زينب منصور حبيب
الحوار المتمدن-العدد: 4039 - 2013 / 3 / 22 - 09:20
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
غسيل الدماغ
الدكتورة زينب منصور حبيب
كلنا سمعنا بغسيل الدماغ، فهو تغيير أفكار ومبادئ وعقائد وقيم الشخص، ووضع أفكار وقيم جديدة مختلفة عن التي كانت موجودة لديه.
كيف يحدث هذا وما هي الآليات والعمليات التي يجري استعمالها لتحقيق ذلك ؟
يجب أن نعرف أولاً كيف يكتسب الإنسان الأفكار والقيم والعقائد أو حتى ثقافته، أي كيف يبرمج دماغه أو عقله، لأن الدماغ هو الجهاز العصبي المسؤول عن اغلب الوظائف الحيوية والسلوكية والمعرفية للكائن الحي، وهو مجهز فزيولوجياً وعصبياً وفكرياً، وبشكل موروث بيولوجياً بقدرات على اكتساب الأفكار، ونتيجة اللغة المتطورة المحكية يكتسب أو يتعلم التصرفات والأفكار والقيم من أفراد الجماعة التي ولد ضمنها، فهو يكتسب من أمه لغتها وكافة التصرفات والأفكار والتقييمات الأساسية التي هي اكتسبتها من أمها , و يتابع اكتسبه من باقي أفراد أسرته وعشيرته، وبذلك يتم اكتسب دماغه أو يبرمج دماغه بالأفكار والثقافة الموجودة لدى جماعته (أي يبرمج عقله عن طريق التوريث الاجتماعي وليس البيولوجي).
ويتم اعتماد ما اكتسبه دماغه في كافة تصرفاته، وبهذا تنتقل الأفكار والثقافة عبر الأجيال.
ولكن كانت تحدث في كل فترة قفزة من تغيير في الأفكار المنقولة نتيجة ظهور أحد المفكرين ينتج عقله أفكار جديدة أو يعدل أو يطور بعض الأفكار الموجودة، ويملك في نفس الوقت القدرة (كأن يكون رئيس الجماعة أو ذو شخصية قادرة . . . الخ) على نشر أفكاره في عقول جماعته.
هذا الرجل كان أول من استعمل طريقة غسل الدماغ، وهو الذي نجح في أن يبدل أو يطور جزء من الثقافة التي تتوارثها جماعته.
أما الآن فغسيل الأدمغة أصبح يعتمد على المنجزات التي تحققت في مجال علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الدماغ وما تحقق في مجال التواصل والاتصالات إن كانت سمعية أو مقروءة أو مرئية، وتم الاستفادة من ما تم التوصل أليه في مجال الإيحاء والتنويم المغناطيسي، وتأثير التكرار وتأثير ظاهرة الجمهرة، فصار غسيل الدماغ يحدث في كافة المجالات وعلى كافة المستويات إن كان مستوى فرد أو مستوى مجموعة أو مستوى شعب كامل.
وطرق غسل الدماغ تنجح بسهولة عندما تطبق على الشبان الصغار فالكبار غالباً يصعب غسل دماغهم، فغسل الدماغ لا يمكن أن يتم بسهولة لدى الكبار، فهو يحتاج إلى وقت، ويمكن تقليل هذا الوقت باستعمال الكثير من الأساليب التي ثبتت صلاحيتها، مثل استخدام الأحاسيس النفسية والجسمية والمشاعر والعواطف القوية إن كانت مؤلمة أو مفرحة ولذيذة، واستعمال الإقناع الفكري، والترغيب والترهيب ولفترة طويلة، بشكل تجبر أغلب الأشخاص على تغيير أفكارهم ومبادئهم وعقائدهم.
برز مصطلح غسيل الدماغ لأول مرة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين إلا انه أصبح الآن مصطلحاً عاماً شاملاً وبات يستخدم في مختلف ميادين الحياة وأنشطتها من سياسة، وحروب عسكرية ونفسية، وإعلام مرئي أو مقروء، وفي الفن والدعاية والتجارة والإعلان، وفي التربية والثقافة والاجتماع، وغدا في يومنا هذا يحمل معاني أعم وأشمل وأكثر وضوحاً مثل التحوير الفكري أو المذهبة أو الإقناع الخفي Hidden Persuasion.
أن ظاهرة الغسيل الدماغي أو التحويل الفكري هي ظاهرة عريقة وموغلة في القدم, وان الإنسان وعلى مر العصور ما انفك يسعى لاستغلال أخيه الإنسان وينقب عن أمكر الوسائل ويستعين بآخر مبتكرات العلوم الحديثة للتأثير في أفكاره واتجاهاته والهيمنة على دماغه بشتى السبل.
وان كانت محاولات الإنسان في القدم، لاستغلال أخيه الإنسان، هي محاولات بدائية وفطرية، إلا أنها اكتسبت اليوم من العلوم الحديثة آفاقا جديدة ومزيدا من الأسلوب العلمي والتقنية والتخطيط المتقن.
واليوم يندفع العالم الغربي المتقدم إلى إجراء المزيد من الأبحاث للتوصل إلى أسرار السيطرة على الدماغ.
نورة أحمد الجميح، في مقال لها في الجزيرة الالكترونية تقول: وكان أول من ابتكر اصطلاح غسيل الدماغ هو صحفي أمريكي يدعى إدوارد هنتر الذي ألف كتابا عن هذا الموضوع على أثر الحرب الكورية, فقد انتهت الحرب بعد الهدنة ورجع الأسرى الأمريكيون إلى أوطانهم، ولكنهم رجعوا يفكرون باتجاه آخر، مؤمنين بمبادئ أعدائهم متحمسين لهم ومبدين إعجابهم وامتنانهم من معاملة الكوريين لهم, وكانت تلك الظاهرة هي الأولى من نوعها في تاريخ الحروب البشرية، مما روع وزارة الدفاع الأمريكية، وأصبح هذا الموضوع مثار اهتمام ودراسة وتنقيب شديد من قبل المسؤولين الأمريكيين وأجهزة الإعلام.
وكان أن خرج الصحفي الأمريكي هنتر باصطلاح غسل المخ كوصف لهذه الظاهرة الفريدة, وقد اشتق هنتر اصطلاحه هذا من الاصطلاح الصيني ( Hsi - nao) الذي يعني تنظيف المخ، وذلك بعد أن حصل هنتر على معلوماته من مخبرين صينيين على اثر انتهاء الحرب الكورية.
وتضيف الجميح: فالإقناع الصهيوني الخفي للمسؤولين الأمريكيين تجاه قضية فلسطين مثال حي على غسل الدماغ الحديث, والدعاية الصهيونية هي سلاح فعال تمارسه الصهيونية في شتى أنحاء العالم لتتغلغل في عقول الناس وتهيمن على الرأي العام العالمي، وهي تستخدم لذلك الفكر والمال والنفوذ والصحافة والإغراء والوعيد.
كما تستخدم الدعاية الصهيونية الحيل النفسية واجترار الماضي وتهويله لاستدرار عطف الرأي العام وإقناعه بأن صراعها مع العرب هو امتداد لصراعها مع النازية.
كما ان للصهيونية أساليب عديدة ومتناسقة في تغيير الاتجاهات منها الحرب النفسية والإعلام الموجه للأمة العربية، كذلك الإعلام المخطط لتضليل وكسب الرأي العام العالمي.
ومن أنواع التحوير الفكري والتمذهب هناك ما يسمى بالبعثات التبشيرية، التي ترتدي رداء الدين وتخدم الأطماع والمصالح الخاصة، فمثلاً البعثة التبشيرية في السنغال كانت توقع عقوداً مع عدد من الأسر السنغالية تقدم بموجبها تلك البعثات إلى الأسر السنغالية مساعدات عينية من الأرز مثلا في كل شهر على ان يكون لها الحق باختيار طفل من أطفال الأسرة (دون الخامسة من العمر) لتربيته على حسابها، فترسله إلى مدرسة تبشيرية.
وينقطع الصبي عن أهله ثم يرسل إلى فرنسا لإتمام تحصيله العالي، ويعاد بعدئذ إلى السنغال ليقوم بالوظائف والواجبات التي تعهد إليه مما يخدم مصلحة فرنسا طبعا في السنغال, أليس هذا مذهبة من نوع آخر وتحويراً فكرياً طويل الأمد؟
والبروباجندا (الدعاية)، هي أيضاً اصطلاح لاتيني يدل على الأسلوب المخطط لنشر الفكرة وتعميمها, وقد أصبحت اليوم من أقوى وأوسع الأسلحة لتغيير الاتجاهات والآراء, فالدعاية اليوم هي عملية تأثير في الناس وليست مجرد عملية نشر وتوصيل, فمفهوم الدعاية أصبح يشمل الاستخدام المدروس المقصود للإيحاء والأساليب النفسية لتغيير وتسيير الآراء والأفكار والاتجاهات.
وقد تطورت وسائل الدعاية والإعلام من مجرد المنشورات والكتب إلى إذاعة وصحف وتلفزيون وأقمار صناعية وفضائيات ووكالات أنباء وإنترنت ومسرح وسينما.
وهذه الوسائل تتناول مواضيع بعرضها ومعالجتها والتأثير في عقليات المتلقين وتحوير اتجاهاتهم, ومن هذا المنطلق فإن هذه الوسائل الإعلامية التي تعتمد على سحر الكلمة، ما هي إلا أسلحة خطيرة في مجال التأثير الفكري والنفسي.
وحتى السحر والشعوذة وما يقوم به الدجالون الذين يتخذون السحر مهنة رابحة ويستغلون معاناة الناس وجهلهم للتأثير عليهم وابتزازهم فيوظفون الإثارة والإيحاء للتلاعب بعواطف وعقول العامة والبسطاء, كل هذا ما هو إلا نوع من أنواع التأثير على العقل.
ولو أخذنا الدعاية والإعلانات التجارية، لوجدناها في حقيقتها ممارسة خفية للإقناع الفكري ليقبل المستهلك على شراء البضاعة، وعالم اليوم هو عالم الدعاية التجارية بحق والتي تنفق عليها الأموال الطائلة، وهي في حقيقتها عمليات إقناع خفية تسلط على الدماغ, وقد استعان المنتجون بعلماء النفس والاجتماع والانثروبولوجي (علم الإنسان) يستشيرونهم في وسائل الإقناع والجذب والتأثير وتسيير الاتجاهات نحو عملية الشراء.
وهذه الحاجة إلى الاستثارة واجتذاب الزبائن، أظهرت للوجود مؤسسات جديدة في المجتمع هي وكالات الدعاية والإعلان, وكذلك ظهر نوع خاص من الدراسات يسمى دراسة الأعماق Depth psychology تعتمد على خبرة العلماء بمفاتيح الميول والرغبات التي يمكن تعديلها وتحويرها لتكون سلاحاً دعائياً فعالاً.
وأصبحت دراسة الميول والاتجاهات والدوافع Motivational Research المسماة اختصاراً M.R. ضرورة لكل منتج ورجل دعاية.
وبسبب أفانين الدعاية والإعلان أصبح المنتج ورجل الصناعة يبيع (وعداً)، والمستهلك يشتري هذا (الوعد) وليس مجرد البضاعة!
وكان اصطلاح غسل الدماغ مقترن بالأساليب الكورية الصينية لتحوير أفكار الآخرين وتغيير اتجاهاتهم.
أما الصينيون أنفسهم فقد كانوا يطلقون مصطلح تقويم أو إعادة بناء الأفكار Thought Reconstruction على محاولاتهم تلك واعتبروها برنامجاً تثقيفياً عاماً.
هذا المصطلح ظهر لأول مرة في الصين في عام 1950 عندما كان الصينيون يطبقون برنامج يسمى الإصلاح الفكري الشيوعي الصيني, حيث اعتقد الصينيون أن الأفراد الذين لم يتعلموا في مجتمع شيوعي لديهم أفكار برجوازية ويجب إعادة تعليمهم قبل أن يأخذوا مكانهم في المجتمع.
وتعتبر الحرب الكورية (1950-1953) من أشهر الحروب التي أستعمل فيها غسيل الدماغ، حيث قد وقع الكثير من الجنود الأمريكيون في أسر الشيوعيين الصينيين, وقام هؤلاء الجنود بالاعتراف بأنهم اعتنقوا الشيوعية ولقد فسرت هذه الاعترافات بأنها كانت نتيجة وقوعهم تخت تأثير غسيل الدماغ, وتقول دائرة المعارف الأمريكية (إن الفنيات التي استخدمت في غسيل الدماغ اختلفت من جماعة إلى أخرى ولكن الاتجاه الأساسي كان واحدا فقد كان التحكم في البيئة الاجتماعية والبدنية للضحية يتم لتدمير أي فكر معاد للشيوعية واستبداله بالإيمان بالفكر الشيوعي, أما الفنيات التي استخدمت ضد الأسرى فكانت:
حجب الأسرى بعيداً عن البيئة الحرة حتى لا يستطيعوا معرفة أي معلومات عما يحدث حولهم.
التعرض لضغوط جسدية مثل الحرمان من الطعام والنوم والتصفيد في أغلال كعقاب على عدم التعاون.
خلق مناخ الذي يظهر أن الحرية تعتمد فقط على الاتجاه الناجح نحو التغيير تجاه الأفكار التي يفرضها السجانون.
الضغوط نفسية واجتماعية مثل التعرض لفترات طويلة من الاستجوابات, واستخدام الإهانة والسب لإضعاف المقاومة.
حضور اجتماعات دراسية يومية لدراسة الفكر الشيوعي.
ولقد أورد إدوارد هنتر Edward Hunter في كتاب Brain-Washing: The Story of the Men Who Defied رواية رجل أمريكي تعرض للأسر لدي الشيوعيين فقال ما يلي: إن لعبة القط والفأر التي يلعبها الشيوعيون بعقل رجل ما وصفت بدقة بواسطة الكابتن (زاك دين) وهو من القوات الجوية الأمريكية، وكان قبل ذلك يعمل مهندسا للبترول في ولاية أوكلاهوما وعندما سألته عما حدث قال: أن الشيوعيون يضغطون عليك حتى نقطة الموت ثم ينقذونك ثم يعاودون الضغط عليك حتى ترى باب الموت, وعندما تكون على وشك دخوله فأنهم يشدوك بعيداً، ربما لا يصدق ما سأقصه عليك، ولكن بعد أن يكرروا ذلك الأسلوب عدة مرات فأنك تشعر بالعرفان لهم لإنقاذهم حياتك, وتنسى أنهم كانوا هم الأفراد الذين كانوا على وشك أن يقتلوك، وكل ما تحسه إنهم هو الذين أنقذوك وتكون مستعداً أن تفعل كل شيء يريدونه.
كما أن معالجة الأمراض النفسية بالتحليل النفسي يمكن اعتباره نوع من غسيل الدماغ .
ويمكن أن يتم غسل أدمغة الأفراد والجماعات دون أن يدوروا أن ذلك جرى لهم، وهذا يتم عن طريق الإعلام بكافة أنواعه وأشكاله المسموعة والمقروءة والمرئية صحف ومجلات وكتب وإذاعات ومحطات تلفزيون ودور عبادة ... , وبواسطة أجهزة التعليم بكافة أشكالها.
وهذه الوسائل أصبحت تملكها وتتحكم بها الدول والمؤسسات الكبيرة فهي الآن تقوم بغسل أدمغة غالبية الأفراد ووضع الأفكار والدوافع .... التي تريد.
يقول هربرت . أ . شيللر في كتابه المتلاعبون بالعقول:
تستخدم الأساطير بكافة أشكالها القديمة والحديثة من أجل السيطرة على الأفراد , وعندما يتم إدخالهم على نحو غير محسوس في الوعي الجماعي , وهو ما يحدث بالفعل من خلال أجهزة الثقافة والإعلام، فإن قوة تأثيرها تتضاعف من حيث أن الأفراد يظلون غير واعين بأنه قد تم تضليلهم.
ويقول جورج جيبرنر:
إن بنية الثقافة الشعبية التي تربط عناصر الوجود بعضها ببعض، وتشكل الوعي العام بما هو كائن، بما هو هام، وهو حق، وما هو مرتبط بأي شيء آخر، هذه البنية أصبحت في الوقت الحاضر منتجاً يتم تصنيعه.
إذن نستنتج من ذلك أن غسيل الدماغ Brainwashing هو استخدام أي طريقة للتحكم في فكر شخص واتجاهاته دون رغبة أو إرادة منه، ويسمى أيضاً غسيل المخ أو لحس المخ (أو الدماغ) أو التفكيك النفسي.
#زينب_منصور_حبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟