهم. ومما يجدر ذكره ان هذا العام (1949) شهد ولادة حزبين هما "الاصلاح" و "الاتحاد الدستوري".(116)
بعد ان خفّت حدّة أزمة بورتسموث وفلسطين، برزت مشكلة جديدة امام السياسة الخارجية العراقية، تمثلت في صراع الوصي من اجل عرش سوريا. وكانت لها ان تعمق الشقاق داخل مؤسسة العرش، لعدم مشاركة نوري حماسه، لإِهتمامه بمجالات اخرى، خاصة ترتيب المعاهدات. ويلاحظ ان عام 1950 شهد كذلك ولادة حزبين جديدين هما "الجبهة الشعبية المتحدة" و"الأمة الاشتراكي".(117)
ومع حصول ثورة مصدق وتأميم النفط الايراني- التي الهمت المعارضة العراقية للمطالبة بتأميم النفط العراقي- عندئذ برز من جديد دور نوري السعيد ليشكل وزارته الحادية عشرة (1950-1952)، ولتنتهي بتوقيع اتفاقات النفط واقرار مبدأ مناصفة الارباح
جاءت ثورة 23 تموز/ يوليو 1952 المصرية بزعامة جمال عبدالناصر بمثابة قوة دفع للمعارضة العراقية ضد النظام. واصبحت الظاهرة البارزة لهذا العام تصاعد الاضرابات والمظاهرات واتساع المواجهات مع الشرطة وكثرة سقوط الضحايا من قتلى وجرحى. يضاف الى ذلك ان فشل نظام العرش تحقيق تغييرات اجتماعية لم يكن اقل من فشلها اجراء اصلاحات سياسية. وفي الظروف التي لاحت مع اوائل الخمسينات حيث ازداد دور نوري السعيد وامساكه القوي لموازين السلطة، فإِن هذه الحالة لم تشجع حتى اولئك الذين كانوا من مؤيدي النظام.
وهكذا، فحال انتهاء مهمة الوزارة السعيدية ومجيء وزارة مصطفى العمري (1952) بدعوى اجراء انتخابات"حيادية".(118) وقبل ان تبدأ الانتخابات، واجهت الوزارة المظاهرات الطلابية- الشعبية المتصاعدة "انتفاضة 1952". واصبح واضحا للبلاط ضرورة فرض اجراءات طارئة. وبذلك تألفت وزارة عسكرية برئاسة نورالدين محمود رئيس اركان الجيش(1952-1953).(119) يذكر عبدالرزاق الحسني: ان عبدالاله رشح اعضاء الوزارة العسكرية ومنهم رايح العطية (نصف امي) ومن المقربين الى الوصي.(120) فرضت الوزارة الاحكام العرفية ومنع التجول ومارست الاجراءات القمعية. ثم اصدرت قانونا جديدا للانتخابات على اساس مباشر، واجرت الانتخابات وفق المرحلة الواحدة في ظل الاحكام العرفية، وكانت النتيجة مجلس نيابي ذهبت اغلبية مقاعده لاتباع نوري.
سميت احداث عام 1952"الانتفاضة"، وكانت علامة بارزة اخرى من علامات ابتعاد الشعب العراقي عن مركز النظام الملكي، واجبرت نظام العرش الاعتماد على الجيش لأول مرة بعد احداث مايس 1941،الى جانب اعتماده على الشرطة، وجددت فرصته للتدخل في السياسة.
تولى فيصل الثاني سلطاته الدستورية (2/5/1952 )، وأصبح الملك الثالث والاخير للعراق المعاصر. كان فيصل ذا ثقافة اوربية وافكار ليبرالية غربية. وبدلا من ان يبادر باجراء الاصلاحات المطلوبة، فقد شكل فرصة ضائعة اخرى لنظام العرش، لاسباب تتقدمها: غياب الخبرة ومواصفات القيادة، خضوعه لحماية مبالغ فيها overprotected، قوة ارتباطه العائلي في ظروف احاطته- بشكل خاص- من عماته وقطعه عن المجتمع العراقي. كذلك كان تدريبه وتأهيله مأخذا عليه. اذ تعلم بدرجة رئيسة على يد مدرسين انكليز في بغداد او في مدارس بريطانية، ومن ثم بعده عن الشعب العراقي وبعد تفكيره عن احتياجاتهم. واخيرا، استمرار عبدالاله- الذي ‘منح لقب امير ملكي crown prince- في توجيه سياسة القصر وفي تنفيذه لمشروعه السوري. ‘كلف فاضل الجمالي ليشكل وزارته الاولى والثانية (1953-1954).(121) وفي ظروف حاجة وزارة الجمالي لمزيد من الاموال لاستمرار الانفاق الخارجي لتنفيذ مآرب الامير، مقابل رفض نوري السعيد، عندئذ كان هذا الاجراء كافيا لاسقاط الوزارة الجمالية، وتعميق الفجوة بين عبدالاله ونوري.
وجد عبدالاله ان حاجته الى برلمان جديد مطلوبة لازاحة نفوذ نوري السعيد الذي بادر- كعادته- الى ترك البلاد الى اوربا بعد برود علاقته مع الامير. الف ارشد العمري وزارته الثانية (1954) لتنفيذ هذه المهمة. ساهمت في الانتخابات كافة الاحزاب المرخصة للمنافسة على 135 مقعدا في مجلس النواب. حصل اتباع نوري على 51 مقعدا، وستة مقاعد للوطني الديمقراطي، ومقعدين للاستقلال، ومقعد واحد للجبهة الشعبية. وفاز بعض عناصر اليسار مثل ذنون ايوب الكاتب والمعلم الموصلي. بينما قبع توازن السلطة لدى المستقلين الذين كانوا- ا فتراضيا - من انصار الامير. اما طبيعة الانتخابات، وحسب تعبير مصدر غربي، فكانت الأقل تدليسا.(122) ولكن مع نجاح عبدالاله في المجيء بمجلس بلاطي مؤيد له، عندئذ صدرت اليه اوامر مباشرة للسفر الى نوري ومصالحته واعادته الى السلطة للتحضير لحلف بغداد. يقول الشيخ علي الشرقي- الوزير بلا وزارة في وزارة ارشد العمري- في كتابه: الاحلام (ص 172و173) "ان ارشد العمري كان باندفاع يشبه الهستريا، يدير الانتخابات في الظاهر بصفة حيادية، ولكن معمل الترشيح كان في غرفة الديوان الملكي. وكانت المحاولة هي المجيء بأكثرية بلاطية.. . حتى اتم الانتخابات وفق الخطة المرسومة ويفاجئ الناس بالهزيمة الى الاستانة... تاركاً استقالته على المنضدة غير منتظر قبولها، فكان ذلك غريبا لأول وهلة. ولكن تكشف الموقف عن تدخل السفير البريطاني قائلا بحزم وشدة: لا بد من جلب نوري لتدارك الوضع. والامير يعرف جيدا من عام 1941 بأن اقامته في العراق مستندة على حراب الانكليز، وان الشعب ضده، فهدم ما قام ببنائه وطار ليعود بنوري".(123).
بدأ نوري السعيد في اليوم لتشكيل وزارته ا لثانية عشرة والممتدة لغاية وزارته الثالثة عشرة (1954-1957) بحل مجلس النواب وقبل ان يعقد حتى جلسته الاولى. ونفذ سلسلة عمليات قمع ضد الاحزاب السياسية والمعارضة عموما، معلنة عن عهد دكتاتوري جديد في العراق. وبعد خنقه للمعارضة، شرع نوري في اجراء الانتخابات ليفوز 121 نائبا بالتزكية من مجوع 135 بينما فاز الباقون بالانتخاب الصوري. وهكذا مهد نوري السعيد لمشروعاته الخارجية بعد ان تعلم درس"الوثبة 1948". وفي ظروف سيطرته الكاملة على البرلمان عندئذ بادر الى تشكيل حلقات حلف بغداد(21-22/11/1955).
كانت مضار Disadvantages حلف بغداد الآنية والمستقبلية ضخمة.. فبالاضافة الى خلق جدار من الكراهية للغرب في المنطقة وتقسيم العرب الى معسكرين باشعاله حربا باردة ومستمرة بين عراق نوري ومصر عبدالناصر، الا ان اخطر مضار الحلف تجسد في حمله للبلاد اعباء مستقبلية ثقيلة جدا كان من الصعب التحرر منها دون دراسة متأنية لايجاد بدائل مناسبة لضمان سلامة امنها. ذلك ان الاحداث الخطيرة التي واجهت العراق منذ بداية الستينات في شماله وشرقه، والتدخلات الواسعة في شؤونه لتمتد الى جنوبه وغربه والتي استمرت حتى ما بعد حرب الخليج، والعواقب الوخيمة التي ترتبت عليها، هي محصلات يصعب فصلها عن آثار حلف بغداد.
ربما لم تكن ضربة نوري للاحزاب المرخصة (مرسوم الجمعيات رقم 19 لسنة 1954) اكثر من"رصاصة رحمة" بعد حالة الضعف والفساد التي اعترتها. كتب المحامي سلمان الشيخ داود عام 1956 في هذا الشأن "ان معظم رجال السياسة تستهويهم الكراسي، ويغويهم المنصب، وتبهرهم المادة، فأضاعوا ثقة الجمهور واضاعوا امكانيات العمل الصالح، وفقدوا منزلة الاحترام والتقدير. فكانت النتيجة انهم اضاعوا انفسهم ومراكزهم في غمرة الشهوات والاحتراصات. ولهذا كان من السهل على ذوي السلطات ومن بيدهم توزيع الاسلاب ان يهدموا هذه الاحزاب ويقوضوها بيسر وسهولة... على ان اللوم فيما وصلت اليه حالتنا السياسية لا تقع على الحكومات- حسب- كما يزعم البعض، بل على اولئك الذين باعوا مبادئهم بيعا رخيصا ودخلوا السياسة عن طريق المساومة والبيع والشراء. فكان مصيرهم المحتوم ان اضاعوا الثقة واضاعوا الاحترام".(124)
وفي محاولة من قادة الحزب الوطني الديمقراطي اعادة ترخيص الحزب بعد سحب اجازته (2/9/1954) تم الاتفاق مع قادة حزب الاستقلال على دمج الحزبين وتشكيل تنظيم جديد(16/6/1956) باسم"حزب المؤتمر الوطني". ورغم عدم اجازة الحزب الجديد الا انه استمر في نشاطه بعيدا عن العلنية. والرأي الغالب ان"المؤتمر الوطني" شكل تمهيدا لتكوين الجبهة الوطنية "جبهة الاتحاد الوطني" التي ولدت في الاسبوع الاخير من شباط/ فبراير 1957، وضمّت احزاب المعارضة الفعالة في الساحة السياسية العراقية (الوطني الديمقراطي، الاستقلال، الشيوعي، البعث). وقد نجحت الجبهة لا في توحيد سلوك الاحزاب الاعضاء فحسب، بل وايضا في الايحاء بعملية مماثلة داخل قوات الجيش المعارضة، وفي اقامة رابط بينها وبين رأسها المدبر المتمثل في اللجنة العليا للضباط الاحرار. "ولهذا قد لا تكون مبالغة في القول انها استقطبت المجتمع العراقي اكثر مما حصل في اي يوم في الماضي والى درجة شكلت فيها تهديدا حقيقيا لبنية الملكية".(125)
شهدت الفترة التالية من حياة الملكية في العراق استمرار تدخل عبدالاله في الشؤون السورية. وانشاء الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن ردا على دولة الوحدة بين مصر وسوريا(1/ 2/1958) في عهد وزارة عبدالوهاب مرجان(1957-1958).(126) وقيام ثورة 14 تموز(1958) وسقوط آخر وزارة ملكية برئاسة احمد مختار بابان بعد(55) يوما من تشكيلها.(127)
اعتاد نوري السعيد منذ ان اصبح رئيسا للوزراء لأول مرة (1930) ان يرى نفسه صاحب الرأي المسموع في اختيار معظم وزرائه، بل وفي اختيار بعض رؤساء الوزارات أحياناً. حتى ‘عرف عنه انه الرئيس الدائم للحكومة العراقية، سواء كان في الحكم ام خارجه. وكانت فترات حكمه طويلة نسبيا بالقياس مع الوزارات العراقية عموما. ومن الواضح ان مهام وزاراته كانت تتطلب، غالباً، مثل هذه المسافات الزمنية. اذ ان الاحداث العراقية الرسمية الكبرى منذ الثلاثينات ولغاية سقوط النظام الملكي تمت في اطار وزاراته والتي تجلت في: معاهدة 1930 والاعلان الرسمي لاستقلال العراق (الوزارة السعيدية الاولى والثانية).. تصفية الملك غازي وتحريك احداث مايس 1941 (الوزارة السعيدية الثالثة والرابعة والخامسة).. تصفية قادة حركة مايس (الوزارة السعيدية السادسة والسابعة والثامنة).. التمهيد لعقد معاهدة بورتسموث (الوزارة السعيدية التاسعة).. التعامل مع آثار الحرب في فلسطين والتمهيد لمشروع بورتسموث (الوزارة السعيدية العاشرة).. توقيع اتفاقات النفط (الوزارة السعيدية الحادية عشرة).. تشكيل حلقات حلف بغداد(الوزارة السعيدية الثانية عشرة والثالثة عشرة).. ترتيب اوضاع الاتحاد الهاشمي (الوزارة السعيدية الرابعة عشرة).
وهكذا كان نوري السعيد مهندس العرش لتحقيق المصالح البريطانية في العراق. يذكر خبير بريطاني في وزارة الاعمار العراقية تحت اسم مستعار (كاركتاكوس) بقوله "ان نظام الحكم في العراق اعتمد على رجل واحد هو نوري السعيد الذي همه الحكم، لم يؤمن قط بالرأي العام وأهميته، ومع ان نوري لم يكن دائما في الحكم الا ان الاعتقاد السائد انه كان دائما في الحكم سواء على رأس وزارته ام في الاجازة بعيدا عن السلطة. وقد بدأت في العراق تلك الظاهرة الغريبة، وهي معارضة نوري لكل مصلح وهي الظاهرة التي ميزت حكمه في ايامه الاخيرة". وكتب خليل كنة احد اقرب المقربين الى نوري في كتابه السابق الذكر(ص317-319) "ان ما يؤخذ على نوري هو حبه للسلطة وعناده في الرأي وجموده في اساليبه ومناوراته وثقته العظمى ببريطانيا واهماله للشباب واخفاقه في تقدير دورهم الفعال في توجيه الرأي العام".(128) من هنا ليس غريبا ان تتغنى به المس بيل بقولها "اني لا احب احدا من جميع العراقيين- من الملك فنازلا- مثلما احب نوري. انه ابن موظف عراقي فكيف استطاع ان يكتسب هذه البصيرة المدهشة؟ فهو قادر على ان يفهم من نصف كلمة. انه ادرك وجهة نظرنا ومشاعرنا حول الحقيقة والشرف، وجعلها امام نظره هدفا ومثالاً نهائياً. وهو امر ربما كان من المستحيل تحقيقه في الشرق. ان ثقته المطلقة باستقامتنا وحكمتنا تجعلني احمر خجلا على الدوام"!(129)

2- تحليل النظام الدستوري في العراق الملكي
اصبح العراق"دولة ملكية دستورية" وفق دستور عام 1925. تضمن الدستور مبدأين رئيسين: اولهما اضفاء مسحة ديمقراطية من خلال ربط تأليف الوزارة وبقائها بموافقة السلطة التشريعية المنتخبة. وبذلك تم- نظريا- اخضاع الوزارة للمجلس النيابي. وثانيهما اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات وفق نظام الرقابة المتبادلة والتوازن check and balance. وبالاضافة الى تأكيده على حياد السلطة القضائية، تضمن الدستور وسائل عديدة للتأثير المتبادل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بما في ذلك: حق مجلس النواب سحب الثقة من الوزارة، علاوة على محاسبتها ولومها. وحق مجلس الوزراء حل البرلمان.(130)
احتوى الدستور الاسس الهيكلية الرئيسة: العراق دولة ذات سيادة.. حكومته ملكية وراثية وشكلها نيابي.. سيادة المملكة العراقية لـ (الأمة).. البرلمان هو مجلس(الأمة) ويتألف من مجلسين هما النواب والاعيان.. يتكون مجلس النواب من اعضاء منتخبين عددهم بنسبة نائب لكل عشرين الف ناخب من الذكور.. الوزارة تضم عددا لا يقل عن سبعة وزراء بضمنهم رئيسهم، ويمكن تعيين وزراء بلا وزارة. وحدد الدستور اختصاصات هذه الهيئات: الملك مصون وغير مسؤول.. يملك ولا يحكم.. يستعمل سلطته الدستورية بإرادة ملكية تصدر بناء على اقتراح الوزير او الوزراء المسؤولين وبموافقة رئيس الوزراء.. يختص مجلس(الأمة) مع الملك بوضع القوانين وتعديلها والغائها، بينما تقوم الوزارة بإدارة شؤون الدولة.(131)
ومع ان نصوص دستور عام 1925 اوحت بايجاد نظام برلماني حاول ان يكون قريبا من الصيغة التقليدية للانظمة الديمقراطية الغربية، الا ان هذه الديمقراطية وتخصص السلطات في النظام الملكي العراقي لم تخرج الى حيز التنفيذ بسبب الانحرافات الدستورية، والتي مكنت الملك من الهيمنة على السلطات الثلاث. فعلى مستوى الدستور برزت هيمنة الملك- على الاقل- في موضعين: فرغم ان المادة (19) أقرّت سيادة (الأمة) إلا انها وضعت هذه السيادة وديعة لدى الملك، مما جعله الحاكم شبه المطلق في تدبير امور الدولة. بينما الباب الثاني من الدستور"الملك وحقوقه" جعل الملك "صاحب حق وليس حامل واجب". من هنا تحققت للملك سلطات تفوق تلك المقررة لرئيس الدولة في الأنظمة البرلمانية التقليدية.(132)
برزت هيمنة الملك التنفيذية بمنحه سلطة شخصية بموجب الدستور للانفراد باختيار واقالة الوزارة دون التقيد بالاغلبية البرلمانية. وبذلك أخذ هذا الاختيار يتحقق وفقا لقناعته ومصلحته دون الغاء تأثير السلطة البريطانية في بغداد. ان قوة سلطة الملك في الاختيار هذا عبّرت من جهة اخرى عن ضعف المجلس النيابي. هذه الاوضاع سمحت للملك، ليس في اختيار الرؤساء الفاقدين للاغلبية البرلمانية فحسب، بل وتجاوز ذلك الى اختيار رؤساء وزارات ليسوا اعضاء في مجلس النواب. والجدير بالملاحظة ان تعديل الدستور(27ك2/يناير 1943) الذي منح الملك سلطة قانونية بإقالة رئيس الوزراء مباشرة، لم يغير شيئا.. اذ ظلَّ الملك يمارس اقالة الوزارة بالطرق غير الرسمية وغير المباشرة سواء قبل تعديل الدستور ام بعده. ولم يحدث في التاريخ النيابي العراقي ان اصدر الملك قرارا بإقالة الوزارة. ولعلّ ذلك يعود الى حرصه على عدم اظهار نفسه ممارسا فعليا للسلطة. كما ان تبعية رؤساء الوزارات عموما للملك جعلته في غنى عن استخدام سلطته الرسمية في الإِقالة علنا.(133)
ونتيجة تفرده في سلطة اختيار رؤساء الوزارات، حصر الملك هذا الاختيار بفئة محدودة من النخبة السياسية- حاشيته غالبا- ممن ربطوا انفسهم بالبلاط وسياساته. وربما كان هذا ايضا حافزا للملك ان تكون فترة الوزارة قصيرة ليأخذ كل منهم دوره في تأليفها. ان لجوء الملك الى اختيار الرؤساء بغض النظر عن الاغلبية البرلمانية، دفعت بالوزارات المعنية الى حل مجلس النواب واجراء انتخابات جديدة لتلفيق مجالس موالية لها. يضاف الى ذلك ان سلطة الملك تجاوزت اختيار رئيس الوزراء الى المساهمة الفعلية في اختيار الوزراء، رغم أن الدستور منح رئيس الوزراء سلطة تعيين وزرائه.
وفوق ذلك ما نصت عليه المادة (65) من الدستور بمنح الملك سلطة التصديق على قرارات مجلس الوزراء. بمعنى عدم قابلية تنفيذ هذه القرارات الا بموافقته. ويلاحظ أن جذور هذه المسألة تعود الى تشكيل اول وزارة عراقية "الحكومة المؤقتة-1920" من قبل المندوب السامي البريطاني. اذ تضمنت تعليماته وضع مجلس الوزراء تحت اشرافه وربط تنفيذ قرارات المجلس بموافقته. ويظهر ان سلطة المندوب البريطاني تحولت الى الملك في دستور عام 1925 لتوفير امكانية المداولة فيها بين الملك والمندوب السامي. وبهذا النص فقد مجلس الوزراء سلطة اصدار القرارات مباشرة، بل وتحولت قراراته الى توصيات للملك الاخذ بها او تعديلها او رفضها. وبالنتيجة تحول مجلس الوزراء من كيان سياسي الى ادارة تنفيذية، ومن سلطة تنفيذية لمشيئة المجلس النيابي(السلطة التشريعية) الى اداة تنفيذية لإِرادة الملك. وهذه السلطات: سلطة اختيار واقالة رئيس الوزراء.. سلطة تعيين الوزراء.. وسلطة التصديق على قرارات مجلس الوزراء.. مكنت الملك من تحقيق هيمنته على الوزارة. وبقي الملك مساهما فعليا في قرارات مجلس الوزراء حتى بعد تعديل الدستور(1943) والذي نصّ على ان"يعرض رئيس الوزراء ما يقرره المجلس على الملك للمصادقة عليه". ومع ان هذا النص زاد اعمال مجلس الوزراء لتتخذ صفة القرار، الا انه لم يضعف سلطة الملك في تشكيلها.(134)
يعتمد النظام البرلماني اساسا على السلطة التشريعية. ولم يكن الامر كذلك في العراق الملكي، نظرا لضعف هذه السلطة في ظروف تزييف الانتخابات، وافتقاد الاحزاب السياسية الفاعلة. وفي حين تتطلب الحياة البرلمانية نظاما فعالا لتوزيع السلطات على اساس من التوازن والرقابة المتبادلة وفق علاقة افقية horizontal بين السلطات الثلاث، كانت العلاقة بين هذه الهيئات عمودية vertical. حيث جلس الملك على قمة هرم السلطة، وبعده الوزارة، وفي الأخير مجلس النواب. وبالاضافة الى هيمنته على الوزارة، تجلت هيمنة الملك على البرلمان بمجلسيه واضعافه لسلطتيهما في جوانب عديدة. اذ ‘منح الملك حق تعيين اعضاء مجلس الاعيان واقالتهم. وهكذا تحولت هذه الهيئة الى مجلس شبيه بمجلس الملك، مثلما كان حال مجلس الوزراء. وايضا منح الملك سلطة دستورية للتصديق على القوانين والاعتراض عليها. بالاضافة الى منحه سلطة التصديق على مشروعات القوانين التي يقترحها مجلس الوزراء.
نصّ دستور عام 1925 على انتخاب اعضاء مجلس النواب بالاقتراع العام السري. وقام الانتخاب على مرحلتين لغاية ك2/ يناير 1953 عندما صدر قانون جديد(مرسوم بقانون) تم بموجبه تطبيق الانتخابات المباشرة. ومع ذلك لم يكن هذا الانتخاب الا عملا شكليا- سواء قبل صدور القانون المذكور ام بعده. اما في الواقع العملي، فإِن مجلس النواب لم ينج‘ من قبضة السلطة التنفيذية (الملك ووزرائه) التي لجأت الى"اختيار"اعضائه، وليتحول من مجلس منتخب الى مجلس معين، ومن هيئة ممثلة للشعب الى آلية مترجمة لإِرادة الملك ووزرائه. فالسلطة التنفيذية ساهمت في مرحلة الترشيح للانتخابات. وكان لها مرشحوها "قائمة مرشحي الحكومة"، ومارست مختلف اشكال التدخل في الانتخابات لصالح مرشحيها. ولم يترك الملك لوزرائه مهمة الانفراد برسم قائمة مرشحي الحكومة، بل كانت له اولوية المشاركة الفعالة في اعدادها ومن ثم المصادقة عليها. أي كانت إرادته هي الغالبة في هذا الاختيار ودون إغفال دور السلطة الاجنبية. ورغم مناوئته للعديد من الوزارات إلا ان مجلس النواب لم يجرؤ على حجب الثقة عنها (او حتى لومها). بل كان يطلب من الملك إقالة الوزارة في مثل هذه الاحوال. وبعجز مجلس النواب عن تحريك المسؤولية السياسية تجاه الوزارة، عندئذ ينتفي النظام البرلماني.(135)
وفي حين كان مجلس النواب عاجزا عن تحريك المسؤولية السياسية للوزارة، غالت الاخيرة في حله. ولم يكن ضعف المجلس النيابي بسبب تصرفات السلطة التنفيذية فحسب، بل ارتبط ذلك بطبيعة السلطة التشريعية ومكوناتها. ذلك ان شرط موافقة مجلس الاعيان على اقتراح الوزارة حل مجلس النواب كان في الغالب امرا يسيرا بفعل تداخل عضوية مجلس الاعيان والمنصب الوزاري. علاوة على طبيعة مجلس الاعيان والوزارة في علاقتهما بالملك. يضاف الى ذلك احتواء مجلس النواب على نسبة مؤثرة من شيوخ العشائر والاقطاعيين الذين ساندوا الوزارة طالما التزمت بحماية مصالحهم.
وهكذا، فتبعية الوزارة وضعف مجلس النواب أديا الى تركيز السلطة الفعلية في يد الملك وهيمنته على السلطات الثلاث في سياق انحراف النظام البرلماني دستوريا وعمليا، مؤدية هذه الظاهرة الى خلق ملكية شبه مطلقة لا تختلف عن الملكية المطلقة سوى بوجود برلمان مزيف.
ورغم نصّ الدستور على استقلال القضاء وحياده وحمايته تجاه السلطات الاخرى، إلا ان الواقع افرز صورة مغايرة. اذ افتقد القضاء استقلاله وحياده امام السلطة التنفيذية الطاغية، ونتيجة اندماج الدور الوظيفي للسلطة القضائية مع السلطة التنفيذية. وبذلك اصبح تدخل عناصر النخبة السياسية في الاجراءات القضائية سمة بارزة في النظام الملكي. وفي مثل هذه الظروف عانى الحكام باستمرار من مخاطر التهديد الوظيفي، وواجهوا بصورة رتيبة ضغوطا شخصية قوية من اصحاب النفوذ.(136)
إن بروز سلطة تنفيذية طاغية تمثل محور القوة في المجتمع الملكي العراقي، ادى بأعضاء النخبة السياسية- المتمثلة في العناصر المرشحة لاشغال مناصب وزارية- الى استثمار جلّ جهودهم وصولا الى تلك المناصب لتحقيق غايات عبّرت في الغالب عن مصالح ذاتية. ولم تستند عضوية النخبة السياسية الى معايير موضوعية مثل الكفاءة والمهارة، بل قامت بدرجة رئيسة على معايير شخصية عائلية- قبلية. ويمكن القول ان النظام الملكي جسد حكم العائلات المعروفة. هذه الظاهرة عبّرت عن دور رابطة الدم(القرابة) ومدى تأثيرها في الهيكل التنظيمي للسلطة. يضاف الى ذلك دور علاقات الصداقة الشخصية (الشلل) متمثلة في تشكيل الحلقات حول الشخصيات النافذة. فكل شخصية بارزة جمعت حولها نفرا من المؤيدين، اصدرت جريدة، ونظمت حزبا سياسيا صوريا للحصول على قوة شخصية وشهرة ومركز رسمي بدعوى تحقيق استقلال البلاد عن بريطانيا. ومن اجل الوصول الى السلطة او حمايتها، لم يتردد هؤلاء الساسة من استخدام العشائر اولا ثم الجيش خلال فترة العشرينات والثلاثينات لاغراض نفعية ذاتية. كما لجأ اعضاء النخبة الى استغلال مناصبهم في اقامة وتوثيق التحالف مع شيوخ العشائر بمنحهم مكاسب اقتصادية وسياسية. يذكر كاراكتاكوس "ان احدى الفضائح التي عرفها الناس كان استعمال مياه سدة الكوت. لقد قيل بأن ذلك المشروع، الذي كلف ملايين الدنانير، افاد ثلاثة اشخاص فقط، كان احدهم يفاخر بأن ملكيته من الارض تعادل مساحة سويسرا".(137)
ان استفحال الاعتبارات الشخصية في السياسة العراقية واستخدام العنف لحل الخلافات بينها عبّر عن فقدان النظام الملكي لممارسات سياسية حضارية قادرة على توجيه سلوك اعضاء النخبة السياسية، مثلما هي متاحة في الانظمة البرلمانية عادة. وهذه الممارسات أدّت الى الاضرار الشديد بمبادئ الادارة والكفاءة والنزاهة والمبادرة، والى تشجيع هذه العناصر تفضيل مصالحهم الشخصية في سياق احتكار السلطة والثروة.
وفي ضوء هذه الاوضاع، صارت الوظائف في العهد الملكي، تتقدمها المناصب الوزارية، بمثابة رأسمال يدر على اصحابها موردا وفيرا. كشف صادق البصام في البرلمان تقاضي الخدم العاملين في منازل الوزراء رواتبهم من الدولة. وكان الحصول على التراخيص الحكومية والخدمات الاخرى المماثلة، بما فيها اجازات الاستيراد، محصورا في من له قدرة على دفع الرشاوى لرجال السلطة. وتولدت مشاركات قوامها السلطة ورأس المال، تضمنت توفير امتيازات وحماية لقاء نسبة من الارباح. وايضا انتشرت ظاهرة تقديم الهدايا لبلوغ منافع شخصية. ‘يقال ان عبدالاله تسلم عام 1948 بمناسبة زواجه هدايا تقدر بمائتي الف دينار عراقي من اعضاء الوزارات واصحاب النفوذ.(138)

3- سمات المرحلة الليبرالية - الملكية
عاصرت الفترة الملكية اوضاعا سياسية غير اعتيادية تراوحت بين الافراط في تغيير الوزارات وتكرار اشخاصها وتزايد التوجه نحو تعطيل الدستور وفرض الاحكام العرفية وغيرها من الممارسات التي توجزها اللوحة التالية وتلقي الضوء على جوانب من سماتها:
* شهدت الفترة 1920- 1958 تأليف 59 وزارة، بضمنها "الحكومة المؤقتة". وبواقع 233 يوما متوسط عمر الوزارة الواحدة. وعند المقارنة بين الفترات الثلاث يتبين ان الفترة الاولى للملكية كانت الاكثر استقرارا نسبيا مقارنة بالفترتين التاليتين.
* تناوب على رئاسة هذه الوزارات 23 شخصية من النخبة السياسية (الجدول رقم 1) عرفوا بانتماءاتهم العائلية- القبلية و/او العسكرية ، وصراعاتهم على السلطة وارتمائهم في احضان العرش الخاضع للسلطة البريطانية.
* ترأس نوري السعيد وحده 24% من الوزارات العراقية. كما ان 52 % منهم ترأسوا 81 % من الوزارات.
*منذ بداية رئاسته لوزارته الاولى (23/ 3/1930) ولغاية نهاية وزارته الرابعة عشرة (14/5/1958) والممتدة بحدود 10301 يوما، حكم نوري السعيد 4535 يوما وبنسـبة 44 % من الفترة الزمنية.
* بلغ عدد المناصب الوزارية الرئيسة (النافذة) متضمنة: المالية، الداخلية، الخارجية، الدفاع، نائب رئيس الوزراء 302 منصبا توزعت بين 79 من اعضاء النخبة. كانت حصة نوري 33 منصبا تركزت في الخارجية والدفاع. وحصل 22 % منهم على 56 % من هذه المناصب الوزارية.

جدول رقم(1)
توزيعات منصب رئاسة الوزارات العراقية للفترة 1920-1958
عــــدد عــدد رؤســاء الــوزارات
الاشخاص الوزارات
1 14 نوري السعيد
1 7 جميل المدفعي
2 4 عبدالمحسن السعدون، رشيد عالي الكيلاني .
3 3 عبدالرحمن النقيب، توفيق السويدي، علي جودت الايوبي .
5 2 جعفر العسكري، ياسين الهاشمي، حمدي الباججي، ارشد
العمري، فاضل الجمالي .
11 1 ناجي السويدي، ناجي شوكت، حكمت سليمان، صالح جبر،
السيد محمد الصدر، طه الهاشمي، مزاحم الباججي،
مصطفى العمري، نورالدين محمود، عبدالوهاب مرجان،
احمد مختار بابان.
23 59 ( المصدر: الملحق (أ).

* وباضافة منصب رئيس الوزراء الى بقية المناصب(الجدول رقم 2) عندئذ يصل عددها الى 361 منصبا لنفس العدد من اعضاء النخبة 79. اذ ان اقل من 21% منهم استحوذوا على اكثر من 45% منها. وهذه المؤشرات في الجدولين المذكورين معا تتفق على ظاهرة القطبية السياسية في ظل الملكية الليبرالية.
ومنذ انتخاب اول مجلس نيابي ( 1925) ولغاية نهاية المرحلة تم انتخاب ستة عشر مجلسا نيابيا. وفيما عدا مجلس واحد(الدورة التاسعة 1939-1943) تعرضت بقية المجالس الى الحل قبل استكمال دوراتها (اربع سنوات). بينما فرضت الاحكام العرفية منذ 14/9/ 1924 ولغاية 1ت/11/1952 على البلاد بواقع 3992 يوما من جملة 10267 يوما وبنسبة 39%. كما خضعت البلاد منذ عهد الوزارة السعيدية الثالثة (1939) ولغاية الوزارة السعيدية الثالثة عشرة (1952) الى 3661 يوما من الاحكام العرفية او (5و73%) من فترتها البالغة 4891 يوما.(139)
وهكذا، فإِن قصر عمر الوزارات العراقية في هذه المرحلة، وتناوب عدد محدود من النخبة السياسية على اشغالها، والاكثار من حل المجالس النيابية، والافراط في فرض الاحكام العرفية، مؤشرات جسدت الامراض السياسية التي عاصرت مرحلة بناء الدولة الفتية في الفترة الملكية. تذكر فرباستارك- مؤسسة نادي "اخوان الحرية" المركز التجسسي الذي انشأه الانكليز بعد فشل حركة مايس 1941- بشأن نخبة الحكم "... ففي العراق عهدت دفة شؤون الدولة منذ 30 سنة الى فئة قليلة من الاشخاص المسنين المعروفين بولائهم لبريطانيا العظمى، مما دفع شباب البلد الذين لم ينفسح المجال امامهم والذين يتوقون الى ارتقاء سلطة الحكم الى الانضمام الى لواء واحد لمقاومة هذا النظام. وقد دل ذلك على قصر النظر السياسي، وترك دائرة الحكم ضيقة لهذه الدرجة فصارت الفئة الحاكمة تتقاذف كرة القوة (السلطة) من يد الى يد ضمن دائرة محدودة، وكانت النتيجة ان بريطانيا اختصت نفسها بفئة من ذوي الجمود والذين يحرصون على مصالحهم الشخصية والطاعنين في السن".(140)
شهدت مرحلة الملكية الليبرالية ظهور احزاب سياسية عديدة تباينت في اهدافها وهوية مؤسسيها وقواعدها التنظيمية. وانطلاقا من هذه الاعتبارات يمكن تصنيف احزاب هذه المرحلة الى ثلاث مجموعات تالية:


جدول رقم (2)
توزيعات المناصب الوزارية الرئيسة للفترة 1920-1958
عــدد عــدد اصحاب المناصب الوزارية الرئيسة)
الأشخاص المناصب (بضمنها رئاسة الوزارة)
1 47 نوري السعيد .
2 14 توفيق السويدي، جميل المدفعي .
1 13 عبدالمحسن السعدون .
2 12 جعفرالعسكري، علي ممتازالدفتري .
3 11 علي جودت الايوبي، صالح جبر، فاضل الجمالي .
5 9 ياسين الهاشمي، رشيد عالي الكيلاني، ناجي شوكت، مصطفى
العمري، عمر نظمي .
1 8 ناجي السويدي .
5 7 يوسف غنيمة، طه الهاشمي، ارشد العمري، شاكر الوادي،
سعيد قزاز .
1 6 مزاحم الباججي .
4 5 ساسون حسقيل، حكمت سليمان، نصرت الفارسي، احمد مختار
بابان
11 3 عبدالرحمن النقيب، صبيح نشأت، رشيد الخوجة، جلال بابان،
عبدالاله حافظ، عبدالكريم الارزي، عبدالوهاب مرجان، نور
الدين محمود، حسين مكي خماس برهان الدين باش اعيان،
حمدي الباججي.
14 2 محمد امين زكي، عبدالله الدملوجي، رؤوف البحراني، علي
محمود الشيخ علي، ابراهيم كمال، تحسين العسكري،
اسماعيل نامق، توفيق النائب، صادق البصام، خليل
اسماعيل البستاني،ضياء جعفر،سامي فتاح، نديم الباججي،
جعفر ابو التمن .
25 1 طالب النقيب، الحاج رمزي بيك، توفيق الخالدي، محسن شلاش،
عبدالقادر رشيد، كامل الجادرجي عبداللطيف نوري، ناجي
الاصيل، نظيف الشاوي، محمد صبح الدفتري، تحسين علي،
عبدالوهاب محمود،سعد صالح، عبدالله القصاب، سعيدحقي،
جمال بابان، ابراهيم الشابندر، عبدالله بكر، رؤوف الجادرجي،
محمد علي محمود، عبدالمجيد محمود، فخ الطبقجلي، خليل كنة،
السيد محمدالصدر، سلمان البراك.
79 361
* حاصل جمع عدد الاشخاص في عدد المناصب.
* تم تنظيم هذا الجدول اعتماداً على نفس مصادر الملحق أ.

الاولى: احزاب نخبة البلاط( الحكم) - تميزت بصفتها الشخصية ومحدودية اهدافها وضعف هياكلها وضيق قواعدها وقصر حياتها في ظروف تكالبها على السلطة واهمال المعضلات الاجتماعية. وغالبا ما ارتبط نشوءها لدعم نفوذ مؤسسيها في السلطة (الوزارة). لذلك اصبح بقاؤها مرهونا باستمرار مراكز مؤسسيها. وكان قوامها رعاية المصالح الشخصية لأعضائها. من هنا رست العضوية فيها على اسس المصلحة الذاتية.
الثانية: احزاب المعارضة العلنية - اتسمت كذلك بصفتها الشخصية، وكان مؤسسيها من شرائح المجتمع الاقتصادية العالية او فوق المتوسطة. ورغم تنافر اهدافها والمجموعة الأولى، إلا انها كانت كذلك محدودة. ومع ان قادة هذه الاحزاب دافعوا عموما عن حقوق الاغلبية ودعموا قضايا وطنية، الا ان منزلتهم الاجتماعية ووعيهم الطبقي خلق ثغرة بينهم وبين شرائح المجتمع الدنيا. وباضافة موقف البلاط المستمر باتجاه تشتيتها من خلال سياسة الترغيب والترهيب، لذلك عانت ايضا من افتقارها الى قواعد شعبية.
الثالثة: احزاب المعارضة السرية - الفراغ الفعلي للساحة العراقية من الحياة الحزبية السوية، واستمرار تردي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للاغلبية، واليأس من اللعبة البرلمانية، وغياب الحريات السياسية، والايغال في المعاهدات والاحلاف الخارجية، وتجذر الافكار والفلسفات الجديدة، والاستعداد الفكري والعملي للاجيال الشابة الوليدة كسر الجمود السياسي واطلاق التنمية الاجتماعية والاقتصادية والحريات السياسية، كلها عوامل ساعدت على خلق بيئة ملائمة لنمو احزاب معارضة سرية اختلفت جذريا عن احزاب النخبة السياسية من حيث افكارها واهدافها ومكوناتها وتنظبماتها وممارساتها واستمراريتها. اذ استندت الى افكار وفلسفات اكثر قبولا لدى الاجيال الشابة ولم يرتبط وجودها بأسماء مؤسسيها، وانبثقت من الطبقات الدنيا والوسطى الشعبية، واخذت تفرض وجودها في الساحة السياسية العراقية. وفي فترة لاحقة اصطفت معها احزاب المعارضة العلنية وعناصر الجيش المناوئة للملكية في جبهة انهت وجود العرش والدستور. ولكن ما هي طبيعة الاحزاب السرية: افكارها واهدافها ومماراتها؟، هذه الاسئلة وغيرها ستكون محل مناقشة لاحقاً (ق3/ف1).
بالاضافة الى تردي الوضع السياسي داخل البلاد، زادت الحالة الاقتصادية المتدهورة من حدة الموقف خطورة. إذ عمّ البؤس اغلبية السكان في ظروف سيطرة الاقطاع والاحتكارات وغياب تكافؤ الفرص. عبّرت ظروف السكن في البلاد عن الحالة المزرية للاغلبية. تكشف العبارة التالية في تعليمات احصاء السكان لعام 1957 البون الشاسع بين سكن الفقراء وبين سكن الاغنياء : عيّن نوع السكن الذي تسكنه ان كان خرابة ام بيتا من الطابوق ام من اللبن ام كان صريفة ام بيت شعر ام كوخا ام شقة ام دار ضيافة ام قصرا ام كراجا ام مطعما ام حانوتا، الخ.. وحتى اوائل الخمسينات كان ما لا يزيد عن 20% من السكان يتمتعون بوضع سكني مريح، واقل من هذه النسبة بكثير امتلكوا كافة المتطلبات المنزلية المريحة من فنية وكمالية. كشف احصاء السكن عام 1956 ان اربعة اخماس المساكن في البلاد كانت تتكون من اكواخ الطين او القصب ذوات غرفة او غرفتين وبدون نوافذ، حيث شكلت الدور النموذجية لغالبية السكان. وكانت الغرفة الواحدة تحتوي على 4-5 اشخاص، بينما تكونت محتويات الدار من بعض البطانيات واللحف التي كانت محل استخدام مشترك لكافة افراد العائلة في الشتاء بالتكوم تحتها ليلا على الارض. وصندوق خشبي يحوي جميع الحاجيات الفردية، وجرّة من الطين، وقدران اثنان للطبخ. وكانت العائلة تعيش في ساحة المنزل حيث تستخدمها لانجاز الاعمال المنزلية ومعهم الدجاج غالبا وعنزة واحدة احيانا. وكان طعامهم الرئيس الخبز الذي تخبزه نساؤهم في تنور من الطين. وقد يتم تناوله مع الشاي، واحيانا يضاف اليه اللحم والخضر والرز والتمر باختلاف المناطق والمواسم. وبصفة عامة كان اللباس والطعام والسكن بدائيا. فالصرائف مملوءة بالناس الملطخة وجوههم بالطين في الايام الممطرة وبالذباب في الايام الحارة، وهم يمثلون منتهى الفاقة. بينما عبّرت الخدمات الصحية والطبية والتعليمية والخدمات العامة عن المصدر الرئيس للبؤس في ظروف معيشية تعيسة تدور في حلقة مفرغة من الفقر والجهل والمرض فالفقر. وهكذا تبدأ وتدور الى ما لا نهاية. وكانت القذارة والذباب وعدم وجود مرافق صحية والماء الملوث مظاهر بارزة لامراض عديدة كانت منتشرة وشائعة، وفسرت بدورها وعلى نحو بيّن تدني انتاجية القوى العاملة العراقية.(141)
من جهة اخرى تميز النظام الاقتصادي في الريف بالملكية الواسعة للاراضي الزراعية لصالح القلة من شيوخ العشائر المتخمين وسط محيط واسع من الفلاحين التعساء العاملين بأجور زهيدة او نظير تقاسم المحصول لصالح الشيخ. (جدول رقم 3).
جدول رقم(3)
توزيع حيازات الاراضي الزراعية الخاصة قبل ثورة 14 تموز 1958(142)
الحائـزون المســاحـة
المساحة بالدونم العــدد % دونم %
اقل من 1 الى 10 113585 58و44 345325 07و1
10-100 100933 854و39 3727340 59و11
100- 1000 34424 593و13 7791433 23و24
1000- 10000 3960 564و1 11110512 56و34
10000- 100000 344 136و0 7755368 12و24
اكثر من 000 100 8 003و0 1424825 43و4
المجموع 253254 00و100 32154813 00و100

كشف مسح ميداني(1957) لعينة من المهاجرين، ممن استقروا في بغداد، لبحث اسباب هجرتهم، عن سوء احوال الريف لا جاذبية المدن. وتلخصت اسباب هجرتهم بالمشكلات الدافعة التالية: الجوع.. تعسف الشيخ.. الخلافات مع المالك على حصص الانتاج.. عدم وجود ماء كاف للزراعة او غرق الارض وتلف المحصول بسبب الفيضان.. ومع ان الدخل السنوي لـ 40 % ممن جرى مقابلتهم كان يقل عن 90 دينارا في العام، الا انهم وجدوا انفسهم افضل حالا واحسن سكنا وطعاما مما كانوا عليه في الريف.
زالت العوائق المالية امام التنمية في العراق مع اوائل الخمسينات بعد اتفاقات النفط (1951-1952) ومضاعفة عوائد بترول البلاد. انشأت الحكومة مؤسسة مستقلة "مجلس الاعمار" لاعداد وتنفيذ خطط اقتصادية. وفي بداية فترته تم تخصيص كامل ايرادات النفط (100%) لمجلس الاعمار، ثم خفضت الى 70 %. وبقيت هذه النسبة لغاية نهاية العهد الملكي(خفضت الى 50 % في عهد قاسم).
ركز المجلس خططه على المشروعات الطويلة الأمد،التي تدر عوائد مستقبلية غير مباشرة مثل مشروعات الري والسيطرة على الفيضانات. ونتيجة للانتقادات المتزايدة، تم اخضاع خطط المجلس لعدد من الدراسات الاستشارية الدولية ( سالتر وبعثة البنك الدولي). ورغم غياب توجهات التصنيع في هذه الدراسات إلا انها اتفقت على ضرورة توجيه جزء من اموال التنمية لتحسين معيشة الناس مثل: الاسكان، مشروعات تنقية المياه، التعليم والصحة، بالاضافة الى الرعي والزراعة- خاصة المزارع النموذجية والبذور المحسنة وتربية الحيوان.
وفي ظل الظروف الاقتصادية التي كانت سائدة آنذاك فإِن أي انفاق على الانتاج الزراعي كان سيعود بالنفع على الملاكين(الشيوخ) بالدرجة الاولى. ومع انه ‘بذلت محاولات لايجاد اراض جديدة للزراعة يكون فيها الفلاح هو المالك إلا ان هذه السياسة الجديدة كانت بطيئة، كما انها مكنت الشيخ من السيطرة عليها. وبالنتيجة بقيت الحاجة ملحة الى الاصلاح الزراعي.
ويرتبط بذلك فعالية قوة الضغط المتمثلة في كبار ملاك الارض من الشيوخ ومعارضتهم محاولات استخدام اموال التنمية لحل مشكلتي تنظيم البزل واصلاح ملكية الاراضي، علاوة على معارضتهم وضع نظام ضريبي متقن للارض. وقد روي عن عبدالاله انه اجاب على طلبات عدد من اعضاء مجلس النواب ممن دعوه الى التدخل لتأييد مشروع اصلاح الارض بقوله "ان المدينة ضدي، فهل ترون ان تقبلوا الريف ضدي أيضا؟".(143)
واخيراً، يلاحظ ان عدد الطلاب بدءاً من روضة الاطفال ولغاية التعليم الجامعي بقيت 4ر15% من السكان لغاية عام 1958.(144) أي ان نسبة الامية تجاوزت اربعة اخماس السكان، في حين بلغت عوائد البلاد النفطية 995 مليون دولار(1950-1957).(145)



#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- الخاتمة
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ ف ...
- البيانات تكشف أن الفلسطينيين يملكون حالياً 8% فقط من أرض فلس ...
- الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-ف7
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-ف6
- مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-ف5
- مستقبل العراق- ف4- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة
- حالة الأطفال في العراق -أزمة مهملة-


المزيد.....




- لم يسعفها صراخها وبكاؤها.. شاهد لحظة اختطاف رجل لفتاة من أما ...
- الملك عبدالله الثاني يمنح أمير الكويت قلادة الحسين بن علي أر ...
- مصر: خلاف تجاري يتسبب في نقص لبن الأطفال.. ومسؤولان يكشفان ل ...
- مأساة تهز إيطاليا.. رضيع عمره سنة يلقى حتفه على يد كلبين بين ...
- تعويضات بالملايين لرياضيات ضحايا اعتداء جنسي بأمريكا
- البيت الأبيض: تطورات الأوضاع الميدانية ليست لصالح أوكرانيا
- مدفيديف: مواجهة العدوان الخارجي أولوية لروسيا
- أولى من نوعها.. مدمن يشكو تاجر مخدرات أمام الشرطة الكويتية
- أوكرانيا: مساعدة واشنطن وتأهب موسكو
- مجلس الشيوخ الأمريكي يوافق على حزمة من مشاريع القوانين لتقدي ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عبدالوهاب حميد رشيد - العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف1