مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 3950 - 2012 / 12 / 23 - 14:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لا شك أن الإسلاميين في مصر و العالم العربي عامة يشعرون بالغضب من موقف الليبراليين العرب بسبب معارضة هؤلاء لإقامة دولة الإسلاميين بوسائل "ديمقراطية" حتى لو كانت دولتهم ( أو سلطتهم ) تلك تحمل ملامح استبدادية صريحة إن لم نقل ملامح سلطة شمولية جديدة ( شمولية أي ما بعد ديكتاتورية على النمط النازي أو الستاليني ) . لقد انقلبت الآية اليوم في مصر و العالم العربي , أصبح الإسلاميون هم أشرس المدافعين عن معايير الديمقراطية الغربية أو البرجوازية أو التمثيلية , تحديدا صندوق الاقتراع ... منذ بدايات ما سمي بالتنوير العربي المعاصر اعتقد النهضويون العرب أن السر في تقدم الغرب هو ديمقراطيته . لكن الديمقراطية كما فهموها لم تكن بالنسبة لهم مجرد وعد بمستوى أعلى من الحرية لأفراد المجتمع , بل كانت أكبر من ذلك و أهم بكثير , كانت في الأساس وعدا بقيام دولة شرقية ثم عربية ثم وطنية حديثة و متقدمة .. لم يكن هاجس الحرية هو المحرك الأهم في وعي و تفكير النهضويين العرب بل كان هاجس التخلف الحضاري , و ما يزال .. لكن الديمقراطية التمثيلية ليست اليوم ثورة ضد سيطرة الكنيسة و الملكية المطلقة رغم أنها كانت كذلك قبل ثلاثة قرون بالفعل , إنها اليوم شكل حكم الطبقة الحاكمة محليا و عالميا , نظام الإمبراطورية الحاكمة في العالم ( الرأسمالية أو لنكون أكثر تحديدا , الأمريكية ) , الإمبراطورية بوصفها الشكل الأخير لتطور الإمبريالية أو الرأسمالية الغربية ( انظر كتاب الإمبراطورية لأنطونيو نغري و مايكل هاردت ) .. تعني الديمقراطية التمثيلية اليوم , بما في ذلك صندوق الاقتراع , تماما ما كان يعنيه وجود أسواق النخاسة لبيع العبيد في كل مكان من العالم القديم , أو الفيالق الرومانية في كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية , أو محاكم التفتيش في أوروبا القروسطية .. لكن يبدو أنه ليس للإسلاميين أية مشكلة مع هذا أبدا , تماما كما هو الحال أيضا مع الليبراليين العرب , إنهم يقبلون بمستوى الحرية الذي تسمح به الإمبراطورية الحاكمة في العالم .. لم تكن الحرية يوما إشكالية ذات وزن بالنسبة للإسلاميين , و لا شعارا ذا أولوية . بالعكس , يمكن القول أن الإسلاميين منزعجون مما قد يبدو مستوى مرتفع من حرية الاعتقاد و الضمير في كثير من المجتمعات العربية التي لم تقمعها الأنظمة الاستبدادية السابقة بنفس درجة قمعها لأشكال الحريات الأخرى الأكثر خطورة على استبدادها .. و عندما قبل الإسلاميون , أغلبهم على الأقل , المشاركة في الشكل السائد من الديمقراطية التمثيلية لم يكن هذا يعني أنهم قد قبلوا بالمقدمات السياسية و الإنسانية و العقيدية لهذه الديمقراطية التمثيلية , لقد قبلوا بها كنظام للإمبراطورية السائدة , و أيضا كعلامة على الخضوع لمركزها , كعلامة على هيمنتها .. واضح أنه لم تكن الحرية و لا العدالة أولوية ذات وزن عند الإسلاميين في أي وقت في مقابل أولوية فكرة ضبابية إيديولوجية هي الشريعة التي رغم أنهم يفترضون أنها فوق زمانية , لكنها تستخدم في الممارسة على أنها الوسيلة الإيديولوجية الضرورية لصعود سيطرة طبقة جديدة , أو لنكون أكثر دقة , جزء من الطبقة المالكة القديمة نفسها , لذلك يجري تحديد مضمون هذه الشريعة أو إيديولوجيا هذه الطبقة الصاعدة بشكل راهن مرحلي في إطار الصراع المستمر على السلطة بهدف إخضاع مقاومة الجماهير و الخصوم تماما كما كان الحال مع الليبرالية كفكر و خطاب لحكم البرجوازية أو كما شاهدنا اللينينية الستالينية "تتطور" من مرحلة لأخرى بما ينسجم مع مصلحة الطبقة الحاكمة الجديدة و مهمة تكريس سلطتها ( شيوعية الحرب , النيب , بناء الاشتراكية في دولة واحدة , جمعنة الزراعة , التطهير و بارانويا أو عصاب المؤامرة ثم التعايش الدولي و ذرة خروتشوف انتهاءا ببريسترويكا غورباتشوف , ليس لإيديولوجيا أية طبقة حاكمة مضمون واحد , يتحدد معناها مرحليا حسب مصلحة الطبقة الحاكمة في كل مرحلة ) و كذلك الناصرية و تقلباتها النظرية العنيفة الخ .. في "تطور" الليبرالية كفكر للبرجوازية الصاعدة ثم الحاكمة شاهدنا كيف انحطت من أشكالها الثورية الأولى القائمة على الديمقراطية المباشرة و اللامركزية الفيدرالية إلى دولة ( أو إمبراطورية ) تخضع لسلطة حفنة من الاحتكارات ( الولايات المتحدة هي أكبر مثال على هذا الانحطاط ) ... لذلك حتى عندما يتحدث الإسلاميون عن نماذج تاريخية ( معدودة على الأصابع كالعادة ) يفترضون أنها مرتبطة بالشريعة نفسها و يفترضون أنها حققت مستويات عالية من الحرية و العدالة لمجتمعاتها كعهدي عمر بن الخطاب و عمر بن عبد العزيز يرفضون تماما اختزال الشريعة فيها أو إنكار بقية تاريخ ممارسة الشريعة كما يفهموها و الذي شهد العكس تماما على صعيد الحرية و العدالة .. لم يقترح الإسلاميون لا في دساتيرهم و لا في خطابهم أن يكون منهج أحد هذين الخليفتين بالتحديد هو مرجعيتهم أو مرجعية سلطتهم , إن مكان هذين الشخصين هو فقط في الخطاب الدعائي , تماما كما تفعل البرجوازية اليوم مع الشعارات التحررية الأولى للديمقراطية البرجوازية نفسها .. في نفس الوقت يستمر الإسلاميون اليوم باستخدام كلمة ليبرالي كشتيمة أو كمرادف لكلمة زنديق القروسطية , صحيح أن الليبرالية هي الفكر السياسي الاجتماعي الذي يبرر الديمقراطية التمثيلية , لكن مع ذلك فإن الديمقراطية التمثيلية لا تشترط انتصار الليبراليين فيها كشرط مسبق , لا بصفتها نظام الإمبراطورية و لا بصفتها التحقق الفعلي لمصالح مركزها أو طبقتها الحاكمة محليا .. إلى جانب أن الإسلاميين يدركون جيدا أن الديمقراطية التمثيلية ليست إلا الشكل المناسب لسلطة الطبقة الحاكمة سواء كانت تحمل شعارات دينية أم غيرها , ربما يريد أن يخاطبوا بذلك أيضا مركز الإمبراطورية و يقولوا لها أنهم رغم أنهم ليسوا ليبراليين لكنهم "ديمقراطيين" , أي أنهم مؤمنين أيضا بدين الإمبراطورية الحاكمة و يذعنون له بكل سمع و طاعة .. يختلف الوضع فيم يتعلق بالاقتصاد , إذا كان الإسلاميون يعادون الليبرالية السياسية فإنهم في نفس الوقت لا يخفون إيمانهم العميق بالفكر الليبرالي الاقتصادي حتى بأدق تفاصيله النيوليبرالية المتأخرة ... لهذين السببين , أي هامشية الحرية كهدف من جهة و الرغبة في الدخول في الزمان الإمبراطوري من جهة أخرى , و الذي يتشارك فيهما الإسلاميون مع الليبراليين العرب , نجد أن الطرفين لم يلتفتوا أبدا للنقد الراديكالي الموجه ضد الديمقراطية التمثيلية و لا للثورات التي قامت ضد البرجوازية التي تحكم سيطرتها محليا أو على العالم من خلال ذلك الشكل من "الديمقراطية" في وقت طرحت فيه تلك الثورات و مارست أشكالا أخرى من الديمقراطية خاصة الديمقراطية المباشرة ... كان فوكو قد اعتبر أننا ننتقل الآن من مجتمعات الضبط إلى مجتمعات السيطرة .. مجتمعات الضبط أو الانضباط التي تشكلت في القرنين 18 و 19 و بلغت ذروتها في أوائل القرن العشرين اعتمدت على فضاءات قمعية تستوعب الفرد و تنتقل معه عبر مراحل حياته من الأسرة إلى المدرسة إلى الجامعة و المعمل , الجيش و المشفى , السجن الخ , و اعتبر فوكو أن النموذج الفعلي و الأكثر كمالا لتلك المؤسسات هو السجن المعاصر .. صحيح أن هذا السجن قد قنن العنف الجسدي المباشر لصالح عنف نفسي غير مرئي , لكنه بهذا نقل السلطة من شكلها المباشر الفج الشخصاني إلى شكلها الخفي الأعمق تأثيرا و الأكثر إرهابا و استمرارية في نفس الوقت .. هذا التقنين لم يضعف السلطة و لم يعزز الفرد في مواجهتها , بل قوى من قبضة السلطة و قدرتها على التلاعب بالفرد كما تريد .. ما يريده الإسلاميون , تماما كحال الليبراليين , هو تعميم أو عولمة مجتمع الانضباط الغربي هذا أو إنتاجه محليا , طبعا بحيث يكونوا هم على رأسه .. بل قد يكون عندهم إضافة مهمة له , هي الشرطة الدينية التي يفترض أن تضيف بعدا جديدا لفضاءات قهر الفرد و تدجينه .. المشكلة الأخرى مع الإسلاميين هي أن أكثرهم صدقا في تمردهم على السلطة القائمة و طغيانها و على سلطة الإمبراطورية الحاكمة في العالم هم في نفس الوقت أكثرهم عداءا للحرية نفسها , و أن مشروعهم يقوم على العودة إلى الشكل الأكثر بدائية للدولة الاستبدادية كنقيض لشكل سيطرة مركز الإمبراطورية على أطرافها
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟