أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الاشتراكية والثورة في العصر الإمبريالي















المزيد.....



الاشتراكية والثورة في العصر الإمبريالي


سلامة كيلة

الحوار المتمدن-العدد: 4101 - 2013 / 5 / 23 - 19:17
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


حول الوضع الدولي
ومسألة الثورة الاشتراكية

لا بد أولاً من التأكيد على أن مهمة الطبقة العاملة هي تحقيق الاشتراكية في سياق الانتقال إلى الشيوعية، وهذه مسألة لا يجب أن تغيب عن ذهن أي ماركسي. فليس من خيار لهذه الطبقة إلا أن تلغي الطبقات، وبالتالي أن تلغي ذاتها، حيث سيكون ممكناً البدء بمرحلة جديدة من "الحياة البشرية" لا تقوم على الاستغلال والاضطهاد والحروب، بل تنطلق من مقدرة هؤلاء على تطوير قدراتهم، وتطوير حياتهم دون الحاجة لكل آليات القمع والاستغلال.
هذه مسألة بديهية حينما ننطلق من الماركسية التي لا ترى حلاً إلا بإلغاء الملكية الخاصة من أجل تأسيس تطور متسق وحياة بشرية آدمية. وهي بديهية حينما نؤسس على حاجة الطبقة العاملة التي ليس لديها ما تخسره وهي تقوم بإلغاء الملكية وهدم الدولة كسلطة قمع وقهر.
هذا هو الأفق الذي نرى من منظور الماركسية أنه يفضي إلى إنسانية الإنسان. ولهذا فإن هدف الاشتراكية هو الذي سيبقى موجِهاً لكل سياسة، ومؤسِّساً لكل خطوة نخطوها إلى الأمام. ومن لا يمسك بهذا الأفق سوف يتوه في سياسات لا تفضي إلى شيء، ولسوف يضلل الطبقة العاملة ويقودها إلى متاهات البرجوازية.
لكن الاشتراكية ليست فكرة مجرّدة، ودعوة عامة، إنها هدف يتمثل في تحقيق تغيير عميق في التكوين المجتمعي، ولهذا فتحقيقها خاضع للتكوين المجتمعي ذاته. وما دامت هي شكل أرقى من الشكل الذي فرضته الرأسمالية فإن التكوين المجتمعي يجب أن يكون قادراً على تحقيقها. إنها نقلة هائلة إلى الأمام تتأسس على بنية واقعية تطورت إلى اللحظة التي يكون ممكناً على أساسها تحقيق الانتقال إلى الاشتراكية. وأي تغييب لكل ذلك سوف لن يفضي سوى إلى الانسياق وراء أوهام، أو القبول بتطور "واقعي" عفوي قد بات غير ممكنٍ. وفي الحالين ثلم الماركسية كونها ارتبطت بمشروع وهمي ولم تؤسس على وعي عميق بالواقع، وبالتالي أن تلحظ المسافة الضرورية بين الواقع القائم والانتقال إلى الاشتراكية، من خلال السؤال: هل أن الواقع القائم يفرض تحقيق الاشتراكية؟ وأنها باتت هي الضرورة؟
ولاشك في أن المسافة التي نشير إليها تتعلق بالعلاقة بين الواقع القائم والضرورة. فالاشتراكية باتت ضرورة لاشك في ذلك، وهي اليوم أكثر من ضرورة على ضوء همجية الرأسمالية ووحشيتها، التي باتت تحدث من التدمير في البيئة والاقتصاد والتطور العلمي والمجتمعات أكثر مما تعطي. على العكس ربما باتت خطراً داهماً انطلاقاً من أزمتها الأخيرة، الطويلة والمستمرة. لكن هل أن الواقع العالمي القائم يسمح بالانتقال إلى الاشتراكية؟ هذا سؤال جوهري اليوم، ودون الإجابة عليه ليس من أفق لتطور النضال الثوري. المسألة هنا تتعلق بممكنات الواقع وليس بما هو ضروري، وهي تخص مستوى التطور الذي بلغه العالم، والذي هو وحده يسمح بالإجابة الإيجابية على هذا السؤال.
وبالتالي مع التأكيد على أن الاشتراكية فالشيوعية هي هدف العمال لا بد لنا من أن ننتقل من الضرورة إلى الواقع لكي نستطيع الإجابة على سؤال الواقع ذاته: ما هي حدود التطور الذي يمكنه أن يحققه؟ ونحن كماركسيين معنيون بالربط الدقيق بين حدود الواقع والأفق الاشتراكي. وأن نرسم الصيرورة التي تنطلق مما هو واقعي إلى تحقيق الضرورة. هذه هي مهمة "العقل"، مهمة الماركسية. وإذا كانت الماركسية القديمة تترك الصيرورة لمصيرها العفوي، الذي كان يُرسم في إطار التحوّل "الضروري" من الإقطاع، الذي كان هو سمة الأمم المخلّفة، إلى الرأسمالية، التي هي مرحلة حتمية في التطور البشري كما تعتقد، وبالتالي كانت تزرع العفوية في وعي العمال والفلاحين الفقراء، وتكرّس قبولهم مبدأ الاستغلال الرأسمالي (مع تخفيفه فقط)، فإن الضرورة لا يجب أن تفرض تجاهل الواقع وممكناته، وبالتالي النظر إلي الاشتراكية كهدف راهن.
هذا الأمر يفرض وعي الواقع العالمي منذ تبلور الرأسمالية كنمط عالمي (أي نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فقط)، ووعي شكله الراهن بالتحديد. وملاحظة بان وعي ماركس تبلور قبل ذلك، وبالتالي لا بد من أن يُخضع للتمحيص لملاحظة التغيرات العميقة التي نشأت عن التشكل العالمي للرأسمالية، وانعكاس ذلك على مفهوم الثورة الاشتراكية كما طرحه ماركس وإنجلز. وهنا لابد من وضع الحد الفلسفي للمسافة بين الضرورة والإمكانية، بين ما هو ضروري وما هو ممكن. لأن ما يتحقق فقط ما هو ممكن، وليس ما هو ضروري. ولاشك في أن الشيوعية هي قمة الوحدة بين الضرورة والإمكانية، لكننا لا زلنا على مسافة كبيرة عن الشيوعية، ولذا علينا أن نلحظ الفارق الكبير بينهما. وبالتالي إذا كان كل من ماركس وإنجلز يريان بان الثورة الاشتراكية هي إمكانية قائمة، وهي ضرورة، فهل أن التحولات في التكوين العالمي التي أوجدتها الرأسمالية، والتي جعلتها نمطاً يتخذ صفة العالمية واقعياً (وليس كطموح حكمها في مراحلها الأولى) باتت تؤكد هذه الرؤية؟
هذا مدخل مهم من أجل فهم الواقع والوصول إلى الضرورة.
مفهوم ماركس للثورة الاشتراكية
كان ماركس يبني رؤيته لمسألة الانتقال إلى الاشتراكية على صيرورة تطور الرأسمالية والمآلات التي يمكن أن تقود إليها. فقد كان يرى توسع الصناعة وتحوّلها إلى وسيلة الإنتاج الأساسية، وبالتالي كان يعتقد بأن هذه الصيرورة سوف تفضي إلى أن يصبح العمال هم الطبقة التي تشكل أغلبية الشعب. ولهذا كان يلحظ التناقض العميق الذي بات يحكم الرأسمالية والذي يفرض أن تصبح الاشتراكية ضرورة، وأقصد هنا التناقض بين الطابع الخاص للملكية والطابع الاجتماعي للعمل، والذي لا حلّ له سوى بإلغاء الملكية الخاصة من خلال سيطرة الطبقة العاملة على السلطة.
وماركس هنا كان ينطلق من الوضعية التي تسير وفقها "الأمم المتمدنة"، أي تلك التي كانت تنتصر فيها الرأسمالية. ولا بد من ملاحظة أن ماركس كان يبحث في وضعها ومعظمها لم يكن قد أصبح رأسمالياً بعد، فسوى إنجلترا التي كانت قد أصبحت رأسمالية منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى أواسط القرن التاسع عشر، كانت فرنسا بدأت للتو تتقدم نحو الرأسمالية، وألمانيا لم تصبح بعد رأسمالية، وروسيا غارقة في القرون الوسطى. وبالتالي كان ماركس يحاول أن يلحظ صيرورة تطور رأسمالي، ويتوقع مآلاتها أكثر مما كان يعالج تناقضات قائمة، وبنى متشكلة. ولقد كان، هو وإنجلز، يتلمسان تخلف بعض الأمم ويرسمان سياسة مختلفة، تنطلق إما من دعم البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة أو حتى يطرحان على الطبقة العاملة مهمة تحقيق "الجمهورية الحمراء". لكن في كل الأحوال كانا يعتقدان بأن ما يجري هو انتصار نهائي للرأسمالية في العالم ( يمكن العودة هنا إلى "البيان الشيوعي" الذي يحمل هذا التفاؤل، ص )، ومن هذا المنظور كان ماركس يتابع تطور الرأسمالية ذاتها، ويدعمه حينما يرى أنه ممكن. وبالتالي كان يرى أن المهمة الواقعية تقتضي أن تتقدم الطبقة العاملة من أجل تحقيق الاشتراكية عبر إلغاء التناقض بين الطابع الخاص للملكية والطابع الاجتماعي للعمل من خلال إلغاء الملكية الخاصة. هذه هي المهمة التي رأيا بأنها تتعلق بـ "الأمم المتمدنة"، والتي بدورها سوف "تمدن" "حتى أشد الأمم همجية"، والتي ستسير بدورها نحو الاشتراكية. رغم تلمسهما في مراحل متأخرة بأن الرأسمالية لا تمدن الشعوب الأخرى بل تخلفها، وهو الأمر الذي جعلهما يربطان تطورها بتحقق الاشتراكية في الأمم المتمدنة. فالاشتراكية هي وحدها من سيحمل التطور إلى هذه الشعوب.
هنا كان هدف الاشتراكية هو الهدف الراهن للطبقة العاملة في الأمم الرأسمالية، التي بدورها سوف تنهض الشعوب المتخلفة بعد انتصارها واستلامها السلطة في هذه الأمم.
الاشتراكية هنا تتعلق بالأمم التي أصبحت رأسمالية، وبقية العالم سوف تتطور بعدئذ. هذه هي الصيرورة التي تلمسها ماركس على ضوء رؤيته لتطور الرأسمالية. والتي ربطت تحقق الاشتراكية بانتصار الرأسمالية، ومركزت تحققها في الأمم التي باتت رأسمالية، ومن ثم اعتقدت بأن تطور الأمم المخلّفة بات يعتمد على انتصار الاشتراكية في المراكز.
ومن هذا التصور نبعت "النظرية" التي تنطلق من حتمية تحقيق الرأسمالية قبل البحث في إمكانية الاشتراكية، أو كضرورة للبحث في إمكانية تحقيق الاشتراكية. والتي أنتجت تبسيطاً فظاً لصيرورة التطور كان يتأسس على العفوية الضرورية لنشاط الطبقة العاملة من أجل أن تنتظر انتصار الرأسمالية.
على كل هذا هو التصور الذي حكم ماركس انطلاقاً من ظروف الرأسمالية في مراحل تشكلها (التي تسمى المرحلة التنافسية، حيث كل رأسمالية أمة تميل إلى تحقيق تطورها الخاص، وتسعى إلى هزيمة الرأسماليات الأخرى في سوقها قبل الصراع على السوق العالمي). لكن سنلمس بان الرأسمالية قد حققت نقلة نوعية نهاية القرن التاسع عشر جعلتها "إمبريالية" كما باتت تسمى في الأدبيات الماركسية (هلفردينغ ولينين)، حيث تشكلت على أساس عالمي، وأصبح وجودها يعتمد على هذا الأساس العالمي، ولقد صاغت تكوينها انطلاقاً منه، حتى وأساساً في المراكز.
الرأسمالية كنمط عالمي
ربما تأتي أهمية لينين من مسكه لهذا التحوّل، ولاشك في أن لتلمسه للتشكل الإمبريالي للرأسمالية أهمية لا يجب أن تبقينا في حدود تصور ماركس سابق الذكر. بمعنى أن التشكل العالمي الجديد الذي أوجدته الرأسمالية بات يحتاج إلى رؤية مختلفة للثورة الاشتراكية. هذا ربما ما بدأه لينين ذاته حينما أسس لدور مختلف للطبقة العاملة وللماركسية يتجاوز ما طرحه ماركس (رغم أنه اعتمد بشكل ما على بعض مواقف ماركس، فيما خص ألمانيا بالتحديد). رغم أن تلمس لينين للمسألة كان "أولياً"، أي كان "في بداياته" لأنها كانت جديدة أولاً، ولأن التشكل العالمي كان في بداياته كذلك.
إذن، لقد كانت هناك رأسماليات تتشكل في القرن التاسع عشر، وباتت هنا في القرن العشرين رأسمالية متشابكة ومتصارعة لكنها تهيمن وتحتل بقية العالم. وهي تتصارع على الهيمنة والاحتلال لبقية العالم، ولقد كانت حروبها من أجل ذلك.
ولاشك في أهمية ذلك لوجودها، حيث كانت بحاجة إلى المواد الأولية، لكنها كانت بحاجة كبيرة للأسواق، لأن من سمات الصناعة كما توصل ماركس هو "فيض الإنتاج"، الذي يفرض الحاجة إلى الأسواق الواسعة. والسبب هنا هو أن الحد الأدنى من الإنتاج الضروري لتحقيق الأرباح هو مرتفع قياساً بالأسواق "القومية"، إضافة إلى أن الربح الأعلى يتأتى من إنتاج أضخم، وهذا ما يجعل البحث عن الأسواق ضرورة حاسمة من أجل أن تتراكم الأرباح. إن كمية أكبر من إنتاج سلعة ما يفضي إلى كلفة أقل، وبالتالي مرونة في البيع وربح أعلى. وإذا كانت الأرباح الأعلى تأتي من المراكز نتيجة القدرة الشرائية الأعلى فيها، فإن توسيع السوق من أجل تخفيض الكلفة سوف يؤدي بالضرورة إلى ربح أعلى في المراكز ذاتها حتى والسلعة تباع في الأطراف بسعر يقارب الكلفة (وهذا نتيجة القدرة الشرائية المتدنية فيها).
هذه الضرورة فرضت تشكيل العالم اقتصادياً وطبقياً في صيغة تختلف عما كان يتوقع ماركس، رغم أنه تلمس مشكلة فيض الإنتاج وضرورة السيطرة على الأسواق، ومسألة الربح. حيث فرض "مرض" الصناعة الأساسي، أي فيض الإنتاج، أن يُستغلّ السبق الرأسمالي في استخدام العنف من أجل صياغة الأطراف وفق مقتضى التطور الصناعي في المراكز، الذي كان يفرض الحصول على المواد الأولية بأرخص الأسعار من جهة، والتحكم في مسار التطور الاقتصادي المحلي فيها لكي تبقى سوقاً لسلع قادمة من المراكز من جهة أخرى. وبالتالي المنع القسري لتطورها الصناعي، و"تطوير" بناها التقليدية بما يتوافق مع مصالح الرأسمالية ذاتها. وهذا ما كان من أهم أهداف الاستعمار، الذي حافظ على البنى الاقتصادية والاجتماعية التقليدية، وطوّر البنى التحتية و"الطبقات" في الحدود التي يفرضها تصدير المواد الأولية واستيراد السلع، وبالتالي البنوك التي تضمن حركة الرأسمال.
وبالتالي فرضت الرأسمالية انقسام العالم إلى أمم رأسمالية صناعية وحديثة وأخرى زراعية أو مهمشة تعيد إنتاج التخلف القروسطي الذي كانته. وأصبح وجود واستمرار الرأسمالية يتوقف على إعادة إنتاج هذا التكوين العالمي. ولقد فرضت أن يكون اقتصاد السوق هو الاقتصاد المهيمن، الأمر الذي جعل إعادة إنتاج هذا التكوين ممكناً نتيجة الفارق الهائل في تراكم الرأسمال والتقنية والإنتاج السلعي، إضافة إلى القوة العسكرية التي باتت تلعب دور الضاغط أو حتى المحتل عند الضرورة من أجل استمرار هذا التكوين النموذجي للنهب، وبالتالي لاستمرار النمط الرأسمالي وتراكم الأرباح.
إذن، مذ أصبحت الرأسمالية نمطاً عالمياً انسدّت أية إمكانية للتطور الرأسمالي (بمعنى الصناعي) في الأمم التي لم تصبح كذلك على أعتاب القرن العشرين. وباتت مشكلة الأطراف تتمثل في أن تتطور لكي تستطيع "العيش" في عالم رأسمالي بامتياز. فقد تشكلت طبقة من "الرأسماليين" المحليين تنشط في القطاع المترابط مع آليات الاقتصاد الإمبريالي، والبعيد عن الإنتاج، أو المكمل له، مما جعلها كومبرادوراً محلياً أمسك بالاقتصاد والسلطة وأصبح في توافق مع الطغم الإمبريالية، وينفذ سياساتها كون مصالحه باتت في أشد الارتباط بها. واندرجت باقي الطبقات في إطار الفقر، مما أسس للتناقض الداخلي بين العمال والفلاحين الفقراء وباقي الفئات الوسطى الفلاحية والمدينية وبين الرأسمالية المحلية التابعة لكن المدعومة من قبل الطغم الإمبريالية. حيث أنها القوة الطبقية المهيمنة محلياً من أجل فرض الرؤية التي تخدم مصالح تلك الطغم ومصالحها هي كذلك.
هنا بات التناقض المحلي جزءاً من تناقض عالمي أوسع، وإذا كان الاستغلال الطبقي في جوهره فإن الوضع بات مرتبطاً بما هو اقتصادي بشكل لصيق. حيث لم تتوقف المسألة عند إزالة الاستغلال الطبقي بل أصبحت تتعلق بتكوين مجتمعي جديد، فلا إمكانية للوجود في عالم متطور وقوي دون مسك مكمن القوة فيه، وهو هنا ليس غير الصناعة، من أجل أن يتشكل وضع يسمح بالتكافؤ. وهذه المسألة تظهر العمق الذي يسكن التناقض مع الطغم الإمبريالية، التي كما أشرنا للتو هي معنية بعالم في الأطراف لا صناعة فيه، وبالتالي لا حداثة، ولا علم كذلك، ولا ثقافة. إن مصلحة الرأسمالية التابعة تغدو، على ضوء تشابكها مع الرأسمال الإمبريالي من موقع التابع، معنية كما الطغم الإمبريالية باستمرار الوضع الاقتصادي المحلي غير صناعي، وتحكّمها بالسلطة يجعلها تفرض السياسة الاقتصادية التي تتواءم مع الطغم الإمبريالية تلك، حيث أرباحها تتأتى من هذه العلاقة التابعة كونها تعمل في قطاع وسيط هو التجارة والخدمات وليس في الإنتاج.
وإذا كان التناقض المحلي مع الكومبرادور يتضمن تحقيق التطور من أجل إلغاء اللاتكافؤ العالمي، وتجاوز النهب الذي يؤسس له، وهو الأمر الذي يعني بناء الصناعة، يصبح مفهوماً تمركز التناقض حول الصراع مع الطغم الإمبريالية كونها تشكل، بالنمط الذي تفرضه في الأطراف، التناقض الأساسي في إطار الصراع العالمي. فالتناقض هنا مظهره محلي (وهذا يشكل التناقض الرئيسي) لكن جوهره هو مع الطغم الإمبريالية التي تصيغ العالم وفق مصالحها وتؤسس الجيوش من أجل حماية عالم يخدم هذه المصالح.
إن تحقيق مصالح العمال والفلاحين الفقراء يفرض تحقيق التطور المجتمعي، هذا التطور الذي يقوم على بناء الصناعة التي هي وحدها تفتح الأفق للانتقال من البنى القروسطية إلى الحداثة التي أتت بها الرأسمالية وأصبحت معنية بمنعها في الأطراف. وهذا الطموح، و هذه المهمة، هما ما يجعل التناقض يصعد من مستواه المحلي (القومي) إلى مستواه العالمي. فالرأسمالية كنمط عالمي باتت تحتجز التطور في الأطراف. وهو الذي يشكل البؤرة التي تتأسس انطلاقاً منها كل التناقضات. وهي تناقضات عنيفة كونها تتعلق بأن النهب الإمبريالي يفضي إلى صيرورة إفقار تطال كل الطبقات الشعبية، فتدفعها إلى التمرد والصراع، ضد "برجوازيتها"، لكنها تتحمّل باحتقان هائل ضد الطغم الإمبريالية كونها تلمس دعمها لبرجوازيتها وحمايتها. وربما يظهر هذا الاحتقان بما هو وطني أكثر مما يظهر بما هو طبقي. بمعنى أن التناقض المتعلق بعملية التطور يفرض أن يكون الوعي به وطنياً رغم عمقه الطبقي. فهنا "بلد آخر" هو الذي يحتل وينهب ويكرّس سيطرة طبقة ملحقة وضد الشعب.
لهذا يتمظهر هذا التناقض في تناقض بين الطغم الإمبريالية (وأحياناً يتخذ وعي أمم إمبريالية) والأمم المخلفة. بمعنى أن له طابع يتعلق بتكوين مجتمعي وليس بسيطرة طبقة فقط.
في المقابل سوف نلمس بان هذا التكوين العالمي للرأسمالية فرض إعادة صياغة البنية الطبقية الداخلية في الأمم الرأسمالية ذاتها. وهنا سوف نلمس التحولات التي تلت وفاة ماركس (وربما يكون إنجلز قد بدأ بتلمسها في أواخر حياته)، فقد فرض التشكل العالمي توسيع للفئات الوسطى كان ضرورياً من أجل الشكل الجديد للعالم الذي أخضعته الرأسمالية لمصالحها. وجاء توسع الفئات الوسطى من توسيع أجهزة الدولة لتحقيق السيطرة العالمية تلك (تضخيم الجيش والمخابرات والإدارات). هذا على مستوى الدول، لكن النشاط العالمي للشركات كان يفرض كذلك توسيع الكادر الإداري لمتابعة نشاط اقتصادي يغطي كل العالم. ثم أن هذين التوسعين فرضا توسيع دائرة التعليم والكادر التعليمي من أجل تخريج الكادرات الضرورية لكل هذه الاختصاصات. وبهذا أصبحت الفئات الوسطى تمثّل الأغلبية بدل الطبقة العاملة التي توقف توسعها نتيجة توقف توسع الصناعة. إن مسألة فيض الإنتاج لم تنعكس على الأطراف فقط بل انعكست على التكوين الاقتصادي القومي في المراكز، حيث لم يعد ممكناً استمرار التوسع الأفقي في الصناعة التي مالت إلى التمركز نتيجة المنافسة في سوق له حدوده في كل الأحوال. وبالتالي تحدد حجم الطبقة العاملة بنسبة ربما لم تتجاوز ثلث السكان. وهو الوضع الذي جعل إمكانيات الثورة الاشتراكية تتضاءل، لكن التحوّل عنها ارتبط بعامل آخر وفّرته السيطرة الإمبريالية على العالم، هو مقدرة الرأسمالية على تقديم التنازل للعمال فيما يتعلق بالأجور والضمان الاجتماعي. لقد أصبحت الرأسمالية أكثر مرونة في رفع الأجور وهي تنهب العالم، وحيث كان رفع الأجور كذلك جزء من رفع القدرة الشرائية، وبالتالي توسيع السوق، وأصبح مهماً أكثر بعد انتصار ثورة أكتوبر، خشية التحوّل الثوري فيها.
هذا الوضع فرض تراجع الصراع الطبقي، وتحوّل التناقض الرئيسي بين الرأسمالية والعمال إلى تناقض ثانوي يحلّ من خلال "الحوار الاجتماعي"، والنشاط النقابي، ويحلّ في الدولة من خلال النظام الديمقراطي. لهذا يمكن أن نقول بأن السيطرة العالمية للرأسمالية كانت تفرض وتسمح بـ، إعادة صياغة التناقضات في المراكز بما لا يهدد هذه السيطرة. وحيث كانت السيطرة ذاتها تسمح بمرونة أعلى من قبل الرأسمال في مواجهة مطالب العمال. وبينما لم تكن الفئات الوسطى معنية بثورة اشتراكية فقد غدا العمال في غير وارد الثورة بالأساس وليس الثورة الاشتراكية على وجه التحديد، حيث مالوا إلى "النضالات المطلبية" والضغوط من أجل تحسين الأجور وشروط العمل والحصول على الضمان الاجتماعي، وبات الحوار سلساً ومفيداً. هذا الوضع هو ما أسمي بـ "المساومة التاريخية"، التي كانت تفرض ميل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (الماركسية) نحو التكيف مع سياسات الرأسمال. وهو الوضع الذي أسس لأن تصبح الاشتراكية الديمقراطية (أو الديمقراطية الاجتماعية) هي القوة الأخرى مقابل أحزاب الرأسمال، فقد حملت أحلام الفئات الوسطى والعمال المتبرجزين.
إذن، في الأطراف كانت التناقضات ضد الرأسمالية تتصاعد، وفي المراكز كانت تميل إلى "التلاشي". هذا الأمر هو الذي جعل التناقض الأساسي يتحوّل من كونه بين البرجوازية والبروليتاريا إلى كونه بين الطغم الإمبريالية والأمم المخلّفة، فقد انتقل النهب والاستغلال إلى الأطراف رغم أن فائض القيمة لا يزال ينتج في المراكز. لكن نهب الأطراف أصبح هو "نقطة ارتكاز" الرأسمالية، وأصبح مصدر استمراريتها. لهذا تحوّل التناقض الأساسي من هناك إلى هنا. أصبح تفجّر التناقض هنا وليس هناك. إن مركز التناقض إذن هو ذاك الذي يقوم بين الطغم الإمبريالية (ودولها) وأمم الأطراف، وعلى حله يتوقف كل التطور العالمي. يتوقف تجاوز الرأسمالية والانتقال إلى الاشتراكية.
هذا الوضع فرض البحث من جديد في مفهوم الثورة الاشتراكية، فلم يعد ما طرحه ماركس مفيداً، أو قابلاً لأن يكون صيغة ممكنة. لقد انقلب الوضع وبات تطور الأطراف هو الذي يفتح الأفق لانتقال المراكز إلى الاشتراكية. وأصبح تطور الأطراف هو مركز كل التناقضات العالمية.
إن تحقيق الطموح في الأطراف في بناء الصناعة وانتصار الحداثة يفترض تجاوز الرأسمالية التي هي من يكبح هذا الطموح، وهو الطموح الذي يجعل هذه الأمم قابلة لأن تستطيع العيش. وهذا يعني سد الأسواق في وجه السلع الرأسمالية، وضبط نهب المواد الأولية، وبالتالي بيعها بالسعر الحقيقي. إذن، لن تستطيع الطغم الإمبريالية تقديم الرشاوى للعمال في المراكز، ولسوف تقلص حجم بنيان الدولة الإمبريالية ما دامت لم تعد بحاجة إليها. وبالتالي سوف تعود التناقضات في المراكز إلى التفجر من جديد.
هذه صيرورة ممكنة لتحقيق الحداثة في الأطراف وتفاقم الصراعات الطبقية في المراكز في سياق تحقيق تجاوز الرأسمالية. هل هذه هي الثورة الاشتراكية؟
على الأقل، هذا شكل جديد يختلف عن "الشكل النمطي" الذي تعمم نقلاً عن ماركس وإنجلز. ولاشك في أن التشكيل الجديد للعالم يفرض فهم طبيعة المشكلات، ومن ثم تحديد المهمات لتجاوزها، لكن أيضاً تحديد واقع الطبقات، ومصالحها، وبالتالي مدى توافقها مع المهمات العامة التي يطرحها الواقع الجديد.
التناقضات في بنية النمط الرأسمالي
في هذا العالم هناك تناقض عالمي يخترق النمط الرأسمالي هو ذاك التناقض بين الطغم الإمبريالية (ودولها) والأمم المخلفة، وجوهر هذا التناقض هو تحقيق "عالم متجانس"، أي عالم مصنّع وحداثي ويقوم في العلاقات الدولية على مبدأ الدولة/ الأمة. وربما هنا يمكن أن نستذكر فكرة ماركس في "رأس المال"، حيث يقول بأن بلداً "أكثر تطوراً من الناحية الصناعية لا يظهر لبلد اقل تطوراً منه سوى لوحة مستقبله هو" (رأس المال، الجزء الأول، ص13)
هذا التناقض عام ويحكم كل التناقضات الأخرى، لهذا أشرنا إلى أنه التناقض الأساسي الذي يحكم العالم. وهو أساسي لأن على حله تتوقف صيرورة التطور العالمي والانتقال إلى الاشتراكية. وهو هنا تناقض اقتصادي في جوهره، ويتمثل في بناء الصناعة وتحقيق مشروع مجتمعي في الأطراف. لكنه تناقض طبقي لأنه نتاج وضع عالمي رسمته مصلحة الطغم الإمبريالية. فقد فرضت بالقوة تعميم نمط اقتصادي يقوم على "حرية السوق" يخدم سيطرة شركاتها واحتكاراتها، وبالتالي يعيد إنتاج العالم كما رسمته. وعلى حل هذا التناقض يتوقف تطور الأطراف ودخول المراكز "منطقة العواصف"، أي عودة الصراع الطبقي لطابعه الحدي. ولسوف نلحظ بأنه تناقض سياسي في مظهره، حيث يهدف إلى تحقيق الاستقلال والدولة/ الأمة من أجل الشروع في بناء الصناعة وتحقيق الحداثة. فليس ممكناً بناء الصناعة دون تحقيق الاستقلال، والاستقلال لا يتحقق إلا من خلال سيطرة طبقة هي في تناقض مع الرأسمالية لكي تظل قادرة على الإمساك بالعلاقات الدولية دون الوقوع في مطب التكيف مع النمط الرأسمالي.
لكن هذا التناقض العام والأساسي يتضمن تناقضات أخرى تخترق المراكز والأطراف. وإذا كان هذا التناقض الأساسي يتخذ شكلاً سياسياً (وطنياً)، ويحمل مشروعاً اقتصادياً بالأساس (ومجتمعياً بكل تأكيد)، فإن هذه التناقضات هي تناقضات طبقية مباشرة. وهي في المراكز بين العمال والبرجوازية، وفي الأطراف بين العمال والفلاحين الفقراء والفلاحين المتوسطين والبرجوازية الصغيرة المدينية وبين الرأسمالية التابعة (الكومبرادور). الأولى تتخذ شكلاً مطلبياً ولا تهدف إلى إزالة الرأسمالية كما يظهر إلى الآن، بل تصبح المسألة هي مسألة حجم الحصة التي تحصل عليها الطبقة العاملة من نهب الأطراف. وهي أصلاً من حقها كونها منتج فائض القيمة، لكنها تنظر إليها من هذا المنظار الضيق. وبالتالي هنا لا نجد الميل لتجاوز الرأسمالية بل نلمس التسليم بـ "أبدية" وجودها. ومن ثم لا تؤشر البنى الطبقية القائمة إلى إمكانية ذلك أصلاً كما أوضحنا قبلاً، حيث تغرق الطبقة العاملة في بحر من الفئات الوسطى (التقنيين والإداريين والعسكر). ولا شك في أن الأزمة التي دخلتها الرأسمالية منذ سنة 2008 باتت تنعكس على البلدان الرأسمالية ذاتها عبر محاولة حلها على حساب الشعوب، وهو الأمر الذي يؤدي إلى تصاعد في معدلات البطالة، وتدنٍ في المستوى المعيشي، وانهيارات اقتصادية كبيرة. خصوصاً هنا في البلدان الأضعف مثل جنوب أوروبا وشرقها، وعديد من البلدان التي تعتبر جزءاً من المراكز الرأسمالية. وهو ما يؤدي إلى إفقار (ربما نسبي قياساً بما هو موجود في الأطراف، لكنه مهم) العمال والفئات الوسطى ذاتها، ويصيب الفلاحين المتوسطين. وبالتالي يفتح على تطور الصراع الطبقي، وربما دخوله مرحلة تفرض تحديد الطريق الذي يمكن أن يوصل إلى نمط اقتصادي آخر: الاشتراكية.
بينما تتخذ التناقضات في الأطراف شكلاً متفجراً، حيث يشكل العمال والفلاحون الفقراء نسبة مهمة في التكوين الطبقي وإن لم تبلغ الأغلبية، كما أن النهب الرأسمالي (نهب الاحتكارات الإمبريالية والكومبرادور المحلي) الذي يقع على العمال والفلاحين الفقراء يطال قطاعات مهمة من البرجوازية الصغيرة (الفلاحون المتوسطون، الحرفيون، والتجار الصغار، وقطاعات مهمة من المهنيين – المهندسون، الأطباء، المحامون، وخصوصاً أساتذة المدارس وحتى الجامعات-، والموظفون المتوسطون والصغار، وحتى الجنود وعناصر الأجهزة الأمنية)، وهو الأمر الذي يجعل الصراع الطبقي قابلاً للاندلاع والتفجر. وكما لاحظنا للتو فإن حسم هذا التناقض، الذي يفتح الأفق لتحقيق التطور والحداثة، وبالتالي لسد السوق المحلي أمام سيطرة الرأسمال الإمبريالي، وإعادة ترتيب العلاقة بالسوق العالمي بما يمنع نهب الفائض، سوف يفرض انتقال الصراع الطبقي إلى المراكز ذاتها. وهو الأمر الذي يجعل هذا التناقض هو التناقض الرئيسي، وعلى حسمه يتوقف التطور العالمي كله نحو الاشتراكية.
المهمة الجوهرية في الوضع العالمي الراهن
على ضوء هذا التحديد للتناقضات في بنية النمط الرأسمالي، حيث تحدد التناقض الأساسي كتناقض بين الطغم الإمبريالية (تلك الطبقة التي تسيطر على الصناعة والزراعة والتجارة والمال في الأمم الرأسمالية) وشعوب الأمم المخلّفة، يصبح مهماً تلمس المهمات المطروحة في هذه الأمم.
وما دامت الصناعة هي المحور الذي يدور الصراع حوله، حيث أنها أساس تفوق الأمم الرأسمالية كما هي أساس الاستقطاب على صعيد عالمي، فإن الهدف الذي يطرح ذاته جوهرياً هو تملّكها، أي تحقيق الظروف التي تسمح بأن تصبح هي وسيلة الإنتاج الأساس في الأمم المخلّفة. وهذا يعني أن تنتفي الظروف التي فرضتها السيطرة الاستعمارية وعمقتها الوقائع التي أوجدتها هذه السيطرة، والتي تمحورت حول تكريس "الاقتصاد المفتوح" (اقتصاد السوق) من خلال تدعيم وجود طبقة كومبرادورية تترابط مع الاقتصاد الرأسمالي عبر نشاطها التجاري. ومن ثم، ومع تطور السيطرة في الرأسمالية المسيطرة لمصلحة الطغم المالية، باتت تؤسس لنشوء "طبقة" مافياوية تنشط في النهب عبر مركزة الاقتصاد في القطاع الريعي (الخدمي، العقاري، السياحي، والبنكي التجاري).
هذا يفرض إزالة الطبقة المسيطرة في الأطراف حتماً، لكنه يفرض وضع أسس سياسة اقتصادية جديدة، تعيد "ترتيب" العلاقة مع السوق العالمي من أجل ضمان عدم هروب الفائض المالي إلى المراكز الإمبريالية وتوظيفه في البناء الاقتصادي المحلي. وهنا يكون دور الدولة أساسياً من أجل "فرض الحماية" والتوظيف الاستثماري. لكن هذه السياسة تفرض تحقيق الاستقلال وتشكل الدولة/ الأمة. هذا هو الوجه الخارجي للصراع الذي يجعل التطور المحلي "حراً"، أي دون تأثير التفوق الإمبريالي. وهو الوجه الذي يبقي الصراع مع الدول الإمبريالية قائماً بأشكال شتى تفرضها هي (الضغوط، الحصار، المؤامرات، التدخل العسكري)، وبالتالي يبقي التطور المحلي محكوماً بهذا الصراع الذي تهدف منه الطغم الإمبريالية وقف التطور وتدميره. وأيضاً يبقي إمكانات نشوء ميول محلية تهدف إلى العودة للتكيف مع النمط الرأسمالي. هنا التطور لازال ليس حراً تماماً بالتالي، إنه محكوم بالهيمنة العالمية للنمط الرأسمالي.
لكن، وفي هذا الوضع، تنطرح على الأمم المخلّفة مهمة الانتقال من البنى التقليدية أو المهمشة في الاقتصاد، وفي الوعي والمؤسسات، إلى ما يسمى الحداثة التي تقوم على بناء الصناعة كمحور مركزي وتطال تطوير الوعي والبنى. إن المهمة المطروحة هنا هي الارتقاء إلى مستوى "العصر" في التطور الصناعي والتقني من أجل تحقيق التكافؤ من جهة، وتحقيق الفائض الاقتصادي الذي يسمح بتحسين أوضاع العمال والفلاحين الفقراء وكذلك الفئات الوسطى، وتحقيق انتقالة في الوعي المجتمعي تفيد من التطور الكبير الذي أحدثته الرأسمالية في هذا المجال من جهة أخرى.
بمعنى أن المهمات المطروحة في هذه الأمم لازالت هي المهمات التي حققتها البرجوازية في سياق تطورها وانتصارها، أي الانتقال من بنى ووعي القرون الوسطى إلى العصر الذي فرض وجوده نشوء الصناعة والتطور العلمي. بالتالي فإن الهدف الأول هنا هو الارتقاء بوسيلة الإنتاج من العصر الزراعي إلى الصناعة، وهو الارتقاء الذي يفرض ارتقاءً في البنى والمؤسسات والوعي والتكوين السياسي. إن عدم فهم هذه الحاجة في الأمم المخلفة سوف يقود إلى منزلقات خطيرة، سواء قبل الانتصار أو بعد استلام السلطة. فقد قاد عدم فهمها إلى القول بإمكانية الاشتراكية أو ترك التطور الرأسمالي يأخذ مداه، كما قاد عدم فهمها إلى عدم فهم صيرورة التطور التي شهدتها التجربة الاشتراكية، والعجز عن تفسير الانهيار الذي حصل، ومن ثم العجز عن فهم أن المسالة هي في الجوهر مسألة تحقيق "الحداثة" قبل البحث في الاشتراكية، وانه مهما تسمت التجربة فإن ما يجب أن تحققه هو الحداثة، هو "الوعي البرجوازي"، هو الصناعة البرجوازية، وهو "الدولة البرجوازية". وهذا ما يمكن تسميته، تكراراً لما قال هيغل: مكر التاريخ. وهو ما كان يشكّل "حلم" لينين في لحظة من اللحظات (أنظر مثلاً ).
وهنا يجب التمييز الدقيق بين المصلحة البرجوازية وبين المنجزات التي تحققت في سياق تحقيق هذه المصلحة. ولاشك في أن عدم التمييز هذا سوف يوقع في سياسات خاطئة وفاشلة. حيث أن التقدم إلى الأمام يفترض تضمن ما تحقق وليس القفز عنه وتجاهله، لأن الصيرورة "تراكمية" تتضمن كل منجز تحقق ولا تتقدم دون ذلك. ربما كان النفي وحده مَنْ يشطب الفريضة، لكن نفي النفي يفرض حتماً تضمن الفريضة. وهنا يصبح تضمن الصناعة والوعي العام اللذين تحققا مع الرأسمالية ضرورة في سياق ارتقاء المجتمعات المخلّفة من بنى قروسيطة ومهمشة إلى الحداثة.
وإلا كيف إذن سوف تصبح الطبقة العاملة هي الأغلبية لكي تحقق الاشتراكية؟ وكيف يمكن وعي الماركسية وتحول منجزاتها إلى وعي مجتمعي دون تحقيق النقلة التي أتت مع فكر النهضة والأنوار في أوروبا؟
فالماركسية هي نتاج ذاك التطور في الوعي، ولا يمكن أن تُسقط على وعي قروسطي في محاكماته ومفاهيمه. وربما كان هذا الإسقاط هو الذي شكّل "ماركسية" قروسطية، أي ماركسية شكلاً لكنها تنحكم لمنطق صوري متوارث من القرون الوسطى، لم يجرِ القطع معه عبر هضم الوعي الحديث. والوعي المجتمعي يتقدم ببطء، وبشكل تراكمي، وبعد أن يتحقق التحوّل في البنى الاقتصادية وفي التعليم. وبطؤه نابع من أنه تراكمي لا يحتمل القفز، لهذا فهو يمتص المرحلة الأعلى فقط.
ولهذا سوف يبدو أن تحقيق الرأسمالية هو الهدف، لكننا هنا نتحدث عن منجزات الرأسمالية، ولقد أشرنا إلى أن الرأسمالية كنمط اقتصادي اجتماعي باتت من الماضي، بمعنى أن الشكل الرأسمالي الممكن هو الشكل الذي يسود العالم اليوم وليس من إمكانية لتبديل وضع الأطراف في هذا الإطار. أي ليس من الممكن أن تنتصر رأسمالية تحمل مشروعاً صناعياً وحداثة برجوازية، على العكس من ذلك باتت البرجوازية تحمل كل مخلفات الماضي. وكما أوضحنا فإن هذا المشروع يقوم على الضد من الرأسمالية المهيمنة، رأسمالية الطغم الإمبريالية، وأن الرأسمالية المحلية لا تستطيع سوى التكيف مع هذه الهيمنة من أجل الربح والسيطرة. ولهذا فإن هذا المشروع ينفيها لكي يتحقق.
هذا الوضع يوضح بأن المسألة باتت اعقد من أن توضع في ثنائية: التطور الرأسمالي أو الثورة الاشتراكية. ومن حيث المبدأ سوف نلحظ التغير العميق الذي طال العالم وجعل أفكار ماركس وإنجلز عن الثورة الاشتراكية متخلفة، أو خارج الواقع. وفرض بالتالي البحث عن فهم جديد لمسار التطور ولدور الطبقات، وخصوصاً لتحقيق المهمات التي منعت الطغم الإمبريالية تحققها في الأطراف. حيث سيكون هذا التحقق لها هو المدخل الضروري لتحقيق الاشتراكية.
لقد غدت المسألة مركبة، وانتهت "البساطة" التي كانت ظاهرة زمن ماركس وإنجلز. فإذا انطلقنا من التناقض الأساسي سوف نلمس بأن مسار التطور يفرض تجاوز الرأسمالية حتماً، لأن النمط الرأسمالي بالقوى المهيمنة فيه، يكرس التكوين القائم ليس فقط غير الاشتراكي، بل المتخلف بالأساس، والذي يخضع لعملية نهب مستمرة من قبل الطغم الإمبريالية. ولهذا يعم الفقر والبطالة والاستغلال الشنيع، كما يشهد القمع والحروب والتدمير. وبالتالي ليس من الممكن تحقيق حلم التطور في ظل السيطرة الرأسمالية. وليس من طبقة رأسمالية محلية معنية بتغيير الوضع القائم نحو ارتقاء رأسمالي حقيقي. ولا يمكن أن توجد مادام الرأسمالي ينطلق من مبدأ الربح، الذي هو ديدنه كما تقول الماركسية.
لكن هذا التجاوز للرأسمالية يهدف إلى تحقيق المهمات التي حققتها هي في الأمم التي انتصرت فيها. حيث ليس من الممكن القفز عن بناء الصناعة وتحديث التعليم، وبناء الدولة/ الأمة، و"الدولة الديمقراطية". أي بناء "الدولة البرجوازية". فهذه كلها المقدمات لتحقيق الاشتراكية.
ولهذا سوف يحمل العمال والفلاحون الفقراء هذه المهمات. هذه هي خطوتهم الأولى، التي توصل إلى الاشتراكية، هذا الحلم الذي يسكنهم. هذه هي "المهمة التاريخية" الملقاة على كواهلهم الآن، لكن ليس من أجل انتصار الرأسمالية. إنها مهمة نقل أمم من وضعية القرون الوسطى والنهب الإمبريالي إلى وضعية "الدولة البرجوازية"، لكن ليست الدولة التي تعبّر عن مصالح الرأسمالية بل التي تعبّر عن مصالحهم هم، ومصلحة جمهرة كبيرة من الفئات الوسطى. وهي المهمة التي تفترض تحالف كل هؤلاء لأن العمال والفلاحين الفقراء ليسوا الأغلبية رغم أنه يمكنهم أن يكونوا الأكثر تنظيماً وتلاحماً بعكس الفئات الوسطى التي تتسم بالتشتت والتناحر الهامشي، وبالتالي يمكنهم أن يقودوا كل هذا الحشد، وتشكيل "الكتلة التاريخية" التي تحقق الانتصار. لكن قيادته لا تتحقق انطلاقاً من الهدف الاشتراكي، لأن الفئات الوسطى حتى وهي تطرح الأفكار "الاشتراكية" تظل متمسكة إلى أبعد مدى بالملكية الخاصة، التي سيكون نزعها هو بدء التقدم نحو الاشتراكية.
في المراكز الإمبريالية، ورغم التطور الصناعي الهائل والتراكم المالي الضخم لدى الرأسمالية، والارتقاء في الوعي، فإن التشكل الطبقي الذي تبلور ربط قطاعات كبيرة من الفئات الوسطى والعمال بالرأسمالية في سيطرتها العالمية، نتيجة أن كل الوضع الذي تشكل هو نتاج هذه السيطرة، وبالتالي بات الميل العام لدى كل هذه القطاعات هو نحو إبقاء الوضع القائم، أو ربما تحسينه قليلاً. ولهذا تبدو الثورة الاشتراكية ليست على جدول الأعمال لأي من الطبقات، ولقد غدت المطالب الاقتصادية والاجتماعية هي أساس السياسة العامة للعمال، وطبعاً للفئات الوسطى كذلك. ورغم أن الوضع العام يشير إلى إمكانية الثورة الاشتراكية، أو أن سيطرة الرأسمالية تجعل التفكير في هذه المسألة وارداً، إلا أن وضع العمال وغلبة الفئات الوسطى يفرض الميل أكثر نحو تعزيز الإصلاحات الاجتماعية انطلاقاً من حتمية وجود واستمرار الرأسمالية. هنا يمكن التفكير في سياسة تقوم على التشريك أكثر من أن يجري التفكير في الثورة الاشتراكية، وفي سياسة تدعم تطور الثورة في الأطراف بدل الخوف من نهاية النهب الإمبريالي. إن ما هو ممكن على ضوء التكوين الطبقي الذي تأسس على ضوء عالمية النمط الرأسمالي جعل إمكانية الثورة وليس الثورة الاشتراكية ليست قائمة، لأن غلبة الفئات الوسطى وإفادة الطبقة العاملة من نهب الأطراف أسست لسياسة إصلاحية طبعت الكتلة الأساسية للاشتراكية الديمقراطية وحكمت منطق الشيوعيين الذين كانوا يدافعون عن بقايا التمرد لدى العمال، لكنهم دخلوا اللعبة البرلمانية كحل ممكن.
ربما الآن، بعد الأزمة الاقتصادية العالمية وميل الرأسمالية لفرض سياسات التقشف، يمكن أن يعود التمرد، خصوصاً في في البلدان التي هي ليست من "قلب" الرأسمالية بل في "طرفها"، مثل بلدان جنوب أوروبا وشرقها كما يظهر في حركات الاحتجاج الكبيرة التي بدأت فيها، وحتى ربما تصل إلى بعض المراكز ذاتها مثل فرنسا . وفي كل الأحوال سيبقى محدود الفعل نتيجة الطابع الطبقي القائم بالذات. لهذا نشير إلى التشريك كسياسة ممكنة، حيث يمكن تطوير الضغوط من أجل قوانين في مصلحة العمال والفئات الوسطى، ومن أجل حقوق عامة، ورفع مستمر للأجور يوازي ارتفاع الأسعار. وأن تميل "الدولة" لأن تظل المعبّر عن الطابع الاجتماعي العام المتعلق بخدمة "المواطنين" وتقليص تأثير الرأسمال عليها. هذه سياسة إصلاحية بالتأكيد، لكن يجب أن تحكم من رؤية تعرف بأن الاشتراكية ليست راهنة، وما هو ممكن هو تعزيز السياسات التي توصل إليها، وبالتالي أن يظل الهدف النهائي ماثلاً خشية الانحراف نحو الإصلاحية التي شهدتها الاشتراكية الديمقراطية القديمة. وربما ما يمكن أن يساعد على ذلك هو الصراع ضد الرأسمالية في الأطراف، وتفاقم الصراع الطبقي العالمي انطلاقاً من الأزمة الراهنة، التي لاشك سوف تكون أزمة مستمرة ومتفاقمة.
حول نظرية للثورة في الأطراف
إذا كانت الاشتراكية ليست ممكنة في المراكز نتيجة ما أوضحناه للتو فإن الأطراف هي التي تحمل ممكنات الثورة، وكونها الطرف الرئيسي في التناقض الأساسي فهي التي تخوض الصراع الحقيقي ضد الرأسمالية، وعلى حسمها لهذا الصراع يتوقف التطور العالمي نحو الاشتراكية.
لقد أصبح تناقض برجوازية/ بروليتاريا بالمعنى الذي طرح من قبل ماركس وإنجلز جزء من الماضي، حيث أصبح هذا التناقض هو بين الطغم الإمبريالية وبروليتاريا الأطراف كون هذه هي التي تقود الصراع من أجل تجاوز الرأسمالية ما دامت قد أصبحت هي الطرف الرئيسي في الصراع العالمي. لكن لهذا الصراع أبعاد أوسع من أن يحصر في المستوى الطبقي كما كان يُطرح في الماضي، حيث أصبح يحمل مشروع تطور اقتصادي ومجتمعي قبل أن يكون قادراً على أن يحلّ التناقض بين الطابع الخاص للملكية والطابع الاجتماعي للعمل. وفي هذا الوضع تكون البروليتاريا مجبرة على أن تؤسس تحالفاً واسعاً بعض أطرافه تحمل أوهام الملكية الخاصة، وتكون مهمته بناء "القاعدة المادية" تلك التي بنتها البرجوازية في المراكز، وكما أشرنا في سياق مصلحة طبقية مختلفة.
وبالتالي، ليست الثورة الاشتراكية أمراً راهناً، لا في المراكز ولا في الأطراف، لكن دور العمال والفلاحين الفقراء هو راهن، حيث سوف تتوقف صيرورة التطور في المراكز وفي الأطراف على هذا الدور. فإذا كان الوضع يفرض تجاوز الرأسمالية في الأطراف فإن هؤلاء هم من يستطيع ذلك، وليس أي من الفئات الوسطى التي تميل للتكيف مع النمط الرأسمالي وتصرّ على استمرار العلاقة معه، وبالتالي تبقي أبواب التأثير الإمبريالي مفتوحة. لكن هذا الدور يهدف، كخطوة أولى، إلى الانتقال إلى الحداثة وفق ما أشرنا للتو، إلى تحقيق المهمات الديمقراطية، كضرورة في الطريق إلى تحقيق الاشتراكية.
بمعنى أن الصيغة "الكلاسيكية" لدور الطبقات ومهماتها قد باتت غير ذي معنى، وبات علينا أن نلحظ الطابع المركب الذي يحكم الصيرورة الواقعية. وأن نبلور الصيغة الممكنة لتحقيق التطور من منظور دور العمال والفلاحين الفقراء.
إن كل ما أوردناه سابقاً يمكن أن يوصل إلى عدد من الاستنتاجات المهمة، التي تسمح بالتوصل إلى تصور عن صيرورة التطور التي تنطلق من الواقع وليس من أفكار مسبقة مجرّدة. والتي يمكن أن نحددها بالتالي:
1) إن الأساس الذي يجب أن ننطلق منه هو الطابع العالمي لنمط الإنتاج الرأسمالي، وإن التناقضات الطبقية في كل الأمم خضعت لهذا الطابع العالمي. فقد أفضت الحاجة الصناعية إلى فرض "تطور" على البنية الطبقية "التقليدية" التي كانت مسيطرة في الأطراف ما قبل السيطرة الإمبريالية هو إعادة إنتاج للبنى ذاتها، لكن مع إدخال وتضخيم القطاع التجاري الخدمي المالي، وبالتالي تهميش أو حتى شطب القطاع الحرفي/ الصناعي، وبالتالي تركيز قوة العمل في الزراعة في مرحلة أولى، ومن ثم في الخدمات والنشاطات الهامشية فيما بعد. في الوقت الذي فرضت توسيع الفئات الوسطى في المراكز.
وأصبحت إعادة إنتاج هذا التكوين الطبقي "عملية موضوعية" في مجمل النمط، وكل محاولة لتغيير المسار كانت تصطدم بعالمية النمط وتخضع لضغوطاته. وهو الأمر الذي فرض توافق الطبقات الرأسمالية الطرفية مع الطغم الرأسمالية المسيطرة في المراكز، والتي صاغت العالم بما يحقق مصالحها سواء عبر الدولة الرأسمالية أو عبر الآليات الاقتصادية التي نتجت عن طبيعة التكوين العالمي الذي فرضته أساساً.
2) تأسيساً على ذلك أصبح التناقض الطبقي في كل أمة خاضع لهذه السيطرة العالمية للطغم الرأسمالية، وبالتالي فإن تناقض العمال والفلاحين الفقراء وكل الفئات الوسطى مع الرأسمالية التابعة المحلية أصبح هو تناقض مع الطغم الإمبريالية كذلك. ولما تراجع الطابع "الثوري" للتناقض بين العمال والرأسمالية في المراكز، وأصبح "تناقضاً سلمياً"، أو حتى أصبح تعارضاً ليس أكثر، فقد أصبح التناقض الأساسي هو بين الطغم الإمبريالية والعمال والفلاحين الفقراء وكل الفئات الوسطى في الأطراف. وهو تناقض يتأسس على النهب الإمبريالي والاستغلال الرأسمالي من جهة، وعلى الميل لتهميش هذه الطبقات نتيجة تدمير قوى الإنتاج (الزراعية والحرفية والصناعية) وحجز التطور في سياق صناعي من جهة أخرى.
هذا الوضع هو الذي يجعل التناقض الأساسي ذو طابع عالمي، لكن الذي يتمظهر في الصراع الطبقي المحلي، الذي يكون هنا هو التناقض الرئيسي. والذي يتخذ في شكله العالمي صفة "قومية"، أي كصراع سياسي ضد الدول الإمبريالية. هذا الصراع الذي يمكن أن يتحوّل إلى تناقض رئيسي في حال نشوء الاحتلال أو الاعتداء العسكري (وهذه ضرورة إمبريالية تفرضها نضالات الشعوب، أو حاجات الإستراتيجية الإمبريالية).
3) إن الطرف الرئيسي في التناقض الأساسي يخوض صراعاً ليس من أجل إنهاء الاستغلال الطبقي (وهذا ما كان يبدو في التصور المبسط المرسوم أواسط القرن التاسع عشر) فقط، بل يخوض صراعاً لكي يتملّك مصيره، فهو لن يجديه نفعاً إنهاء الاستغلال دون أن تكون هناك قوى إنتاج تؤسس لبناء اقتصادي ينتج فائض قيمة.
هذا الميل لتملّك المصير يدفع نحو تحقيق التجانس العالمي، حيث أن قوى الإنتاج المهيمنة هي الصناعة وليس من إمكانية لاستقلال اقتصادي أو تحسين لوضع الطبقات ومراكمة الرأسمال بدونها. كذلك ليس من تكافؤ على الصعيد العالمي دون أن يتأسس الاقتصاد الوطني على هذا المحور.
لهذا تبدو المهمات التي يفرضها حسم التناقض اعقد مما كانت في التصور الماركسي عند ماركس وإنجلز وكل الاشتراكيين الديمقراطيين آنئذ. فما يجب أن تحققه الثورة هو نقل المجتمعات من الشكل الاقتصادي الاجتماعي (وبالتالي السياسي وعلى صعيد الوعي) الذي تشكل نتيجة الموروث المستمر والإدخال الإمبريالي، والذي أبقى الطابع القروسطي مهيمناً، وبدل أن يجري تجاوز الزراعة نحو الصناعة جرى تجاوزها نحو التهميش والاقتصاد الريعي، نقل هذه المجتمعات إلى نمط اقتصادي مجتمعي حديث. لهذا سيحمل الطرف الرئيسي في التناقض (وهنا العمال والفلاحون الفقراء) مهمات "تطورية" تتعلق ببناء قوى الإنتاج الأرقى: الصناعة. ومن ثم كل ما يستتبع ذلك على المستوى السياسي (الدولة) والوعي، والعلاقات الدولية.
هنا سوف تكون المهمات هي مهمات "غير اشتراكية"، فهي ذاتها التي حققتها البرجوازية في مرحلة صعودها، وتحقيقها هو الذي أرسى هيمنتها العالمية.
4) في هذا السياق يبدو أن الصراع في إطار النمط الرأسمالي العالمي ينحكم لإنجاز "التجانس على الصعيد العالمي" أكثر مما ينحكم لإنجاز الاشتراكية. وأن كل الصراع، أو مركز الصراع، هو بين "المراكز" (أي الطغم الإمبريالية) و"الأطراف" (أي شعوب الأمم المخلّفة). هذا هو الصراع الجوهري في النمط الرأسمالي، وبالتالي فهو المحدِّد لمصير الرأسمالية.
إن مركز ثقل الصراع من أجل تجاوز الرأسمالية هو، إذن، في الأمم المخلّفة. وهو يهدف إلى فتح أفق التطور نحو "المجتمع الصناعي". هذا هو بالتحديد جوهر الصراع العالمي. وسيقود عدم فهمه إلى سوء فهم لكل الصراعات العالمية، ولطبيعة التجارب الاشتراكية (التي وفق ذلك يمكن أن تتكرر، وأن تكون نتيجتها مشابهة)، ولأولويات الصراع. إن تحقيق "التجانس" هو الهدف القائم، سواء كان واضحاً أو مخفياً، ظاهراً أو ضمنياً. وسواء وعينا ذلك أو انحكمت رؤيتنا لأوهام (هي ممكنة بالضرورة، ولاشك في أن لها أثر كبير ربما في الاتجاه الإيجابي أو العكس). إن نقل شعوب بأكملها إلى "الحضارة" هو مهمة كبيرة، وربما ليس من الممكن أن يجري الانتقال إلى الاشتراكية وجزء كبير من العالم يغرق في التخلف بمعناه الشامل.
هذه مسألة تتعلق بـ "التقنية" التي يجري القفز عنها غالباً، أو يجري تبخيسها من قبل بعض التيارات الماركسية بحجة الانطلاق مما هو "طبقي" (وهنا طبقوي)، أو"مجتمعي"، وكأن تطوير قوى الإنتاج ليس في أساس أي مسألة أخرى. أو أحياناً تحت وهم الثورة الاشتراكية التي يجري الانطلاق مما قيل حولها من قبل ماركس وإنجلز، في تجاهل كامل إلى أن هذه المسألة "التقنية" كانت تحققها الرأسمالية ولهذا كان هؤلاء يبنون على ما بعدها، أما في الأمم المخلّفة فليس هناك من رأسمالي يقوم بتحقيقها. فمن يحققها إذن، مادامت هي أس التطور المجتمعي، وأساس الانتقال إلى الاشتراكية؟ هل يمكن تجاوز البنى المخلّفة دون أن تصبح الصناعة هي وسيلة الإنتاج المسيطرة؟
بالتالي هذه ليست مسألة "تقنية"، بل هي محور عملية التطور كلها. وهي أساس تحقيق التراكم "الرأسمالي"، هنا ليس بالمعنى الدارج للرأسمالية بل بمعنى التراكم المالي الضروري لتحقيق التطور ذاته، كما لتحسين وضع الطبقات الشعبية.
5) إن أهمية هذه المسألة ينبع من أن "التجانس"، الذي يعني أن تصبح الصناعة هي وسيلة الإنتاج في كل الأمم، وبالتالي أن تتشكل المجتمعات على أساس ما يقتضيه ذلك، سوف يفرض الاشتراكية حتماً، لأن مثلبة الصناعة سوف تنقلب ميزة، ونقصد مسألة فيض الإنتاج، الذي سوف يفرض التشريك على صعيد عالمي لأن البديل هو الانهيار الشامل. فرغم التمركز الحاصل الذي سيبدو أنه يتفكك مع سيطرة كل أمة على سوقها في سياق هذا الشكل من الصراع العالمي، فإنه سوف يفضي إلى أن تنحصر كل صناعة في بلدها ما دامت كل الأمم قد باتت صناعية. وهو الأمر الذي لا حل له سوى بالاشتراكية. لأن هذا الوضع يفرض التخطيط على صعيد عالمي وليس في مستوى قومي من أجل تجاوز مسألة فيض الإنتاج.
لكن لا يعني ذلك أن تحقيق الاشتراكية "العليا" مرتبط حتماً بتحقيق التجانس هذا. فالمسألة ليست ميكانيكية، أو تحتمل النظرة الصورية، وما حاولناه هو فقط توضيح أن الانتقال إلى اشتراكية حقة (عليا) يفترض تجانساً معيناً يحكم العالم. ويجب أن يُلحظ بأننا نتحدث عن "اشتراكية حقة" وليس عن تجارب اشتراكية شبيهة بما حصل في القرن العشرين. حيث أنه سوف نشير إلى إمكانية تكرار ذلك، وإن كانت ستجري الإفادة من هذه التجارب الأولى لصياغة تجارب أرقى. وسبب هذا التكرار هو الوضع الذي نوصفه، وطبيعة التناقض الذي يفرض الثورات في الأطراف. فربما يكون هذا الشكل الأولي للاشتراكية ضرورة في لحظة معينة من التطور لتحقيق جزء من المهمات التي يطرحها مجتمع مخلّف على ذاته.
وربما كانت دراسة هذه التجارب تفيد إلى مدى واسع في فهم أهمية كل من تحقيق التجانس من جهة، ودور العمال والفلاحين والاشتراكية من جهة أخرى. فما تحقق هو التجانس، وبالتالي كانت العودة إلى الرأسمالية هي نتاج هذا التحُّقق، رغم أنها ليست ضرورة مطلقة. وهو الأمر الذي يشير إلى إمكانيات الانتكاس ما دام المجتمع مشبع بالنهم إلى الملكية الخاصة، ووعي ضرورة الملكية العامة لازال مشوشاً، ويمكن أن يستغلّ من قبل بيروقراطية السلطة، وبالتالي يقنع العمال وباقي المجتمع بأن سيادة الملكية الخاصة ستكون أفضل لأنها "القانون الطبيعي" الذي يمكن للفرد أن يستغله وفق قوته، بينما يستثمر الفائض الذي ينتجه المجتمع من قبل أفراد بقوة السلطة. بمعنى أنه ما دامت الدولة لا تحافظ على الملكية العامة فلماذا تستمر؟ إذن، ستكون العودة إلى الملكية الخاصة هي الضرورة.
وبالتالي فإن الضرورة هي في أن يتحقق التجانس، ووعي الصيرورة يمكن أن يجعل ذلك خطوة نحو الاشتراكية الحقة.
6) الآن، ونحن نلمس جوهرية تحقيق "المهمات الديمقراطية" التي تتمحور حول بناء الصناعة، والتي تجعل مهمة الثورة الجوهرية هي تحقيق "التجانس"، سوف نلمس بأن مسألة التطور الرأسمالي لم تعد مطروحة على الإطلاق، وكل من يطرح ذلك يكون في حالة غيبوبة مزمنة، أو يبحث عن مصالح طبقية هي عادة من نزعات البرجوازية الصغيرة، حيث أن التشكيل العالمي للرأسمالية فرض هذا الشكل "الرأسمالي" في الأطراف.
إن تجاوز الرأسمالية هو أمر محتوم، وكل النقاش يجري حول "توصيف" طبيعة الثورة التي يجب أن يفرزها هذا التناقض الذي يخترق العالم، ويتمظهر في التناقضات الطبقية في الأطراف. ليس من أفق رأسمالي، فالرأسمالية هي ما يقوم في الواقع، ومن يرسم لها التخيلات، ويطمح لأن تصبح هذه التخيلات واقعاً، سوف يفيق على وضع مؤلم. وربما نقول بأن الأفق الرأسمالي الممكن هو ذاك الذي يمرّ فقط من خلال تجاوز الرأسمالية. ونقصد هنا محاولة تلمس مصائر التجربة الاشتراكية، رغم أنها ليست الحتمية، ويمكن أن تكون قد سارت في هذا المسار لأنها التجارب الأولى، وبالتالي يجب علينا أن نتلمس مشكلاتها لكي يتخذ مسار التطور شكلاً آخر، هو نحو الاشتراكية الحقة.
لهذا يمكن التوضيح بأن تشابه المهمات مع تلك التي حققتها البرجوازية لا يفرض أن يكون التطور رأسمالياً، فقد حققت البرجوازية هذه المهمات في أممها لكنها حجبتها في الأطراف، وهو الأمر الذي جعل أمم الأطراف أمماً مخلّفة. ولقد صاغت البرجوازية الأطراف بما يتوافق مع مصالحها، ففرضت عليها النشاط الهامشي بعيداً عن الصناعة وحتى الزراعة كما أشرنا قبلاً. وبالتالي لم تعد هذه المهمات هي مهمات البرجوازية بل أصبحت هي مهمات الطبقات التي تريد إنهاء الاستغلال والنهب، وتحسين وضعها، وإيجاد فرص عمل. وحيث بات تحقيق هذه "المطامح" مرتبطاً حتماً بكل المهمات الديمقراطية تلك، من الاستقلال وفرض العلاقات المتكافئة في الوضع الدولي لكي يصبح التطور المحلي دون ضغوط إمبريالية. إلى التوحيد القومي وتشكيل الدولة/ الأمة التي هي أساس كل العلاقات الدولية. إلى بناء الصناعة المنتجة لفائض القيمة، والقوة، والمستوعبة لقوة العمل.
7) إن تجاوز الرأسمالية يفترض أن يتحقق من قبل طرف هو نقيض الرأسمال، أي ذاك الذي يمثل العمل. هذا التحديد أساسي، لأن التناقض لا يحسم إلا من قبل الطرف النقيض. ورغم أن عالمية النمط الرأسمالي قد جعلت التناقض الأساسي هو بين الطغم الإمبريالية وبين "الشعوب" (أو الطبقات الشعبية) فإن الطبقة القادرة على الحسم هي الطبقة النقيض فقط. إن البرجوازية الصغيرة تميل، حتى وهي ترفع الشعارات الاشتراكية، إلى إبقاء صلة الوصل مع الرأسمالية، لأن مطامحها تتحدَّد في تحقيق الترسمل، فهي "تموت في حب" الملكية الخاصة، وهو الأمر الذي يجعلها تصيغ اشتراكيتها على محور الملكية الخاصة وليس في تناقض معها. ولهذا تقاتل الرأسمالية وهي في موقع الضعف والتهميش، لكنها حينما تصبح في موقع يمكنها المساومة من خلاله تركض للتفاوض وإقامة العلاقة مع الرأسمالية. ولهذا نراها لا تميل إلى "القطع" مع السوق الرأسمالي، أو التحكم الحقيقي في العلاقة بهذا السوق، وتبقي كل الطرق مفتوحة للتفاهم مع الرأسمال. إن كل أحلام البرجوازية الصغيرة هي تحقق الرأسمالية وليس تجاوزها، بغض النظر عن "الإطار الأيديولوجي" الذي تصاغ فيه الأفكار التي تطرحها. وهو الأمر الذي يمكّن الرأسمال من اختراق البنية التي تحاول السيطرة عليها، وتحويل وضعها في مصلحة الرأسمال ذاته.
إن قيادة الصراع ضد الطغم الإمبريالية في إطار التناقض الأساسي، وضد الرأسمالية المحلية التابعة في إطار التناقض الرئيسي، هي للعمال والفلاحين الفقراء. فهم من يحمل مشروعاً طبقياً نقيضاً، وهم من يتلمس الأهمية الحاسمة لتحقيق المهمات الديمقراطية من أجل أن يصبح مشروعهم الاشتراكي ممكن التحقيق، ليس في الكلام والأوهام بل في الواقع. خصوصاً وأن تحقيق هذه المهمات مرتبط حكماً بتجاوز الرأسمالية، وليس غير هؤلاء من يفكّر في تجاوزها.
وفي هذا الصراع المتشعّب ليس سوى العمال والفلاحين الفقراء هم من يستطيع توحيد كل الطبقات الشعبية، ومن يستطيع الصراع الجذري ضد الرأسمالية التابعة المحلية والطغم الإمبريالية. هم من يستطيع أن يحمل مشروع التطور والحداثة إلى النهاية التي تسمح بالقول أننا قد أنجزنا هذه المرحلة من التطور. وبالتالي، هم من يستطيع تحقيق الانتقال إلى الاشتراكية كونها مصلحتهم المباشرة.
وهنا نلمس بأننا نحافظ على "وصية ماركس" فيما يتعلق بالدور الذي يجب أن تقوم به الطبقة العاملة، لكن في الظروف الجديدة، وفي إطار أعقد وصراع مركب. فالبروليتاريا ضد البرجوازية، لكن في إطار عالمي، وأيضاً في إطار مركب لا يتجاهل التكوين العالمي من زاوية طابعه القومي، وكون الدولة القومية لازالت هي أساس كل العلاقات والصراعات العالمية. هنا بروليتاريا الأطراف ضد برجوازية الأمم الرأسمالية، لكن في الصيغة المعقدة التي نشير إليها.
8) هذا هو الطابع المركب للثورة. وهو الطابع الذي يتنافى مع التبسيط الذي يحاط به التطور والارتقاء الذي يحكم قطاعات واسعة من الماركسيين، الذين غالباً ما يكررون مقولات ماركس التي تتعلق بالوضع في أواسط القرن التاسع عشر. فإذا كان الوضع مذ ذاك إلى أواسط القرن العشرين يتسم بانقسام العالم إلى بلدان رأسمالية ومستعمرات فإن التشكل الرأسمالي الراهن بات أعقد من ذلك بكثير كما حاولنا التوصيف قبلاً، فقد بات نمطاً عالمياً رغم أنه لم يلغ التوضعات القومية (وإن كان في السنوات الأخيرة بات يسعى إلى محوها)، ولا يستطيع أن يلغيها. لهذا وجدنا أن هذا الصراع العالمي ضد الطغم الإمبريالية يمر عبر "الدولة القومية"، لكنه بالضرورة يجب أن يوجد الأساس الذي يوحده. فالصراع هو صراع حول محور التناقض الرئيسي الذي هو مع الرأسمالية "القومية"، وربما يكرر هذا ما قاله ماركس وإنجلز في "البيان الشيوعي" من أن الطبقة العاملة تناضل ضد برجوازيتها أولاً، لكنه هذه المرة ضد برجوازيتها المرتبطة بالطغم الإمبريالية، وبالتالي المدعومة من قبلها، والتي يمكن أن يقود حسم الصراع ضد هذه البرجوازية المحلية إلى التدخل الإمبريالي.
والطغم الإمبريالية التي هي طرف التناقض الأساسي، تعمل عبر دولها (الدولة القومية)، فدولها هي التي تحضّر "البيئة العالمية" لنشاطها من خلال الدور السياسي العسكري الذي تقوم به. إنها تفرض بقوتها السوق المفتوح على الأمم المخلّفة من جهة، لكن المحتكر لشركاتها من جهة أخرى. وهو ما يوفر مجال النشاط المناسب لمصالح الطغم هذه. ولهذا حين يجري الإخلال بهذه الوضعية تحاول الدولة الإمبريالية التدخل إذا كان باستطاعتها ذلك من أجل إنقاذ مصالح شركاتها. ولهذا فإن هذه الطغم الإمبريالية لم تفقد الطابع القومي، ولم تصبح ما فوق قومية، رغم أنها تتعامل مع العالم كسوق خاص بها.
ويظل التكوين القومي، بالتالي، حاكماً لصراع الطبقات رغم هذا الطابع العالمي الذي باتت تفرضه الرأسمالية على العالم. وهو الأمر الذي يجعل شكل الصراع شكلاً قومياً، ويجعل لمسائل الاستقلال وتشكيل الدولة الأمة، والتحكم بالسوق الوطني، والصراع القومي، مسائل محورية في الصراع الطبقي العالمي، الذي لن يكون سوى صراع طبقي في كل أمة.
لكن وحدة التناقض الأساسي تفرض توحيد عام لسياسات العمال والفلاحين الفقراء في مختلف الأمم، وتنظيم النشاط العام المشترك، وبالتالي تأسيس مركز عالمي يلعب دور هيئة التنسيق على الصعيد العالمي. إن الطابع القومي يفرض إستراتيجيات مختلفة لكن وحدة التناقض الأساسي تفرض تشكيل مركز يوجد ما هو مشترك، وينسق الدعم المتبادل. وإذا كان الميل الماضي يسير نحو تشكيل "أممية" هي أقرب إلى حزب واحد فإن المطروح في إطار هذه التناقضات العالمية تشكيل ما هو أقرب إلى "التحالف العالمي" منه إلى الحزب المركزي، بغض النظر عن التسمية التي يمكن أن يتخذها: أممية خامسة، أو غير ذلك.
9) ليس هذا الوضع، وليست هذه التناقضات، هو ما يحل بكل الأساليب الديمقراطية أو السلمية، فالصراع هنا هو صراع حدي لأنه يطال المصالح، ويرتبط بالصيغة المناسبة لنهب العالم. ولأن المسألة تتعلق بالنهب وبمنع التطور والميل لتدمير كل محاولات التمرد، فإن العنف هو الطريقة التي يواجه الرأسمال فيها المفقرين والمهمشين. وليس من خيار لدى هؤلاء سوى الصراع الطبقي الذي يتجاوز المناشدة والمطالبة والاستجداء إلى تطوير كل أشكال الصراع الممكنة. إنه صراع طبقي حقيقي، يخاض في مواقع العمل أولاً وبالأساس، ويشمل التململ والاحتجاج والتظاهر والإضراب وحتى الانتفاضة والثورة. وليس الصراع مع قوى الاحتلال هو صراع سلمي، ولا من خلال التفاوض، بل هو صراع ثوري مسلح، حرب شعب حقيقية، من أجل الاستقلال والتحرر والتطور.
إن كل النزعات التي نشأت في الحركة الشيوعية منذ عقود طويلة، والنزعات التي تلت انهيار المنظومة الاشتراكية، والتي انطلقت من تجاوز العنف والتزام الطريق السلمي التدرجي، سوف تبقى نزعات هامشية ما دام الاستغلال الطبقي والنهب الإمبريالي والاحتلال كله قائماً ويتعمق. فالعمال والفلاحين الفقراء وكل المفقرين لا يقنعون بسياسة مهادنة وهم يتعرضون للإفقار والنهب والعسف، ويرون القطيعة الشاملة مع الطغم الإمبريالية والرأسماليات التابعة، ولا يجدون إمكانية لاستمرار الاستجداء والمناشدة والمطالبة، فقد فعلوا ذلك كثيراً دون جدوى.
كما أن الصراع ذاته، بالتالي، لا يحل إلا بالتغيير، أو استمرار الظروف شديدة العسف قائمة. فليس هنا من "مساومة تاريخية" كتلك التي عقدتها البرجوازية مع طبقتها العاملة في المراكز وهي تعمق نهبها للعالم، هذا النهب الذي كان وحده يسمح لها بعقد هذه المساومة. بينما شعوب الأطراف هي التي تنهب وليس من إمكانية لاستمرار المراكز الإمبريالية دون استمرار هذا النهب، بالتالي ليس في مقدور الرأسماليات التابعة أن تتخلى عن حصتها. ولهذا يكون الاستغلال أشدّ وطأة هنا، وهو الأمر الذي يفرض شكل الصراع كصراع ثوري، صراع لا يغفل العنف، دون أن يجري تجاهل "الأشكال السلمية" كأشكال تكتيكية يجب أن تخضع للطبيعة الثورية للصراع.
ليست نزعات البرجوازية الصغيرة السلمية هي التي سوف تقود إلى النصر بل بطولة العمال والفلاحين الفقراء هي التي سوف توصل إلى تجاوز الرأسمالية عبر هزيمتها. وليست أحلام البرجوازية الصغيرة بـ "الأتيكيت" البرجوازي هي التي توصل إلى انتصار العمال والفلاحين الفقراء بل قوة الصراع الطبقي هي التي تفرض سيادة هؤلاء كطبقة مسيطرة. وليست أحلام البرجوازية الصغيرة بتطور سلمي ديمقراطي هي التي سوف توصل إلى الديمقراطية، وأحرى إلى الأهداف الأخرى، بل نضال العمال والفلاحين الفقراء هو الذي يوصل إلى ذلك.
هنا نحن نعود لمواجهة النزعة ذاتها التي نشأت في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية لكن في وضع ليس من الممكن فيه أن يتحقق التحوّل الطبقي الذي حكم تطور أوروبا منذ نهاية القرن التاسع عشر، وجعل الفئات الوسطى هي الكتلة "التاريخية" التي تضمن استمرار الرأسمالية، وتحقق بعض "الامتيازات" للطبقة العاملة. لكن نزعات البرجوازية الصغيرة هي ذاتها. وأهم ما يمكن فعله هو هزيمة هذه النزعات في الحركة العمالية، لكي تتبلور كحركة صراع طبقي حقيقي.
الصراع ضد القوى المحتلة هو مسلح بالضرورة، وليس غير العنف ما يفضي إلى التحرر. والصراع ضد الرأسمال هو صراع طبقي يتخذ كل الأشكال الممكنة، لكن التي تفرض قوة العمال والفلاحين الفقراء، وتجعلهم يقلبون ميزان القوى. فهدفهم هو الاستيلاء على السلطة وليس استجداء الرأسمال. وليس غير ذلك ما يحقق أهدافهم النبيلة.
********************




إن فهم هذا الوضع المعقد هو الذي يسمح بتحديد السياسات الممكنة في المراكز وفي الأطراف. وإذا كان هناك من يرى في الصراع على الصعيد العالمي كصراع بين الشمال والجنوب، أو بين الشرق والغرب، أو حتى بين الريف والمدينة، أو بأنه صراع دول الأطراف ضد الدول الرأسمالية، فإن السبب في ذلك هو الانطلاق من تلمس بعض مظاهر هذا الصراع المعقد الذي حاولنا تحديد جوهره هنا. هذه نظرات سطحية وجزئية لم تلمس عمق المشكلات التي أوجدتها عالمية النمط الرأسمالي التي هي عالمية هيمنية بالضرورة. ولهذا يجب أن نعود إلى الفهم العميق ونحن نبحث عن إستراتيجية جديدة هدفها الانتصار على الرأسمالية، وتحقيق الظروف التي تهيئ للانتقال إلى الاشتراكية، هدف العمال والفلاحين الفقراء الأساسي.
إذن، على العمال والفلاحين الفقراء أن يحددوا الإستراتيجية الثورية التي تحكم نضالهم في المرحلة القادمة، بالاستناد إلى هذا الفهم لطبيعة التكوين العالمي، وطبيعة التناقضات التي تحكمه. وأن يكون واضحاً بأن فاعليتهم ودورهم القيادي هما اللذان سوف يفضيان إلى تجاوز الرأسمالية والانطلاق نحو الاشتراكية.



#سلامة_كيلة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التوافق الأميركي الروسي و... نظرية المؤامرة
- عن «جبهة النصرة» وإنسانيتها وانضباطيتها
- عامان من الثورة
- لماذا يسيطر الإسلاميون؟ لكن أين اليسار؟
- هذه ليست حرباً ضد عصابات بل حرب انتقام من الشعب
- رهاب النخب والخوف من الإسلاميين؟
- وضع الثورة المصرية وإستراتيجية العمال والفلاحين الفقراء
- «المنطق الفلسطيني» وفهم الثورات العربية
- لماذا أخفق اليسار في فهم المسألة السورية؟
- هل من حل بغير رحيل السلطة؟
- «هدنة العيد» وإدارة «الأزمة» السورية
- أي معنى للشعب وأي منظور له؟
- الثورة السورية في عالم جديد
- الوضع السورى .. المعقد
- الماركسية وطريق انتصار الانتفاضات في البلدان العربية
- عن الخطاب السياسي للمعارضة السورية
- الإمبريالية: كسياسة أم كاقتصاد سياسي؟
- الثورة ستنتصر والأسد سيسقط
- ملاحظات حول أزمة الماركسية في الوطن العربي
- الحركة القومية العربية: تجربة نصف قرن - فصل من كتاب -الهزيمة ...


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - سلامة كيلة - الاشتراكية والثورة في العصر الإمبريالي