أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد العليمى - الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلارك - مراجعة ابراهيم فتحى - الفصل السادس















المزيد.....



الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلارك - مراجعة ابراهيم فتحى - الفصل السادس


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 4077 - 2013 / 4 / 29 - 00:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ترجمة سعيد العليمى
بينت في الفصلين السابقين كيف أن الإلهام الفلسفي الأساسي لليفي شتراوس قد دفعه لتطوير نظرية متميزة عن المجتمع ومنهجا للتحليل أثناء محاولة اكتشاف المعنى الموضوعي للثقافة الانسانية . لقد سعى ليفي شتراوس بصفة خاصة لعزل أنظمة القرابة كأنظمة موضوعية للمعنى التى وجدت ، ويمكن أن تحلل بشكل مستقل عن تطبيقها الخاص أو عن معناها بالنسبة لأفراد معينين . وضع ليفي شتراوس هذه الأنظمة الموضوعية للمعنى في العقل اللاواعي التى قرر بأنها لن تكون فقط موضوعية ، وإنما ستكون أكثر جوهرية من أي تفسير ذاتي لها . تأتي المنهج البنيوي ، والتأكيد الملازم على الخصائص الشكلية للأنظمة موضع البحث ، من هذه المحاولة لعزل المعنى ، الموضوعي ، الشامل للأنظمة .
جادلت في الفصل الأخير بأن هذه النظرة للعالم الإنساني كعالم أنظمة ثقافية موضوعية لاواعية أو جماعية يدخل ضمنها الأفراد ، هي الإلهام الأساسي للبنيوية . وهي تتمخض عن البحث عن المعنى الموضوعي للثقافة ، وهو ينتج عن عزل الأنظمة الثقافية الموضوعية القابلة للدراسة بمناهج العلوم الوضعية .
تبدو البنيوية ، من ثم ، وكأنها تجعل من الممكن تأسيس علوم إنسانية مستقلة ذاتيا وموضوعية ، لأنها تقدم لتلك العلوم حقول دراستها الخاصة المستقلة والموضوعية: الأنظمة الثقافية النوعية التي هي موضع اهتمامها ، سواء كانت الفن ، الأدب ، الموسيقى ، الأسطورة ، أو في الحالة التى درسناها توا ، أنظمة القرابة .
تعتمد قابلية البنيوية للتطبيق تماما على قدرتها على عزل أنظمة المعنى المستقلة ذاتيا والموضوعية الحقيقية . إن الدعاوي العلمية للبنيوية ، وكذلك المثالية الثقافية التى تتأسس عليها ، تعتمد على صلاحية محاولتها عزل مثل هذه الأنظمة الثقافية . جادلت في حالة نظرية القرابة بأن مثل هذه الأنظمة لا يمكن في الواقع أن تعزل ، لأنه حالما تُجرد أنظمة القرابة من سياقها الإثنوجرافي فلا يبقى هناك شئ لتفسيره .
إن إخفاق المعطيات الإثنوجرافية في حالة ليفي شتراوس في التوافق مع الموضوع النموذجي الذى أنشأه قادة إلى التراجع إلى اللاوعي وإفترض وجودا ميتافيزيقيا خالصا لهذا الموضوع إنتهاءً إلى أنه قدم معرفة لموضوع لم يكن هناك دليل على وجوده ، بينما إختزل الواقع الإثنوجرافي الذي إنطلق من هذا الموضوع ، إلى مرتبة التشويه الفظ لهذا الواقع الأساسي ، غير القابل للوصول إليه ، الذي نتج عن وهم ذاتي والأحداث التاريخية العرضية .
كما أن الإخفاق في تعيين أي خصائص شاملة لأنظمة القرابة ، في حالة بنيوية نيدهام ودومون أدت أولاً الى شكلية فارغة ، وفي النهاية ، الى هجر أي محاولة للتعميم وراء السياق الإثنوجرافي النوعي الذي وجدت فيه أنظمة نوعية .
بالرغم من أن عمل ليفي شتراوس ، وخاصة البني الأولية للقرابة ، قد كان الحافز الرئيسي في تطور البنيوية كحركة ثقافية ، فإن هذا الحافز كان مدينا بكثير من قوته الى حقيقة أن عمل ليفي شتراوس يعيد إنتاج مقاربة كانت قد طورت بشكل مستقل تماما داخل ( حقل ) اللسانيات . لقد كان هذا التقارب قبل كل شئ هو الذى أوحى بأنه ربما كان للمقاربة البنيوية صلاحية عامة أكثر للتطبيق في الحقول الخاصة للسانيات منها فى دراسات القرابة التي تطورت فيها .
واللسانيات هامة للبنيوية لعدة أسباب . أولاً ، بالرغم من أن بنيوية ليفي شتراوس قد تشكلت بشكل مستقل تماما فقد كانت مواجهته فقط مع اللسانيات هي التي جعلته واعيا تماما بالمترتبات النظرية ، والمنهجية والفلسفية لمقاربته ، وقد كانت هذه المواجهة فقط هي التي أعطته الثقة في تعميم مكتشفاته وأن يقدم البنيوية بإعتبارها منهجا لكافة العلوم الانسانية . ملأت اللسانيات ، إضافة الى ذلك ، الفجوة الأخيرة في نظرية ليفي شتراوس حين أمدته بنظرية ثقافية خالصة للاوعي ، وقد كانت هذه التي ساعدته على تطوير فلسفته الإنسانية .

ثانياً ، إنها القدرة الانسانية اللغوية أكثر من أي شئ آخر هي التي تميز البشر عن الحيوانات الأخرى . واللغة هي أكثر الأدوات قوة وكمالا للاتصال الرمزى المتاح للبشر . وهكذا ، فبالنسبة للبنيوية ، المعنية تحديدا بمسألة الأساس الموضوعي للثقافة ، وبتحليل الثقافة بإعتبارها سلسلة من الأنظمة الرمزية ، فلابد من أن تكون للسانيات دعاوى قوية بإعتبارها العلم الإنساني الأساسي .
ثالثاً ، المقاربة البنيوية في اللسانيات ( مستخدمين المصطلح بالمعنى الأوروبي أكثر منه بالمعنى الأمريكي الشمالي ) لها انجازات قيمة تحسب لصالحها في تطوير فهمنا ومعرفتنا باللغة . لقد كانت ، من ثم ، انجازات البنيوية في حقل اللسانيات ، على الأقل بقدر ما كانت في الأنثروبولوجيا ، هي التى أعطت البنيوية سلطة علمية
واضحة .
رابعاً ، قدمت اللسانيات إلهاما مباشرا لتطور البنيوية الحديثة ، بإستقلال تام عن ليفي شتراوس . هذا هو الحال بصفة خاصة مع نشوء " السيميولوجيا " التى تمثل امتدادا لمناهج اللسانيات إلى الأنظمة الرمزية غير اللسانية . هكذا طور رولان بارت ومجموعة Tel Quel سيميولوجيا بنيوية بإستقلال عن أي إتصال مع ليفي شتراوس . بالرغم من أن عملهم قد تأثر لاحقاً بنفوذ ليفي شتراوس .
أريد في هذا الفصل أن أعاين البنيوية في حقل اللسانيات . وقد أسست البنيوية في حقل اللسانيات على نفس الأسس تماما التي طورها إستقلالا ليفي شتراوس في البني الأولية . يفترض أيضا أنها أسست اللسانيات كعلم وضعي بعزل الأنظمة الموضوعية للمعنى اللغوي ، بإستقلال عن أي تطبيق خاص أو عن أي تفسير ذاتي خاص ، التي وضعتها في العقل اللاواعي . أريد في هذا الفصل أن أعاين اللسانية البنيوية وأسأل عما إذا كانت قد عزلت بنجاح اللغة بإعتبارها نظاماً موضوعياً .
1 – سـوسيـر ومـوضـوعية اللغـة :
يعد سوسير بمثابة مؤسس علم اللسانيات الحديث . فقد كان هو من عزل اللغة بإعتبارها موضوعا مستقلا ذاتيا قابلا للبحث العلمي . كان هدفه بقدر ما يكون ذلك متيسرا ، أن يعزل اللغة عن الإعتبارات السيكولوجية والاجتماعية والفسيولوجية ، ومن ثم أن يفسر حقائق اللغة بالاحالة الى الضوابط " اللسانية " فقط . وقد فعل ذلك بتطبيق ثلاثة تمايزات . ميز سوسير بين اللغة Langue والكلامParole ، وبين الشكل والجوهر ، وبين التزامني والتعاقبي . يحدد تطبيق هذه التمايزات كيانا مغلقا من الحقائق العلمية ، نظاما موضوعيا للغة يفترض إنفصاله عن أي تطبيق للنظام أو عن أي تفسير خاص له .
يتأتي التمييز بين اللغة و الكلام جزئيا من دوركايم ، وإن كان يبدو ، أنه تأتي بصفـة أساسية ، من جاسية ، ونافيل وويتنى. كان هدف التمييز هو فصل نظام يقع وراء الفعل اللغوي ذاته ، ومن ثم فصل القضايا اللغوية البحته عن تلك التي يمكن أن تقدم الإعتبارات السيكولوجيـة ، والفسيولوجية أوالإجتماعية . تمثل اللغة عند سوسير الإجتماعي والأساسي بينما يمثل الكلام الثانوي والعرضي . اللغة هي ، من ثم ، قابلة للمقارنة تحديدا مع العقل الجمعي عند دوركايم كنظام موضوعي خارجي بالنسبة للفرد ومستعص على إرادة الفرد . تقصر اللسانيات إنتباهها على حقائق اللغة ، ومن ثم فهى مزودة بموضوع خال من التدخلات التي تنشأ عند إستعمال اللغة .
بالرغم من أن اللغة موضوع نموذجي ، أنشئ بواسطة المحلل من خلال التجريد من الجمل الفعلية التي تستخدم من قبل المتحدثين المحليين ، اعتقد سوسير أن اللغـة كانت واقـعا نوعيا له " مرتكزه في الدماغ " . لقد إحتفظ سوسير من ثم بالنزعة العقلية لمعاصريه ، ساعيا الى " تفسير حقائق اللغة من خلال حقائق الفكر ، مأخوذه بإعتبارها مؤسسة " ومن ثم فإن العلامة اللغوية عند سوسير هي " كلية سيكولوجية " توحد "مفهوما " و " صورة صوتية " ، واللسانيات فرع متخصص من علم النفس "
.( 1 )
التمايز الثاني الأساسي الذي قدمه سوسير هو بين الشكل والجوهر : " اللغة شكل وليست جوهرا " ( 2 ) . ان العلاقة بين المفهوم والصوت الذي يشكل العلامة ، عند سوسير هي علاقة إعتباطية . ليس هناك شئ في مفهوم " الشجرة " يجعل الصوت " شجرة " مناسبا بصفة خاصة ، ولا يحتوى الصوت " شجرة " في حد ذاته على أي شئ من مفهومه . ومن ثم توظف كل لغة طبقة من الصوت لتدل على قسم من الفكر ، وإسناد مفهوم الى صورة صوتية هو أمر إعتباطي . وتختلف في هذا الصدد اللغة المنطوقة عن الأنظمة الرمزية الأخرى التي ليست فيها العلاقة بين الدال والمدلول ( وجهي العلامة ) اعتباطية . الكتابة بالصور IDIOGRAPHIC مثل واضح على ذلك ، حيث يمكن لمفهوم الشجرة أن يمثل من خلال صورة الشجرة .
يمثل الفكر والصوت متتابعين CONTINUA، في غياب اللغة :
" الفكر بدون اللغة سديم مبهم مجهول … المادة الصوتية ليست أكثر ثباتا ولا أكثر صلابة من الفكر … ليس فقط أن النطاقين المرتبطين بواسطة الواقعة اللغوية بغير شكل ومشوشان ، ولكن اختيار شريحة معينة من الصوت لتسمية فكرة معطاة هو أمر اعتباطي تماما " ( 3 )
لا تأخذ العلامة اللغوية من ثم ، أفكارا قائمة مسبقا وأصواتا قائمة مسبقا ثم تربط الواحدة منهما بالأخرى بطريقة ذرية . تربط اللغة عوضا عن ذلك نظامين الواحد منهما بالآخر ، نظام الأصوات ونظام الأفكار مقسمة كل متصل بطريقة معينة . إن هذا المفهوم للمعنى هو الذي يتعارض بغاية الحدة عند ليفي شتراوس مع ميتافيزيقا برجسون . ( 4 )
إن هذا المفهوم هو الذي يثوى خلف فصل الشكل عن الجوهر . الاختلاف بين لغات مختلفة هو اختلاف في الشكل ، اختلاف في الطريقة التي تقسم بها المواد المشتركة تتابع الصوت والفكر في لغات مختلفة . لذا فإن اللسانيات تعنى فقط بالشكل وليس بمادة اللغة ، الأخيرة مسألة لا أهمية لها بالنسبة لعالم اللغة . إن نظام الأصوات ، على سبيل المثال ، مصنوع فحسب بواسطة العلاقات بين الأصوات ، والواقع الفيزيائي للصوت لا علاقة له بالموضوع . إن كل مايهم من وجهة النظر اللغوية هو هذا التمييز بين الأصوات الذي يقدم ما هو سلسلة متصلـة بشكل طبيعى.
ينبع هذا التأكيد على الشكل مباشرة من عزل اللغة عن مادتها وأساسها المفهومي . وتحوز اللسانيات بالتجرد تماما من المادة إستقلالها الذاتي ، الذي يدرس النظام الصوتي للغة ، كنظام شكلي يتميز عن علم الأصوات الملفوظة PHONETICS ، الذي يدرس مادة الأصوات اللغوية وهو فرع من الفسيولوجيا وعلم النفس . من ثم ، فإن عزل نظام اللغة هو الذي يؤدى لإنبعاث المنهج البنيوي للتحليل ، لأنه حين تجرد اللغة من مادتها فإنها تكون شكلا بحتا . السؤال الحرج الحاسم هو ما إذا كان يمكن فصل الشكل عن المحتوى بهذه الطريقة .
يجعل مفهوم العلامة أيضا من الممكن عند سوسير أن يفصل الصوت والفكر احدهما عن الآخر وان يدرس نظام الأصوات ونظام الأفكار بشكل مستقل الواحد عن الآخر . هذا يعنى أن اللسانيات يمكن أن تحلل اللغة كتركيب من الأصوات دون أي إحالة الى المعنى . وإرتباطا بذلك يمكن تحليل المعنى بشكل مستقل عن الصوت ، وهكذا فإن الفونولوجيا ( عـلم الأصوات الكلامية ) وعلم دلالات الألفاظ هما فرعان متميزان من اللسانيات .
إن تمييز سوسير الثالث يكمل عزل نظام مغلق يمكن أن يصبح موضوع تحليل لغوى خصوصي . يميز سوسير بين المنظور التزامني ، الثابت ، والمنظور التعاقبي ، أو التطورى ناسبا الأولوية للتزامني . يركز المنظور التزامني تحديدا على العلاقة بين أجزاء نظام اللغة في نقطة معينة من الزمن . يدرس المنظور التعاقبي العلاقة التاريخية بين حقائق اللغة . ويقدم سوسير أسبابا عدة مختلفة لنسبته الأولوية للتزامني ، ومعارضته للتاريخية ، التي لها أصول شخصية وأيضا أيديولوجية وعلمية ، جعلته ميالا بالتأكيد ، الى البحث عن قوانين النظام . إن برهانية الأساسيين مختلفين للغاية من ناحية نوعهما .
أولاً ، يقدم سوسير حجة عقلية ، تعنى نزعته السيكولوجية أنه معنى بصفة أساسية بتأسيس " إرتباطات منطقية وسيكولوجية " . هذه النظرة التزامنية من ثم " تهيمن قبليا " لأنها هي الواقع الحقيقي الوحيد عند جماعة المتكلمين . بينما الارتباطات التاريخية لا واقع سيكولوجيا لها . ( 5 ) وتعتمد هذه الحجة بوضوح على الإفتراض العقلي بأن اللسانيات فرع من علم النفس .
ثانياً ، يقدم سوسير حجة منهجية . إن طابع موضوع اللسانيات هو الذي يجعله قابلا للتحليل التزامني : " لأن العلاقة إعتباطية فإنها لا تلتزم بقانون غير التقليد" . يجادل سوسير من خلال القياس على الإقتصاديات الحدية ، التي قدمت له ولحد بعيد نموذجا للسانياته المنهجية وهو يستعير من الحدية فكرة القيمة كعلاقة اعتباطية بين الشئ والثمن ، التي يطبقها بعدئذ على العلاقة اللغوية بين الدال والمدلول . في كل حالة القيمة محددة بواسطة إدخال العنصر في نظام توازن يعتمد فحسب على العلاقات الداخلية بين العناصر ، وليس على الحالات الماضية للنظام . (6)
إن حقيقة أن سوسير يقدم حجتين تدليلا على اولوية التزامني هي في غاية الأهمية ، لأن هاتين الحجتين قاصرتان بشكل متبادل . إن عمل سوسير ممزق بالتناقص بين نظرتين مختلفتين تماما عن اللغة واللسانيات . إن النظرة المهيمنة هي ( النظرة ) العقلية التي تكون اللغة طبقا لها واقعا سيكولوجيا ، مرتكزا في الدماغ ، وعالم اللغة يكتشف الروابط السيكولوجية وعلى ذلك فإن اللسانيات هي فرع مستقل من علم النفس . النظرة الأخرى هي أن اللغة مؤسسة جماعية ، ومن ثم واقع إجتماعي ، ومن ثم يكتشف عالم اللغة إرتباطات وظيفية . إن عالم اللغة في الحالة الأولي معنى باكتشاف العلاقات النفسية بين عناصر اللغة ، وفي الحالة الأخيرة فإن عالم اللغة معنى بإكتشاف العلاقات اللغوية ، وليس الإثنان نفس الشئ بأي حال : فبينما لا حاجة لأن يكون للعلاقات اللغوية واقع سيكولوجي ، فإن العلاقات السيكولوجية لا حاجة لأن يكون لها دلالة لغوية .
إن الحجة العقلية التي في صالح أولوية التزامني تنطبق فقط بوضوح على النظرة العقلية للسانيات . لا تنطبق الحجة المنهجية ، من ناحية أخرى ، على ما إذا كانت اللسانيات معنية بـ " الإرتباطات السيكولوجية والمنطقية " لأن العلامة ليست اعتباطية من وجهة نظر نفسية . إن معنى الصوت " شجرة " بالنسبة الى فرد معين ليس محددا فقط بعلاقاته مع الأصوات اللغوية الأخرى : إنه يتضاد مع " دغل " ، " منزل " ، " سماء " ، " عمود " ، الى آخره . إنه محدد ايضا بكل الاستعمالات السابقة للعلامة التى خبرها الفرد : الأشجار التى طُبق عليها ، السياقات التى نُطق ضمنها . وهكذا إذا سمعت كلمة فإن الارتباطات السيكولوجية التى تؤسسها تحيل بشكل متعاصر الى سلسلة من الأحداث اللغوية الماضية . وهكذا فإذا نُظر الى اللغة كواقع عقلي فلن تكون العلامة إعتباطية بأي حال ، ومعناها لن يكون محددا بأي حال بعلاقته مع العناصر المتعاصره للغة .
لقد بليت اللسانيات بخلط وجهتى النظر السيكولوجية واللغوية منذ سوسير . وجهتا النظر كلتاهما مسوغتان ، ولكن كلتيهما قاصرتان بشكل متبادل ، لأنهما لا يقدمان فقط في هذا الصدد تفسيرين مختلفين ، وإنما يفسران أيضا أشياء مختلفة تماما . تعنى المقاربة اللغوية باللغـة كنظام وظيفى ، بينما تعنى المقاربة السيكولوجية بالطريقة التي يتعلم بها الفرد ويستخدم اللغة . توجد اللغة في نقطة تقاطع هاتين المقاربتين : فهي ينبغي أن تعمل كلغة ، وينبغي أن يكون ممكنا للناس أن يتعلموها ويستخدموها .
ولأن سوسير يعتبر اللغة ظاهرة عقلية فإنه يجعل المقاربتين التزامنية والتعاقبية يستبعد كل منهما الآخر . ليست هناك وجهة نظر شاملة زمنيا PANCHRONIC ،كما يصر ، وهكذا ، فلا يمكن أن ترى اللغة بإعتبارها نظاما يتطور لأن المنظور التزامني يسعى نحو الإرتباطات الداخلية ، والسيكولوجية والنظامية ، بينما لا تربط وجهة النظر التعاقبية الأنظمة بل الحدود . التاريخ من ثم عند سوسير إدماج للأحداث العرضية في نظام مستقر ، ويصبح التغير اللغوى غير قابل للتفسير .
يزود تطبيق التمايزات الثلاثة اللسانيات بموضوع . يكمن الموضوع في نظام تزامني ومستقر للعلامات الذي يمكن لعالم اللغة أن يبحث بينه " ارتباطات منطقية وسيكولوجية " هذا النظام ليس موضوعا معروضا على عالم اللغة ، وإنما عزل تحليليا عن الخطاب على أساس عدد من الافتراضات عن طبيعة اللغة . النتيجة هي عزل اللغة كموضوع علمي عن المتحدث ، وعن المستمع ، وعن السياق الذي إستخدمت فيه اللغة . ومن ثم ينشئ موضوعا نموذجيا يتضمن نظاما مغلقا يمكن أن تؤسس علاقاته موضوعيا بشكل خالص .
من الواضح أن إكتشاف سوسير لنظام محايث في العلاقات بين الحدود جعل من الممكن تأسيس لسانيات علمية . حتى المعنى ، ضمن نظرية سوسير ، يمكن أن يعطى تحديدا موضوعيا ومنهجيا بدقة . إن نظام الاختلافات ، المفروض على تسلسل التجربة ، هو الذي يقدم ضبطا لــ " حالة اللاتشكل " البرجسونية . يبدو التقارب بـين إنجازات سوسير وليفي شتراوس مروعا ، تبريرا لنظرية كل منهما .
على أية حال من المهم أن يكون في غاية الوضوح أن لسانيات سوسير ليست أكثر تحقيقا للعلم من انثروبولوجيا ليفي شتراوس . لم يتمكن سوسير أبدا من أن يجسد فلسفته في اللغة فى تحليلات منهجية لأنظمة لغوية معينة ، ومن ثم بقيت برنامجية . إنه إضافة الى ذلك برنامج مشوش للغاية في عدة جوانب ، وهو أحد الأسباب التى يمكن أن يدعي من أجلها سوسير كسلف لمدارس مختلفة في حقل اللسانيات . يقوم التقارب ليس لأن سوسير وليفي شتراوس إكتشفا بشكل مستقل شيئا عن الواقع ، ولكن لأنهما حددا لنفسيهما بشكل مستقل نفس المهمة .
كانت هذه المهمة هي تطوير علم وضعي للثقافة الانسانية مؤسس على مفهوم للظواهر الثقافية كأنظمة للأشكال منبته عن الذوات الفردية ، بقوانينها المحايثة والنوعية ، فارضة نفسها على الفرد بقوة اللاوعي . إن هذا البرنامج الأيديولوجي هو الذي ينهض سنداً للمقاربة البنيوية ، ويسبب ظهور قضايا نظرية قابلة للمقارنة ، في حالة سوسير كما في ( حالة ) ليفي شتراوس .
2 – الوضعيـة والظاهرياتيـة فـي دراسـة اللغـة :
إقترح سوسير لسانيات علمية يمكن أن ترتكز على عزل اللغة كنظام موضوعي مستقر ، ومحدد جيدا ، الذي يمكن للسانية أن تحلل علاقاته الداخلية بمناهج العلوم الوضعية . نكل برنامج سوسير عن أسئلة كثيرة كان يجب أن تواجه قبل أن يكون ممكنا تطوير لسانيات منهجية ، ولكن اصراره على أولوية الشكل على المضمون كان حيويا في تسهيل إمكانية ظهور اللسانيات كنظام مستقل ذاتيا . إن المادة الصوتية والسيكولوجية للغة يمكن أن تدرس بواسطة الصوت ، وعلم النفس والفسيولوجيا .كما أن شكل اللغة ، على أية حال ، لا يمكن أن يدرس بواسطة أنظمة أخرى ، الشكل كان مسئولية اللسانيات واللسانيات فحسب : لقد كان الشكل ، والعلاقات النظامية بين الأجزاء ، هي التي جعلت الأساس الصوتي والسيكولوجي يعملان كلغة .

إن عمل سوسير هو لحظة صغيرة واحدة في إنقلاب ثقافي وأيديولوجي ذى أبعاد عالمية ، حيث تركز الإنتباه على العلاقات النظامية بين الأجزاء لكليات حاولت وضعية القرن التاسع عشر أن تبددها في ذراتها المكونة . بهذا المعنى فإن البنيوية في اللسانيات هي ببساطة جزء من حركة عالمية ولا دلالة خاصة لها . وكما كتب رومان ياكوبسون في 1929 :
" إذا كان علينا أن نجمل الفكرة الرائدة لعلوم اليوم في أكثر تبدياتها تنوعاً ، يمكن بالكاد أن نجد وصفا أكثر ملائمة من البنيوية . أي مجموعة من الظواهر تفحص بواسطة العلوم المعاصرة تعامل ليس بإعتبارها تجميعا ميكانيكا وإنما ككل بنيوي ، والمهمة الأساسية هي كشف القوانين الداخلية ، بغض النظر عما إذا كانت ساكنة أم تطورية ، لهذا النظام . وما يبدو أنه ثورة الإنشغال العلمي لم يعد المؤثر الخارجي ، وإنما المقدمات الداخلية للتطور . يخلى الآن المفهوم الميكانيكي للعمليات مكانة لمسألة وظائفها " ( 7 )
قدم سوسير في حقل اللسانيات طريقة جديدة في النظر الى اللغة كنظام عوضا عن اعتبار اللغة ككائن عضوى اشتقت فيه كلية اللغة من إحدى الخاصيات الروحية المتعالية ، فقد نظر الى اللغة بإعتبارها نظاما اشتقت كليته من الروابط الداخلية ، الشكلية بين أجزائه . وهكذا ، فإن مفهوم سوسير عن اللغة كنظام جعل من الممكن أن يختط مجرى بين عقبتي " الذرية " و " التعالي " : الكل أكثر من مجموع أجزائه ولكنه ليس أكثر من مجموع العلاقات بين الأجزاء .
على أية حال ، قبل أن تتمكن اللسانيات الجديدة من التطور عليها أن تحدد بوضوح أكبر مما فعل سوسير ماهو تحديدا الموضوع الجديد للسانيات ، اللغة . ظلت اللغة عند سوسير واقعا نفسيا والعلاقات التى بحث عنها كانت علاقات سيكولوجية ستكتشف بواسطـة علم نفس حدسي . وهكذا فإن الوحدة الأساسية للصوت هي إنطباع المستمعين . صوتان مختلفان يعبران عن إنطباع واحد لدى المستمعين ، إذا كانا قد خبرا كصوت واحد ، وهما مختلفان إذا كانت الذوات المتحدثة واعية بالاختلاف . قاد هذا الى مفهوم للوحدات الصوتية للغة كعناصر جوهرية خفيفة ، محددة بإستقلال عن العلاقات بين العناصر ، مفهوم أثبت أنه قاصر تماما . وهكذا فلا يمكن للسانيات أن تتقدم على أساس النزعة العقلية لسوسير . لا يمكن أن تكون علاقات اللغة الارتباطات السيكولوجية الواعية بين عناصر جوهرية خفية التي إفترضها سوسير ، وإنما يجب أن تكون أكثر تجردا في طابعها .
إذا لم يجر تحديد اللغة مباشرة بإعتبارها واقعا سيكولوجيا يثور السؤال بشأن وضع موضوع اللغة . كيف يمكن للغة أن تعزل عن معطيات الكلام ؟ أي علاقات تشكل صورة اللغة ؟ ماهي عناصر اللغة المتحدة بواسطة هذه العلاقات ؟ ما هو وضع العلاقات الخفية – هل هى تتوافق مع ارتباطات سيكولوجية حقيقية أو حتى عضوية ، أم أن لها وضعا آخر ؟
هناك مقاربتان متميزتان بصدد هذه المسألة توجد ضمن اللسانيات ، ويمكن أن تصنف بشكل عام بإعتبارها الوضعية والظاهرياتية . تتمثل النظرة الوضعية في أن الموضوع النموذجي ، اللغة ، الذي يعزل بواسطة عالم اللغة يتوافق مع واقع جوهرى سيكولوجي أو سلوكي ، هكذا توجد اللغة ، بشكل مستقل عن ، وسابق على ، الكلام . هذا يعنى أن حدود نظرية اللغة يمكن أن تترجم في حدود خاصة بالملاحظة تصف واقعا هو الآلية التي يستخدمها الناس حين يتكلمون . اللسانيات ، من ثم ، كما كانت عند سوسير ، فرع مستقل ذاتيا من علم النفس . تكشف دراسة اللغة من ثم حقائق عن العضوية الانسانية البيولوجية والسيكولوجية .
تتمثل النظرة الظاهرياتية في انه لا يوجد شئء بإعتباره لغة مفصولاً عن السياق الذي تستعمل فيه اللغة . فإذا ما حدث وأن جرى التجريد من السياق ، فإنفصلت اللغة عن المتحدث أو المستمع الذى تمفصل تفاعله ، تتوقف عن أن تكون لغة وتصبح أصواتاً مختلطة لا معنى لها . ولاكتشاف ما هي اللسانية بشأن اللغة ، لإكتشاف العلاقات النظامية التي تجعل من الممكن للغة أن تكون الوسيط الذي يوصل المعنى ، فإن علينا أن نحيل ليس الى علاقات " موضوعية " توجد بين أجزاء موضوع خامل ، وإنما بالأحرى الى نوايا متحدث اللغة التي تفرض المعنى على اللغة . هكذا ينبغى أن ينظر الى اللغة كنظام وظيفي ، وعلى العلاقات الداخلية للغة أن ترتبط بوظائف اللغة بإعتبارها الأداة التي تتحقق بها نوايا الإتصال .
وبالنسبة للمقاربة الظاهرياتية فإن اللغة تجريد والعلاقات التى تصنع نظام اللغة هي علاقات مجردة ، ليست كامنة في الموضوع ، ولكن مفروضة على الموضوع بواسطة المتحدث وتستعاد بواسطة المستمع . ليست اللغة واقعاً موضوعياً ، كما أنها ليست ذاتية تماماً ، إنها التعبير الذاتي الداخلي عن النية الذاتية . اللسانيات معنية بدراسة الطريقة التي تجعل بها اللغة كواقع إتفاقي ممكنا لمجرد الأصوات أن تبدى نية ذاتية أو واقعا ذاتيا داخليا . ما دامت اللغة لا تعبر عن آلية فسيولوجية أو سيكولوجية ، فإن اللسانيات لا يمكن أن تخبرنا بأي شئ مباشرة عـن العقل أو المخ .
وكلا هاتين المقاربتين يمكن أن تستخدما لتسويغ التحليل البنيوي للغة ، ولكن كلا المقاربتين تسوغان التحليل بطرق مختلفة ، وتفهمان العلاقات التي تنبثق على نحو مختلف تماما ،وتستنبطان نتائج مختلفة للغاية من اكتشافات اللسانيات .
لقد ارتكزت لسانيات سوسيرعلى علم نفس حدسي يتعين على العلاقات الداخلية للغة أن تكتشف فيه من خلال الإستبطان .وفي الوقت الذي كان فيه سوسير يكتب كانت هذه هي المقاربة السائدة التي تؤيدها الفلسفة الوضعية وإتخذت مثلا من قبل سيكولوجيا فوندت أوتيتشنر( التي كانت مهمتها لا أن تكشف البني ، بل أن تفككها الى عناصرها ) . لقد ُشعر في هذا الوقت أن الحقائق الوحيدة المؤكدة هي تلك التي تكشف من خلال الاستبطان ، وهكذا قدم الاستبطان الأساس الوحيد لعلم موضوعي حقيقي . وعلى أية حال ، أصبح واضحا حالاً ، في اللسانيات كما في علم النفس ، أن حقائق الاستبطان بعيدة عن أن تكون موثوقا بها . وينبثق من هذه النقطة الاختلاف بين الوضعية والظاهرياتية .
سعت الظاهرياتية التي طورها هوسرل على أساس عمل قام به برنتانو ، لتأسيس حقائق حدسية موثوق بها ولا سبيل للشك فيها ، بينما سعت الوضعية التي طورها رسل ، وفيتجنشتاين وقبلهما حلقة فيينا ، لإعادة تأسيس علم موثوق به على أساس إنكار كلي لوجهة نظر الذات ، رافضين الإحتكام لأي برهان أسس على التقارير الذاتية .

تطور داخل علم النفس إختلاف مماثل بين علم النفس الظاهرياتي الذي إنتهى الى الإعتماد على الاستعادة الحدسية للمعنى ، وعلم نفس سلوكي أنكر أي إحتكام للإستبطان وألغي أي احالة الى العقل أو الواقع الذهنى بإعتباره ميتافيزيقيا بلا جدوى .
كان أساس الاختلاف في حالة البحث عن اليقين ، عن معنى للوجود الانساني حقيقي لا سبيل للشك فيه . وبالنسبة للمقاربات الظاهرياتية فإن المعنى الحقيقي للوجود ذاتي بدون قابلية للإختزال ، ويكتشف في النوايا الانسانية التي يعبر عنها .أما بالنسبة للسلوكية فإن المعنى الذاتي هو ظاهرة خارجية خالصة ، وهم متخيل ، قابل للإختزال الى الواقع الحقيقي الوحيد الذي هو واقع العمليات العضوية التي تكمن خلف الارتباطات بين الحافز والاستجابات . وهكذا تستنبط السلوكية بنية موضوعية للكائن العضوى من خصائص السلوك الانساني .
الاختلاف مشابه بدقه لذلك الذى بين سارتر وليفي شتراوس وهو ما عالجناه قبلا : كلاهما بحثا عن المعنى الحقيقي للوجود الانساني ماوراء خداع ونفاق المجتمع المعاصر ، أحدهما كان معتقدا أنه معنى ذاتي يوجد من خلال النقد الفلسفي للتجربة الذاتية ، والآخر معتقدا أنه معنى موضوعي مطمورفي الطبيعة الانسانية ، معبر عنه في موضوعية إنجازات الثقافة الانسانية . اللغة ، بالطبع ، بارزة مسبقا بين مثل هذه الانجازات . وهكذا فإن دراسة اللغة قد عكست وحفزت في آن معا الجدال الفلسفي الاساسي بين الوضعية والظاهرياتية .
3 – الوضعيـة والشكليـة من بلومفيلـد إلـى تشومسكـى :
إتخذت اللسانيات مع الرفض الوضعى لعلم النفس الحدسى منحى شكليا متزايدا .فقد رفض علماء اللغة البحث عن الإرتباطات السيكولوجية بين عناصر اللغة لصالـح البحث عن ارتباطات " موضوعية " خالصة لم يعتمد إكتشافها على أي تفسير خاص . مثل هذه الارتباطات الموضوعية يمكن أن تكون فقط ارتباطات مفصولة عن المحتوى الجوهرى ،أى الارتباطات التي يمكن ان تختزل الى علاقات الهوية والاختلاف ، التعاقب والتركيب . وكانت أكثر النزعات إيغالا في الشكلية في أوروبا تلك التى وضعتها " جلوسماطيقا " GLOSSEMATICS هلمسليف .
وقد أنجزت في الولايات المتحدة من قبل " البنيوية " السلوكية لبلومفيلد وهاريس التي سادت اللسانيات ( في ) الولايات المتحدة حتى وصول تشومسكى في منتصف الخمسينات .
لقد أُسست البنيوية الأمريكية الى مدى بعيد على الرفض الكامل للمفاهيم العقلية . كان برنامجها أن تحلل اللغة على أساس أقل تدخل ( ممكن ) من قبل المحلل . هكذا رفضت التمييز بين اللغة و الكلام ، محددة موضوع اللسانيات كمدونة لكلام اللغة موضع البحث التى جمعت بواسطة العمل الميداني . لقد سعت لإستبعاد أية إحالة الى المعنى في تحليل اللغة ، معاملة المدونة كمجموعة من سلسلة أصوات خاملة ، شكلية بحته . لقد سعت لتحليل هذه المدونة آليا ، بواسطة منطق إستقرائي ، يمكن بشكل نموذجي أن يعنى به ( كمبيوتر ) . وهكذا سعت لأن تؤسس بواسطة وسائل إستقرائية بحته السمات الصوتية والتركيبية ( SYNTACTIC ) للغة ، تاركة مسائل " المعنى " لعلم نفس سلوكي كان معنيا بإستخدام اللغة : بالارتباطات بين اللسانيات والمؤثرات السلوكية الأخرى والإستجابات المتصلة بها .
وقد ساد الإعتقاد ، بهذه الطريقة ، أن اللسانيات سوف تصبح أخيرا علما وضعيا ، لأن الوصف البنيوي الذي ظهر لن يكون مدينا بشئ للتطبيق الآلى لمنطق الاستقراء على مدونة موضوعية من الكلام . لن تكون هناك ضرورة للاحالة على تفسير ذاتي ، لا الى المحلل أو المتحدث المحلي . عن معنى الكلام ، عن وظيفة اللغة ، أو عن الرابطة بين أجزاء اللغة . كل الارتباطات التى إكتشفت سوف تكون إرتباطات وجدت في المدونة على نحو لا شك فيه .
بالرغم من أن هذه المقاربة الوضعية ، سادت عند علماء اللغة الامريكيين الشماليين مباشرة في فترة ما بعد الحرب ، فقد كانت قاصرة لغويا وفلسفيا . وكان ضعفها الأعظم هو ( ضعف ) الوضعية الفظة التي سعت لتطبيقها . فهذه الوضعية تفترض ، أولاً ، أن الموضوع ( في هذه الحالة اللغة ) يقدم نفسه جاهزا للمحلل ، وثانياً ، أن منطق الإستقراء يمكن أن يسفر عن تقييم مرضٍ لهذا الموضوع . وكلا هذين الافتراضين زائفان .
أولاً ، لا تقدم اللغة ببساطة نفسها للمحلل ما يجب أن يفسر في علم محدد من قبل العلم ذاته . لقد جرى إدراك هذه المسألة مبكراً في تطور وضعية فيينا . لا تسعى أى نظرية لتفسير كل شئ ، وهكذا ، فإن أي نظرية هي نظرية عن جزء من الكل الذي هـو العالم الذي نواجهه كل يوم . النظرية من ثم ، مؤسسة دائما على تجريد أولى من هذا الكل الذي يحدد أي مظهر من الكل سوف تفسره النظرية ، وأي مظاهر سوف تتجاهلها .
حين تُقَّوم النظرية تجريبيا فيمكن أن تُقَّوم فحسب بالقياس الى المهمة التى وضعتها أصلا لنفسها . وهكذا ، على سبيل المثال ، فقد كشفت نظرية النسبية أن طموح الميكانيكا القديمة كان عظيما للغاية . على أية حال ، لم يغير إستخدام الميكانيكا القديمة من قبل المهندسين من تطبيق نظرية كانت خاطئة . لقد أدت الى إعادة تحديد موضوع الميكانيكا القديمة : إعادة تحديد الحدود التى يمكن أن تبرر ضمنها الميكانيكا القديمة ( وإعادة تقويم مفهومية مرتبطة بالنظريات القديمة ) .
إذا كان لأي نظرية أن تكون لها قيمة تفسيرية ، فينبغى أن يكون ممكنا من ناحية المبدأ ، دحض الدعاوى التي تزعمها هذه النظرية تجريبيا . مثل هذا الدحض يمكن ان يتحقق فقط ضمن حدود النظرية ، ومن ثم لا يمكن أن يكون مطلقا أبدا . على أية حال إذا كان عليها أن تكون ممكنة على الإطلاق ، فإن على النظرية أن تحدد موضوعها بإستقلال عن تفسيراتها . بمعنى آخر إذا كانت النظرية التى جرى التعبير عنها في الإدعاء بأن " كل النساء يعانين نقصا بيولوجيا بالقياس الى الرجال " ، إذا اعتبرت أنها تنطبق فقط على النساء اللاتي يعانين من نقص بيولوجي بالقياس الى رجال معينين ، فليس للنظرية من قيمة مادامت تصبح تحصيل حاصل .
إدراك أن موضوع كل نظرية نموذجى ، بمعنى أن النظرية تحدد موضوعها الخاص ، لا يعنى أن العلوم ليست تجريبية . ما تعنى هو أن العلم أو النظرية المعنية ، حيث لم تؤسس فيها الاجراءات العلمية المتفق عليها ، عليها أن تحدد الشروط التى يمكن في ظلها أن تدحض تجريبيا . وهي تفعل هذا من خلال تحديدها مقدما الموضوع التي تعتبر انها تنطبق عليه ، وهذا التحديد يجب أن يكون مستقلا عن النظرية المعنية موضع البحث .
إذا طبقنا هذه الفكرة على اللغة نستطيع أن نرى أن المدونة التى تواجه بها البنيوية البلومفيلدية عالم اللغة ليست معطاة وإنما أنشئت بواسطة المحلل . المدونة قائمة من تسلسلات الصوت التي جرى اختيارها من شبكة معقدة من السلوك الانساني . بالرغم من أن كل مسلسل مختلف قد نطق في سياق مختلف فسوف يدعي المحلل أن بعض تلك التسلسلات أو أجزاء التسلسلات متطابقة . إنه فقط على أساس تطابق مرات الوقوع المتكرره لنفس الحدث أن منطق الاستقراء يمكن أن يطبق ، ومع ذلك فإنه فقط على أساس تجريد معين ، يمكن للنطق أن يعين ، لأنه قد جرى من قبل إناس مختلفين في أوقات مختلفة لأسباب مختلفة .
وهكذا فإن على عالم اللغة أن يستخدم تعريفاً معيناً للغة ليجرد مدونة النطق من كتلة المواد السلوكية والسيكولوجية المتاحة بشكل كامن .وبالنسبة الى البلومفيلديين اللغة المحددة ضمن إطار علم نفس سلوكي . ومن ثم فلا توجد احالة الى فهم أو نوايا المتحدث المحلي في تحديد المدونة ، ولم تعمل أي احالة الى الأصوات التى ليس لها دلالة لغوية ، محددة ضمنيا في الحدود السلوكية ، مثل النخير ، والسعال ، والعطس ، وهكذا عند تأسيس المدونة ينقى المحلل مظاهر السلوك أو الفكر التي تعتبر غير لغوية ، وهذا يمكن أن يقام به فقط على أساس تحديد اللغة .
حتى المدونة اللغوية التي انتجت هكذا سوف تكون قاصرة لأنها سوف تكون متفسخة : كثير من الكلام سوف يكون غير كامل أو سوف يتضمن أخطاء، أو أجزاء ناقصة ، الى آخره . وهكذا فإنه سيكون على اللغوى أن ينقى المادة مرة ثانية حتى يفصل الكلام الصحيح والكامل عن ذلك المتفسخ . إذا لم يجر هذا التمييز فإن أي تحليل يمكن أن يكون قابلا للدحض مباشرة من قبل المتحدث المحلي منتجا كلاما مستبعدا شكليا من قواعد اللغة . وهكذا فإن التمييز بين اللغة والكلام لا يمكن تفاديه بشكل أو بآخر ، ولم يتفاداه البلومفيلديون في الممارسة العلمية .

إن الموضوع الحاسم هو كيف يمكن تمييز اللغة من الكلام بطريقة تحدد موضوعا بلغة تصنع بها النظرية إدعاءاتها التي لها مضمون واقعي تجريبي .
ليس مستحيلا فقط أن تحدد اللغة بمعزل عن نظرية للغة ، إنه من المستحيل ايضا تحليل اللغة إستقرائيا . هناك مشكلتان كبيرتان مع المنطق الاستقرائي في هذا السياق . أولاً ، يمكن للإستقراء أن يؤسس فقط علاقات منظمة بين العناصر التي يمكن أن تحدد بشكل مستقل . تمثل إنجاز سوسير في إظهار أن عناصر اللغة لا يمكن أن تحدد بشكل مستقل ، لأن النظام هو الذى حدد العناصر .
إذا لم يكن من الممكن تحديد الجزء بشكل مستقل عن الكل ، فلا يمكن اكتشاف الكل إستقرائيا باعتباره العلاقة بين الأجزاء ، وهكذا ، على سبيل المثال ، فإن هوية عنصر صوت معطى في مجالات مختلفة ليس هوية واقعية يمكن تحديدها سمعيا ، إنها هوية وظيفية يمكن أن تحدد فقط بثبات تضادها مع عناصر صوت أخرى . ومن ثم لا يمكن لتحديد العنصر أن يحدد العلاقات ، ولكن لا يمكن تأسيس العلاقات بواسطة الإستقراء إذا لم نكن نعلم مقدما ما الذي يتصل بها .
المشكلة الثانية ، أن المنطق الإستقرائي يشتغل على مدونة محدودة وهذا يعنى أنه لا يمكن أن تؤسس الحدود من قابلية تطبيق علاقة معينة . وهذا يعنى منطقيا أن الإستقراء لا يمكن أن يتأسس من حقيقة أن أ التي تبعتها دائما ب سيحدث في المرة الثانية التي تظهر فيها أ سوف تظهر ب . أهمية هذا في اللسانيات أن المدونة المحتملة غير محدودة ، لأن اللغة خلاقة وليس هناك من حد أعلى لعدد الجمل التي تؤلف اللغة . هكذا يجب أن يكون لدى اللغة الوسائل لتوليد عدد غير محدد من الجمل ، وهذه الوسائل لا يمكن أن تكتشف بواسطة الإستقراء . لقد كان تشومسكي هو من طبق هذا النقد الفلسفي للإستقرائية على اللسانيات البلومفيلدية .
لقد تدرب تشومسكي فى الرياضيات والمنطق الرياضي ، وكذلك اللسانيات ، وهذا جعله على إتصال بتنويعات النزعة الوضعية الأكثر دقة التي تطورت إستجابة لمشاكل النزعة الوضعية الإستقرائية الفظة للبلومفيلديين . أعاد تشومسكي تقديم ، وأعاد تحديد التمييز بين اللغة و الكلام ، مدركا أن موضوع اللسانيات لم يكن معطى وإنما يتعين انشاؤه . لقد رفض ايضا التأكيد على الاستقراء وتبنى النموذج الفرضى الاستنباطي الوضعى الجديد للتفسير العلمي ، الذى يقوم العالم وفقا له بصياغة بعض الفرضيات ، ويستنبط النتائج التجريبية لهذه الفروض ، ويختبر هذه النتائج بالقياس الى البرهان . إن النظرية الملائمة ، بالنسبة لهذا النموذج ، هي التي يمكن أن تولد إستنباطيا تلك التصريحات التجريبية التي تشكل نطاقها فحسب : سوف تولد كافة التصريحات الحقيقية وليس الزائفة .
جادل تشومسكي ، أولاً بأن التعريف البلومفيلدى السلوكي للغة ، الذي ثوى ضمنيا في تعريفه للمدونة ، كان غير مقبول . إن نقد تشومسكي للنزعة السلوكية مدمر وقد كان له نفوذ ضخم في كل من اللسانيات وعلم النفس . وبالنسبة لذى نزعة سلوكية ،كان الكلام بأن " ذلك الثور مجنون " هي استجابة مشروطة على مواجهة مع ثور مجنون ، ولا شئ أكثر من ذلك ، أنها لا تعبر عن " فكرة " ثور مجنون ، وهي لا تمثل تطبيق بعض القواعد اللاواعية للغة . علاقاتها بالمثيرات التي إستدعتها لا تتطلب أية احالة الى واقع " عقلي " .
جادل تشومسكي بأن هذه النظرة للغة هي ، في أفضل الأحوال ، غير متسقة . وهو يجادل أثناء مراجعة لمؤلف سكينر ( 8 ) بأنه ليس هناك من طريقة واضحة خارج المختبر لتحديد المثيرات والإستجابات ، وبصفة خاصة لا يمكن تحديد المثير بإستقلال عن الإستجابة : المثير هو مثير فقط لأنه إستثار إستجابة . ومن ثم فإن ذى النزعة السلوكية " يكتشف " فقط أن مثير الثور المجنون يشتغل بسبب الإستجابة " ذلك الثور مجنون " . واتصالا بذلك فإن معرفة أن هناك ثور مجنون بالقرب لا يمكن أن يقود الى التنبؤ بأن الاستجابة " ذلك الثور مجنون " . ربما كانت الاستجابة تجاهل الثور ، أن تصرخ وتجرى ، أن تخطئ تشخيص وضع االثور الى آخره . تقود هذه الدائرية في قلب النزعة السلوكية حتى الى صعوبات أكبر في محاولاتها لتفسير تعلم اللغة ، لأنه حين يتعلم الطفل لغة فإنه يحوز القدرة ليس فقط على إعادة إنتاج الاستجابات الملائمة على مثير متكرر ، إنه يحوز القدرة على أن يتصرف بطرق جديدة على مواقف جديدة .

إن نقد تشومسكي للنزعة السلوكية قاده الى إعادة تأكيد الزعم العقلي بأن اللغة يمكن أن تفهم فقط كظاهرة ذهنية . هذا يعنى أن موضوع اللسانيات لا يمكن أن يحدد دون الإحالة الى العقل .
ليس فقط موضوع اللسانيات بالنسبة لتشومسكي مدونة من الكلام الذي حدد باعتباره مثيرات سلوكية شفوية وإستجابات . إن موضوع اللسانيات هو الكفاءة اللغوية محددة باعتبارها معرفة المتحدث المحلي للقواعد التي يطبقها أو تطبقها في التحدث باللغة على نحو سليم . هذه القواعد فقط هـي التي يمكن أن تعين جملة معينة بإعتبارها تنتمي الى اللغة ، وهكذا فإن هذه القواعد هي موضوع اللسانيات .
يعطى تشومسكي بواسطة صياغة مفهوم اللغة بهذه الطريقة اللسانيات موضوعا نهائيا ، القواعد التي تولد كلها ووحدها جمل اللغة ، وبدلا من الموضوع اللانهائي الذى يحدد اللغة بالمفهوم الذي تقدمه المدونة . على أية حال ، وكما سنرى ، فإن تحديد تشومسكي للغة يقدم بالفعل تشوشا خطيرا في حقل اللسانيات .
بعد أن حدد الكفاءة اللغوية بإعتبارها مجموعة القواعد النهائية التي يمكن أن تولد مجموعة لا نهائية من جمل اللغة يواصل تشومسكي الجدال بأن هذه القواعد لا يمكن أن تولد من خلال الاستقراء . والأسباب الفلسفية لذلك قد نوقشت قبلا .
لسانيا إن أنواع النحو التي انتجت بواسطة الإستقراء قاصرة ليس فقط بسبب أنها تتجاهل ابداعية اللغة ، ولكن ايضا بسبب أنها بمعنى ما معقدة ، منشأة كل منها بسبب خاص Ad hoc ، ولا تكشف العلاقات التي تتصل بفهمنا الحدسي لنحو اللغة . ومن الأمثلة المفضلة الجملتين " من السهل إسعاد جون " و " جون متشوق للإسعاد " إذا وضعنا في الاعتبار هاتين الجملتين دون الاحالة الى شئ عدا شكليهما نكون قد إنقدنا الى تحريفات متطرفة . نحن نعرف على سبيل المثال ، أننا يمكن أن نعيد صياغة الجملة الأولى على هذا النحو " يمكن إسعاد جون بسهولة " سوف نعرف من ثم أننا يمكن بواسطة التعميم الإستقرائي أن نعيد صياغة الجملة الثانية على هذا النحو " جون يسعد بشوق " لسوء الحظ فإن إعادة الصياغة هذه غيرت معنى الجملة بينما الجملة الأولى تحويل متطابق شكليا لا ( تتغير ) . هكذا يخفق التعميم وينبغى تقديم مواصفات منشأة بسبب خاص Ad hoc حتى يسمح بهذا . يجادل تشومسكي بأنه يمكن أن ينتج نحو أكثر بساطة إذا أدركنا أن هناك إختلافات نحوية أكثر جوهرية بين الجملتين أكثر من أن تكشف بواسطة نحو جرى تطويره إستقرائيا .
وهكذا يجادل تشومسكي بأن النحو يجب أن يؤسس إستنباطيا ، ومهمة اللغوى يجب أن ترى على ضوء النموذج الفرضي – الاستنباطي للتفسير العلمي وليس ( على ضوء ) النموذج البالى للتعميم الاستقرائي . إن نقطة إنطلاق اللسانيات ليست كتلة من المواد التجريبية تنتظر أن تغذى جهاز ( كمبيوتر ) ما ضغ للكلمات ، إنها نظرية للغة تعبر في شكل فوضى، عن تأكيدات عن طبيعة اللغة يمكن منها أن نؤسس إستنباطيا شكل النحو ، الذى يمكننا داخله أن نصيغ نحو لغات معينة .
يأخذ تشومسكي كنقطة إنطلاقه " نظرية اللغة الطبيعية " وهي " التى تزوده بسلسلة من الكليات اللغوية " . هذه الكليات تحدد كلا من المقولات الأساسية والعلاقات الأساسية للوصف اللغوي . قصد بالكليات التنظيمية أن تعين البنية المجردة للمكونات الثانوية للنحو ، وكذلك العلاقات بين هذه المكونات الثانوية .
وتفرض هذه الكليات أن النحو سوف يتألف من مكون تركيبى يولد بنية سطحية بواسطة تطبيق التحولات على بنية عميقة ،ومكون دلالى يقدم تفسيرا للبنية العميقة ، ومكون صوتى ( فونولوجي) الذي يقدم تفسيرا صوتيا للبنية السطحية . تحدد الكليات الشكلية طابع نماذج القواعد في النحو ، مثل على سبيل المثال متطلب أن قواعد صوتية معينة تطبق دائريا . الكليات الجوهرية " تحدد مجموعات العناصر التى ربما تبرز في نحو معين " . (9 )
سوف يسعى اللغوى لإنشاء وصف للغة في حدود العناصر المجردة المحددة بواسطة الكليات الجوهرية موظفا أنواع العلاقات المحددة بواسطة الكليات الشكلية والتنظيمية . إن بناء النحو للغات معينة سوف يؤدى بوضوح الى تعديل نظرية اللغة الطبيعية على ضوء التحليلات الخاصة . إن مهمة اللسانيات بالدرجة الولى هي تطوير وتحسين نظرية اللغة الطبيعية ، والتحليلات الخاصة هي وسائل القيام بذلك .
وكانت مقاربة تشومسكي للغة في غاية الأهمية في الإطاحة بالبنيوية الوضعية السلوكية الأمريكية الفظة لفترة ما بعد الحرب . على أية حال لا ينكر تشومسكي الوضعيـة ، بالرغم من أنه فـي الممارسـة يمدها الـى ما وراء حـدودها . يستبدل تشومسكي وضعيـة قاصرة وقديمة ( وضعية ) أكثر دقة وراهنيـة ، ولكنها ليست نسخة أقل في قصورها . يسعي تشومسكي ، ليس بدرجة أقل من بلومفيلد ، لعزل اللغة كموضوع عن المعنى وعن السياق ولا تقود لسانياته بدرجة أقل من ( لسانيات ) بلومفيلد الى نزعة شكلية اعتباطية تماما ، تزعم أنها تخبرنا عن كل من اللغة والعقل ، ولكنها لا تخبرنا في الحقيقة عن أي منهما . المشكلة في كل حالة هي ذاتها ، إنها مشكلة تبرير الأوصاف اللغوية الشكلية التى أنتجت . وهذه هي المشكلة الأساسية للنزعة الوضعية .
إن إعتراض تشومسكي الأساسى على اللسانيات البلومفيلدية هى أنها لم تستطع أن تبرر أساسها الخاص بالملاحظة ولا التعميمات التى أنتجتها بواسطة الإستقراء . وحل تشومسكي هو أن يتبنى النموذج الفرضى الاستنباطي الأكثر دقه الخاص بالنظريات العلمية الذى طورته وضعية فيينا تحديدا على أساس نفس الاعتراضات على النزعة الإستقرائية .
وكانت بنية نحو تشومسكي على نمط نظريات الوضعيين الجدد تماما ، وبالفعل فإن النحو هو نظرية في اللغة . إن نحوا كليا هو نظرية سوف تولد مع مواصفات مناسبة نحو كل اللغات الخاصة ( وبالفعل نحو كل " لغة " ممكنة ). إن المكون التركيبي داخل النحو هو نظام شكلي خالص يربط سلاسل من الرموز الواحدة بالأخرى ، بينما المكونان الدلالى والصوتى يفسران السلاسل الطرفية التى تولدت بواسطة التركيب . أي تضفي هذه السلاسل من الرموز على واقع الصوت والمعنى . وهكذا تعيد لسانيات تشومسكي إنتاج الفصل الوضعي الراديكالي للشكل عن المحتوى ، للتركيب عن الدلالة .

يحرر تبنى النموذج الفرضي – الإستنباطي لسانيات تشومسكي من قيود النزعة الاستقرائية السلوكية ، ولكنه لا يحل المشكلة الأساسية للتبرير النظرى وبواسطة الملاحظة. هذه المشاكل تخص الوضعية الجديدة ، ولا ( تخص ) ببساطة لسانيات تشومسكي .
لقد واجهت الوضعية الجديدة مشكلتين أساسيتين غير قابلتين للحل . أولاً مادام لا يوجد هناك شئ يسمى تقرير ملاحظة خالصة فقد ثبت أنه من المستحيل تقديم أي تمييز غير إعتباطي بين تقارير النظرية والملاحظة. يجرد كل تقريرملاحظة عناصر من سياق معين ويصنفها تحت مفاهيم عامة : كل تقرير ملاحظة يرتكز على إفتراضات نظرية .
المشكلة ، من ثم ، هي أن الروابط المنطقية لا يمكن أن تأخذنا أبدا خارج اللغة الى عالم من الملاحظات غير المُنَّظرة . فإذا أعطيت النظريات العلمية أي مضمون تجريبي فإن التمايز بين تقارير النظرية وتقارير الملاحظة ينهار. هكذا فليس هناك من طريقة لتقييم النظريات بالقياس الى الواقع الذى حدد بإستقلال عن النظرية . هذا يعنى أن هناك مخاطر عظيمة للدائرية في صياغة أي نظرية علمية .
ثانياُ ، والأكثر أهمية ، إذا كانت نظرية علمية ما هى مفترض شكلي خالص فليست هناك من طريقة لتبرير تبنى نظرية بدلا عن أخرى. انه لسوء الحظ أن أي مجموعة متناهية من تقارير الملاحظة يمكن أن تولد بواسطة عدد لا متناه من نظريات مختلفة ، وهكذا علينا أن نمتلك طريقة ما لتقرير أي نظرية هي الأفضل . وإذا كان من المفترض أن تكون النظريات أنظمة شكلية خالصة فإننا يمكن فقط أن نقيمها في علاقتها الواحدة بالأخرى على أسس شكلية : أفضل نظرية هي تلك التي تكون الأبسط ، الأكثر روعة ، التي لها أقل عدد من البديهيات ، القوة الأكبر ، أو أيا ما كان .
أي نظرية تُُتبني سوف تعتمد على المعايير الشكلية المختارة للتقييم ، وهذا الاختبار هو ، من وجهة نظر علمية ، اعتباطي . سوف يحدد على سبيل المثال ، بواسطة حدود العرض أو تسخير النظرية وليس بواسطة أي اعتبار لكيفية ملاءمة النظرية للعالم . إن عزل النظرية عن عالم الملاحظة يعنى أن النظرية ليس لها نفوذ في الواقع : ليس من المسوغ الإدعاء بأن النظرية يمكن أن تخبرنا بأي شئ عن العالم ما دامت قد أنشئت طبقا لمقاييس شكلية خالصة .
وهكذا فإن مزايا النموذج الفرضي – الاستنباطي بالنسبة للنموذج الاستقرائي هي شكلية خالصة . إنها تدخل نظريات أكثر إمتيازا قـادرة على تجنب الاستعانـة بالانشاء لكل سبب خاص Ad hoc لأن قوتها ليست محددة بقيود النزعة الإستقرائية .
ينتج النموذج الفرضي الاستنباطي في المفاهيم الجوهرية ، على أية حال ، نظريات ليس لها قوة أكبر من تلك التي انتجت بواسطة النموذج الاستقرائي . كلا النموذجيين يحدان المعرفة بمحتوى الملاحظة للنظام موضع المراجعة .
ليست هذه المشاكل ببساطة ذات دلالة فلسفية ، إنها تقوض لسانيات تشومسكي بأجمعها . المشكلة الأولى هي أن مدونة الجمل التي تولد بواسطة النحو لا يمكن أن تحدد بشكل مستقل عن النحو .
لا تسعى اللسانيات بالنسبة الى تشومسكي الى تفسير كل الجمل التي نطقها المتحدثون المحليون ، ولا كل الجمل ذات المعنى التي نطقها السكان المحليون . يُقَّوَم أي نحو بقدرته على توليد هذه الجمل . وعلى أية حال فإن القول بأن جملة ما نحوية هو أن تقول بأنها قد ولدت بالتوافق مع قواعد النحو . من ثم فإن النحو فقط هو الذى يحدد أيا من الجمل هى نحوية .
يجب أن يكون خطر الدائرية واضحاً ، لأنه إذا كان النحو يحدد أي الجمل يمكن عدها نحوية فليست هناك مدونة مستقلة يمكن بها تقييم النحو: أي نحو سيقوم بالمهمة .
يتفادى تشومسكي مثل هذا الاستنتاج المدمر . من خلال تحديد النحوية Grammaticality بشكل شديد المرونة . وهو يلجأ " لحدس المتحدث المحلي " ليحدد أيا من الجمل هى النحوية ، وفي الممارسة فإن " المتحدث المحلي " المعنى هو تشومسكي أو أحد مساعديه .

الإفتراض الضمنى هو أن " حدس المتحدث المحلي " هو التعبير عن بعض المستويات النحوية الكامنة في كفاءة المتحدث المحلي اللغوية . وعلى أية حال فإن أحكام المتحدثين المحليين عن قبول الجمل ، وخاصة عن التمييز بين الجمل غير المقبولة دلاليا ، وتركيبيا ، سـوف يعبر ليس فقط عن " كفاءتهم " انما ايضا عن نظريات النحو التى تعلموها في الماضي . وهكذا فإن مقياس تشومسكي يتجنب الدائرية على حساب تقييم نظرية واحدة للنحو بلغة إتفاقها مع أخرى . لا يجب أن يثير الدهشة أن تتكشف الأخيرة عن كونها شبيهة للغاية بكتاب مدرسي توجيهي ، حتى أن ثورة تشومسكي اللغوية تنتج بالفعل بعض النتائج غاية في التقليدية أو مجاراة العرف .
إن تحديد المدونة مشكلة في غاية الخطورة وهي كذلك بصفة خاصة إذا كانت اللسانيات تحاول أن تذهب ماوراء تفسير مدونة الجمل النحوية الى تفسير اللغة كما تستخدم في الحديث اليومي . وحتى الأشد خطورة ، على أية حال ، مشكلة تبرير النظرية اللغوية التي تولد هذه المدونة . هذه هي المشكلة الكبرى الثانية التي واجهتها الوضعية الجديدة مادامت نظرية اللغة والنحو التي تنتجها شكلية خالصة ، فإن مقاييس شكلية فقط يمكن أن تستخدم لتسوغ تقويم النظريات البديلة . وتصبح المشكلة إذن خاصة بتبرير المعاييرالخاصة للتقييم التي جرى تبنيها .
تعين نظرية اللغة في حالة تشومسكي كليات اللغة التنظيمية والشكلية والجوهرية التى تحدد مقدما طابع أي نحو خاص . وتختلف التفاصيل في طبعات مختلفة من النظرية ، ولكن تخبرنا نظرية تشومسكي بصفة أساسية أن نحو أي لغة طبيعية يمكن أن يكتب في الشكل الذى تمليه نظريتة للغة – كمكونات ثلاثة ، مع قاعدة وتحولات ، مستخدما عناصر مثل الأسماء ، والأفعال ، والجمل الى آخره ، التي أسست بشكل مستقل عن العلاقات بين هذه المقولات في أي لغة بعينها ، ولكن التي إفترضت بإعتبارها كليات . ويمكن على أساس هذه النظرية للغة لعالم اللغة أن ينشئ وصفا للغة بلغة هذه العناصر المجردة موظفا أنواع العلاقات الموصوفة في الكليات الشكلية والتنظيمية .

وبالرغم من بعض أنواع اللبس، يبدو واضحا بما فيه الكفاية أن تشومسكي لا يعتبر نحوه يقدم ببساطة وصفا واحدا للغة من بين عدد لا متناه من الأوصاف الممكنة . فمن المفترض أن يقدم النحو نموذجا لكفاءة المتحدث ، هذه الكفاءة هي " معرفة " المتحدث الضمنية باللغة ، هذه المعرفة التي جـرى تعلمها وتقدم الجهاز الذهني الأساسـي الـذى يمكن المتحدث مـن الأداء ( اللغوي ) . ومن ثم فإن تشومسكي يتبع سوسير في النظر الى موضوع اللسانيات كنظام علاقاته المكونة " إرتباطات سيكولوجية ومنطقية " وهدف اللسانيات هو أن تصف كيف يعمل العقل حين يتعلم أن يتحدث وحين يتحدث .
تضرب مشاكل التبرير نحو تشومسكي على مستويين . أولاً إذا قبلنا نحو تشومسكي الكلى ، فهناك مشكلة تأسيس وصف فريد لأى لغة بعينها . ثانياً ، فهناك مشكلة تبريرمصادرات النحو الكلى . المشكلة الأولى هي ذاتها خطيرة . لقد أسس ذلك من أجل أي لغة طبيعية قابلة للتصور وقابلة للسرد المتكرر .
" هناك طبعة من نظرية النحو التحويلى توجد فيها قاعدة ثابته للنحو التي سوف تخدم بإعتبارها القاعدة المكونة للنحو الخاص بأي لغة طبيعية " ( 10 )
هذا ينطبق على أي ق نختارها . بمعنى آخر فإن ضعف الضوابط على المكون التحويلى هو على هذا النحو ، لأن قوة زائدة قد أعطيت لقواعد التحويل ، يمكن لأي لغة أن تمثل في شكل تحويلي على أساس أي قاعدة نحو أيا ما كانت . هذا يعنى أنه إذا كتبنا اعتباطيا نحوا للقاعدة ، فإننا يمكن عندئذ أن نحول هذه القاعدة الى أية لغة نختارها ، حتى الى واحدة مخترعة وذلك بتطبيق تحويلات كافية .فالانجليزية البسيطة ، على سبيل المثال ، يمكن أن تتحول الى صينية بتطبيق قواعد تحويلات كافية . من ثم فإن هناك عددا لا متناهيا من أنواع النحو التى سوف يرضى نظرية تشومسكي عن اللغة بالنسبة لأى لغة معينة بينما لا توجد هناك لغة قابلة للتصور لا يمكن أن تمثل في شكل تحويلي . من ثم فليست هناك طريقة لمعرفة أي من كل النحو المحتمل هو الصحيح بالنسبة الى لغة معينة ، هذا من جانب ،كما أنه ليست هناك لغة قابلة للتصور يمكن أن تدحض نظرية اللغة ، من جانب آخر .

يلتف تشومسكي حول هذه الحقيقة غير الملائمة بتأسيس قاعدة تقويم تقرر أي نحـو هو الملائم . وتخبرنا قاعدة التقويم بأن نختار هذا النحو الذي يكون غاية في البساطة على حين أنه يفسر كل الوقائع _ تعرف البساطة باعتبارها معيارا " لدرجة " التعميم الدلالى اللغوى الذى تحقق بواسطة النحو .
يؤسس تشومسكي من ثم نحوا فريدا للغة بتطبيق مجموعتين من المعايير . من ناحية يجب أن يتوافق النحو مع نظريته في اللغة – يجب أن يكتب في شكل تحويلي ، مع الأسماء والأفعال الى آخره .من ناحية أخرى يجب أن يكون هذا النحو الأبسط . لتبرير نحو معين ، من ثم ، فإنه من الضرورى تبرير نظرية اللغة ومعيار البساطة ، الذي يأخذنا الى المستوى الثاني للتبرير ، " مستوى " النظرية ذاتها .
ومادامت النظرية العامة ومعيار البساطة هما المقياسان اللذان بواسطتهما يؤسس نحو معين ، فهما لا يمكن أن يشتقا من دراسة لغات معينة . وهكذا عدنا بمشكلة تبرير نقطة الإنطلاق القبلية Apriori . هنا مرة أخرى يجادل تشومسكي بأن نظريته في اللغة ملائمة لأنها بمعنى ما هـي الأبسط . وهكذا فإن تقييم نظريات اللغة ، وكذلك تقييم نحـو معين ، يتعلق كليا بمعيار البساطة .
ومعيارالبساطة هذا ليس شكليا خالصا ولا هو غير مشوش . فمن جانب ، فى مصطلحات شكلية خالصة ، نادرا ما يكون الحال أن نظرية ما تكون أبسط من ناحية التشوش من ( نظرية ) أخرى . على سبيل المثال ، ربما تقدم نظرية ما وصفا أبسط للمدونة أكثر من أخرى ، بينما تتضمن آلية أكثر تعقيدا بما لا يقاس لإنتاج وفهم الجمل.
ربما كان لدى واحدة عددا كبيرا من القواعد البسيطة ، وأخرى بعض القواعد المعقدة . وهكذا فليس من الممكن إستخدام معيار شكلي خالص لتقييم النظرية .
ليست البساطة شيئا كامنا في النظرية ، إنها تعتمد على الأغراض التي صممت النظرية من أجل أن تخدمها . بكلمات أخرى لا يمكن لأحد أن يؤسس كفاءة نظرية دون أن يسأل لأى شئ يفترض في النظرية أن تكون ذات كفاءة . إن نظرية يفترض أنها تقدم وسيلة اقتصادية لتمثيل نحو اللغة في كتاب سوف تكون خاضعة لمعايير مختلفة عن تلك التى طبقت على نظرية يفترض أنها تمكن طرازا ما من الكمبيوتر أن يعيد إنتاج الجمل النحوية للغة ما ، وهذه سوف تكون مختلفة بدورها عن المعايير التي تطبق على نظرية من المفترض أن تقدم تقييما لإستعمال اللغة بواسطة المتحدثين المحليين أو ( معيارا ) من المفترض اعتباره في تعلم لغة من قبل طفل .
هذه المشكلة الخاصة بغياب أي معاييرغير إعتباطية وغير مشوشة لتقييم النحو البديل أو النظريات البديلة للغة تنشأ بسبب مفهوم شكلي خالص لنظرية مرتبطة بالفصل الوضعي للغة عن سياقها . المشكلة هي أن تشومسكي ، ليس بدرجة أقل من البلومفيلديين ، يختزل اللغة الى مجموعة من الجمل النحوية . على أى حال فإن مجموعة من الجمل النحوية منفصلة عن السياق الذي تقوم فيه بوظيفة لغوية ، لا تتضمن لغة . إذا تجردنا عن معنى هذه الجمل وإذا تجردنا عن وظيفتها ضمن التفاعل الإنساني في إيصال المعنى فإننا سنكون غير قادرين ايضا على صنع أي تمييزات دالة بين سلاسل الرموز التي لا معنى لها والاستخدام ذو المعنى للغة من أفراد البشر .
يدرك تشومسكي أن معيار البساطة لا يخلو من تشوش لأن قاعدة تقييمة ليست شكلية خالصة ، ولكنها تحيـل مرة أخرى الى " حـدس المتحدث المحلي " في إحالتها الى تعميم " دال لغويا " ، وهكذا فإن أفضل نظرية للغة عند تشومسكي هى التي تتفق بدرجة أوثق مع حدس المتحدث المحلي للنحوية . وعلى أية حال لا توجد أي طريقة موضوعية ومطلقة لتقرير ما هو التعميم الدال لغويا ، لأن هذا سوف يعتمد على مفهوم المتحدث المحلي ، أو على مفهوم عالم اللغة عن ما هي اللغة . لذلك فإن ما تفعله نظرية تشومسكي باللغة هو أنها تصوغ مايظن تشومسكي أنه موضوع اللغة .
وحين نصل اليه فإن مفهوم تشومسكي عن اللغة هو في غاية الخصوصية . يعتبر تشومسكي اللغة كنموذج ميكانيكي يشتق الجمل بواسطـة التطبيق الآلي للقواعد . شكـل اللغة ، وقواعد اللغة ، وتوليد الجمل كلها محددة دون أي إحالة الى السياق الذي جرى فيـه تعلم واستخدام اللغة ، ومن ثم بدون أية إحالة الى نية الإتصال التي ، بالنسبة لأغلب الناس ، تعطي اللغـة دلالتها .
الطريقة التى يعرض بها تشومسكي مشاكل اللسانيات تجرى بمفاهيم لغة المشاكل التعدادية المتضمنة في تعلم اللغة حين تواجه بمعلومات متفسخة من الرموز غير المعروف معناها . وهو يجادل بأن نوع المنطق الإستقرائي الذي عرضه البلومفيلديون سوف لا يتيح للكمبيوترأن يتعلم اللغة لأنه سوف يؤدى الى اخطاء واضحة ، تماثلها أخطاء آلات الترجمة الأولى . وهكذا فينبغي برمجة الكمبيوتر بنظرية عن اللغة يمكن أن يستخدمها عندئذ لتأسيس نحو لغة معينة قدمت له .
من أجل أن نؤسس أي نوع من البرامج ( نظرية للغة ) قد يمكن الكمبيوتر من أن يقوم بهذا على نحو مرض يستلهم تشومسكي أكثر الإنجازات حداثة في المنطق الرياضي ، الذي كان ، حتى قدوم الكمبيوتر الهم التأملي للمناطقة الفلسفيين .
إن التقدم في المنطق الرياضي موضع البحث قد حدث بسبب الإهتمام الوضعي لتطوير لغة شكلية خالصة وموحدة يمكن بها للعلوم الطبيعية أن تعبر عن نتائجها دون أن تكون خاضعة للتشويهات ، والتشوهات ولسوء الفهم الذي ينشأ بسبب إستخدام اللغات الطبيعية . كانت هذه الخطة في قلب المشروع الوضعي الجديد لتنقية لغة العلم وللقضاء على كل آثار الميتافيزيقا التي حدث أن تطابقت مع إساءة إستخدام اللغة . واجه هذا المشروع مجموعتين مختلفتين مـن المشاكل ، إحداهما مشكلة إنشاء اللغات الشكلية ، والأخرى مشكلة ترجمة اللغات الطبيعية الى لغات شكلية دون فقدان المعنى .
بتبنى المنطق الرياضي باعتباره الوسيلة لفهم اللغات الطبيعية كان تشومسكي بصفة أساسية ينفذ المشروع الوضعي الجديد بشكل عكسي . كانت المشكلة التي وضعها لنفسه هي أن يولد منطقيا الجمل النحوية للغة طبيعية ، بينما وضعت الوضعية الجديدة لنفسها مشكلة ترجمة اللغات الطبيعية الى نظام شكلي لمنطق إصطناعي . المنطق الرياضي الذي تطور بواسطة الأخيرة قدم وسائل تحقيق هذه الترجمة . وهكذا إستخدم تشومسكي نفس المنطق لتحقيق النتيجة العكسية . لينتج أداة منطقية ( نحوا ونظرية للغة ) لتوليد الجمل النحوية للغة الطبيعية .
لا تشتق نظرية تشومسكي عن اللغة ، من ثم ، من بحث لسؤال كيف نفهم كيف يتعلم ويستخدم الناس في مجرى تعلمهم الإجتماعي لغتهم . إنها تشتق من مشكلة صياغة القواعد التي تحكم توليد سلاسل الرموز اللغوية ، وهي مشكلة تنشأ على نطاق واسع بسبب المفهوم الوضعي الفقير للغة الذي يخدم كنقطة إنطلاق لكل من لسانيات تشومسكي وللمنطق الرياضي الذي يطبقه على حل مشكلته . إن لسانيات تشومسكي أخطأت في الحكم مثلها في ذلك مثل المشروع الفلسفي الذي قامت عليه .
لقد كان للسانيات تشومسكي أثر جاوز كثيرا الحلقة الضيقة من نظريي اللغة . وبالرغم من أن قلة من البنيويين خارج حقل اللسانيات قد إستلهمت مباشرة تشومسكي ، يبدو أن عمله يقدم إثباتا دراميا لقوة المنهج البنيوي ، وللإمكانات التي يفتحها لإمتلاك معرفة بالأسس الذهنية لقدرتنا اللغوية ومن ثم بانسانيتنا . إنه من ثم لفي غاية الأهمية أن نظهر بوضوح الأساس الذي ينتهي إليه تشومسكي في نتائجه النظرية .
إن عمل تشومسكي له أهمية كبيرة داخل حقل اللسانيات في كل من إقصاء النزعة الوضعية البلومفيلدية الساذجة السابقة ، وفي جذب إنتباه علماء اللغة لكثير من الخصائص الشكلية للغة الطبيعية الصارخة التي لم تلاحظ قبلا . وأيا ما كان مصير نظرية تشومسكي فسوف تبقى هذه الإسهامات .
وفيما ماوراء اللسانيات ، على أية حال ، فإن النظرية هي المهمة وهكذا ، بالنسبة لنا ، مشكلة الطابع الإعتباطي لكل من نظرية اللغة والنحو المشتق منهما أساسيان في إعتبار دروس تشومسكي اللسانية .
يكمن ضعف لسانيات تشومسكي تحديدا فى تلك الجوانب التي تؤخذ بواسطة البنيويين لتصبح المساهمة الأساسية لتشومسكي . يبدو أن تشومسكي يقدم مقاربة موضوعية خالصة ، وعلمية للغة ، التجسيد الأعلى للثقافة الإنسانية ، الذي يمكن أن تعامل فيها اللغة باعتبارها موضوعا خاملا يمكن ضمنه للبني الموضوعية أن تكشف ، والتي يمكن أن نجد خلفها قدرات ذهنية لاواعية .
على أية حال هذا النموذج للغة ليس مشتقا من إعتبار اللغة على الإطلاق . إنه مشتق من إجراء منهجي يفصل الجمل التي هي المادة الخام للغة عن أي سياق متصل بالموضوع لسانيا من أجل أن يؤسس مدونة " موضوعية " غير قابلة للمسائلة . هذا الاجراء الذي أملته الفلسفة الوضعية – الجديدة يثوى خلف لسانيات تشومسكي ، وليس بواسطة أي إعتبار للغة ، يفصل إعتبار الخصائص الشكلية لتتابعات الصوت التي تصنع جمل اللغة عن أي اعتبار للشروط التي أنتجت في ظلها مثل هذه التتابعات الشكلية الصوتية أو فسرت ، وكذلك عن الشروط التي تشتغل في ظلها كجزء من اللغة . بمعنى آخر فإن القرار المنهجي الذي إتخذ بوضوح في صالح تطور لسانيات علمية يحقق في الحقيقة فصلا كاملا لشكل اللغة عن مضمونها وهكذا فإن النتائج المحققة هي بالمقابل شكلية محضة ، عارية من أى دلالة لسانية . النتيجة " علمية " وفقا للكاريكاتير الوضعي للعلم ، لكنها ليست اللسانيات ، إذا كان هدف اللسانيات تحقيق معرفة باللغة .
تشومسكي قادر على معاملة اللغة بإعتبارها موضوعا خاملا ، ومن ثم يختزل اللغة الى بنية شكلية ، بسبب قرار منهجي كان ثمنه إهمال كل شئ يحدث ضوضاء داخل اللغة . لسانيا النحو الذي إختير ونظرية اللغة المقترحة لا بد وأن يكونا اعتباطيين.
أصبح الطابع الاعتباطي لنظرية تشومسكي عن اللغة واضحا بشكل متزايد في حقل اللسانيات في العقد الماضي . لقد أصبح واضحا على الفور ، وغالبا لتشومسكي قبل أي أحد آخر ، أن النموذج الذي طوره تشومسكي لم يستطع أن يعالج اللغات الطبيعية ببساطة كما كان مأمولا . حالما جرى تعديل النموذج وبات أكثر تعقيدا من أجل التعامل مع ( الحالات ) الشاذة ، بمعنى آخر بمجرد أن تواجه النموذج على نحو أكثر قربا مع اللغات الطبيعية القائمة أصبحت حقيقة أن المقاييس التي يمكن أن تقيم بها النظريات البديلة كانت لسانيا اعتباطية بشكل متزايد أكثر وضوحا . لم يكن فقط النحو التحويلي لتشومسكي الذي تزايد تعقيدة ، وإنما النحو غير التحويلي كان قد تطور أيضا وكان ذا قوة كافية لمعالجة اللغات الطبيعية .

أصبحت النتيجة تكاثر نظريات اللغة في إثر تشومسكي : نحو الحالة ، النحو العلائقي ، علم الدلالة التوكيدى ، نحو مونتاج ، النحو التطبيقي ، النحو النسقي ، النحو المراتبى إلى آخره . الذي لا يمكن الحكم على اى منها على أسس لسانية وهى جميعا متساوية منطقيا بمعنى أن كل منها يحاول انتاج آلية يمكن أن تعيد إنتاج الجمل النحوية وانصار كل منهما يدعى أن نموذجه هو الأبسط ، الأكثر حدسية أو الأكثر " طبيعية " .
هذا التكاثر للنظريات الوضعية الجديدة للغة على مدار العقد الماضي قد قاد كثيرا من الناس أكثر فأكثر الى مساءلة لا هذا الشكل أو ذاك للنظرية وإنما المقاربة الموضوعية للغة جميعها . إذا كانت الوضعية تؤدى لنظريات في اللغة شكلية خالصة وإعتباطية تماما فإننا نعود الى مسألة طبيعة ووظائف اللغة والى رفض العزل الوضعي للغة عن سياقها .
وإذا كان يحكم على النظريات وفق " طبيعتها " فيكون هذا فقط ذا علاقة بمفهوم خاص عن طبيعة اللغة . لا يمكن أن نفصل بحث هذه المسألة عن إعتبار لنوايا هؤلاء الذين تشتغل لهم الضوضاء بإعتبارها لغة . وقد أدى هذا الى إهتمام متزايد بالمقاربة الظاهرياتية للسانيات ، وخاصة مع عمل حلقة براغ ورومان ياكوبسون التي ضفرت مابين عناصر من كلا المقاربتين الظاهرياتية والوضعية مستخدمين الظاهرياتية من أجل إلهامها النظرى ، ولكن مع رفض المنهج الظاهرياتي . بحث لسانيات براغ مهم بصفة خاصة لأغراضنا لأن رومان ياكوبسون كان أول من علم منه ليفي شتراوس عن البنيوية .
4 – الشكـل والـوظيفـة : حلقة براغ اللسانيـة :
ترتبط لسانيات تشومسكي بقوة بالجانب الوضعي من مقاربة سوسير للغة التى وفقا لها تشتق خصائص اللغة من بني ذهنية لا واعية مفروضة على مادة الصوت والفكر . لقد جادلت في الأقسام السابقة بأن هذه المقاربة للغة غير مقبولة لأن البني التي كشفت اعتباطية : ليس هناك من طريقة يمكن بها تمييز العلاقات البنيوية الدالة لغويا من العلاقات الطارئة المفروضة بواسطة المحلل .
أي نظرية لسانية ، حتى ( نظرية ) يطرحها وضعي ما ، تعبر عن أفكار معينة عن طبيعة اللغة ، ومن ثم ترتكز على فهم لما هو متضمن في التحدث وفي فهم لغة . بمعنى آخر إنها ليست في الحقيقة الحالة أن عالم اللغة يستطيع أن يعامل اللغة كموضوع خامل ، كمجموعة من الجمل منفصلة عن سياق الاستعمال لأن عالم اللغة يستطيع فقط أن يصيغ نظرية للغة بالتوافق مع أفكار معينة عن طبيعة اللغة .
وإذا ما ظهرت الأطروحة للعيان فإن الطابع الإصطناعي ، والمضاد للحدس لفكرة تشومسكي عن اللغة يصبح واضحا . وحين نبحث طبيعة اللغة لا نستطيع أن نتجنب إعتبارها وسيلـة للإتصال ، وهذا يؤدى الى مقاربة مختلفة تماما للغة تحاول أن تكتشف نظام اللغة بربطة بوظائف اللغة كوسيلة للإتصال . وهذه هى المقاربة التي طورت من قبل حلقة براغ اللسانية .
لقد استمدت حلقة براغ الهامها من عدد من المصادر ، وظهرت ، جزئيا من الإهتمام باللغة عند الشكليين الروس ، الذي مثل لهم رومان ياكوبسسون رائدا نظريا . وإستمدت من سوسير إهتماما بالطابع النقى للغة وبالآليات التي حققت بها اللغة غاياتها التعبيرية والإتصالية ، لكنها رفضت بقايا النزعة الشكلية عند سوسير التي يمكن للحدس وفقا لها أن يكشف هذه الآليات . وإستمدت من الوضعية الجديدة التزاما بالتحليل العلمي لهذه الآليات ، في رد فعل حاد على كل أشكال الرومانسية وغذى هذا إهتماماً بالبنية بإعتبارها مصدر المعنى المحايث في الموضوع ، حتى أنها لم تعتبر العلاقة بين الذات خالقة المعنى واللغة كموضوع مجرد ، وإنما بالأحرى العلاقات ضمن اللغة التي جعلت من الممكن للغة أن تعطى المعنى وجودا بين ذوات. على أية حال فإن أكثر المصادر أهمية لمدرسة براغ ربما كانت تلك التي تخص ظاهرياتية إدموند هوسرل .
إستقى الشكليين الروس من هوسرل وحلقة براغ مُثُلهم ، معارضتهم للنزعة السيكولوجية والنزعة الطبيعية ، ولون هذا رد فعلهم على سوسير .
عند حلقة براغ على اللغة أن تعامل كواقع مستقل ذاتياً ، وليس كظاهرة سيكولوجية ، وهكذا فإن خصائص اللغة لا يمكن أن تفسر ببساطة بإعتبارها فرضا لشكل سيكولوجي على مادة صوتية أو مفهومية . اللغة موضوع قصدي تعد بنيته تعبيرا عن وظيفتها كأداة للإتصال الإنساني . وعلى اللسانيات من ثم أن تكون نظاماً غائيا يبحث عن بنية اللغة ليس من خلال علم نفس إستبطاني ، كما استمر سوسير في الإعتقاد ، ولا من خلال البحث عن إرتباطات شكلية خالصة ، كما فكر تشومسكي فيما بعد ، وإنما بربط الشكل اللغوي بالوظيفة اللغوية .
لم تأخذ حلقة براغ هذه المقاربة الظاهرياتية للغة الى مداها . لم تعتقد بصفة خاصة أن المناهج الظاهرياتية وحدها يمكن أن تقدم أساسا متينا للسانيات . وهكذا فإن الإحالة الى قصدية مستخدمي اللغة سوف تقدم الوسيلة لإكتشاف العلاقات البنيوية للغة ولكشف الدلالة اللغوية لهذه العلاقات ، ولكن مناهج النزعة الوضعية يمكن أن تظل مستخدمة للتحقق من ( أو دحض ) الفروض الناتجة . وهكذا ضفرت حلقة براغ بصرامة ما بين مقاربة غائية نظرية مع منهجية " علمية ".
يجب أن يلاحظ أن الملاحظة والتجربة لها فقط دور محدود في قانون براغ الضابط . يمكن للملاحظة أن تخبرنا عما إذا كانت توجد العلاقات المفترضة أم لا ، ولكنها لا يمكن أن تخبرنا عما إذا كان للعلاقات الملاحظة دلالة لغوية أم لا إلا إذا أحلنا الى الوظيفة اللغوية للعلاقة ومن ثم الى النية التى يخدمها التمفصل .
والإصرار على الطابع الغائي للسانيات ذو أهمية أساسية للسانيات براغ وهذا هو ما يميزها عن النزعة الوضعية التي سادت مدارس اللسانيات الأخرى في هذا القرن .لقد عوملت اللغة بالنسبة لحلقة براغ للسانيات كأداة ، وليس كموضوع ، وهكذا فإن المقاربة الوضعية للغة التي يميزها زمن الملاحظة والتجربة هي فقط مؤقته ، نتاج لقرار منهجي وليس أنطولوجيا . وتعنى غائية لسانيات براغ أن اللغة لا يمكن أن تفهم بدون إحالة الى الذوات الانسانية التي تتواصل بواسطة اللغة ومن ثم فإن الخصائص الثابته للغة لا يمكن أن تحلل دون إحالة الى المعنى .
أضف الى ذلك أنه تتضمن أن الإستقلال الذاتي للسانيات هـو أيضا فقط إستقلال ذاتي مؤقت ، لأن اللغة ما هي إلا مظهر واحد للوجود الإنساني الإجتماعي والثقافي ولا يمكن أن تحلل بمعزل عن ذلك الوجود . والنتيجة هي أن اللغة ترى بإعتبارها نظاما واحدا فقط ضمن " نظام الأنظمة " الذي ينظر الى نفس الواقع من وجهات نظر مختلفة . إنه من المستحيل إذن إشتقاق إستنتاجات سيكولوجية من حقائق لغوية ، مادامت اللسانيات وعلم النفس ينظران الى اللغة من وجهتى نظر مختلفتين . وأخيرا فهي تتضمن أن اللغة واقع معقد للغاية يمكن أن يدرس من عدد من وجهات النظر اللغوية المختلفة تتوافق مع الوظائف المختلفة التي يمكن أن تخدمها اللغة ، وهكذا فإن النموذج السوسيرى الصخرى الثابت للبنية اللغوية قد هدم . لقد أصر ياكوبسون مؤخرا على أن تنوع اللغة هو :
" الهدف الأساسي للفكر اللساني العالمي في محاولته لتجاوز النموذج السوسيرى للغة كنظام موحد ثابت لقواعد إلزامية ولإبدال هذا المفترض شديد التبسيط والإصطناعي بوجهة نظر ديناميكية لشفرة Code متنوعة قابلة للتحويل مع إعتبار وظائف اللغة المختلفة . ما دام هذا المفهوم يجد كفايته مرة بعد أخرى ، يجب أن نكرر أن أي إختزال تجريبي لواقع اللغة يمكن أن يؤدى الى إستنتاجات علمية قيمة ما دمنا لا نأخذ عمدا أطرا ضيقة للتجربـة للواقع اللغوي غـير المقيد " ( 11 )
وبالنسبة للسانيات براغ فإن مظاهر اللغة التي تعني اللغوي هي تلك المظاهر التي تتصل بوظائف اللغة . اللغة من ثم هي مجموعة من القواعد الاجتماعية المطورة تكيفت مع مجموعة من الوظائف .وهذه الوظائف هي التي تزود اللسانيات بالقبلى Apriori الذي على أساسه يمكن أن تنشأ أنظمتها . ولا تشتق الوظائف من خصائص العقل ، ولكن من الحاجة الى الاتصال ، التي تعتمد هي نفسها على السياق الإجتماعي .
وتفسر اللغة نظريا بإظهار كيف أنها وسيلة إتصال كُيفت مع وظائفها ، خاضعة لقيود الفسيولوجيا ( على سبيل المثال القوة التمييزية للسمع ) ولعلم النفس ( على سبيل المثال قدرة الذاكرة ) وعلم الإجتماع (على سبيل المثال قنوات الاتصال ، ومدى المعلومات المشارك فيها ، وتوجيه الاتصال ) . اللغة من ثم ، ليست موضوعا خاملا ، وإنما هى نظام غائى، وأن غائيتها هي غائية إجتماعية .
تحدث المقاربة الوظيفية للغة ، التى يرتادها في تحليل براغ للوظيفة المتميزة للصوت قطيعة مع وضعية سوسير في رؤية اللغة كأداة وليس كموضوع . ويؤسس مفهوم الوظيفة كلا من الاستقلال الذاتي للنظام ويربطه بالمحيط الذي يعمل فيه . يجعل مفهوم الوظيفة من الممكن تحديد النظام بتقديم المبدأ الذي أنشئ النظام وفقا له . وبهذه الطريقة تجعل من الممكن أن نحدد تزامنيا عناصر النظام ، العناصر المحددة في العلاقة بدورها الوظيفي في النظام ، وتحديد العلاقات النظامية بين هـذه العناصر .
إنه فقط مفهوم الوظيفة الذي يجعل من الممكن تمييز العلاقات المتصلـة لسانيا ، وغير المتصلة ، وكذلك بين السمات المتصلة لسانيا وغير المتصلة لعناصر النظام . إن مونين عديم الحس على نحو مميز في إصراره على مركزية مفهوم الوظيفة في اللسانيات البنيوية :
" هناك بنية لأن هناك إختيارا في ترتيب الوحدات . فما هو معيار هذا الإختيار ؟ إنـه الوظيفة ، تلك فكرة أساسية للسانيات البنيوية . وفي كل مرة يشير أحد الى البنيوية في العلوم الانسانية دون أن يشير في نفس الوقت الى الوظيفة ، بينما يزعم أنه يستخدم نماذج مقدمة من التحليل البنيوي ، هناك سبب للإعتقاد بأننا نتعامل مع ثرثرة خالصة أو حتى ببغائية خاوية تماما " ( 12 )
إن تدخل مفهوم الوظيفة يتضمن قطيعة واضحة مع النزعة السيكولوجية التي كانت مازالت مميزة لعمل سوسير . كان تروبتسكوى حاسما بالـرغم من التلميحات الباكرة للنزعة السيكولوجية :
" يجب تجنب الالتجاء الى علم النفس في تحديد الفونيم (الصوت المنطوق) مادام الفونيم مفهوما لسانيا وليس سيكولوجيا أي إحالة الى " الوعي اللغوى " يجب أن يتجاهل في تحديد الفونيم " . ( 13 )
في جعل الأساس الوظيفي للغة واضحا نقي لغويو براغ اللسانيات من أي تفسير للغة بمفهوم الواقع النفسي ، فرديا أو جماعيا واعيا أو لا واعيا . فالعلاقات التي تحتوى النظام موضوع البحث وظيفية بشكل جلى وليست علاقات سيكولوجية . يجب أن يترك التقصى عن التضمينات السيكولوجية لمكتشفات اللسانيات لعلم النفس ، ولكن ليس هناك تضمين ضروري بأن النظام المحدد بواسطة الوظيفة له أي واقع نفسى .
في القطيعة مع الوضعية السوسيرية قطع لغويو براغ ايضا مع المعارضة السوسيرية الفظة بين اللغة والكلام ، من جانب ، وبين التزامنى والتعاقبى ، من جانب آخر ، بينما للتمييز السابق ، قيمة منهجية فإنه ينهض حاجزا إذا رفع الى مستوى أنطولوجي .
ولقد تطورت المعارضة لفظاظة التقسيم لغة / كلام حتى قبل نشوء حلقة براغ للسانيات في أعمال الشكليين الروس .فالشكليون الروس نظروا الى الكلام Speech ليس ببساطة باعتباره تحقيقا للغة ، وإنما بالأحرى باعتباره الفعل الخلاق الذي أتى باللغة الى الحياة ، الذي يمكن أن تخلق فيه اللغة بكسر القواعد وكذلك أيضا بتطبيقها ، وفي أشكال شعرية من الخطاب ظلت هذه الوسائل الخاصة بالإستغلال الكامل لمصادر اللغة شائعة .
ويؤدى هذا على نحو طبيعي الى فكرة أن الكلام إبتكارى دوما ، والى ديالكتيك يميل فيه كل فعل كلام الى توسيع مصادر اللغة وفي توسيعها يغيرها . وترى اللغة من ثم كمجموعة من الإصطلاحات اللسانية ( أو المواصفات الاجتماعية ) التى جرى إستغلالها أكثر من تطبيقها ، وإستغلالها لا يثوى خلف دوام المقولات اللسانية والأشكال ، وإنما بالأحرى التغيرات اللغوية . وهكذا فإن المفهوم المنقح للعلاقة بين اللغة و الكلام أو " الشفرة " و " الخطاب " ، أدى بشكل طبيعي الى تغير مفهوم العلاقة بين التزامنى والتعاقبي .
وكان ياكوبسون شديد الإهتمام في كثير من دراساته بالعلاقة بين الشفرة و الخطاب ، ليس فقط في جماليات الشعر ولكن أيضا ، على سبيل المثال ، في تحليله " المتغيرات " (Shifters ) التي تدمج الشفرة و الخطاب .وقد أشار في زمن أحدث الى : الوحدة الديالكتيكية غير القابلة للفهم بين اللغة /والكلام في شجب الفصل بين الاثنين ، مستنتجا أنه ، دون مواجهة الشفرة بالخطابات لا يمكن أن يتحقق نفاذ بصيرة الى القوى الابداعية للغة . ( 14 )

" كان ياكوبسون أشد توكيدا على الحاجة الى وصل التزامني والتعاقبي . وكانت أطروحاته عام 1928 غير مشوشة :
" قابلت المعارضة بين التحليلين التزامنى والتعاقبي فكرة النظام بفكرة التطور . لقد فقدت أهميتها الأساسية الآن حتى أننا ندرك أن كل نظام هو بالضرورة حاضر بالنسبة لنا كتطور ، وأن كل تطور بشكل محتوم ذو طابع نظامي "( 15 )
إن هجر وجهة النظر الوضعية للغة لمفهوم أكثر ديالكتيكية ينظر الى النزعة الموضوعية كلحظة محتواه منهجيا لسيرورة علمية توفق بين العناصر الذاتية والموضوعية تجعل من الممكن تطور وجهة نظر عن اللغة يمكن أن تتجاوز أحادية المنظور الوضعي . لم يعد ينظر الى اللغة كإطار ذهنى ثابت ولكن كشفرة محددة اجتماعيا متاحة لأعضاء المجتمع . تحتوى هذه الشفرة نظاما ، ولكنه نظام يتطور دوما . ومن ثم لا تعارض بين التفسير النظامي والتاريخي لأن كليهما يتناول نفس الشئ . التفسير النظامي يسعى لفهم النظام الذي يتطور ، بينما يسعى التفسير التاريخي لفهم نظام متطور . الإثنان متوافقان بمجرد أن يدرك أن الواقع الوحيد للغة هو في إستخدامها كأداة للذوات الإنسانية .
لقد طور الشكليون الروس أولاً المقاربة البنيوية للغة في تحليل وظيفة جماليات الشعر التي حددت من خلال تركيز على الخطاب لذاته .
السبب النظرى لذلك التوكيد على وظيفة جماليات الشعر شديد الأهمية ، لأنه فقط توجيه للخطاب المميز للوظيفة الشعرية الذي يجعل من الممكن تحليل اللغة الشعرية دون أي إحالة لأى معنى عرضى : يخلق المعنى بواسطة تشكيل علاقات داخل اللغة وهكذا يظهر تحليل الوظيفة الشعرية كيف ينتج خلق العلاقات البنيوية ضمن الخطاب المعنى الشعرى للعمل .

يؤكد ياكوبسون على أن الشعر لا يمكن أن يختزل الى الوظيفة الشعرية أو العكس . إننا نتعامل في أى خطاب مع مراتبية وظائف . الوظيفة الشعرية مهيمنة في الشعر ، ولكن أنواعا شعرية مختلفة تتضمن ترتيبا مختلفا للوظائف المتنوعة ، حتى أنه على سبيل المثال ، في الشعر الملحمي تكون الوظيفة الاشارية متضمنة على نحو قوى ، وفي الشعر الغنائي الوظيفة العاطفية ، وهكذا .
وقد ارتكبت الشكلية المتطرفة خطأ مطابقة الشعر مع الوظيفة الشعرية ، ومن ثم الإعتقاد بأن الشعر يمكن أن يختزل الى العلاقات البنيوية القائمة داخل قصيدة دون أي إحالة لما وراء ذلك الى عناصر الاتصال الأخرى . وهذا يتجاهل كلا من حقيقة أن الشعرى هو وظيفة من عدة وظائف . كما يتجاهل حقيقة أن الوظائف الشعرية محددة فقط ضمن إطار الاتصال . وعلى ذلك فإن معنى العلاقات البنيوية المؤسس ضمن القصيدة لا يمكن أن يحدد بمعزل عن الشاعر الذي ينتج القصيدة أو المستمع التي لها معنى لديه . والعلاقات البنيوية داخل القصيدة هي الوسائل التي بها يوصل معنى شعرى من الشاعر الى مستمع القصيدة ولا وجود لها خارج السياق الوظيفي .
ركزت حلقة براغ داخل حقل اللسانيات على نظام الصوت في اللغة لأنه ، كما في دراسة الوظيفة الشعرية للغة ، كان من الممكن هنا دراسة مظهر الخصائص البنيوية للغة دون القيام بأى إحالة الى معنى عرضى . وهذا لأن اللغة هي ما أسماه مارتينيه " نظام التلفظ المزدوج " القائم على مجال التعبير بالترابط بين العناصر ( الفونيمات ) التي هي ذاتها بلا معنى .
إن تطبيق المبادئ الوظيفية للسانيات براغ على علم الأصوات ( الفونولوجيا ) قد تصدره تروبتسكوى . يقصر تروبتسكوى الفونولوجيا على دراسة الصوت في وظيفته الإشارية ، تاركا دراسة وظائفه الأخرى الى دارسي الأساليب الصوتيه Phonostylistics . عند هذا المستوى لسمات الصوت هناك ثلاث وظائف : تراكمية ، تعيينية ، مميزة . السمة المميزة مؤسسة على التعارض بين الأصوات الذي يجعل من الممكن تمييز الوحدات اللغوية الواحدة من الأخرى .

وإذا ركزنا إنتباهنا على الوظيفة التمييزية لنظام الصوت فإنه من الواضح أن المميزات العرضية لأصوات اللغة لا صلة لها بالموضوع . وكل مايهم هو أن اصواتا دالة مختلفة يجب أن تميز الواحدة عن الأخرى . وهكذا فالنظام الصوتي للغة يمكن أن يحلل من وجهة نظر الوظيفة التمييزية فقط ( بلغة ) العلاقة بين الأصوات : إن النظام الصوتي للغة معطى يمكن أن يختزل الى سلسلة من التمييزات الوظيفية ، بنية العلاقات المميزة . وإتصالا بذلك فإن تعلم الكلام وفهم لغة يتضمن إدراك وإعادة إنتاج هذه التمييزات الدالة .
هذه هى أهمية فونولوجيا براغ بالنسبة الى ليفي شتراوس ، لأنها تقدم إختزالا لنظام الصوت الى بنية شكلية خالصة اختزلت فيها دلالة مختلف الأصوات في علاقاتها بالأصوات الأخرى ضمن النظام . ويمكن أن يختزل النظام من ثم الى بنيته الشكلية .
على أية حال إن هذه البنية ليست شيئا كامنا في نظام الصوت كموضوع خامل ، دع عنك أنها شئ مفروض بواسطة العقل ، رغم أنه ينبغى أن تستوعب بواسطة العقل إذا كان للغة أن تتعلم وتفهم . البنية هي نتاج تجريد ، تجريد يتجاهل كل شئ عدا الوظيفة التمييزيـة لنظام الصوت ، حتى أن البنية تصير معزولة على أساس برهان وظيفي ، ولا يمكن أن تفهم بمعزل عن هذه الوظيفة . لقد تبين هذا بافضل شكل بملاحظـة أنه ليست كل التعارضات بين الأصوات دالة لغويا . بمعنى آخر ليست كل التعارضات متميزة ، وإنها فقط الإحالة الى الوظيفة اللغوية في تمييز المعاني ، وللسياق اللغوى الذي تظهر ضمنه الأصوات ، يمكن أن تعين أي تعارضات تحدد السمات المميزة لنظام الصوت .
في أي سياق خاص فإن فونيما واحدا سيكون معارضا للأخريات ، ليست ككل ، وإنما فقط بهذه السمات الصوتية التي تحدد تميزها الوظيفي . فالفكرة بأن الوظيفة التمييزية للصوت قد خدمت ليس بواسطة الفونيم وإنما بالتعارض المميز بين سمات معينة للفونيم قادت ياكوبسون الى الإستنتاج بأن الفونيم يجب أن ينحل تحليليا الى سماته المكونة ، هذه السمات قابلة للتعرف عليها فقط كجزء من نظام السمات المميزة .وإذا أمكن عمل هذا فإن نظام الفونيمات يمكن أن يختزل الى نظام أبسط وأكثر أساسية من السمات المميزة ، عندئذ يشخص كل فونيم بإعتباره حزمة من السمات المميزة .

وإذا كانت السمات المميزة التي عزلت يمكن أن يدعي أنها شاملة فإن مجموعة مفردة من السمات المميزة يمكن أن تستخدم ، لتشخص ، وتولد ، نظام الصوت لكل لغة طبيعية . حين قايل ليفي شتراوس ياكوبسون في نيويورك في أوائل الأربعينات ، كان ياكوبسون يشتغل على مشكلة عزل هذه الملامح المميزة والتعبير عنها في شكل ثنائي . إنه هذا التحليل البنيوى الذي أحس ليفي شتراوس بإنه متقارب مع عمله .
ربما يظن أنه من التناقض أن تكون مدرسة براغ التي أصرت على الطابع الغائي للغة كنظام دينامي وديالكتيكي مرتبط بحاجات الاتصال لجماعة الكلام ، كان لها أن تكون رائدة لتحليل بنيوي محايث للصوت كنظام تزامنى . وتحل المفارقة حين نقدر أن هذه البنية التزامنية تمثل تجريدا من النظام الدينامي للغة ، تجريدا مسوغا وفق أسس منهجية وليست أنطولوجية أو معرفية .
هذا التجريد مسوغ بسبب تلفظ اللغة وتمفصلها المزدوج ، وترتيبا على ذلك ، الطابع الإعتباطي للعلامة اللغوية ، يجعل من الممكن تحليل الوظيفة التمييزية للنظام الصوتي للغة دون أي إحالة الى معنى خارجى ، ومن ثم لتركيز الانتباه للغرض المحدد للتقصى هذه الوظيفة ، لعلاقات داخلية ، للشفرة اللغوية . والى الحد الذي تكون فيه العلامة اللغوية إعتباطية ، لا تلعب الخصائص الكامنة للدال أى دور في وظيفته اللغوية ، وكذلك يمكن للعلامة أن تحلل بتجريد عن إعتبارات المعنى .
إنها الإحالة فقط الى مفهوم وظيفة اللغة التي تمكننا من تسويغ منهج التحليل البنيوي الملائم لدراسة السمات المميزة لنظام صوت اللغة . ويكشف لنا مفهوم الوظيفة أن اللغة هي وسيلة إتصال : ليس هناك شئ في وجود اللغة كموضوع يخبرنا بهذه الحقيقة ، فهى يمكن فقط أن تكتشف بالإحالة الى نية الإتصال الذي يكمن خلف الكلام اللغوى .
إن مفهوم الوظيفة فقط هو الذي يكشف لنا أن خصائص إيجابية للصوت لا تنجز وظيفة لغوية أساسية ، وإنما أن الوظيفة الأولية للأصوات الإبتدائية للغة مميزة . في نفس الوقت فإن الإحالة فقط الى مفهوم وظيفة اللغة هو الذي يمكننا من أن نضع حدودا لتطبيق المنهج البنيوي ، بصفة خاصة لكشف أنه حيث يكون مسوغا فقط ليفصل من إعتبارات المعنى العرضي الذي هو مسوغ لقصر إنتباهنا على الإرتباطات البنيوية الداخلية . إنه مفهوم الوظيفة ، تكامل الشكل والوظيفة في تحليل اللغة ، هو الذي يكمن خلف كل ما هو خصب في الشكلية الروسية وفي لسانيات براغ . عزلت الشكلية الروسية الوظيفة الشعرية للغة في تحليل أمكن أن تستبعد فيه كل الإحالات لواقع ما خارج لغوى مادامت الوظيفة الشعرية قد خدمت آخذه نفس مدلولها : إنها تمثل الإستعمال ما بعد اللغوى ( الاستعمال الشارح للغة) للغة الذي تخلق فيه معاني جديدة بتسخير المعاني اللغوية القائمة ، الذي يمكن لأغراض التحليل أن تؤخذ كأمر مسلم به .
عزلت لسانيات براغ من أجل دراسة خاصة الوظيفة المميزة للصوت في اللغة عن الدراسة التى أمكن فيها مرة أخرى إستبعاد الاعتبارات فوق اللغوية بشكل مسوغ ( بالرغم من أن تحليل نظام الصوت لا يمكن في الواقع أن ينفذ بتجريد كامل عن المعنى : مادام الفونيم هو مفهوم وظيفي وليس واقعا جوهريا صوتيا وإن هوية فونيم واحد وإختلافه عن الآخر يمكن أن يحدد وظيفيا فقط ، بالإحالة الى هوية وإختلاف المعنى) .
وفي كل حالة المنهج " البنيوي " للتحليل المحايث التي تعد فيها خصائص اللغة موضع البحث أنها تتألف من علاقات داخلية فى اللغة ( أو ، في حالة الشعر ، ما بعد اللغة أولغة شارحة ) ، مسوغة فقط بالإحالة الى مفهوم الوظيفة ، إنها من ثم ، ليست اللغة بوصفها كذلك ولا عقل مستخدم اللغة ، هو البنيوي ، بل بالأحرى خصائص معينة للغة هى التى يمكن أن تفسر بمفاهيم محايثة .
وحين نتحرك وراء اعتبار الوظيفة التمييزية للنظام الصوتي للغة فإن تحليلا محايثا كهذا لم يعد مسوغا ، ما دام لم يعد مسوغا عزل اللغة عن سياقها وخاصة عن إعتبارات المعنى . ضمن نظام الصوت ، على سبيل المثال ، فإن دراسة السمات الخاصة بعلم العروض لا يمكن أن تستبعد الإحالة الى المعنى ولا يمـكن أن تقصر نفسها على التحليل البنيـوي ، ليس على الأقـل بسبب أن بـعض السمات ( التنغيم ، على سبيل المثال ) ليست متميزة ولا يمكن من ثم أن تحدد تغايريا . ويصبح إستبعاد إعتبارالمعنى حتى أقل تسويغا حين ننتقل من دراسة نظام الصوت الى دراسة تركيب اللغة .
على سبيل المثال ، ( إنه لأمر ) مركزى في مشروع تشومسكي الاعتقاد بأنه من الممكن التمييز بين النحوية والمعنى كمقياسين نُقَّوم بهما مدى قبول الجمل وإذا كان " النحوى " هو نفس الشئ مثل " المنطقى " عندئذ لن تكون هناك مشكلة في تمييز المعيار : إن تقريرا يمكن أن يكون مقبولا منطقيا ولكن بلا معنى أو خاطئ . على أية حال فإن البنية النحوية للغات الطبيعية لا تتوافق مع بنيتها المنطقية ، ومن ثم فإن النحوية يمكن أن تشير فقط الى اتباع قواعد النحو التي تحكم اللغة التي تقود تشومسكي مباشرة الى الوقوع فى الدائرية وهو ما ناقشته في القسم السابق .
وفي الواقع فإن تشومسكي قد غير رأيه مرارا بشأن طبيعة الخط الفاصل بين معايير مدى قبول النحوى والدلالي ، مبينا بوضوح الطابع الإعتباطي للتقسيم في لسانياته . وتبدو النتيجة واضحة ، إذا أردنا أن نفهم لماذا لا تتوافق البنية التركيبية للغة مع بنيتها المنطقية فعلينا أن نشير الى وظيفة اللغة .
إن وظيفة لغة شارحة علمية إصطناعية هي أن تقدم شكلا غير ملتبس تعبر فيه وتستقصى تماسك سلسلة من التقارير ، وهكذا فإن تركيبها منطقى . إن لغة طبيعية لها مجال أكثر تنوعا بما لا يقاس من المتطلبات المفروضة عليها كوسائل للتعبير والإتصال . إن تركيبها خاضع لمدى أعظم كثيرا من الضغوط ، ومن ثم فلن نتوقع أن يتوافق هذا التركيب مع التركيب المنطقى للغة إصطناعية . إنه بواسطة تقصى وظائف اللغة فقط ، ومن ثم القيود التي تخضع لها إستخدامها اليومي يمكن للسانيات أن تؤسس العلاقات التركيبية وثيقة الصلة بالموضوع ضمن حقل اللغة . وهكذا فإن تركيب لغة طبيعية لا يمكن أن يستكشف بالتجريد عن السياق الذي تشتغل فيه هذه اللغة كلغة طبيعية . فقط بسبب أن النزعة الوضعية تفصل اللغة عن هذا السياق ، وتبحثها بمعزل عن الضغوط التي تشكلها كلغة ، انها عندئذ قادرة على إختزال اللغة الى بنية شكلية هي ، في التحليل الخير ، إعتباطية لسانيا .



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار ...
- سلطة الشعب أو - ثورة إدسا - بين التوظيف الليبرالى ومرض الشيخ ...
- الواقع السياسى بين النص القانونى والصراع الطبقى
- السياسة والمضمون الطبقى
- أزمة الثورة ومأزقها
- حزب العمال الشيوعى المصرى - إنتفاضة يناير ( كانون الثانى ) 1 ...
- الماركسية والتفكيكية : الغرب ضد الآخر - بعض الأفكار حول كتاب ...
- من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى - ممهدات وحدود حرب اكتوب ...
- من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى -- ممهدات وحدود حرب أكتو ...
- من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى 1972 -- 1973 - القسم الث ...
- من كتابات حزب العمال الشيوعى المصرى 1971 -- 1973 القسم الأول
- الوثائق التاريخية الأساسية لحزب العمال الشيوعى المصرى - القس ...
- الوثائق التاريخية الأساسية لحزب العمال الشيوعى المصرى -- الق ...
- الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو -- الحواش ...
- الانطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا ...
- الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر - بيير بورديو - الفصل ا ...


المزيد.....




- مراهق اعتقلته الشرطة بعد مطاردة خطيرة.. كاميرا من الجو توثق ...
- فيكتوريا بيكهام في الخمسين من عمرها.. لحظات الموضة الأكثر تم ...
- مسؤول أمريكي: فيديو رهينة حماس وصل لبايدن قبل يومين من نشره ...
- السعودية.. محتوى -مسيء للذات الإلهية- يثير تفاعلا والداخلية ...
- جريح في غارة إسرائيلية استهدفت شاحنة في بعلبك شرق لبنان
- الجيش الأمريكي: إسقاط صاروخ مضاد للسفن وأربع مسيرات للحوثيين ...
- الوحدة الشعبية ينعي الرفيق المؤسس المناضل “محمد شكري عبد الر ...
- كاميرات المراقبة ترصد انهيار المباني أثناء زلازل تايوان
- الصين تعرض على مصر إنشاء مدينة ضخمة
- الأهلي المصري يرد على الهجوم عليه بسبب فلسطين


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - سعيد العليمى - الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلارك - مراجعة ابراهيم فتحى - الفصل السادس