أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - مارسيل پروست (مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندريه موروا) ترجمة: خليل كلفت















المزيد.....



مارسيل پروست (مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندريه موروا) ترجمة: خليل كلفت


خليل كلفت

الحوار المتمدن-العدد: 3907 - 2012 / 11 / 10 - 01:59
المحور: الادب والفن
    


مارسيل پروست
(مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندريه موروا)
ترجمة: خليل كلفت

1
مارسيل پروست
بقلم: أناتولى لوناتشارسكى
عند نهاية القرن التاسع عشر، أصبح مفهوم "الرواية الفرنسية" محدّدًا تمامًا بصورة رائعة. فربما عالجت الرواية الفرنسية، بطبيعة الحال، موضوعات متباينة وربما تباينت فى الجودة، لكنها، مع ذلك، أصبحت سلعة محدّدة أدقّ ما يكون التحديد. ومهما كان مستوى جودتها، فقد اكتسبت قيمة مستقرّة فى سوق الأدب. وبلغت أصغر الطبعات ألف نسخة، وأضخمها - الملايين. كلّ هذه الروايات ألَّفَتْها سلسلة بأسرها من المواهب، البالغة الأصالة أحيانًا، ونشرتها وباعتها سلسلة بأسرها من التجّار، الفاشلين بصورة ملحوظة تمامًا أحيانا. غير أن الحصيلة الصافية، فى الأغلبية الساحقة من الحالات، كانت نفس المجلد الصغير ذى اللون الأصفر القشّىّ والذى يبلغ حوالى ثلاثمائة صفحة جيّدة الطباعة ويكلف 3.5 من فرنكات ما قبل الحرب - أىْ ما يسمّى بطراز شارپانتييه.
وكان الناشرون ينظرون إلى المجلدات الأقلّ أو الأكثر سُمْكا بنفور واضح. وكانوا ينظرون إلى المجلديْن كإهانة شخصيّة. أمّا الأعمال المختارة والكاملة فكان يجرى تقسيمها، بطبيعة الحال، إلى سلسلة من المجلدات من هذا الحجم ذاته.
*****
وعندما بدأ رومان رولان Romain Rolland، وهو ثورىّ بكل معنى الكلمة، فى نشر رواياته فى شكل كراسات، من جهة، ومن جهة أخرى فى إطالة عمله چان كريستوف Jean Christophe ليصل إلى اثنى عشر مجلدًا أو أكثر، نظر إلى هذا على أنه حيلة غريبة، ودليل على ضعف المؤلف فى مجال التأليف، وإشارة أكيدة إلى أن عمله لن يحقق نجاحًا.
ولا يمكن القول أن هذا الإحياء للرواية الطويلة (البحث عن الزمن الضائع) A la recherché du temps perdu قد حقق نجاحًا فوريًّا. غير أنه لا يمكن إنكار أن هذه الرواية - الجادّة فى محتواها بصورة لا تصدّق إلى حدّ بعيد، والطويلة للغاية (" ليست فرنسيّة على الإطلاق"، هكذا صرخ النقاد؛ "من المؤكد أنه لا يمكن النظر إليها بجدّية على أنها أدب؟") - قد حققت شعبيّة كافية لأن تثبت للناس قاطبة وبصورة واضحة تمامًا أنها أرست سابقة أدبية خطيرة.
وقد أشار الناقد الشهير پول سُوداى Paul Souday - معلقًا على سلسة طويلة من الروايات بقلم كاتب مجهول حتى الآن، مارسيل پروست Marcel Proust - إلى أن پروست كان يقتفى، فى ذلك، أثر رومان رولان. ونحن نأمل ألا يكون السيد سُوداى مُخطئًا غير أنه فشل تمامًا، عند ظهور إنتاج رومان رولان لأوّل مرة، فى إدراك كلّ أهميته الأدبيّة والثقافيّة الهائلة. ومن ناحية أخرى، لا بد من الإقرار بأنه كان لديه، حتى بعد أن قرأ المجلد الأوّل وحسب، هاجس بأهمية مشروع پروست الضخم.
والواقع أن النقد الأدبى الفرنسى لم يكن لديه بعد أىّ شيء من قبيل إدراك أهميّة ذكريات پروست الهائلة، أو فهم أن "إطنابها" ذاته كان سمتها الجوهرية وشرط فتنتها. ولكن النقد الأدبى الفرنسى طرح فى الواقع، من خلال السيّد سُوداى، السؤال التالى: ألا يمكن أن يكون هذا نوعًا جديدًا من الأدب؟ ثم أليس هذا الخطأ المفزع، هذا "الإطناب"، شيئًا له سمة المزيّة، فى هذه الحالة المحدّدة؟ ثم ألا يمكن أن يكون پروست نوعًا جديدًا من الكاتب من طراز رومان رولان؟ ثمّ ألا يكتب هذان الاثنان من أجل قارئ من طراز جديد؟ إن مجرّد واقع أنّ هذا النوع من الأسئلة كان يطرح أصْلا إنما يُحْسَبُ ل سُوداى، حتى إنْ كان كل ذلك لا يزال مُبْهمًا تمامًا فى واقع الأمر.
*****
من المستحيل أن نفهم الطابع الاجتماعى الأدبى ل پروست دون أن نناقش نواحى بعينها فى شخصيّته.
كان پروست فردًا - وَلنقلْ فردًا سلبيًّا - من أفراد أسرة برچوازية يهودية بالغة الثراء، ووثيقة الارتباط بأسرة روتشيلد.
ولما كان قد أصبح مريضًا عاجزًا بصورة مزمنة فى عمر مبكر فقد كان مُجبرًا على أن يعيش حياة غريبة، ليليّة بكاملها تقريبًا. وكان طوال حياته يجارى معارفه الاجتماعية والأدبيّة لكنْ، بالطبع، بطريقته الخاصة الغريبة. وقد احتلت الشواغل الأدبيّة والثقافيّة مكانة عظيمة فى حياة الرجل المريض، لكنْ ليس إلى مدى أعظم من شواغل التفاخر والتظاهر التى تميّز الطبقة الراقية.
ورغم أنّ پروست ظلّ دائمًا رجلا صاحب حساسية مَرَضيّة لا تصدق ونشاط مشلول تقريبًا، فقد كان القسم الأوّل من حياته هو الأكثر حيويّة مع ذلك إلى حدّ بعيد - قبل كل شيء بفضل استرجاعه القوىّ بصورة مذهلة "لكافة انطباعات أقدم أيّامه"، ولكلّ درجة على سُلم المشاعر والفكر. وعندما اقترب من الأربعين، أحسّ پروست أن الانطباعات الجديدة أخذت حيويّتُها تتضاءل بصورة متزايدة. وأصبح الحاضر باهتًا أمام ذكرياته. وكانت هذه الذكريات تتميّز بحيويّة استثنائيّة: لقد بدا وكأنه، بعد موجة الحياة الوافرة الجديدة التى خرجت إلى الشاطئ يعلوها الزبد، ذات مرة، منذ عهد بعيد، من بحر الحظ اللانهائىّ، تلت موجة أخرى، موجة خياليّة هذه المرّة، تكرار دقيق للموجة الأولى من الانطباعات، غير أنها هذه المرّة، مألوفة فى الواقع للحواسّ، ويجرى تحليلها حتى آخر ظلّ بكل معنى الكلمة، كما أنها تعاش ثانية بصورة كاملة وشاملة. وهذه الموجة المذهلة من الذكريات التى تلعب، بطبيعة الحال، دورًا كبيرًا فى كل كتابة إبداعيّة، تصبح فى كتب پروست مُهَيْمنَة ومأسويّة. إنه لا يحبّ وحسب أزمنته الضائعة، بل يعرف أنها ليست "ضائعة" على الإطلاق بالنسبة له، وأنه يمكنه أن يبسطها متى شاء مرة تلو أخرى مثل سجاجيد كبيرة، مثل شيلان، وأنه يمكنه مرّة تلو أخرى أن يلمس بأصابعه هذه العذابات والمباهج، هذه التحليقات والسقطات.
ويجلس، مثل الفارس الجشع، وسط خزائن كنوز ذكرياته، وتستحوذ على كامل كيانه بهجة شبيهة جدا فى نوعها بتلك التى جربها بطل بوشكين. والواقع أنّ بيت كنوز ذكرياته هو آثاره الأدبيّة. إنه - هنا - مقتدر بكل معنى الكلمة. فهذا عالم يمكنه أن يضع له حدًّا، أن يعدّله، أن يقوم بتشريحه، بحيث يصل إلى أعماق كل تفصيل من تفاصيله، أن يكبِّره إلى أقصى حدّ، أن يضعه تحت مجهر، أن يعيد صوغه كما يروق له. إنه - هنا - إله، لا يحدّه سوى واقع ثراء هذا التيار الساحر من الذكرى.
هذا التنقيح الهائل للنصف الأول من حياته يَضْحَى النصف الثانى. و پروست الكاتب لم يعد يحيا، بل يكتب. أما موسيقى وضياء الموجة الحقيقية للحياة فلا يعود لهما أهمية بالنسبة ل پروست فى أعوامه الأخيرة. والشيء الهامّ هو هذا التفكير المذهل فى الماضى والذى يتواصل فى كلّ ميوله الكثيرة والذى يجدّد بصورة متواصلة هذا الماضى والذى يبدو أنه يعمّق دلالاته.
كيف أمكن لملحمة كهذه أن تكون أىّ شيء إلا أن تكون مشتتة تنتقل من موضوع إلى موضوع؟ يبدو كأن پروست قد قال فجأة لمعاصريه: "سأستلقى - بطريقة فنية، مستريحًا، بحرّيّة، مرتديًا رداء بيتيًّا مظرّزًا واسعًا، على أريكة مخمليّة واسعة - وأتذكرّ حياتى من خلال الدورات المتعاقبة بهدوء لعقار مسكنّ معتدل؛ لن أشرب حياتى جرعة واحدة كما يعبّ إنسان كوبًا من الماء، سوف أستمتع بها بالاهتمام المركز الذى يمنحه المرء لنكهة مُركَّبة لخمر غنيّة بشكل فريد."
كان ذلك طابع پروست الكاتب من وجهة نظر الشكل. كان ذلك هو العامل المحدّد الأساسى وراء ملحمته الغنائيّة الشهيرة.
*****
وبصورة تدريجيّة، أصبح الصفاء الذى لا يُضارع فى موهبة پروست واضحًا جليًّا. وحلّ تبجيل مفعم بالاحترام، ومفعم بنشوة حُنوّ غامر، إنْ جاز القول، محلّ الارتباك الأصلىّ لدى النقاد.
فلنلْق إذن نظرة أدقّ على رسالة پروست الأدبيّة، والفلسفيّة، والاجتماعيّة، والأخلاقيّة؛ ماذا يُعَلم وإلى أين يُؤدّى.
سيهز الپروستيّون المقتنعون أكتافهم، بالطبع، عندما يسمعون مثل هذه الأسئلة" "إنه لا يعلِّم شيئًا، ولا يؤدّى إلى أىّ مكان، ولا يحظى أىّ شيء من هذا القبيل بأدنى أهمية بالنسبة له. حقا، يا لهؤلاء الماركسيين!"
وعلى هذا نجيب: "إنه يؤدّى ويعلِّم على حدّ سواء، وحتى عن عمد إلى حدّ ما. حقا، يا لهؤلاء الشكليّين الماكرين!"
*****
ما كنا نحاول لتوّنا أن نعبِّر عنه فى كلمات - ما يشكل سحر، وقوّة، وجوهر، ومبدأ المدرسة الپروستيّة - هو ثقافة الذكرى. وقد أكد أعظم ممثلى مختلف الآداب موهبة، أكثر من مرّة، الصلة الوثيقة إلى أقصى حدّ بين الفن والذكرى (هوفمان Hoffmann و كلايست Kleist مهمّان بصورة خاصة فى هذا الصدد)، ووجدوا دعمًا بين الباحثين. وهنا يمكننا أن نميّز بين سمتين اثنتين. الأولى هى الدافع الملحّ لدى الفنان إلى قهر الزمن والسيطرة على اللحظة: "تمهّلى قليلا، فكم أنت جميلة!" أو، إنْ تحدّثنا بشكل أوضح: "أنتِ ذات أهميّة، أنت جديرة بحياة خارج نهر هرقليط حيث لا شيء يظلّ مماثلا لنفسه أكثر من لحظة، أنتِ جديرة بأن تصطادك من هذا النهر اليدُ الإلهيّة للفن وبأن توضعى وحدك فى عالم مختلف - عالم القيم الجماليّة الثابتة". والسمة الثانية هى الرغبة فى إعادة صياغة الواقع بمساعدة الفنّ، أو، كما يقول التعبير الشائع، فى خلق عالم جديد.
هبة الذوق الممتاز، واختيار تلك الأحداث التى تجدر بالخلود من مجرى التيار العام، وامتلاك القدرة على تحويل الخاصّ والزائل إلى العام والأبدىّ - ذلك جوهر الفنّ (وهذا تعريف قريب من ذلك الذى قدّمه هيجل). فالفن لا يعنى فحسب تخليد الموضوع الذى يتم العثور عليه فى الواقع ثم تطويعه لأسلوب بعينه فيما بعد؛ فهو أيضا عمل من أعمال الخلق. ولا يتسع المجال هنا لبحث العلاقات المتبادلة المعقدة بين الواقعيّة الفنيّة والخيال الفنى. بل نقول ببساطة إن الخيال الفنى، فى رأينا، مُسْتمدّ من خبرة الفنان بالواقع، وإنه حقا العامل الرئيسى فى إعادة الصياغة التى يجب إخضاع الواقع له إنْ كان له أن يحقق البقاء فى نظر المؤلف.
هناك، بطبيعة الحال، أكثر من نوع واحد من الفنان. وفى الرسائل المتبادلة بين جوته Goethe و شيللر Schiller اتضح مدى أهمية التمييز بين أولئك الذين يسيرون من الواقع إلى التعميم، وأولئك الذين يبدأون بالتعميمات ويحاولون أن ينفخوا فيها الحياة الحقيقيّة.
وبطبيعة الحال، يلعب الخيال، والأسْلبًة، وأحيانًا مجرّد الابتكار، دورًا كبيرًا فى إنتاج پروست. غير أنه، إجمالا، واقعىّ.
وكما سبق أن قلنا، يتمثل سحر وذات جوهر عمله الإبداعىّ فى الذكرى.
ومثل كلّ عنصر آخر من عناصر التكوين النفسىّ للإنسان، تعدّ الذكرى فِعْلا مفعمًا بالحياة ومراوغا. وحتى فى مجال البحث، وبصفة خاصّة فى التاريخ، يضعنا ذلك وجها لوجه أمام عدد كبير من أهمّ المشكلات. ونترك هذه الأخيرة لحظة، لنأخذ شيئا موضوعيًّا إلى حدّ ما كنقطة انطلاق: شهادة شاهد عيان، تاريخ حياة جرى جمعه من الذاكرة من أجل شهادة أمام محكمة.
يعرف الجميع أن شهادة شاهد عيان، أو تاريخ حياة، أو أىّ نوع آخر من الوثيقة، أشياء مظللة وتميل إلى أن تكون ذاتيّة. وفيما يتعلق بأىّ عمل من أعمال التاريخ يطمح إلى "إثبات الحقيقة النهائيّة"، تعدّ الذكريات الموثوقة أساسًا جوهريًّا؛ على سبيل المثال، لا تكون ذكريات تاريخيّة بعينها ذات قيمة من وجهة النظر هذه إلا إنْ كتبها شاهد عدْل بينما تكون الأحداث لا تزال حيّة فى ذاكرته وفى هذا المجال، يتطلب البحث العلمىّ إجراء مقارنة مع روايات شهود عيان آخرين، ويعذبنا، من حين لآخر، الافتراض الشكىّ بصورة شيطانية والقائل إنه، حتى مع مقارنة الشهادة وحتى على أساس المادة الوثائقيّة، يظلّ من المستحيل أن نعيد بناء ما حدث فى الواقع، فلا يمكننا أن نقدّم إلا تصويرًا تقريبيًّا عنه.
أمّا الذكريات الأدبيّة فهى مختلفة تمامًا. ويمكنها ألا تبالى بالرواسب التعليمية للجنس الأدبى المرتبط بالذكرى وأن تندمج مع تلك الفئة الواسعة من الكتابة والتى حدّدها جوته بكل توفيق على أنها الأدب والحقيقة Dichtung und Wahrheit.
وكان عنوان هذا الكتاب، الذى هو أعظم كتاب للذكريات المنظمة تمتلكه الإنسانيّة بفضل جوته، موضوع بعض الجدل. قد جرى تأكيد أن كلمة الأدب Dichtung فى العنوان تعنى كل ذلك القسم من الكتاب الذى كان المؤلف يكتب فيه عن إنتاجه، بينما كانت كلمة الحقيقة Wahrheit تغطِّى ذلك القسم المخصّص للوصف المباشر للأحداث. غير أنّ الأمر ليس كذلك إطلاقًا. إن جوته لا ينكر أن حياته الإبداعية قد أعطيَت فى مذكراته تفسيرًا خاصًّا أو أنه ليس دقيقًا دَوْمًا فى تناوله للوقائع لأنه، فى أغلب الأحيان، كان المنطق الداخلى والمعنى الكامن وراء ذكرياته أكثر أهمية بالنسبة له من محاولة إعادة بناء الحقيقة الدقيقة عَبْر الشظايا الضبابية من الذاكرة. تلك هى الطريقة التى جاء بها إلى الوجود ذلك العمل العظيم الذى كان يمكنه أن يحمل عنوان "البحث عن الزمن الضائع" A la recherché du temps perdu.
ولا حاجة بنا إلى القول إن الذكريات الأدبيّة المطوّلة ل مارسيل پروست والتى نشرت فى الواقع تحت ذلك العنوان لا يمكن أن تقارن مع الصّرْح الكلاسيكى ل جوته، سواء من حيث المحتوى أم من حيث المنهج والتقنية.
و پروست انطباعىّ، و پروست يعشق "أناه الحىّ" الذى ليس فى حدّ ذاته صحيحًا أو محكم البناء بصورة خاصّة، بل هو، على العكس من ذلك، مُراوغ، متقلِّب، وأحيانًا مُكتئب بصورة مَرَضيّة. وهذا هو السبب، فيما يتعلق ب پروست، فى أنّ البنية الكاملة، التامّة، لا معنًى لها إلا بقدر ما تحمل الاتساق إلى سلسلة من اللحظات المنعزلة، أو، أحيانًا، إلى أنساق كاملة من اللحظات، لكنّها بلا هدف فى حدّ ذاتها.
لقد مات پروست. وكان قد أتمّ إنجاز ذكرياته لكنها لم تطبع كلها حتى الآن. ولسنا إلى الآن فى وضع يسمح لنا بأن نلقى نظرة شاملة على كامل البنية التى كنا نتحدّث عنها منذ قليل. غير أنه يمكننا فى الواقع أن نتنبّأ بكل ثقة بأن ذكريات پروست سوف تدهش الناس بالثراء النابض لمحتواها أكثر مما ستفعل بأىّ استنتاج عام يمكنها أن تقود إليه.
ولا يعنى هذا أن ذكريات پروست لا شكل لها، أو أنها ليست سوى كومة ضخمة وامضة من أشياء رائعة الجمال. لا! فأوّلا، حاول هذا الفنان الرائع أن يعطى العمل بأسره وحدة أسلوب محدّدة، وأن يجعلنا نشعر أن العمل الضخم بأسره هو مع ذلك تصوير "لشخصيّات حيّة". ثانيًا، أدخل پروست نظامًا محدّدًا فى تقسيم الكلّ إلى أجزاء كبيرة - وإنْ لم يكن موفقا تمامًا فى ذلك من وجهة النظر الفنيّة. غير أن هذه النقطة هى آخر ما قصدنا أن يستحوذ على اهتمامنا هنا.
*****
عند پروست، فى حياته كما فى فلسفته، كان أهم شيء هو الشخصيّة الإنسانيّة، وفى المقام الأوّل، شخصيّته هو.
الحياة، أوّلا وفى المقام الأول، هى حياتى.
وبنفس الطريقة تمامًا، تصبح الحياة الاجتماعيّة الموضوعيّة، أيّة حياة موضوعيّة، حياة العالم قاطبة - نوعًا من مَزْج "حَيَوَاتى". وبوصفه تلميذ برجسون Bergson، وهذا ولاء لم يُنعم التفكير فيه قط على نحو حاسم داخل عقله (پروست، رغم أنه كان يمتلك موهبة فلسفيّة هائلة، ليس فيلسوفًا)، ينظر الكاتب إلى الحياة على أنها بساط رائع نسجَ من الحيوات الذاتيّة التى تتحدُ لتشكل كلا أبديًّا، ومتناغمًا مأخوذًا ككلّ. وفى نظره، يتسم الوجود بسمة لايبنتسيّة (نسبة إلى لايبنتس Leibnitz) إلى حدّ مّا. وبالطبع، كانت صلة پروست ب لايبنتس عن طريق ديكارت و پاسكال، غير أن هذا لا يصنع سوى فرق ضئيل أو لا فرق على الإطلاق. إن ما نجده أمامنا هو ذاتيّة القرن السابع عشر ذات السمة الواقعيّة، الرائعة، بالغة العقلانيّة وبالغة الحسّيّة، والتى نجد طبعة منقحة منها عند فرنسيِّى عصر تال - وبصفة خاصة عند هنرى برجسون. ومنذ البداية الأولى، يباشر مارسيل پروست بحثه عن الأزمنة الضائعة ليس لكى يعيد خلق عصر (ذلك هدف ثانوىّ بالنسبة له) بل لكى يعيش حياته مرة أخرى على مستوى يتميّز بعمق ونكهة خاصّيْن، وفى الوقت ذاته، ليأخذ القارئ معه، إن جاز القول؛ ولهذا فإذا كان لنا أن ندرك كامل معنى هذا العمل الأدبىّ، تصبح مسألة الحامل الأساسىّ للعمليّة بُرمّتها، مسألة الشخصية، مسألة "شخصيّتى" على وجه الخصوص، ذات أهمية من الدرجة الأولى.
لنلاحظ هنا والآن أن پروست رغم أنه، بوصفه عقلانيًّا، كان بعيدًا عن أن يكون غريبًا عن مشكلات المعرفة، لم يجعل مثل تلك المشكلات موضوع إنتاجه فهى تظلّ، بوجه عام، فى خلفيّة الصورة. أمّا مقدّمة الصورة فهى مُخصّصة للمتعة التى يخلقها العمل الإبداعىّ للفن، ولمتعة هذه التجربة الثانية الجديدة المنقحة فنيًّا للحياة، ولمتعة العمل الأدبىّ ذاته والذى عُهد إليه، بدوره، بأن يقوم بإحياء الماضى بكل نضرته وكماله، بحيث يجرى فهمه من الناحية الجماليّة - إنها علمية تذوّق وتجربة من جانب العقل والحواسّ.
هذا هو السبب فى أن الجانب المفضل لدى پروست فى كتبه المدهشة هو نوع من التصوير السينمائىّ لذكرياته. وهنا، لا أحد يضارع پروست. فالواقع أنه يستسلم، راقدًا فى الفراش، والقلم فى يده، لنوع من عملية التصوير السينمائى الخلاقة التى تستدعى على قدم المساواة وبكل قوّة، العين، والأذن، والعقل، والعواطف. وهو يمثل دوره شخصيًّا، وهذا الفيلم، حياتى، جرى إنتاجه بسخاء وعمق وحبّ لم يسمع بمثلها.
وفى حين يُوجَّه إليه مثل هذا اللوم حتى من جانب النقاد المطبوعين على حبّ الخير، فإن الإيقاع الهادئ، وغنَى التفاصيل، وأحيانًا الطول الغريب على الغاليّين فى الجملة، التى تمتد لتشمل كل شيء يحتاج إلى أن يرويه لنا، إلخ.. - كل هذا يتدفق بشكل طبيعى من هذا الجانب من عمله، المنتمى إلى التصوير السينمائىّ.
والواقع أن پروست قد أفسد اللغة الفرنسيّة قليلا. ولا يعطى أشياعُهُ أهمية كبيرة للإيجاز، والتألقّ، والمنطق. غير أن موضوعه ككاتب كان مختلفًا، وهكذا كان أسلوبه بالتالى. وأسلوب پروست - بتناغمه الغامض، الغَروَىّ، المعسول، وحلاوته العطرة الرائعة - هو الأداة الوحيدة الملائمة لإغراء عشرات الآلاف من القرّاء بالانضمام إليك بحماس فى أن تعيش مرة أخرى حياتك التى لا تنطوى على أهميّة خاصّة، واجدين فيها أهمية مّا فريدة، مستسلمين لهذه المتعة الطويلة المتواصلة ببهجة لا تُخْفِى وجهها.
(1934)



2
پروست مؤرّخًا اجتماعيًّا
بقلم: أندريه موروا
"بلزاك صوَّر عالما؛ پروست يصوِّر العالم". فى هذا، باختصار شديد، يكمن جوهر التهمة الموجهة ضده. ويقول المعارض ل پروست: "فى روايته، نجد وصفا دقيقا لبعض قاعات استقبال عالم الأريستقراطية والشرائح العليا من الطبقة الوسطى كما تُرى فى تلك المناسبات النادرة حيث يجتمع معا أصحاب المقامات الرفيعة والمراتب السامية، كما نجد دراسة لنوع من العواطف التى تزدهر فى جوٍّ من الفراغ المتخم: الحب وقد جرى الهبوط به إلى مرتبة مرض، غيرة، تعاظم. ونحن لا نجد فيها، ولن نجد فيها، التصوير الحقيقى لمجتمع. والحقيقة أن عالم الفراغ يختفى الآن بسرعة، ومع موت آهليه ستتلاشى عواطفهم المصطنعة، وأمانيهم الهزيلة. رجال الأعمال، العمال، الفلاحون، الجنود، العلماء، رجال الدولة المحافظون، الثوار - تلك هى الأنماط التى يتألف منها مجتمعنا الآن. بلزاك تنبأ بهذا التغير: پروست غافل عنه".
ويشير پيير أبراهام إلى أنه إذا كان سان سيمون قد اهتم، مثل پروست، بعالم محدود النطاق، عالم البلاط، فهو يعرضه على الأقل فى حركة، وكذلك فى وقت كان فيه ذلك العالم مسرح الأحداث الكبرى. ورجال البلاط عند سان سيمون رجال لهم درب حياة، رجال بدأوا رحلة كسب النفوذ، ومن بين صفوفهم يجرى تجنيد الوزراء والقادة العسكريين. أما أبطال پروست فإنهم يبدِّدون حياتهم فى الجرى وراء جولة اجتماعية "خالية من الأهمية بقدر ما هى عقيمة". "وهنا وهناك قد نجد محاميا، طبيبا، دپلوماسيا، لكننا لا نراهم أبدا وهم يمارسون مهنهم. ولا يجرى أبدا إطلاعنا من الداخل على مكتب محام أو حجرة وزير. وما يجرى تقديمه إلينا هو المجتمع كما يُرى من حجرة تمريض تعزل جدرانها المبطنة بالفلين أصوات الحياة. إننا إزاء أرض معارض تُرى من خلال عينىْ لوسيان ليڤى- كير"(1). وصحيح أن العمل، فيما عدا عمل الفنان، غائب عن عالم پروست. غير أننا نعرف، من الطريقة التى تظلّ روايته تسيطر بها على مشاعرنا، وبحكم جاذبيتها العالمية، أنه لا بد أن هناك إجابة ما على مرافعات الادّعاء الألمعية هذه.
ينبغى أن ندرك، أوّلا، أنه ليس بمستطاع روائى، مهما كانت القماشة أمامه واسعة، أن يصوّر كل شيء. فالرجل ليس أكثر من رجل، والحياة قصيرة. ولا يمكن لرواية أن تشتمل إلا على عدد محدود من الشخصيات. حتى بلزاك يقصر عن وصف المجتمع بأسره كما كان قائما فى زمانه. وعلى صفحات رواياته يطلع علينا بالصدفة صانع حرفىّ، أو فلاح منعزل، أو نحو ذلك، غير أن الأدوار التى يلعبونها ثانوية. وربما عرف بلزاك الكثير عن كواليس السياسة، غير أنه لم يبُح بما عرف. أما حياة الجندى فإن چول رومان يروى لنا، فى ڤردان، عن هذا الموضوع أكثر مائة مرة مما فعل بلزاك فى زمانه. والحقيقة أننى، دون أية رغبة فى الانتقاص من قامة بلزاك، ألفت الأنظار إلى هذه الفراغات فى قماشته، وإنما ذلك لكى أبيّن كم يكون من المستحيل حتى لكاتب عبقرى أن يقدم لنا أىّ مجتمع بكامله.
على أنه ليس صحيحا أن نقول إنه، عند پروست، لا يُقَدَّم إلينا سوى رجال ونساء من العالم وخدمهم. واسمحوا لى بإجراء تعداد تقريبى لعالمه. وتلعب الأريستقراطية دورا فيه، وسيكون من الخطأ أن نلوم پروست على ذلك. والحقيقة أن عائلاتنا القديمة لا تزال تشغل مكانا فى حياة الأمة. وربما كان أوج جمهورية الدوقات قد انتهى فى 16 مايو، لكنها ما تزال قادرة على الحركة. وقد شاركت فى مغامرة بولانچيه، وكانت متورطة فى قضية دريفوس. وحتى فى الوقت الحالى لها نصيبها فى مختلف الخدمات العامة. وقدّمت طليعيِّين حتى فى الحزب الشيوعى. وقد فهم پروست الأهمية التاريخية لهذه الطبقة الهامة. وليس دقيقا أن يقال إن كتابه يصف انحطاط النبلاء وانتصار البرچوازية. وعندما تتزاوج مدام ڤيردوران أو چيلبيرت سوان مع آل جيرمانت فإن آل جيرمانت هم الذين يستوعبون هذين العنصريْن الأجنبييْن.
ولم يكن پروست غافلا أبدا عن نقائص آل جيرمانت. ورغم ابتهاجه بتهذيب عالم الأريستقراطية وسحره السطحى وهما سِمَتان كان هو ذاته يمتلكهما، كلتيهما، كما ظلت حساسيته الحادة إلى حدّ مؤلم بحاجة ماسّة إليهما، رأى پروست بما يكفى من وضوح ما ارتكزت عليه العادات الرفيعة التهذيب لعالم الطبقات العليا، وكان ذلك يتمثل دون شك، من الناحية الجوهرية، فى الكبرياء، واللامبالاة، وإحساس عفوى بالتفوق. وأدرك، أيضا، السرّ فى أن النبلاء ظلوا يعقدون مثل تلك الأهمية الخيالية على تفاصيل حق احتلال مركز الصدارة. وحيث إن آداب السلوك هى ركيزتهم الوحيدة فإنهم لا يملكون إلا أن يحترموها. ويعتبر آل جيرمانت واجبًا "أهم من العفة أو الرحمة أن نخاطب أميرة پارم بضمير الغائب". وحدّد پروست بوضوح، داخل نطاق الأوساط الأريستقراطية، الطبقات المتراكبة من الاستخفاف: أصحاب السمو الملكى، والعائلات الكبرى (آل جيرمانت)، والفروع الذاوية من نفس الشجرة (جالاردون)، ونبلاء المقاطعات (كامبريمير)، والهامش المتبدل من ذوى الألقاب المشكوك فيها (فورشڤيل)(2). وعلى هذا الهامش تعيش الطبقة الوسطى الپاريسية، وهى سريعة التأثر بالجاذبية التى يتسم بها النبلاء. ومن هنا شارات النبالة التى زادها لمعانا الذهبُ الجديد للتزاوجات؛ ومن هنا تحوُّل مدام ڤيردوران إلى دوقة دورا، وفى وقت لاحق إلى أميرة جيرمانت. غير أن "البرچوازية الصلبة"، خاصة خارج پاريس، لا رغبة لديها فى تحقيق تغيرُّ طبقى. ويصيبها بصدمة مشهد سوان، ابن سمسار البورصة، وهو "يتصرف كما يحلو له" فى ضاحية سان چيرمان ويتعشى فى قصر الإليزيه. ذلك أنها تؤمن بالرأى القائل بأن ابن سمسار البورصة ينبغى أن يعاشر سماسرة البورصة. "إن فقدان المرء لمنزلته الاجتماعية لا يعنى أيضا أن يعاشر أولئك الأدنى منه منزلة، بل يعنى أيضا أن يشقّ طريقه إلى داخل طبقة عليا لا ينتمى إليها: والقاعدة مطلقة"(3). ولا يخطر أبدا ببال هذه الطبقة الوسطى أن بوسعها "تحسين نفسها"، لأنها ترفض أن تتعرف على أىّ شيء أحسن منها. وتعلن أوساط طبقة كومبراى الوسطى، حتى إنْ كانت لا تمارس، مبادئ أخلاقية صارمة. وهناك "قانون" كومبراى محدّد تماما ينحنى أمامه الجميع - فرنسواز، وأسرة الراوى، والدكتور پيرسيبيد.
ويجرى تمثيل "الناس" بصورة غير وافية. والصورة الوحيدة بالحجم الطبيعى فى هذا النوع هى تلك الخاصة ب فرانسواز، وهى امرأة ريفية نقلت إلى پاريس الأسلوب المحلى المميز لعالمها، أىْ طبعة محدثة من التقاليد المرتبطة "بأهل" سان- أندريه ديه شامپ. لكن تلك الصور الفرنسية المنقوشة فى رواق الكنيسة القائمة ليس بعيدا عن كومبراى لها سمة أبدية. "كم كانت فرنسية إلى حد نموذجى تلك الكنيسة! ففوق بابها كانت صًور القديسين، والملوك الفرسان بزنابق فى أيديهم، ومشاهد الزفاف، والجنازات، منحوتة ربما مثلما كانت فى عقل فرنسواز. كما أن النحات كان قد سجّل حكايات من أرسطو و ڤيرچيل، تماما كما كان يمكن ل فرنسواز فى مطبخها أن تشرع فى الحديث عن القديس لويس وكأنها كانت تعرفه هى نفسها، عادة لكى تنتقص، فى تناقض صارخ معه، من قدر أجدادى، الذين كانت تعتبرهم أقلّ "(4). وفى رواق سان-أندريه ديه شامپ يتعرف مارسيل ب تيودور، صبى المتجر عند كامو. ويثير الطابع التاريخى "للناس" اهتمام پروست ليس أقل مما يفعل الطابع التاريخى للنبلاء. وتنظر فرنسواز إلى الحداد نظرة "أنشودة رولان". و ألبيرتين سيمونيه تجسيد للبنت الفلاحة الفرنسية الصغيرة المنحوتة فى الحجر فى سان-أندريه ديه شامپ. ويثبت سان-لو، أثناء الحرب، أنه رجل فرنسى ينتمى إلى سان-أندريه ديه شامپ... وحتى مارسيل نفسه.
وهكذا فغير صحيح ما يقال من أن پروست كان لا مباليًا إزاء الحياة العامة والوطنية لعصره. وهو يأخذ على عاتقه أن يصوّر تأثيرات انقلابيْن مفاجئيْن مثل قضية دريفوس والحرب على المجتمع الفرنسى. وبعيدا عن أن يكون بلا وجهات نظر فى السياسة، ظلّ پروست يطور فكرة هامة وهى أمُّ كل سلام اجتماعى هى الفكرة القائلة بأن المجتمع مرن بصفة جوهرية؛ وأن قِيَمه نسبية وفى حالة تغيُّر متواصل؛ وأن الحياة العاطفية للشعوب ليست أقل جنونا من تلك الخاصة بالأفراد. غير أن البشر يرفضون، وقد أعمتْهم أهواؤهم، أن يدركوا أن العواطف عابرة ولا طائل تحتها. "ربما كنا نعلم أن الثورات تنتهى دائما إلى حكومات استبدادية، وأن الأحزاب تنحلّ، وأن النزاعات تتقادم، وأن خصوم اليوم سيصبحون، بحكم ضرورات قاهرة، حلفاء الغد. لكن هذا لا يمنعنا من أن نلعب حتى النهاية بضراوة أو حماس الأدوار التى ألقت بنا من أجلها مصادفة الولادة أو تأثيرات الصداقة". ولأنه كان إنسانا ليس إلا، شارك پروست فى الماضى الجمعى. وكان موقفه من الحرب موقف رجل فرنسى، ومن قضية دريفوس موقف رجل متحزب. غير أن ذكاءه كبح مشاعره بصورة كافية لإنقاذه على الأقل من هستيريا الكراهية ومثل هذا الموقف له طابع سياسى، وهو محدّد للغاية.
أمّا المعارض ل پروست الذى يحتج قائلا: "كل هذا لا يُثبت إلا ما كنتُ أقوله: إنه يعلق على كافة هذه التغيرات السياسية، لكنْ فقط ضمن حدود عالم صغير جدا"، فيمكننا أن نردّ عليه بلا صعوبة. إن پروست ليس مهتما بهذا "الوسط" الاجتماعى أو ذاك بقدر ما هو تواق إلى اكتشاف وصياغة القوانين العامة التى توجّه الطبيعة البشرية. ذلك أن هناك، لدى كافة البشر، تطابقًا جوهريا، بحيث يمدّنا تحليل دقيق للغاية لأىّ واحد منهم بأثمن توثيق يمكننا الحصول عليه عن الكل. ومن عمود فقرى واحد، من صورة تخطيطية واحدة، يمكن أن نتعلم التشريح. ولا نحتاج إلا إلى دراسة مزاج واحد، قلب واحد، لنتعلم كل ما ينبغى أن نعرف عن الحب، عن الغرور، عن ذُرَى الإنسان وأعماقه. فالتجربة تعلمنا أن الغيرة كما عرفها سوان، أو تعاظم آل ڤيردوران، أو تعاظم ليجراندان، أن عاطفة الراوى المعذبة نحو أمه، يمكن أن نجدها، بأشكال متماثلة على الأقل إن لم تكن متطابقة، فى كافة الأوقات ولدى كل شعب.
وملاحظات پروست الخاصة بالتعاظم قيلت فى العالم الذى اتفق أنْ كان عالم پروست، عالم آل جيرمانت وآل ڤيردوران، أما قوانين التعاظم فهى واحدة تقريبا لدى كافة الطبقات وفى كافة البلدان. وبمجرد أن تتكوّن أية جماعة بشرية يكون هناك أولئك الذين ينتمون إليها وأولئك الذين لا يفعلون.
ويتوق المنبوذون إلى أن يكونوا مقبولين؛ ويحمى المقبولون امتيازاتهم وينظرون بازدراء إلى المنبوذين. ويصدق هذا على عالم الأريستقراطية الذى يتمثل "مفتاحه السرى" ("افتح يا سمسم") فى الميلاد أو الإنجاز، لكنه لا يقلّ صدقًا على جمعية أمريكية حيث تمثل عضوية رابطة بذاتها طموح المتعاظم، أو على نقابة عمالية حيث تتخذ القرارات الحيوية حلقة داخلية صغيرة من الخبراء سيودّ الأعضاء الآخرون كثيرا أن ينتموا إليها. ولا تهمّ كثيرا مسألة مع أية جماعة اجتماعية أجرى پروست أبحاثه. أما الاستنتاجات التى توصّل إليها، بافتراض المعاملات والمؤشرات الصحيحة، فإنها تكتسب شرعية عامة. وقد أثبت فيرنانديز أن العلاقة القائمة، عند پروست، بين فرد رفيع المواهب وأية جماعة بذاتها تمتثل دائما لنفس القوانين، مهما كانت تلك الجماعة. وهكذا فإن "العصابة الصغيرة" تقلل من شأن الراوى تماما كما أن عالم الطبقات العليا "ليس مدلهًا بحبّ" مسيو دى شارلو، لأن كافة الجماعات تفرغ من الفرد المتفوق.
ومن الخطأ أن نعتقد أن الكتاب لا يكون عظيما إلا لأن الأحداث التى يصفها هامة. "إن كاتبا من الدرجة الثانية سيظلّ، مهما عاش فى فترة مآثر ملحمية، كاتبا من الدرجة الثانية". وهناك، فى نظر المراقب العلمى، اختلاف فى الحجم، لكن ليس فى الأهمية. ودراسة نوع من الظواهر تلقى الضوء على نوع آخر. "لكل وضع اجتماعى أهميته المثيرة، وربما كان مُرْضيا بنفس القدر لفنان أن يصور أسلوب حياة ملكة وأن يصوّر العادات اليومية لخيّاطة". وأثناء الحرب، اكتشف مارسيل أن مشاجراته مع فرنسواز أو مع ألبيرتين أكسبته، عن طريق تدريبه على الارتياب فى أنهما تحتفظان بأفكارهما لنفسهما، زيادة فى قدرته على أن يتنبأ بمكائد وليام الثانى أو فرديناند ملك بلغاريا. أما حياة أمة من الأمم فهى "تكرّر ليس إلا، وعلى نطاق أوسع، حيوات خلاياها المكوِّنة: وذلك الذى يعجز عن فهم لغز الفرد، وردود أفعاله، والقوانين التى تحدّد اتجاهاته، لن يكون بوسعه أبدا أن يأمل فى أن يقول شيئا يستحق الإصغاء إليه بشأن نضالات الشعوب..."
وهكذا حدث ما يلى: أن پروست، الذى لم يتباه أبدا بالكتابة عن مشكلات اجتماعية، يقدم أكثر كثيرا وأفضل كثيرا من كثير من المفكرين الوقورين المنشغلين بتوافه الأمور والذين لا يتعاطون سوى تجريدات. "انتهيت إلى نتيجة مؤداها أننى لم أكن بحاجة إلى أن أشغل نفسى بكافة النظريات الأدبية المختلفة التى ظلت، لفترة قصيرة، تلحّ علىّ - خاصة تلك التى جرت صياغتها أيام قضية دريفوس بالهدف المعلن المتمثل فى ، فى إقناعه بأن يتخلى عن أمور تافهة من قبيل دراسة ردود الفعل العاطفية، وبأن يشغل نفسه، بدلا من ذلك، بالحركات الكبرى للعمال المنظمين، أو، أنْ لم يشعر بأنه مؤهل للتعامل مع البشرية كجموع، بأن يصوّر على الأقل ليس الحمقى المترفين" (قال بلوخ: "أعترف بأن كل هذا التصوير لأشخاص عديمى الجدوى لا يؤثر فىّ") "بل أريستقراطيِّين مثقفين أو أبطالا. إن الفن الحقيقى يمكن أن يتجاهل مانيفستوات من هذا النوع: ذلك أن الفن الحقيقى إنما تجرى ممارسته سرًّا..."
وفى هذا الكتاب العظيم، يمكن للقارئ التواق إلى معرفة المجتمع الفرنسى أن يجد صورة لذلك المجتمع كما كان قائما بين سنتىْ 1880 و1919 عندما كان لا يزال يعيش فى ماض أعطاه معنًى وجمالا. أما أولئك الذين يبحثون عن إعلان عن القوانين العامة التى تحكم النشاط البشرى فلا يمكن أن يفوتهم أن يجدوه فى كتابات أعمق أخلاقىّ ظهر فى فرنسا منذ القرن السابع عشر. أما أولئك الذين يريدون، كما يفعل أغلب قراء الروايات، أن يجدوا عند مؤلفهم حساسية مرهفة متعاطفة فإنه يمكنهم أن يقتسموا معها قلقهم وألمهم، فسوف يجدون عند پروست ما يبحثون عنه، وهم ممتنون للحظ الذى أتاح لهم الاتصال بواحد من أولئك "الشفعاء" العظام الذين هو الفنانون الحقيقيون. ولا شك فى أن الواقع الذى يصوره پروست - وهو واقع خاص به هو ذاته - فريد وخصوصى. غير أنه إذا كان صحيحا أن الشرور التى يصارعها البشر لا تكون أبدا نفس الشيء بالنسبة لهم جميعا، وأن ما هو حسن للواحد منهم لا يكون أبدًا حسنًا على نحو مماثل بالنسبة للآخرين، فليس أقلّ صحة أننا جميعا نشترك فى طبيعة نفس البشرية، وأنه لا يمكن لأحدنا أن يظل لا مباليا إزاء الشهادة التى يسوقها رجل صادق العزم "يرتحل بعين قوية الملاحظة على طريق يؤدى إلى اكتشاف نفسه، مصطدما بكل عقبة، متعثرا فوق كل حفرة، ضالا طريقه عند كل مفترق طرق"(5). وبصورة لا تقل عن "ڤيلهيلم مايستر" [رواية ل جوته - المترجم]، وبصورة أكمل من روايات ستندال، تعتبر [رواية] "البحث عن الزمن الضائع" عملا تجريبيا بكل وضوح، رغم أنها فى الوقت ذاته، شأنها فى ذلك شأن "مقالات" مونتانىْ أو "اعترافات" روسو، تُبلور رأيا عن المأزق البشرى، وتقدّم لتأملنا ميتافيزيقا لعلم الجمال. والحقيقة أن الإنجليز، والأمريكيِّين، والألمان، الذين رأوا من الملائم أن يضعوا قصة السيرة الذاتية البالغة الضخامة هذه فى مكانة أعلى من أعمال أناتول فرانس، و پول بورچيه، و موريس باريس، وكافة الكتاب الفرنسيين فى عصرهم، لم يكونوا مخطئين.
إشارات
1: Pierre Abraham, Proust, Recherches sur la création intellectuelle, Paris (Reider), 1930.
2: Henri Bonnet, Le Progrès spirituel dans l æuvre de Marcel Proust: Le monde, L amour et L amitié, Paris (vrin), 1946.
3: Henri Bonnet, op. cit.
4: Swan s Way, I.
5: Pierre Abraham, op. cit.



#خليل_كلفت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصر وبلاد النوبة تأليف: والتر إمرى، ترجمة: تحفة حندوسة مقدمة ...
- مصير العالم الثالث تحليل ونتائج وتوقعات توما كوترو و ميشيل إ ...
- الأساطير والميثولوچيات السياسية(1) راؤول چيرارديه عرض: خليل ...
- تفسير الرئيس المصرى الدكتور محمد مرسى لآية الله والعلماء
- زيارة جديدة إلى -مزرعة الحيوانات- رواية -مزرعة الحيوانات- چو ...
- عوالم عديدة مفقودة
- الشرف والغضب لا يكفيان [مراجعة لكتاب: نعوم تشومسكى:-الحيلولة ...
- الكتب معرفة ومتعة - الجزء الأول
- حول الأسلوب فى السينما - أندريه بازان
- جنوب أفريقيا عصر مابعد سياسة الفصل العنصرى (الأپارتهيد)
- إلا الرسول الكريم
- هل انتصرت الثورة المضادة فى مصر؟
- حروب القرن الحادي والعشرين مخاوف وأخطار جديدة
- بورخيس - كاتب على الحافة
- عالم جديد - الجزء الرابع - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثالث- فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الثاني - فيديريكو مايور
- عالم جديد - الجزء الأول - فيديريكو مايور
- بدلا من صَوْمَلَة سيناء
- طبيب الأمراض العقلية - ماشادو ده أسيس


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خليل كلفت - مارسيل پروست (مقالان: مقال: أناتولى لوناتشارسكى، ومقال: أندريه موروا) ترجمة: خليل كلفت